عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

ضرورة النبوّة

النبوّة هي الأصل الثاني من أصول الدين الثلاثة عند المسلمين، والأصل الثالث من الأصول الخمسة وفق مذهب مدرسة أهل البيت عليهم السلام. ويفهم العرفُ النبوّة بأنَّ أفراداً من البشر يشكلون واسطةً بين الله وسائر الناس، يتلقون الأوامر من الله ويبلِّغونها لهم. ومن هذا الفهم والتصور تنشأ عدة تساؤلات تعتبر مفتاح أبحاث النبوّة: - هل الإنسانيّة بحاجةٍ إلى مثل هذه العمليّة (التوسطية)؟
ضرورة النبوّة

النبوّة هي الأصل الثاني من أصول الدين الثلاثة عند المسلمين، والأصل الثالث من الأصول الخمسة وفق مذهب مدرسة أهل البيت عليهم السلام. ويفهم العرفُ النبوّة بأنَّ أفراداً من البشر يشكلون واسطةً بين الله وسائر الناس، يتلقون الأوامر من الله ويبلِّغونها لهم. ومن هذا الفهم والتصور تنشأ عدة تساؤلات تعتبر مفتاح أبحاث النبوّة:
- هل الإنسانيّة بحاجةٍ إلى مثل هذه العمليّة (التوسطية)؟
- على فرض أنها ضرورة، فهل هي الأسلوب الوحيد أم أنه توجد سُبُلٌ أخرى لتلقّي تعاليم السماء؟
- ما هي علة هذه الضرورة؟ فهل أنه بدونها تختلّ الحياة الإجتماعية الدنيوية فقط، أم الأخروية فقط، أم أنه من دون الاقتداء بتعاليم السماء والإلتزام بأحكام الله ستختل كلا الحياتين معاً؟
وهكذا نجد أنفسنا في خضمّ البحث عن الحاجة إلى الأنبياء والرسل، ومنشأ هذه الحاجة.
الحاجة إلى الرسالة
إنّ الإيمان بالآخرة، وأنّ حياة الإنسان لا تنتهي بالموت وإنما هناك نشأةٌ وحياة أخرى، ونحو آخر من الرزق والسعادة والشقاء، يدفع الإنسان للبحث عن تحديد الأشياء النافعة والضارّة للسعادة الأخرويّة.
ولا يزال العلم والعقل الإنسانيّ- مع كلّ التقدُّم الذي أحرزه- عاجزاً عن الوصول بنفسه إلى عالم ما بعد الموت، ولا يمكن للعلم أن يبتّ بأمر وجوده أو عدمه بنحوٍ قاطعٍ، فجاء الأنبياء عليهم السلام أنفسهم وأخبروا عن أصل وجودها، وأوضحوا نهج السعادة ونهج الشقاء فيها، وبذلك تصبح الحاجة إلى النبوّات ثابتةً، قطعيّةً، لا مجال للنقاش فيها.
ولم يقتصر إهتمام القرآن على الآخرة وحدها، بل كانت الحياة الدنيا من أهداف الأنبياء عليهم السلام أيضاً. فقد أكّد القرآن الكريم على أنَّ العدالة من ضرورات الحياة البشريّة، وأنّ وجود الأنبياء عليهم السلام ضروريّ لازِمٌ لبسط العدالة، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(1).
إن الحياة الإجتماعيّة للإنسان تتعلَّق بشرط يتمثّل بوجود الإيمان. فالإنسان لا يستطيع أن يدير حياته الاجتماعيّة إذا بقي في إطار حالته الطبيعيّة والغريزيّة، التي تملي على كلّ فرد من أبناء البشر أن يفكّر في منفعته الشخصيّة فقط، وأن يقدّم منفعته الخاصّة على المصلحة الاجتماعيّة.
إذاً هو بحاجة إلى الإيمان الذي يهيمن على وجوده، ويستطيع من خلاله أن يحترم القوانين والأخلاق، التي تعدّ ضرورية من أجل المصالح الاجتماعيّة وإدارة الحياة الإنسانيّة، سواءً كانت من قِبَل الله أو من قِبَل الناس، ولكن بشرط أن تكون أصولها من عند الله.
وقد بُعث الأنبياء عليهم السلام لينهضوا بالمهمّتين معاً، فهم يهدون الإنسان ويرشدونه نحو المصالح الإجتماعيّة، وفي الوقت ذاته يجعلونه- وربما كانت هذه هي الوظيفة الأهمّ- مسؤولاً عن أن يمكّن قوّة معيّنة بإسم "الإيمان" للهيمنة على وجوده، بحيث يستطيع- بحكم هذه القوّة أو القدرة- أن ينفّذ المصالح الإجتماعيّة، وأن يسعى وراء كلّ ما يشخّص أنَّه مصلحةٌ اجتماعيّة، أو مصلحة روحيّة ومصلحة أخرويّة من خلال معرفة الهدف من وجود الإنسان وتحديد الطريق الموصل إلى الهدف سواء كان هذا التشخيص للمصالح الاجتماعيّة بحكم الوحي، أم العقل، أم العلم.
ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنَّه لولا وجود هذه السلطة للدين والأنبياء عليهم السلام لإندثرت البشريّة، إذ كانت ستأكل نفسها، وتدمّر وجودها بذاتها.
العقل والأنبياء عليهم السلام
وإن قيل إنه لا يصح فرض أن الإنسان ينطلق وراء مصالحه الشخصيّة على حساب مصالحه الإجتماعيّة، لأنه كما هو مزوَّد بغريزة حبّ الحياة وإرادة العيش، فإنَّه مزوَّدٌ أيضاً بالعقل الذي يصحّح له مسيره كلّما إتَّجه نحو الإنحراف عن المسار الصحيح والسليم، وبه يستغني عن العامل الإضافي- النبوات- الذي يمارس دور الهداية والتحذير.
قلنا في مقام الجواب: إنَّنا لا ننكر وجود هذا العقل في الإنسان، ولكن نحن نشاهد بالحسّ والوجدان أنَّ الكثيرين من البشر قد إنساقوا وراء غرائزهم، وأهملوا تعليمات وإرشادات عقولهم. ولا أظنّ أنَّ أحداً يمكنه أن يتنكّر لهذا الأمر.ومن ثَمّ يبقى الإنسان بحاجةٍ إلى مَنْ يهديه إلى مصالحه الإجتماعيّة فيما لو تركها سعياً وراء منافعه الفرديّة الضيّقة. وهذا لا يعني أن الأنبياء عليهم السلام قد بعثوا من أجل تعطيل العقل الإنسانيّ ودفعه إلى الركود، ولم يكونوا بديلاً للعقل، بل على العكس تماماً، فقد بُعثوا لتحريك العقول وتحريرها.
المناهج في إثبات النبوّة
قد يقال: إنَّه لا وجود لما ذكرتموه من حاجة البشريّة إلى النبوّة والأنبياء، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى الدين الذي يأتي به هؤلاء من عند الله.
وقد يرى البعض أنّه ليس من الصحيح أن نستدلّ على ضرورة النبوّة بحاجة البشريّة، وبعبارة أخرى: من غير الصحيح أن نقول: لمّا كانت البشريّة بحاجةٍ إلى النبوّة فلا بدّ أن يكون هناك أنبياء في العالم، إذ ليس من الضروريّ أن يوجد في العالم كلّ ما تحتاج إليه البشريّة، وإنْ كانت الحاجة واقعيّة.
وهنا يتحتّم علينا أن نستعرض مناهج البحث في مقولة الحاجة.
وقد ذُكر في ذلك منهجان: المنهج الكلاميّ، والمنهج الفلسفِيّ.
المنهج الكلاميّ في إثبات النبوّة
أ- إنكار نظام العليّة: يذهب المتكلِّمون إلى وجوب نسبة كلّ شيءٍ إلى الله مباشرةً وبلا واسطةٍ، ويظنون أنَّ الإلتزام بنظام العلّيّة هو ضربٌ من التحديد لله، فلذا نجدهم يرفضون نظام العلّية- وأما ما يحفل به الوجود من نظام فهو تقريباً أمرٌ شكلِيٌّ تشريفِيٌّ. (2)
ب- مقتضى الحكمة فعل المصلحة: ويقول من يؤمن بالحسن والقبح منهم:
ما دام الله حكيماً فلا يصدر منه فعلٌ إلاّ طبق المصلحة، فما هو حسن يجب عليه فعله، بمقتضى حكمته، وإلاّ أضرّ ذلك بحكمته، وما هو قبيحٌ ينبغي له أن لا يفعله، وإلاّ كان ذلك طعناً في حكمته.
ولكن هذا النهج من الاستدلال ليس صحيحاً، سواء لجهة إنكار نظام العلّيّة، أو لجهة وضع قاعدة وقانون يتحكّمان بالله، ويضبطان فعله، إذ معنى أن نقول: "ينبغي له أن يفعل"، أو "ينبغي له أن لا يفعل"، تحديدُ دافعٍ للفعل الإلهِيّ، وهذا ما يتنافى مع واجب الوجود، الذي لا يخضع لتأثير أيّ علّةٍ مهما كانت، مضافاً إلى أنّ الحسن والقبح اللذين ندركهما، ما هما إلا أمور إعتبارية بمعنى أنها تصدق في نطاق الحياة البشرية فقط لا غيرها.
المنهج الفلسفيّ اللمّي في إثبات النبوّة :
وهو المنهج الذي نتبنّاه، وعبَّرنا عنه من خلال طرح مقولة الحاجة، التي تُعدّ في ذاتها قانوناً، بل قانوناً طبيعيّاً، وهذا برهان لمّي ينطلق من الله وصفاته إلى ضرورة وجود النبوّة، أي من العلة إلى المعلول.
يعتمد الفلاسفة على مقولة الاحتياج التي تعد قانوناً طبيعياً، فيذهبون إلى أنّ كلّ معدوم في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى عدم الإمكان وعدم قابليّته للوجود، وأنّ كلّ ما له إمكان وقابليّة للوجود فلا بُدّ أن يوجَد.
ويطبق هذا المنهج ضمن مقدمتين على مسألة النبوّة:
أ- إنّ النبوّة ممكنةٌ، بمعنى إمكان إتّصال الإنسان بالعالم الآخر، حيث يُلقى إليه من هناك الإلهام والغيب، وهذا ما يذكر برهانه في طيّات الحديث عن حقيقة الوحي.
ب- إنّ البشريّة بحاجةٍ إلى النبوّة، والنبوّة ضربٌ من الخير والسعادة والكمال، ويؤدّي عدم وجودها إلى ظهور فراغٍ وجوديّ لدى البشر يفضي إلى اضطراب عامّ في الحياة الإنسانيّة.
ومن هاتين المقدّمتين نصل إلى ضرورة وجود النبوّة في نظام العالم.
ونلاحظ أن هذا المنهج لا يتحدّث عن تكليف الله، بل يقول الفلاسفة (حكماء الإسلام): إنّ الله فاعلٌ تامٌّ، ولا يمكن أن يمتنع الفيض من ناحيته، فلا مجال للبخل في ذاته كي يمنع الفيض، لذلك إذا ما كان لشيءٍ في نظام الوجود إمكان الوجود، وإمكان الديمومة، فسيُفاض عليه الوجود من قِبَل الله.
ولهذا المنهج أصول قرآنيّة، فقد قال تعالى، في معرض إنتقاد منكري النبوّة والوحي: ﴿وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾(3).
فهو يقول: إنّ مَن عرف الله حقّ قدره لا يمكنه أن ينكر أنّ الله قد أنزل الوحي على أشخاص معيّنين، وهم الأنبياء عليهم السلام.
وهذا استدلال بالله على وجود النبوّة والوحي.
المنهج الإنّي في إثبات النبوّة
وهي نظرية المهندس بازركان، ذكرها في كتابه (الطريق المطوي).
قد يُدعى أنّه إذا لم نستطع إثبات حاجة الخلق إلى النبوّة بالبرهان اللمّيّ- أي عن طريق الاستدلال بالعلّة على المعلول- فإنَّنا نستطيع ذلك عن طريق الاستدلال بالبرهان الإنّي، أي بالمعلول على العلّة.
وبيان ذلك: أننا نرى في الخارج أموراً لا نشكّ في وجودها وتحقُّقها، وعندما نبحث عن مصدر هذه الأمور نجد أنَّه لا يمكن أن يكون مادّيّاً وعاديّاً، إذ لهذه الأمور من الخصائص ما يوجب أن يكون مصدرها إلهيّاً، وبحسب تعبيرنا ما وراء الطبيعة.
ومثال ذلك: غرائزُ الحيوانات، وأمثلتها كثيرة جداً، فالهدايةُ الموجودة في الحيوانات لا يمكن أن يكون لها منشأ غير الإلهام الإلهيّ.
وقد أكّد القرآن هذه الفكرة بقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾(4).
وفي مسألة النبوّة نرى للأنبياء آثاراً لا يمكن أن تتّسق مع التعليم، والاكتساب من المعلِّم، والمحيط الداخليّ والخارجيّ، وبالتالي لا بُدّ وأن نذعن بوجود نحوٍ من التلقّي والإلهام.
وكذا نرى لتعاليمهم التطابق الكامل مع مصالح العباد، ومع شؤون البشريّة كافّةً، بخِلاف تعاليم العلماء والفلاسفة، الذين كانوا يظهرون بين فترةٍ وأخرى، حيث كانت ناقصةً. وهذا الكمال لا يُعقل أن يكون نتاجاً لفردٍ عاديٍّ، كما لا يمكن أن يكون ناتجاً عن التعليم، أو التجربة، أو عن طريق النبوغ وما يحظى به إنسانٌ ما من تفوُّقٍ على الآخرين.
إذاً فهذه التعاليم التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام خارجةٌ عن مقدّرات العقل الإنسانيّ ومعطيات الفكر الإنسانيّ، فيجب عندئذٍ الإيمان بوجود الإلهام.
وهذا السبيل هو نفسُه النهج الذي سلكته الآيات.
مقوّمات النظريّة ونقدها
إن هذه النظريّة تعتمد على جملةٍ من المقدِّمات(ذكر المهندس بازركان هذه المقدِّمات في كتابَيْه: "درس التديُّن" و"الطريق المطويّ".
)، وهي:
1- لقد نهض الأنبياء عليهم السلام على الدوام ضدّ الإتّجاه الحاكم في مجتمعاتهم. وهذه الفكرة صحيحةٌ، غير أنَّ هذا لا يختصُّ بالأنبياء عليهم السلام وحدهم، بل إنَّ جميع الثائرين وأصحاب الحركات كانوا أساساً على هذه السيرة.
2- جاهد الأنبياء عليهم السلام وضحّوا في الطريق إلى تحقيق أهدافهم.
وهذه الفكرة صحيحةٌ أيضاً، ولكنَّ هذا لا يختصّ بالأنبياء عليهم السلام وحدهم، فكم هم المضحّون في سبيل أهدافهم وما يعتقدون به؟ فهل يكون هؤلاء أنبياء؟!
3- لقد نهض الأنبياء عليهم السلام بمفردهم، ولم يحظَوْا بحماية سلطةٍ، أو سياسةٍ، أو طبقةٍ معيَّنةٍ، فقد كانوا وحيدين على الدوام.
وهذا صحيحٌ أيضاً، ولكنْ يُشاركهم فيه غيرُهم.
4- لم يكن الأنبياء نفعيّين، يندفعون وراء جمع المال وكسب السلطة.
وهذه نقطةٌ نؤمن بها، ولكنْ لا نستطيع أن نحتجّ بها لإثبات النبوّة لمَنْ يُنكرها ولا يؤمن بها، إذ يرى هؤلاء أنَّ كلّ شخصٍ يسعى وراء هدفٍ معيَّنٍ يقنع به في هذا العالم، بل إنّهم يرَوْن أنّ الأنبياء عليهم السلام هم أشخاص يتملّكهم هياج التمكّن من السلطة المعنويّة على الناس، وهذه الحالة تعبِّر بذاتها عن ضربٍ من المنفعة.
وعليه فالاستدلالُ بأنّه ما دام الأنبياء لا يرغبون بالمال فهم لا يرغبون بالسلطة أيضاً مخدوشٌ من قِبَل المنكرين للنبوّة.
نعم، الكُلّ يُسلِّم بأنَّ الأنبياء لم يكونوا يرغبون في سلطةٍ تشبه سلطة الملوك والسلاطين، ولا سلطة العلماء والفلاسفة، فهم فريقٌ آخر، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّهم مبعوثون من عند الله.
5- حظي الأنبياء عليهم السلام بتوفيقٍ عظيمٍ لا نظير له. وهذا أمرٌ صحيحٌ.
6- تختلف تعاليم الأنبياء عن تعاليم الآخرين (الفلاسفة والعلماء) في النهج.
فنهجُ العلماء والفلاسفة نهجٌ منظَّمٌ، يقوم على أساس الحركة من المقدِّمة إلى النتيجة، فهو نهجٌ فكرِيٌّ واستدلالِيٌّ، ينطلق من عدد من المقدِّمات، ويتحرَّك إلى الأمام، حتّى يبلغ النتيجة.
أمّا الأنبياء فليس نهجهم بالأساس نهجاً استدلاليّاً، ومنطقيّاً، وما شابه.
ويستثني صاحب النظرية القرآن الكريم، فقد جاء عن طريق العقل والمنطق، واقترن بهما. ففي القرآن أنماطٌ من الاستدلالات العقلِيّة والفلسفيّة بالكامل، وليس فقط العقل التجريبيّ.
وهذا الكلام صحيحٌ إلى حدٍّ ما، ولكنَّه ليس صحيحاً بشكلٍ تامٍّ.
7- إنّ الأمم التي إتَّبَعَت تعاليم الأنبياء عليهم السلام حظيت بالرقيّ والتقدُّم.
ونحن نؤمن بهذا، وينبغي علينا إثباته، ولكنْ هل يؤمن به الذين ينكرون النبوّة؟
إنّهم يعدّون أغلب ما جاءت به تعاليم الأنبياء من مظاهر الرجعيّة والتخلُّف.
والنتيجة التي يتوصل إليها هي أنّ الأنبياء لم يكونوا نفعيّين، وكانوا مؤمنين بأنفسهم.
وهذه النتيجة مثارٌ للجَدَل والنقاش أيضاً، إذ يُنكر البعض، وهم الذين يرَوْن أنّ الأنبياء عليهم السلام جماعة من النفعيّين الذين يسعَوْن وراء الجاه والسلطة، أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يعتقدون بصدق أنفسهم.
ولكنَّ الإنصاف أنّ تضحيات الأنبياء عليهم السلام وسيرتهم تدلّ بوضوح على أنّهم كانوا مؤمنين بما يقولونه.
ولكنْ يبقى السؤال: هل أنَّ إيمان هؤلاء بصدق أنفسهم كافٍ لإثبات نبوّتهم؟
الجواب: كلاّ، فصحيحٌ أنّ الكثير ممَّن أنكر النبوّة في الماضي والحاضر لا يرى أنَّ الأنبياء هم محتالون من ذوي المكر والخداع، ولكنَّه يرى أنّ هناك حالةً تنتابهم بحيث تلقي عليهم ظلالاً من التخيُّلات تجعلهم يتوهَّمون أنَّه قد أُوحي إليهم.
فنحن نؤمن بأنّ الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا مستبدّين قصّار نظر، كما لم يتأثّروا ببيئتهم ولم يتعلَّموا من محيطهم، ولم يكونوا مصابين بإنفصام الشخصيّة، كما أنّهم لم يكونوا سذّجاً، ولكنَّ الآخرين ينكرون ذلك كلّه.
محصَّل النظريّة في ثلاث مقدّمات:
أوّلاً: ما دامت تعاليم الأنبياء عليهم السلام منبثقة من وجودهم، وليس من المحيط، أو بتأثير معلِّمٍ.
ثانياً: ما دامت تعاليمهم منبثقة من منشأ فكريّ، ومنتهية إلى مقصد هو الله.
ثالثاً: لمّا كانت مهمّتهم وخدماتهم قد إقترنت بالصدق والنبوغ والنضج.
إذاً، ما جاؤوا به إمّا أن يكون إبداعاً ذاتيّاً، نتيجة خيالات وتصوّرات شخصيّة، أو أنّ له منشأً واقعيّاً وحقيقيّاً، وهو غير بشريّ في الوقت ذاته.
والإحتمالُ الأوّل باطِلٌ، إذ مهما بلغت إبداعات الشخص من الكمال فسيبقى للنقص فيها نصيبٌ كبيرٌ، وهذا النقصُ غيرُ موجودٍ في تعاليم الأنبياء عليهم السلام.
فتعيّن الاحتمال الثاني.
مع الإشارة إلى أنَّ هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لمّا كانوا يؤمنون بعمق تديّنهم، وقد ثبت أنّهم منزّهون عن الكذب والحيلة، فيكون كلّ ما قالوه صدقاً، ومنه أنَّ هذه التعاليم ليست من عند أنفسهم، ولا من تداعيات عقولهم، بل إنّهم أخذوها من إله مفترض.
ثمّ أشار صاحب النظرية(في كتابه "الطريق المطويّ".) إلى أنّ نهج الأنبياء عليهم السلام نهج داخليّ، فهم يستمدّون الإلهام من داخلهم، تماماً كما يتأثّر الفنّانون بداخلهم.
وهذا الوجه المشترك يعدّ عند هذه الحدود صحيحاً إلى حدٍّ ما.
مع فارق وهو أنّ الفنّانين لا يخرجون أبداً من أطرهم النفسيّة، وأمّا الأنبياء عليهم السلام فقد فتحوا نافذةً صوب العقل، وبإتّجاه الخارج وتربية المجتمع.
وهنا نسأل: ما هو الدليل على أنّ ما يدخل في عداد إلهام الأنبياء عليهم السلام، الذي هو إلهام داخليّ أيضاً، هو إلهامٌ إلهيّ؟
إذاً، إن كل ما ذكر من الشواهد والقرائن على صحّة طريق البرهان الإنّيّ (طريق الاستدلال بالمعلول على العلّة) غير تامٍّ. نعم هو يصلح في مقام الإفحام بنسبة ما، وإنْ كان الطريق في حد ذاته أساسيّاً في بحث إثبات النبوّة (إذ إن أصل هذا الطريق وكليّه صحيح، وسوف يذكر تحت عنوان الآيات والبيّنات، ونثبت النبوّة بالطريق الإنيّ من خلال الآية والمعجزة.)، و المعجزة، التي هي استدلال بالإنّ على النبوّة، بحيث لو أهملنا الآثار والدلائل التي ذكرها الأنبياء عليهم السلام فلن نستطيع إثبات النبوّة.
شبهات وحلول
بعد أن إتضحت الحاجة إلى النبوّة، قد تخطر على البال بعض الأسئلة التي لا بد لها من إجابة مقنعة، وبذلك يتم البحث عن ضرورة النبوّة، وعن المناهج المذكورة في إثباتها.
المرتبة الوجوديّة للموجودات
قد يُقال: لماذا خُلق الإنسان على هذه الشاكلة؟ ولماذا لم يُخلَق على بنية أخرى؟ لماذا لم توهب النبوّة للجميع؟
هذه أسئلة لا محلّ لها في صميم الخلقة، وغير صائبة من الأساس.
فالخلقة تتحرّك في إطار نظامٍ محدَّد لا يتخلَّف، ولا يمكن تغييره. ونحن عندما نقول بحاجة البشر إلى النبوّة فليس معناه أنَّ الله مكلَّفٌ، وأنَّ من الواجب عليه أن يخلق الأنبياء لكي يتدارك هذا النقص في نظام الخلقة، بل إنَّ مشروع الخلقة مشروع متكامِل يحتلّ فيه كلّ شيء مكانه، فإذا ما كان ثَمّ حاجة في نظام الخلقة، وكان هناك إستعدادٌ وإمكان لتلقّيها، فسيحصل الفيض قطعاً، لأنّ فيض الله مطلَقٌ.
ومن هنا لا معنى للقول: لماذا لم يكن كلّ أفراد البشر على هذه الشاكلة؟ لأنَّ للخلقة نظاماً متّسقاً ومنسجماً، يحتلّ فيه كل موجود مكانه الطبيعي الذي لو حاد عنه لاختل النظام، وليس بمقدور أيّ موجودٍ أن يوجَد إلاّ في إطار مرتبته الوجوديّة الموجود فيها فعلاً.
مثال العدد
وأفضلُ مثال في مجال نظام الخلقة والتكوين هو الأعداد، فهي تصوِّر لماذا لا يمكن أن نفترض الإنسان موجوداً في مرتبة موجودٍ آخر، ولماذا لم يَصِر الإنسان فرساً والفرس إنساناً، ولماذا لم يصبح أبو جهل نبيّاً والنبيّ أبا جهلٍ؟
فهل يتساءل أحدٌ: لماذا لم تصبح الأربعة خمسةً، والخمسة أربعةً؟
كلا، لأنَّ الأربعة إنَّما صارت أربعةً لأنَّها موجودةٌ أساساً في المكان الذي هي موجودةٌ فيه الآن، فلو نقلناها إلى مكان السبعة فستصير سبعةً، ولن تبقى أربعةً، وهكذا بقيّة الأعداد.
والموجوداتُ في هذا العالم متقوِّمةٌ بمراتبها، كما يُعبِّر عن ذلك الفلاسفة، فكلّ موجودٍ في أيِّ رتبةٍ وُجد فإنّ تلك المرتبة هي جزء من ذاته، وبالتالي فمن المحال أن تتغيَّر مرتبته ويبقى الموجود هو الموجود نفسه.
الله يصطفي رسلا
وقد يعترض بأنه هل لمن يختاره الله للنبوّة خاصّيّة تميّزه عن غيره أم يأتي الإختيار جزافاً، وبشكلٍ عشوائيّ؟
الجواب: كلا، لا يتمّ إختيار النبي من دون ضابطة. وإستعداد وقابلية الشخص لها دخلٌ في هذا الإختيار، وقد صرّح القرآن الكريم بهذا العنصر:﴿إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾(5)، والآية الأصرح في ذلك: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(6).
إذاً، ليس لجميع الأفراد أهليّة النبوّة، وإنَّما يستند الإختيار إلى إستعداد خاصّ.
لماذا نلحظ كثرة الأنبياء في أرض معيّنة؟
إنّ لذلك علاقة بالعنصر ذاته الذي تشير إليه الآية: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(7)، فإذا كان الإصطفاء للرسالة له صلة بالإستعدادات الخاصّة التي ينطوي عليها الأفراد، فمن الثابت أنّ لجغرافية الأرض تأثيراتها المتنوّعة في تربية الإستعدادات.
مثلاً يقولون عن أرض الشرق: إنَّها أرض العرفان والإشراق، وعليه فليس جزافاً أن يميل الغربيّون- مثلاً- إلى المحسوسات أكثر، في حين يميل الشرقيّون إلى ما وراء الحسّ أكثر.
كما ومن الثابت أنّ للمحيط الجغرافيّ، والظروف المناخيّة، وحرارة الشمس، تأثيراً مفيداً في نموّ جسم الإنسان، وللوضع الجسميّ تأثيره في تربية الروح وإعدادها إعداداً خاصّاً.
وعلى ضوء هذا ليس هناك ما يمنع أن يكون لبعض الأقاليم استعداد أكبر لتنمية الأفراد الذين يحظون- بشكلٍ عامٍ- بقابليّات على الإشراق والإلهام.
هل حُرِم بعض الأقوام من وجود نبِيٍّ بينهم؟
إن لم يمكن تاريخيّاً إثبات أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا منتشرين في جميع الأصقاع، إلا أن الدليل التاريخيّ لم يُثبت لنا خلوّ بعض الأصقاع والأقاليم من الأنبياء عليهم السلام تماماً. وبعبارة أخرى، إن لم يكن هناك دليل على الإثبات فلا دليل أيضاً على النفي.
والمنطق القرآنيّ في هذه المسألة هو أنَّ الله تعالى بعث لكلِّ أمّةٍ نذيراً، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾(8)، وهذا يعني وجود النبوّات في كلّ الأمم والأقوام. وهذا المنطقُ هو المرجع والأصل لنا مع فقد الدليل التاريخيّ على الإثبات والنفي.
خلاصة
ذُكرت ثلاثة مناهج في إثبات النبوّة:
1- المنهج الكلامي: الذي ينكر قانون العلية لأنه يؤدي إلى تحديد الله سبحانه، ويؤمن بالحكمة الإلهية وأن الله لا يفعل إلا الحسن وطبق المصلحة.
2- المنهج الفلسفي: الذي يرى أنّ كلّ معدوم في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى عدم الإمكان وعدم قابليّته للوجود، وأنّ كلّ ما له إمكان وقابليّة للوجود فلا بُدّ أن يوجَد.
3- المنهج الإني: يرى صاحب هذا المنهج أن في الخارج أموراً لا نشكّ في وجودها وتحقُّقها، وعندما نبحث عن مصدر هذه الأمور نجد أنَّه لا يمكن أن يكون مادّيّاً وعاديّاً، إذ لهذه الأمور من الخصائص ما يوجب أن يكون مصدرها إلهيّاً.
وفي مسألة النبوّة نرى للأنبياء عليهم السلام آثاراً لا يمكن أن تتّسق مع التعليم والإكتساب من المعلِّم، والمحيط الداخليّ والخارجيّ، وبالتالي لا بُدّ وأن نذعن بوجود نحوٍ من التلقّي والإلهام.
والحق هو أن كل ما ذكر من الشواهد والقرائن على صحّة طريق البرهان الإنّيّ غير تامٍّ، نعم هو يصلح في مقام الإفحام بنسبة ما، وإنْ كان الطريق في حد ذاته أساسيّاً في بحث إثبات النبوّة(إذ إن أصل هذا الطريق وكليّه صحيح)، الذي هو استدلال بالإنّ على النبوّة، بحيث لو أهملنا الآثار والدلائل التي ذكرها الأنبياء عليهم السلام فلن نستطيع إثبات النبوّة.
وما ذكر عن إختيار الأنبياء عليهم السلام فإنه لا يتمّ من دون أي ضابطة، بل للإستعداد دخلٌ في الإختيار، والقرآن الكريم يُبرز هذا العنصر، في قوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
ولا دليل من التاريخ على أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا في جميع الأصقاع، كما لا دليل على أنّ بعض الأصقاع قد خلا منهم.
ومنطق القرآن الكريم هو وجود النبوّات في كلّ الأمم والأقوام.
المصادر :
1- الحديد / 25.
2- المعروف نسبة هذا القول إلى جهم بن صفوان، والأشاعرة، والنجاريّة- راجع ارشاد الطالبين- المقداد السيوري- ص263 راجع الملل والنحل للسبحاني، ج2- ص113.
3- الأنعام / 91.
4- النحل / 68.
5- البقرة / 247.
6- الأنعام / 124.
7- الأنعام / 124.
8- فاطر / 24.


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :
بعض مصادر حديث ( لا فتى إلا علي .... )
مسألة عدالة الصحابة باختصار
الآيات النافية لاِمكان الرؤية
إجتهاد عمر في آيات الخمر
ما معنى الحديث القائل "الحسود لا يسود"؟ هل هو ...

 
user comment