عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

أصول الاختلاف

جعل الله تعالى في الإنسان السمع والبصر والفؤاد، ومن هذه الصناعة الدقيقة وهبه قوة الادراك والفكر وبهما يستحضر الإنسان ما هو ظاهر عنده من الحوادث. ويستقرئ ما كان لينطلق إلى ما سيكون. ولأن الإنسان ذو شعور وإرادة. فإن الله تعالى هيأ
أصول الاختلاف

عل الله تعالى في الإنسان السمع والبصر والفؤاد، ومن هذه الصناعة الدقيقة وهبه قوة الادراك والفكر وبهما يستحضر الإنسان ما هو ظاهر عنده من الحوادث. ويستقرئ ما كان لينطلق إلى ما سيكون. ولأن الإنسان ذو شعور وإرادة. فإن الله تعالى هيأ له وجود يقبل الارتباط معه ويستطيع الانتفاع به، قال تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) (1).
وقال: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) (2). إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخرة للإنسان.
وبعد قيام الإنسان بواجب الخلافة عند الله في الأرض. واجهت الفطرة أول اختلاف لها على الأرض. ومنشأ هذا الخلاف أن الإنسان موجود اجتماعي. وجد ليساير الأفراد من نوعه يريدون منه ما يريده منهم. ولما كان في الإنسان القوي والضيف والمريض إلى غير ذلك.
ونظرا لتعارض المصالح بين هذا وذاك. ظهر الاختلاف في الأغراض والمقاصد والآمال. وجاء الاختلاف في المعاش وهو الذي يرجع إلى الدعاوى وينقسم به الناس إلى مدع ومدعى عليه. وظالم ومظلوم ومتعد ومتعدى عليه وآخذ بحقه وضائع حقه.
ولأن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف في المعاش على أرضية الاجتماع المدني. ولأن الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف نظرا لتعدد الأغراض وتعدد الأشياء التي سخرها الله للإنسان.
فإنها لم تتمكن من رفع الاختلاف. وكيف تدفع شئ ما تجذبه إليه نفسها. ولأن الفطرة لا تستطيع أن تقدم تشريع يكون على عاتق الناس.
وتأمرهم بإتيان أمور هي الواجبات وما في حكمها وتنهاهم عن أمور هي المحرمات وما في حكمها. استدعى ذلك وضع قوانين إلهية ترفع الاختلافات والمشاجرات في لوازم الحياة. فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع.
فالاختلاف الأول في أمر الدنيا فطري. وكان سببا لتشريع الدين.
ليكون الدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنساني والمصلح لأمر حياته. يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها. وينظم للإنسان مسلك حياته، ووضع الله سبحانه ما شرع من الشرائع والقوانين على أساس التوحيد. لأن التوحيد هو الحصن الحصين الذي يحفظ الإنسان من الخطأ والزلة، ومن أساس التوحيد بنى الدين أسلوبه الاجتماعي وقوانينه الجارية على أعمدة الأخلاق. ومن هذا الحصن يعرف الناس ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم ليسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملون في العاجل ما يعيشون به في الآجل، وليعلموا أن التشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بنى على علم فقط دون غيره، قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (3).
وإصلاح الفطرة بالفطرة وتعديل قواها المختلفة عند طغيانها، إصلاح وتعديل داخل في الصنع والإيجاد. قال تعالى: (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (4) قال في الميزان: بين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شئ إلى ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقة الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة. وقال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا) (5) وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الامداد بالعطاء يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده ويعطيه ما يستحقه. وإن عطائه غير محذور ولا ممنوع من قبله تعالى. ومن المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه. فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة. فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية.
وإذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله. وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته فالإصلاح - لو كان - يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة. وهي الجهة الإلهية التي تأتي عن طريق النبوة بالوحي. والخلاصة: إن نوع الإنسان مستخدم بالطبع. وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف في جميع شؤون حياته. ويقضي التكوين والإيجاد رفع هذا الاختلاف وما يترتب عليه. ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الإنسان إلى كماله وسعادته يتحقق بأحد أمرين: إما بفطرته وإما بأمر ورائه، لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف في المعاش، فوجب أن تكون الهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة. وهو التفهيم الإلهي المسمى بالنبوة والوحي (6).
وبعد نزول التشريع الإلهي. جاء الاختلاف الثاني. وهو الاختلاف في الدين. فعندما أصلحت الأمور ببعث النبيين وإرسال المرسلين. وظهر الانذار والتبشير والثواب والعقاب، جاء الاختلاف في معارف الدين أو أمور يوم القيامة، وترتب على هذا الاختلاف اختلال أمر الوحدة الدينية. وظهرت الفرق والأحزاب وتبع ذلك الاختلاف غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين جاءهم النبيين بالكتاب ظلما وعتوا منهم. بعد ما تبين لهم أصول الدين ومعارفه وتمت عليهم الحجة.
وعلى هذا فإن المسيرة البشرية عصف بها اختلافان: اختلاف فطري في المعاش وأمور الحياة. ورفع هذا الاختلاف بالدين. ثم اختلاف في نفس الدين. وهذا الاختلاف أوجده العلماء ويستند إلى البغي. وفي هذين الاختلافين يقول تعالى: (كان الناس أمة واحدة. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما إختلفوا فيه. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) (7) قال في الميزان:
ذكر البعض أن المراد بالآية أن الناس كانوا أمة واحدة على الهداية. لأن الاختلاف أنما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، وقد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا. وعن أن الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف. فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الأنبياء وإنزال الكتاب. وحملهم على البغي بالاختلاف وإشاعة الفساد؟ وذكر آخرون: أن المراد بالآية: أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة. إذ لولاها لم يكن وجه لترتيب قوله تعالى: (فبعث الله النبيين.. الآية). وقد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذكر أن هذا الضلال الذي ذكره. وهو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه.. الآية). إنما نشأ عن سوء سريرة علماء الدين بعد نزول الكتاب وبيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والإنزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي، فما المصحح لنسبة ذلك إلى علماء الدين؟ (8).
ويقول صاحب الميزان: قوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) هو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، وقوله تعالى (وما اختلف فيه) أي في الكتاب (إلا الذين أوتوه) أي الذين حملوه، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله. والمختلفون بهذا الاختلاف حملته دون جميع الناس، فأحد الاختلافين غير الآخر أحدهما اختلاف عن بغي وعلم والآخر بخلافه (9).
فالأنبياء والرسل عليهم السلام بعد نزول الكتاب. أقاموا الحجة وشيدوا بناء الوحدة الدينية. ولأن دين الله واحد لا غير ولا تدعو النبوة إلا إليه. فإن الناس إذا كذبوا أحد الأنبياء فقد كذبوا كل الأنبياء في الحقيقة، ولما كان التشريع الديني والتقنين الإلهي يحتاج إلى بيان من الأنبياء والرسل عليهم السلام. فإن الله أيدهم بالعصمة وصانهم من الخطأ والغفلة في تلقي الوحي من الله وحفظه وتبليغه، وقد دل القرآن
الكريم على عصمتهم عليهم السلام في قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (10) وكما قطع الله تعالى عذر الناس بميثاق الفطرة قطعه أيضا بإرسال الرسل. فقال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (11) وفي الآية إشارة إلى عصمتهم عليهم السلام. لأن من المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحاجتهم. إنما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق إرادة الله ورضاه. من قول أو فعل وخطأ أو معصية. وإلا كان للناس أن يتمسكوا به. ويحتجوا على ربهم سبحانه.
. وبعد إقامة الحجة بواسطة الأنبياء والرسل. جاء الاختلاف في الدين من الذين أوتوه بغيا بينهم. والاختلاف في الدين يخالف الفطرة الإنسانية. ولقد أمر الله تعالى العلماء أن يبينوا الحق وينشروا علمهم بين الناس. وتوعد سبحانه الذين يكتمون ما أنزل الله. قال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) (12).
قال في الميزان: أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبيين للناس لا لهم فقط. وذلك أن التبيين لكل شخص. إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلاغ وأدواته كاللسان والكلام، وكتمان العالم علمه هو كتمان للعلم عن الناس بعد أن بينه الله لهم، ولقد عد الله تعالى هذا سببا لاختلاف الناس
في الدين وتفرقهم.. وأفاد القرآن أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب، إنما هو ناشئ عن بغي العلماء الحاملين له. فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب. معلول ببغي العلماء بالإخفاء والتأويل والتحريف وظلمهم. حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيامة. فقال: (وأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) (13) وقد تبين أن الآية التي يقول فيها تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) (14) مبتنية على قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم) (15) وجزاء هذا البغي بذيل الآية السابقة وهو قوله تعالى: (أولئك يلعنهم الله).
وبالجملة: إن اختلاف الناس في الدين الذي يكون سببا للطغيان والعناد، يختلف عن اختلافهم في أمور الدنيا الذي هو فطري. وجميع الاختلافات والتفرعات التي ظهرت في الأديان. كلها صنيعة الهوى والنفس البشرية. وتعلق بها شوائب الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية.(16)
المصادر :
1- سورة البقرة آية 29
2- سورة الجاثية آية 13
3- سورة يوسف آية 40
4- سورة طه آية 55
5- سورة الإسراء آية 20
6- تفسير الميزان 131 / 2
7- سورة البقرة آية 213
8- الميزان 125 / 2
9- المصدر السابق 127 / 2
10- سورة النساء آية 64
11- سورة النساء آية 165
12- سورة البقرة آية 159
13- سورة الأعراف آية 44
14- سورة البقرة آية 159
15- سورة البقرة آية 213
16- الميزان 389 / 1


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

رزية يوم الخميس ق (1)
ما جاء في المنع عن التوقيت والتسمية لصاحب الامر ...
من هو النبي المرسل؟ ومن هم الأنبياء؟ وما هي ...
التكاليف الشرعية هي تناسب العدل الإلهي؟
الفطرة والعادة
الموت ليس إبطالاً للشخصية
أدلّة جمع القرآن القرآن في زمان الرسول ...
التجسيم عند ابن تيمية وأتباعه ق (2)
أصل فى بيان الغرض من ايجاد الخلق
بعض اقوال علماء اهل السنة والجماعة في يزيد ابن ...

 
user comment