عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

كابوس رهيب

وتسلّم معاوية قيادة الدولة الإسلامية بعد صلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلوية التي هي دولة المحرومين والمضطهدين، والتي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتجسيداً حيّاً لأهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الإنسان وتطوير حياته، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الإسلامية صريعة بيده، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والأخلاق التي ينشدها الإسلام إلى عكسها، وخرج العالم الإسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب ت
كابوس رهيب

وتسلّم معاوية قيادة الدولة الإسلامية بعد صلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلوية التي هي دولة المحرومين والمضطهدين، والتي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتجسيداً حيّاً لأهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الإنسان وتطوير حياته، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الإسلامية صريعة بيده، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والأخلاق التي ينشدها الإسلام إلى عكسها، وخرج العالم الإسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث، وتخيّم عليه العبودية والذل.

لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والأعراف، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل، ويرى المراقبون لسياسته أن انتصاره إنّما هو انتصار للوثنية بجميع مساوئها، يقول السيّد مير علي الهندي:

(ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشية الوثنية السابقة، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات، وكأنّها بعثت من جديد، كما وجدت الرذيلة والتبذل الخلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكّام الأمويين من قادة جند الشام..)(1).

لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الأسود إلى أزمات شاقة وعسيرة وامتحنوا كأشدّ ما يكون الامتحان، ونعرض - بإيجاز - إلى بعض ما عانوه من الكوارث.


إبادة القوى الواعية:
وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الإسلام، وتصفيتها جسدياً فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الإعدام، وفيما يلي بعضهم:

1- حجر بن عديّ
حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الإسلام، وبطل من أبطال الجهاد ومن أبرز طلائع المجد والفخر للأمّة العربية والإسلامية، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ووعوا قيمه وأهدافه، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله فثار في وجه الإرهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسمياً سبّ الإمام أمير المؤمنين مفجّر الفكر والنور في دنيا الإسلام، والمؤسس الثاني في بناء العقيدة الإسلامية بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عديّ حينما جابهه بالإنكار على سبّه للإمام، فألقى عليه القبض، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الإسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن هند، فصدرت الأوامر منه بإعدامهم في (مرج عذراء) ونفّذ الجلادون فيهم حكم الإعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الأرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين.

2- عمرو بن الحمق:
ومن شهداء الإسلام الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل، كان أثيراً عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه، فاستجاب الله دعاءه فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم تر في كريمته شعرة بيضاء(2).

وقد وعى عمرو القيم الإسلامية وآمن بها إيماناً عميقاً، وجاهد في سبيلها كأعظم ما يكون الجهاد، ولما ولي الجلاد زياد بن أبيه على الكوفة من قبل أخيه اللاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لأنّه من أعلام شيعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شداد إلى الموصل، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك، فارتابت منهما، فألقت القبض على عمرو، وفرّ صاحبه، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل، فرفع أمره إلى معاوية فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص(3) فبادرت الجلاوزة إلى طعنه، فمات في الطعنة الأولى، واحتزّوا رأسه فأمر أن يطاف به في دمشق وهو أول رأس طيف به في الإسلام، ثم أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد، وكانت في سجنه، فلم تشعر إلا ورأس زوجها في حجرها فذعرت، وكادت أن تموت، ثم حملت إلى معاوية، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الإنسانية، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسن - عليه السلام -).

3- رشيد الهجري:
رشيد الهجري علم من أعلام الإسلام، وقطب من أقطاب الإيمان وقد أخلص كأشدّ ما يكون الإخلاص إلى وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد، وجاءت به مخفوراً إليه، فلما مثل عنده صاح به الباغي الأثيم:

(ما قال لك خليلك - يعني الإمام عليّاً - إنّا فاعلون بك؟..)

فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به:

(تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني..).

فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الإمام فقال:

(أمّا والله لأكذبنّ حديثه خلّوا سبيله..).

فخلّت الجلاوزة سبيله لكنّه لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم على ذلك فأمر بإحضاره فلمّا مثل عنده صاح به:

لا نجد شيئاً أصلح مما قال صاحبك: (إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه..).

وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام، وراح يذكر مساوئ بني أميّة وجورهم ويحفز الجماهير على الثورة عليهم، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالأمر فأمرهم بقطع لسانه، فقطع وتوفي في الحال هذا المجاهد العظيم(4) الذي نافح عن عقيدته وولائه لأهل البيت حتى النفس الأخير من حياته.

هؤلاء بعض أعلام الإسلام الذين صفّاهم ابن هند جسدياً لأنّهم كانوا ينشرون القيم الإسلامية، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت(عليهم السلام) الذين هم مصدر الوعي والفكر في الإسلام.


مناهضة أهل البيت:
ولمّا استتبّ الأمر إلى معاوية سخر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمّته، والعصب الحسّاس في هذه الأمّة، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم، ومن بين ما قام به:

1- افتعال الأخبار ضدّهم:

وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الأخبار وافتعالها على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) للحطّ من شأن أهل بيته، والتقليل من أهميّتهم، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الأخبار تارة في فضل الصحابة، لجعلهم قبال العترة الطاهرة، وقد عدّ الإمام الأعظم محمد الباقر (عليه السلام) أكثر من مائة حديث افتعل لهذا الغرض كما افتعلوا طائفة من الأخبار في ذمّ أهل البيت(عليهم السلام)، كما وضعوا أحاديث أخرى في مدح الأمويين، وخلق الفضائل لهم، وهم الذين ناجزوا الإسلام في جميع مراحل تأريخهم، ولم تقتصر الشبكة التخريبية على ذلك، وإنّما عمدت لافتعال الأخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الإسلامية، ومن المؤسف جدّاً أنّها دوّنت في الصحاح والسنن، وجعلت جزءاً من الشريعة الإسلامية، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها، وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب، ذكروا فيها بعض الأخبار الموضوعة، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير (اللئالي المصنوعة في الأخبار الموضوعة) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات، وقد سجّل المحقق الأميني في (الغدير) أرقاماً لبعض الأخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث، وعلى أي حال فإن من أعظم ما مني به الإسلام من الكوارث هي الأخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للإسلام، وألقت المسلمين في شرّ عظيم، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وما أثر عنهم من الأخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الإسلام.

2- سبّ الإمام أمير المؤمنين:

وأعلن معاوية رسمياً سبّ الإمام أمير المؤمنين، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين، واعتبره عنصراً أساسياً في بناء دولته، وإقامة حكومته، وأخذ الأذناب والعملاء ووعاظ السلاطين يصعّدون سبّ الإمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصة والعامة فحسب، وإنّما في خطب صلاة الجمعة، وسائر المناسبات الدينية معتقدين أن ذلك مما يوجب القضاء على شخصية الإمام، واندثار ذكره، وقد خابت ظنونهم، وتبت أيديهم، فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولاهم ومكنهم من رقاب المسلمين، فقد برز الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على مسرح التأريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعية، وأقام أركان الحقّ في الأرض.

لقد عاد الإمام في جميع الأعراف الدولية والسياسية أعظم حاكم ظهر في الشرق، وأول حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين، وأعلن حقوق الإنسان، وأما خصومه الحقراء فهم أقزام البشرية، وأشرار خلق الله، فقد جنوا على الإنسانية جناية لا تعدلها أية جناية، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الإنسانية، وتطوير الحياة العامة في جميع مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

3- استخدام معاهد التعليم:

واستخدم معاوية معاهد التعليم، وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيت(عليهم السلام) الذين هم المركز الحسّاس في الإسلام، وغذّت هذه الأجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وذريته، ولم يكن ذلك إلا إجراءاً مؤقّتاً، فقد عكس الله إرادته، وخيّب آماله، فها هو الإمام أمير المؤمنين ملء فم الدنيا، قد استوعب ذكره المعطر جميع لغات الأرض، وهو أنشودة الأحرار في كل زمان ومكان، والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون، ويسير على منهجه المتّقون، وها هو معاوية وبنو أميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الأرض، ولا يذكرون إلا مع الخسران وسوء المصير.

لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي، وأبرزت مخططاته السياسية المناهضة لأهل البيت(عليهم السلام) واقعه النفسي الملوث بالجرائم والآثام واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والإسلامي.


إشاعة الظلم:
وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيين، قد نزعت الرحمة من قلوبهم فأسرفوا باقتراف الجرائم والإساءة إلى الناس، وكان من أشدّهم قسوة، وأكثرهم جرماً الإرهابي زياد بن أبيه فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الأليم، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والإعدام من دون إجراء أي تحقيق معهم، فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة، - كما أعلن ذلك في بعض خطبه - ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس، فكان كأخيه اللاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله.

لقد عجّت البلاد الإسلامية من الظلم والجور، حتى قال القائل: إن نجا سعد فقد هلك سعيد، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيت(عليهم السلام) فقد أمعنت السلطة في ظلمهم، والاعتداء عليهم فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب، وسملت منهم الأعين، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب، لا لذنب اقترفوه وإنّما لولائهم لأهل البيت(عليهم السلام).

وقد شاهد أبو الفضل (عليه السلام) الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت بشيعة أهل البيت، مما زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد، والقيام بثورة ضدّ السلطة الأموية، لإنقاذ الأمة من محنتها، وإعادة الحياة الإسلامية بين المسلمين.


منح الخلافة ليزيد:
واقترف معاوية أخطر جريمة في الإسلام فقد منح الخلافة الإسلامية إلى ولده يزيد الذي كان - فيما أجمع عليه المؤرّخون - مجرداً من جميع القيم الإنسانية، وغارقاً في الآثام والجرائم، وكان جاهلياً بما تحمل هذه الكلمة من معنى، فلم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر كما أعلن ذلك فيما أثر عنه من شعر، فقد قال حينما أشرفت سبايا آل النبيّ (صلى الله عليه وآله) على دمشق:

نعــــب الغــــراب فقـــــلت صـــــح أو***لا تــصح فلقد قضيت من النبي ديوني

نعم لقد استوفى ديون الأمويين من ابن فاتح مكّة فقد قتل أبناءه وسبى ذراريه، وقال مرّة أخرى:

لســــت مـــن خــــندف إذ لـم أنتقم***مـــن بـــــني أحمـــــد مــا كان فعل

هذا هو يزيد في إلحاده ومروقه من الدين وقد سلّطه معاوية على رقاب المسلمين، فأمعن في إعادة الحياة الجاهلية، وإزالة الإسلام فكراً وعقيدة من الصعيد الاجتماعي، كما أخلد للمسلمين المحن والكوارث، وذلك بإبادته لعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وسبيه لذراريه.


اغتيال الشخصيات الإسلامية:
وأقدم معاوية على اغتيال الشخصيات إلإسلامية التي لها مكانة مرموقة في العالم الإسلامي، والتي تحظى باحترام بالغ في نفوس المسلمين، حتّى لا يزاحم أحد منهم ولده يزيد، ولا تتجه إليهم الأنظار، وفعلاً قام باغتيال هؤلاء وهم:

1- سعد بن أبي وقاص:
أما سعد بن أبي وقاص فهو فاتح العراق، وأحد أعضاء الشورى الذين رشحهم عمر إلى الخلافة الإسلامية، وقد ثقل وجوده على معاوية فدسّ إليه سمّاً فقتله(5).

2- عبد الرحمن بن خالد:
أمّا عبد الرحمن بن خالد فكان له رصيد شعبي في أوساط أهل الشام وقد استشارهم معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته فأشاروا عليه بعبد الرحمن، فأسرّها معاوية في نفسه، وأضمر له السوء، ومرض عبد الرحمن فأوعز معاوية إلى طبيب يهودي أن يعالجه ويسقيه سمّاً فسقاه السمّ فمات على أثر ذلك(6).

3- عبد الرحمن بن أبي بكر:
كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أبرز العناصر المعارضة لمعاوية في أخذه البيعة ليزيد، وقد أعلن معارضته له، وأشيع ذلك في يثرب ودمشق، وقدم له معاوية رشوة لينال رضاه، وكانت مائة ألف درهم فأبى أن يقبلها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي، وتعزو بعض المصادر أن معاوية دسّ له سمّاً فقتله(7).

4- الإمام الحسن:
وأقضّ الإمام الحسن (عليه السلام) مضجع ابن هند، وراح يطيل التفكير للتخلّص منه، لأنّه قد شرط عليه في بنود الصلح أن ترجع إليه الخلافة بعد هلاكه واستعرض معاوية حاشية الإمام وخاصته ليشتري ضمائرهم بأمواله لاغتيال الإمام، فلم يقع نظره على أحد سوى الخائنة جعدة بنت الأشعث زوجة الإمام، فهي من أسرة لم تنجب شريفاً قطّ، ولم يؤمن أي فرد منها بالقيم الإنسانية، وأوعز معاوية إلى مروان بن الحكم عامله على يثرب فاتّصل بها، وقدم لها الأموال، ومنّاها بزواج يزيد، فاستجابت نفسها الخبيثة لاقتراف الجريمة، فناولها سمّاً فاتكاً، فأخذته، ودسّته للإمام، وكان صائماً، ولما وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه، فالتفت إلى الخبيثة، فقال لها:

(قتلتيني، فتلك الله، والله لا تصيبنّ منّي خلفاً، لقد غرّك - يعني معاوية - وسخر منك، يخزيك الله ويخزيه..).

وأخذ سبط النبيّ (صلى الله عليه وآله) وريحانته يعاني آلاماً قاسية من شدّة السم فقد تفاعل مع أجزاء بدنه، وقد ذبلت نضارته، واصفرّ لونه، وكان يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن وأرواح الأنبياء.

لقد وافاه الأجل المحتوم، ونفسه العظيمة مترعة بالمصائب من ابن هند الذي جهد في ظلمه، وصبّ عليه ألواناً قاسية من المحن والكوارث فسلب منه الخلافة، وتتبع شيعة أبيه قتلاً وسجناً، واسمعه سبّه، وسبّ أبيه وأخيراً سقاه السمّ فقطع أحشاءه.


تجهيزه:
وقام سيّد الشهداء (صلى الله عليه وآله) بتجهيز جثمان أخيه فغسّل جسده الطاهر، وحمله المشيّعون، وفي طليعتهم العلويون، وهم يذرفون أحرّ الدموع على فقيدهم العظيم، وجاءوا به إلى المرقد النبوي ليواروه بجواره.


فتنة الأمويين:
ولما جيء بالجثمان المقدّس إلى قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) ليوارى إلى جنبه ثار الأمويون وعلى رأسهم الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم، فرفعوا أصواتهم أمام المشيّعين (أيدفن الحسن بجوار جدّه، ويدفن عثمان بأقصى المدينة لا كان ذلك أبداً..) واشتدّوا كالكلاب نحو السيّدة عائشة، وقد عرفوا انحرافها عن أهل البيت فأثاروا حفيظتها قائلين:

(لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك، وصاحبه..).

فوثبت وهي مغيظة محنقة تشقّ الجماهير، وقد رفعت عقيرتها قائلة: (لئن دفن الحسن بجوار جدّه - لتجز هذه - وأومأت إلى ناصيتها..).

والتفتت إلى المشيّعين قائلة:

(لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ..).

وقد أعربت بذلك عن كوامن حقدها على آل البيت (عليهم السلام)، ويتساءل السائلون من أين جاء لها البيت، ألم يرو أبوها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال:

(نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة) فبيت النبيّ - حسب هذه الرواية - كبيت من بيوت الله لا يملكه أحدّ، وإنّما هو لجميع المسلمين، وعلى هذا فكيف سمحت لأبيها وصاحبه أن يدفنا فيه، وإذا لم تعلم عائشة بهذه الرواية وأن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كبقيّة الأنبياء يرثه ذرّيته، فالإمام الحسن (عليه السلام) هو الذي يرثه لأنّه سبطه، أما أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) فلا يرثن من البيت، وإنّما يرثن من البناء حسبما ذكر الفقهاء.

وعلى أيّ حال فقد تمادى الأمويون بالشر، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت فقد أوعزوا إلى عملائهم برمي جنازة الإمام، فرموها بقسيّهم وسهامهم، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والأمويين، فقد أسرع أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) إلى مناجزة الأمويين، وتمزيقهم، فمنعه أخوه الإمام الحسين (عليه السلام) من القيام بأي عمل امتثالاً لوصيّة أخيه، فقد أوصاه بأن لا يهراق في أمره ملء محجمة من دم.. وجيء بالجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد، فواروه فيه، وقد واروا معه الحلم والشرف والفضيلة، وقد انطوت بذلك أروع صفحة مشرقة من صفحات النبوة والإمامة.

لقد شاهد أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) الأحداث المروعة التي حلّت بأخيه الإمام أبى محمد (عليه السلام) فزهدته في الحياة، وكرهت له العيش، وحببت له الثورة والجهاد في سبيل الله.


معارضة الامام الحسين لمعاوية:
ولمّا تمادى معاوية في سياسته الملتوية المناهضة لمصالح المسلمين والمعادية لأهدافهم، قام أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام) بالإنكار على معاوية، وأخذ يعمل بشكل مكثف إلى فضح معاوية، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة والثورة على حكومته، ونقلت أجهزة الأمن والمباحث في يثرب إلى معاوية هذه النشاطات السياسية المناهضة لحكومته ففزع من ذلك أشدّ الفزع، ورفع إليه مذكّرة شديدة اللهجة يطلب فيها الكفّ عن معارضته، وهدّده باتخاذ الإجراءات القاسية ضدّه إن لم يستجب له، فأجابه أبو الأحرار بجواب شديد اللهجة وضعه فيه على طاولة التشريح، ونعى عليه سياسته الظالمة التي تفجّرت بكل ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه، وندّد بما اقترفه من ظلم تجاه الأحرار والمصلحين أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي، ورشيد الهجري، وغيرهم من أعلام الفكر في الوطن الإسلامي.

إنّ جواب الإمام أبي الشهداء من ألمع الوثائق السياسية، فقد وضع الإمام فيها النقاط على الحروف، وعرض بصورة مفصّلة الأحداث الرهيبة التي جرت أيام حكومة معاوية، كما حدّد فيها موقفه المتّسم بالثورة على حكومة معاوية(8).


مؤتمر الإمام الحسين في مكّة:
وعقد الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) مؤتمراً سياسياً في مكّة المكرّمة حضره جمهور غفير من المهاجرين والأنصار والتابعين ممن شهدوا موسم الحج، فقام فيهم خطيباً، وتحدّث ببليغ بيانه عمّا ألمّ بهم وبشيعتهم من ضروب المحن والبلاء في عهد الطاغية معاوية، وقد روى سليم بن قيس قطعة من خطابه جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه:

(أمّا بعد! فإن هذا الطاغية - يعني معاوية - قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم، وشهدتم، وإنّي أريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدقت فصدقوني وإن كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم، وقبائلكم، فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا، فإنّي أتخوّف أن يدرس هذا الأمر، ويغلب، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون).

ويقول سليم بن قيس: وما ترك الحسين شيئاً مما أنزله الله فيهم من القرآن إلا تلاه وفسّره، ولا شيئاً مما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه، وفي نفسه وأهل بيته إلا رواه، وفي كل ذلك يقول أصحابه: اللهم نعم قد سمعنا وشهدنا، ويقول التابعي: اللهمّ قد حدّثني به من أصدقه، وأئتمنه من الصحابة، فقال (عليه السلام): أنشدكم الله إلا حدّثتم به من تثقون به وبدينه..)(9).

وكان هذا أوّل مؤتمر سياسي عرفه المسلمون في ذلك الوقت، فقد شجب فيه الإمام سياسة معاوية الهادفة إلى حجب المسلمين عن أهل البيت (عليه السلام) وستر فضائلهم، وقد دعا الإمام حضّار ذلك المؤتمر إلى إشاعة مآثرهم، وإذاعة مناقبهم، وما ورد في حقّهم من النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليعرف المسلمون النوايا الشريرة التي يبيّتها معاوية ضدّ أهل البيت الذين هم العصب في جسم الأمة الإسلامية.


هلاك معاوية:
واستقبل معاوية الموت، ونفسه قلقة مضطربة مما اقترفه من الأحداث الجسام التي باعدت بينه وبين الله، فكان يقول متبرّماً: ويلي من ابن الأدبر - يعني حجر بن عدي - إن يومي منه لطويل، نعم إن يومه لطويل وان حسابه لعسير أمام الله لا في حجر فقط، وإنّما لدماء المسلمين التي سفكها بغير حقّ، فقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين، وأشاع في بيوتهم الثّكل والحزن والحداد، وهو الذي حارب دولة الإسلام، وأقام الدولة الأموية التي اتخذت مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، وهو الذي سلّط على المسلمين عصابة من أشرار خلق الله أمثال زياد بن أبيه الذي أمعن في إذلال المسلمين، وظلمهم بغير حقّ، وهو الذي استخلف من بعده ولده يزيد صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام، وشبيه جدّه أبي سفيان في اتجاهاته وميوله المعادية لله ولرسوله، وهو الذي دسّ السمّ إلى ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسبطه الإمام الزكي أبي محمد (عليه السلام)، وهو الذي أعلن سبّ أهل البيت (عليه السلام) على المنابر، وجعل ذلك جزءاً من حياة المسلمين العقائدية إلى غير ذلك من الموبقات التي اقترفها والتي تجعل حسابه شاقاً وعسيراً أمام الله.

وعلى أيّ حال فقد هلك معاوية فأهون به هالكاً ومفقوداً فقد انكسر باب الجور، وتضعضعت أركان الظلم، كما أبّنه بذلك الزعيم العراقي الكبير يزيد بن مسعود النهشلي، أما خليفته وولي عهده يزيد فلم يكن حاضراً عند وفاته، وإنما كان مشغولاً برحلات الصيد وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية التي هي أثقل كابوس مرّ على العالم الإسلامي في ذلك العصر، وقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس (عليه السلام) المأسي الرهيبة التي دهمت المسلمين في ظلال هذا الحكم.

_________________-
1 - روح الإسلام: 296.
2 - الإصابة 2: 526.
3 - المشاقص: جمع مفرده مشقص، النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض.
4 - سفينة البحار 1: 522.
5 - مقاتل الطالبيين: 29.
6 - حياة الإمام الحسين 2: 216.
7 - حياة الإمام الحسين 2: 216.
8 - نصّ الرسالة ذكرها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1/189 والكشي في رجاله.
9 - حياة الإمام الحسين 2: 228 - 229.


source : sibtayn
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عبد المطلب جد النبي ( صلى الله عليه وآله )
مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) (1)
قبسات من أخلاق رسول الله (ص)
كرم الامام الحسين ( عليه السلام )
ليس في البكاء على الحسين(عليه السلام) بدعة
عقيل بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) (1)
رأفة الإمام الرضا بزوار قبره
الشهيد الحسين بن علي بن الحسن المثلث من أحفاد ...
الارهاب في عهد الامام العسکري عليه السلام
أفضلية ارض كربلاء على الکعبة

 
user comment