عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

الحجّ في القرآن _2

الحجّ في القرآن _2

   لقد تكرَّرت مضامين هذا الدعاء الابراهيمي في سورة البقرة ، حيث قال(عليه السلام)فيما يحكيه القرآن على لسانه : (ربّ اجعل هذا بلداً آمناً )15. فانبثقت بعد فترة عين زمزم ببركة هذا الدعاء وباستغاثة هاجر(عليها السلام) وبصرخات اسماعيل(عليه السلام)وبكائه، وهو طفل صغير.

   ولما انبثق الماء حلت الطيور حوله ، وأخذت القوافل تحط رحالها عنده ، فتحولت مكة إلى آ« بلدآ» وأجيبت الدعوة.

حينما جاء ابراهيم الخليل(عليه السلام) ورأى الوادي قد تحوَّل إلى بلد ، أعادَ(عليه السلام) دعاءه مع تغيير السياق : (واذ قال ابراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً )16 فقد دخلت هنا (الالف واللام) على كلمة (بلد )بينما بقي طلب (الأمن )ثابتاً لكلا الحالتين.

   لقد حقق سبحانه لابراهيم دعوته وحلَّ الأمن في مكة ، حتى تميَّزت عما حولها من البلاد ، اذ يقول تعالى : (أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون )17.

   إنَّ استعمال (يتخطّف )ينطوي على دلالة عميقة في رسوخ الأمن ، فالخطفة تعني انقضاض الصقر على فريسته في حال غفلتها، ومكة في أمان من ذلك.

لقد استجيبت دعوة ابراهيم و أضحى الحرم آمناً، حتى على صعيد الحكم الفقهي ، ذلك أنَّ (ومن دخله كان آمناً )18.

   انَّ جملة (عند بيتك المحرّم) تدل دلالة واضحة على أنَّ للبيت وجوداً قبل ابراهيم(عليه السلام)، وإنما غاية ما هناك أنه تعرض لحوادث طبيعية وغير طبيعية ، جعلت البيت عرضة للهدام والخراب . حصل ذلك قبل ابراهيم وبعده أيضاً، حيث تهدمت الكعبة اثر السيول ، وفي عصر الاسلام قام الحَجاج برميها بالمنجنيق من على جبل أبي قبيس.

   لذا فانّ الصخور السوداء التي تعلو جدران الكعبة الآن ، هي ليست نفس الصخور التي كانت عليها قبل عدة قرون.

   والذي يظهر أنَّ الكعبة كانت في صدر البعثة النبوية ، لا يتجاوز ارتفاعها ضعف طول الانسان المتوسط . نستفيد ذلك من واقعة ارتقاء الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) على كتفي رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، حيث رمى الأصنام وقذف بها نحو الأرض أثناء فتح مكة.

   أما الجانب المعنوي في هذه الواقعة فله حسابه الآخر، حيث عبَّر الامام علي(عليه السلام) : انَّهُ حين كان على كتف رسول الله(صلى الله عليه وآله) لو رام أن ينال الثُريا لنالها.

   ما نستفيده من هذا العرض أنَّ الكعبة كانت عرضة للهدام والتخريب أكثر من مرَّة .وفي هذا السياق جاء الخطاب إلى ابراهيم الخليل : (واذ بوَّأنا لابراهيم مكان البيت) حيث تكفل سبحانه بيان المكان ووضع التصميم الهندسي والمعماري للكعبة ، ثم كان على ابراهيم أن يضطلع بمهمة التنفيذ والبناء ، حيث جاء في تتمة الخطاب الالهي : (ألاّ تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والرّكّع السّجود )19.

بين الكعبة وبيت المقدس :

   إنَّ لبيت المقدس قدسيته ومكانته ، إلاّ أننا لا نجد في القرآن أنَّ الله سبحانه ينسبه إلى نفسه في الكيفية ، التي نتلمسها في الكعبة، والتي تختص بها دون غيرها، كما في قوله تعالى : (بيتي) و (بيت الله ).

   بعد أن أقام ابراهيم البيت ، جاءه الخطاب الالهي : (وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً)20 انَّ جملة (يأتوك )هي جواب الأمر، بمعني سيأتون في المستقبل . وَ هؤلاء سيأتون بأيّ كيفية ممكنة ، فمنهم المشاة ، ومنهم من يأتي (وعلى كل ضامر )أي الهزيل من النوق وغيرها.

وبه يتضح أنَّ الملبين للنداء الإبراهيمي ، منهم من يأتي مشياً، ومنهم من يأتي راكباً على كل ضامر . أما اولئك الذين لهم القدرة أن يركبوا على غير الهزيل الضامر، فإنّ حظّهم في الاستجابة للنداء أقل من غيرهم.

   وفي كل الأحوال ، فإنَّ الملبين للنداء سينطلقون من كل مكان يقصدون البيت . (يأتين من كلّ فج عميق )21

   يتضح من سياق الآيات أنَّ ابراهيم(عليه السلام) طوى مراحل متعدّدة بأمر الله تعالى. فبادئ الأمر تعرف على أرض مكة ، ثم ترك فيها زوجته وولده ، وطلب من ربّه أن تكون لهما بلدة آمنة.

   وحين عاد اليها مجدداً رآها وقد آلت إلى أن تكون آ«بلدةآ» فكرّر دعوته في أن يجعلها أمناً وأماناً. ثم جاءه الخطاب بتشييد قواعد البيت ، وفي الأثناء توجه إلى ربّه بدعائه : (تقبّل منّا إنَّك أنت السميع العليم )22.

   وحين بُنيت الكعبة ; وصفها تعالى بقوله : (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس )23 ولم يقتصر الأمر على الكعبة وحدها في أن تكون حراماً، وعنصر قيام للناس ، وإنما اتسع المكان ليشمل الحرام ، وامتد الزمان ليستوعب الشهر الذي يتم فيه الحج ، فكل ذلك وما يتخذ الناس من الهدي والقلائد أصبح شعاراً وقياماً للناس (والشهر الحرام والهدي والقلائد )24.

   لقد ذكر الطبري في تفسيره للآية ، أنّ البيت كان قواماً للناس في الجاهلية ، حتى وهم لا يرجون جنّة ولا يخافون ناراً، فشدَّد الله ذلك بالاسلام . ثم أضاف : آ«كان الرجل لو جرّ كل جريرة ، ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يُقرب .وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربهآ».

   بل زاد الأمر على ذلك بعدم التعرض للحيوان اذا قُلِّد بقلادة ، إذ يصبح في أمان حتى وهو يأكل من علف غير صاحبه.

   وبشكل عام ، كانت معالم الأمن ظواهر واضحة ، يمكن تلمسها والاحساس بها لزوّار البيت الحرام.

القبلة إلى البيت المقدس :

   ليس ثمة شك ، أنّ بيت المقدس أضحى قبلة من عصر سليمان(عليه السلام) فما بعد، فسليمان هو الذي وضع تصميم بيت المقدس وقام ببنائه.

   لقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، حين كان في مكة ، يتوجه على خط واحد إلى الكعبة وبيت المقدس ، حيث كان يقف في كيفية تجمع بين القبلتين.

   ومثل هذا الجمع كان سهلاً في مكة ; لأنَّ بيت المقدس يقع في شمال غربي الكعبة ، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) يقف في جنوب الكعبة فيكون بمقدوره أن يجمع القبلتين على خط واحد.

أما في المدينة فقد اختلف الأمر تماماً، لذلك كان يقصد بيت المقدس قبلة حين الصلاة بعد أن تعذّر الجمع بينه وبين الكعبة ، بل كانت الكعبة تقع إلى وراء ظهره.

   بيد أنَّ الحال لم يدم ، حيث تمّ تحويل القبلة إلى الكعبة ورسول الله(صلى الله عليه وآله) واقف يصلّي في مسجد القبلتين ، فاستدار وهو في الصلاة نحو الكعبة.

المسجد الحرام والمسجد الاقصى :

   جمعت الآية الكريمة من سورة الاسراء بين المسجد الحرام والمسجد الاقصى ، حيث يقول تعالى : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله )25.

   إنّ عوامل الأرض، والمناخ، والماء، ساهمت جميعاً في إعطاء مزايا لأطراف المسجد الاقصى ، وكانت سبباً في كثرة النعم والخيرات . ومع ذلك فقد قُدّر لمكة أن تنعم بكلّ هذه الثمرات والخيرات أو اكثر، رغم أرضها ومائها ومناخها. والسّر في وفور الخيرات والثمرات دائماً في مكة هي دعوة الخليل المستجابة (وارزقهم من الثمرات ).

الفوارق بين الكعبة والمسجد الاقصى :

   لقد اضطلع بمسؤولية بناء الكعبة ابراهيم الخليل، وهو(عليه السلام) من أولي العزم. بينما اضطلع سليمان(عليه السلام) ببناء بيت المقدس ، وهو ليس من أولي العزم ، وإنما من الحفّاظ لشرائع أولي العزم.

   بيد أنّ هذا الفارق ليس هو الوحيد بين الكعبة والمسجد الاقصى ، وإنما ثمة فارق آخر يتمثل بالوعد الإلهي ، بحماية الكعبة وحراستها من الأعداء ; هذا الوعد الإلَهي تحوّل إلى سيرة عملية ، في حين لا نجد ما يناظر هذا الوعد بالنسبة لبيت المقدس.

   فلو أراد أحد أن يتعرض للكعبة لعرّض للاستئصال ، كما حماها سبحانه بطير أبابيل، وصانها بمعجزات أخرى . أمّا عملياً فلا نجد مثل هذا الوعد بالنسبة لبيت المقدس ، اذ استطاع آ«بخت نصرآ» أن يهدم بيت المقدس تماماً، إلاّ أنَّهُ لم يتعرض لما تعرض اليه أبرهة الحبشي.

بناء الكعبة لمنفعة الناس :

   ما نستفيده من ظاهر الآية الشريفة مدار البحث أنَّ أول بيت وضع لعبادة الناس كان في مكة ، وقد وضع لينتفع منه الناس ، حيث يقول تعالى : (وضع للناس) وان كان التعبير في مورد التكليف بالحج جاء قريناً بحرف الجر آ«علىآ» حيث يقول تعالى : (لله على الناس) إلاّ أننا سنوضح أنَّ العبادة والتكليف لا يمكن أن يكونا ضدَّ الناس أبداً، بل هما لصالحهم دائماً.

   لذلك تجد أهل السلوك يعبّرون عن التكليف بالتشريف . فالرجل حين يبلغ السادسة عشرة من عمره، والمرأة حين تبلغ العاشرة يعبِّرون عنهما أنهما قد بلغا سنَّ التشريف (ويعنون به التكليف) وأصبحا أهلاً للخطاب الالهي ، في حين لم يكونا قبل ذلك أهلاً لتلقي ما ينطوي عليه الخطاب من أحكام نظير قوله تعالى : (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة )26.

   وعن الأحكام الإلهية عموماً بما تنطوي عليه من تكليف يقول تعالى : (ذلكم خير لكم )27 وانطلاقاً من هذه الزاوية بالذات عُبِّر عن العبادة بـ آ« اللام آ».

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الفرق بين علوم القرآن والتفسير
وتسلّط‌ ارباب‌ السوء
اليقين والقناعة والصبر والشکر
القصيدة التائية لدعبل الخزاعي
في رحاب أدعية الإمام الحسين (عليه السلام)
أقوال أهل البيت عليهم السلام في شهر رمضان
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أوصاف جهنم في القرآن الكريم
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام

 
user comment