عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

البداء وإرادة الله تعالى

البداء وإرادة الله تعالى


روی عن الحسن بن محمد النوفلی انّه قال: قدم سلیمان المروزی(1) متکلم خراسان على المأمون فأکرمه ووصله ثم قال له : إن ابن عمی علی بن موسى الرضا قدم علیّ من الحجاز وهو یحب الکلام وأصحابه فلا علیک أن تصیر إلینا یوم الترویة لمناظرته.
فقال سلیمان : یا أمیر المؤمنین ، إنی أکره أن أسأل مثله فی مجلسک فی جماعة من بنی هاشم فینتقص عند القوم إذا کلّمنی ولا یجوز الانتقاص علیه.
قال المأمون : إنما وجّهت إلیه لمعرفتی بقوتک ولیس مرادی إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط.
فقال سلیمان : حسبک یا أمیر المؤمنین اجمع بینی وبینه وخلنی والذم.
فوجه المأمون إلى الرضا م فقال : إنه قدم إلینا رجل من أهل مرو ، وهو واحد خراسان من أصحاب الکلام فإن خف علیک أن تتجشّم المصیر إلینا فعلت.
فنهض للوضوء وقال لنا : تقدمونی ، وعمران الصابی معنا فصرنا إلى الباب ، فأخذ یاسر وخالد بیدی فأدخلانی على المأمون فلما سلمت قال: أین أخی أبو الحسن أبقاه اللّه تعالى ؟
قلت: خلّفته یلبس ثیابه وأمرنا أن نتقدم ثم قلت : یا أمیر المؤمنین ، إن عمران مولاک معی وهو على الباب.
فقال: ومن عمران ؟
قلت: الصابی الذی أسلم على یدک.
قال: فلیدخل فدخل فرحَّب به المأمون ثمَّ قال له: یا عمران لم تمت حتى صرت من بنی هاشم.
قال: الحمد لله الذی شرَّفنی بکم یا أمیر المؤمنین.
فقال له المأمون : یا عمران هذا سلیمان المروزی متکلم خراسان.
قال عمران : یا أمیر المؤمنین ، انّه یزعم واحد خراسان فی النظر ، وینکر البداء.
قال: فلم لا تناظروه ؟
قال عمران: ذلک إلیه.
فدخل الرضا فقال: فی أی شیء کنتم ؟
قال عمران : یا ابن رسول الله هذا سلیمان المروزی.
فقال له سلیمان: أترضى بأبی الحسن وبقوله فیه ؟
فقال عمران: قد رضیت بقول أبی الحسن فی البداء على أن یأتینی فیه بحجة أحتجُّ بها على نظرائی من أهل النظر.
قال المأمون : یا أبا الحسن ما تقول فیما تشاجرا فیه ؟
قال : وما أنکرت من البداء یا سلیمان ، والله عزّ وجلّ یقول: ( أوَ لاَ یَذْکُرُ الاِنْسَانُ أنَّا خَلَقْنَاه مِنْ قَبْلُ وَلَمْ یَکُ شَیئاً )(2)ویقول عزّ وجلّ : ( وَهُوَ الَّذی یَبْدَءُ الخَلْق ثُمَّ یُعِیدهُ )(3)ویقول : ( بَدِیعُ السَّمَواتِ وَالاَرْضِ )(4)ویقول عزّ وجلّ : ( یَزِیدُ فی الخَلقِ مَا یشاءُ )(5)ویقول : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الاِنسانِ من طِینٍ )(6) ویقول عز وجل : ( وَآخَرونَ مُرجَونَ لاِمْرِ اللهِ إِمَّا یُعَذِّبُهم وإِمَّا یَتُوبُ عَلَیهمْ )(7)ویقول عزّ وجلّ: ( وَمَا یُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ یُنقَصُ مِن عُمُرهِ إِلاّ فی کِتابٍ )(8).
قال سلیمان: هل رویت فیه من آبائک شیئاً ؟
قال: نعم رویت عن أبی عن أبی عبدالله أنّه قال: إنَّ لله عزّ وجلّ علمین علماً مخزوناً مکنوناً لا یعلمه إلا هو من ذلک یکون البداء، وعلماً علَّمه ملائکته ورسله فالعلماء من أهل بیت نبینا یعلمونه.
قال سلیمان: أحب أن تنزعه لی من کتاب الله عزّ وجلّ.
قال: قول الله عزّ وجلّ لنبیه صلى الله علیه وآله : ( فَتَوَلَّ عَنهُم فَمَا أنتَ بِمَلُومٍ )(9)أراد هلاکهم ، ثمَّ بدا لله تعالى فقال: ( وَذَکِّر فإِنَّ الذِکرَى تَنَفعُ المؤُمِنِینَ )(10).
قال سلیمان: زدنی جعلت فداک.
قال الرضا: لقد أخبرنی أبی عن آبائه : عن رسول الله قال: إن الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبی من أنبیائه أنْ أخبر فلاناً الملک : أنی متوفیه إلى کذا وکذا، فأتاه ذلک النبی فأخبره فدعا الله الملک وهو على سریره حتى سقط من السریر وقال : یا رب ، أجِّلنی حتى یشبَّ طفلی وأقضی أمری ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلک النبی أن أئت فلاناً الملک ، فأعلمه انّی قد انسیت فی أجله وزدت فی عمره إلى خمس عشرة سنة ، فقال ذلک النبی علیه السلام: یا رب إنک لتعلم أنی لم أکذب قط ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلیه: إنّما أنت عبدٌ مأمورٌ فأبلغه ذلک ، والله لا یسئل عمّا یفعل.
ثمّ التفت إلى سلیمان فقال: أحسبک ضاهیت الیهود فی هذا الباب.
قال: أعوذ بالله من ذلک ، وما قالت الیهود ؟
قال: قالت الیهود: ( یَدُ اللهِ مَغلُولةٌ )(11)یعنون أن الله تعالى قد فرغ من الاَمر فلیس یحدث شیئاً ، فقال الله عزّ وجلّ : ( غُلَّت أیدِیِهم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا )(12) ولقد سمعت قوماً سألوا أبی موسى بن جعفر علیه السلام عن البداء ، فقال: وما ینکر الناس من البداء ، وأن یقف الله قوماً یرجیهم لاَمره.
قال سلیمان: ألا تخبرنی عن ( إنَّا أَنزَلنَاهُ فی لَیلَةِ القَدرِ )(13)فی أی شیء أنزلت ؟
قال: یا سلیمان ، لیلة القدر یقدر الله عزّ وجلّ فیها ما یکون من السنة إلى السنة من حیاة أو موت أو خیر أو شر أو رزق، فما قدره فی تلک اللیلة فهو من المحتوم.
قال سلیمان : الآن قد فهمت جعلت فداک فزدنی.
قال الرضا : إن من الاَمور أموراً موقوفة عند الله عزّ وجلّ یقدم منها ما یشاء ویؤخر ما یشاء ، ویمحو ما یشاء ، یا سلیمان إنَّ علیاً کان یقول: العلم علمان فعلم عِلمه الله وملائکته ورسله فما علَّمه ملائکته ورسله فإنّه یکون ولا یکذب نفسه ولا ملائکته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم یطلع علیه أحداً من خلقه ، یقدم منه ما یشاء ویؤخر منه ما یشاء ، ویمحو ما یشاء ، ویثبت ما یشاء.
قال سلیمان للمأمون: یا أمیر المؤمنین ، لا أنکر بعد یومی هذا البداء ولا أکذب به إن شاء الله.
فقال المأمون: یا سلیمان ، سل أبا الحسن عما بدا لک ، وعلیک بحسن الاستماع والاِنصاف.
قال سلیمان: یا سیدی أسألک ؟
قال الرضا : سل عمّا بدا لک.
قال : ما تقول فیمن جعل الارادة اسماً وصفة ، مثل حی وسمیع وبصیر وقدیر.
قال الرضا : إنما قلتم: حدثت الاَشیاء واختلفت لاَنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الاَشیاء واختلفت لاَنّه سمیع بصیر ، فهذا دلیل على أنّهما لیستا مثل سمیع ولا بصیر ولا قدیر.
قال سلیمان: فإنّه لم یزل مریداً.
قال : یا سلیمان فإرادته غیره.
قال: نعم.
قال: فقد أثبتَّ معه شیئاً غیره لم یزل.
قال سلیمان: ما أثبتُّ.
قال الرضا : أهی محدثة ؟
قال سلیمان: لا ، ما هی محدثة.
فصاح به المأمون وقال: یا سلیمان ، مثله یعایى أو یکابر ؟ علیک بالاِنصاف أما ترى من حولک من أهل النظر ؟ثمّ قال: کلِّمه یا أبا الحسن فإنّه متکلم خراسان ، فأعاد علیه المسألة.
فقال: هی محدثة یا سلیمان ، فإن الشیء إذا لم یکن أزلیاً کان مُحدَثاً ، وإذا لم یکم محدثاً کان أزلیاً.
قال سلیمان : إرادته منه کما أن سمعه وبصره وعلمه منه.
قال الرضا : فأراد نفسه ؟
قال: لا.
قال: فلیس المرید مثل السمیع البصیر ؟
قال سلیمان: إنما أراد نفسه وعلم نفسه.
قال الرضا : ما معنى أراد نفسه ؟ أراد أن یکون شیئاً ، وأراد أن یکون حیاً أو سمیعاً أو بصیراً أو قدیراً ؟
قال: نعم.
قال الرضا : أفبإرادته کان ذلک ؟
قال سلیمان : نعم.
قال الرضا : فلیس لقولک أراد أن یکون حیاً سمیعاً بصیراً معنى ، إذا لم یکن ذلک بإرادته.
قال سلیمان: بلى قد کان ذلک بإرادته.
فضحک المأمون ومن حوله ، وضحک الرضا علیه السلام ، ثمّ قال لهم: ارفقوا بمتکلم خراسان ، فقال: یا سلیمان فقد حال عندکم عن حاله وتغیر عنها ، وهذا ما لا یوصف الله عزّ وجلّ به فانقطع.
ثمَّ قال الرضا : یا سلیمان أسألک عن مسألة.
قال: سل جعلت فداک.
قال : أخبرنی عنک وعن أصحابک ، تُکلِّمون الناس بما تفقهون وتعرفون، أو بما لا تفقهون ولا تعرفون ؟
قال: بل بما نفقه ونعلم.
قال الرضا : فالذی یعلم الناس أن المرید غیر الاِرادة ، وأن المرید قبل الاِرادة ، وأن الفاعل قبل المفعول ، وهذا یبطل قولکم أن الاِرادة والمرید شیءٌ واحدٌ.
قال: جعلت فداک لیس ذلک منه على ما یعرف الناس ولا على ما یفقهون.
قال الرضا : فأراکم ادَّعیتم علم ذلک بلا معرفة وقلتم: الاِرادة کالسمع والبصر ، إذا کان ذلک عندکم على ما لا یعرف ولا یعقل، فلم یحر جواباً.
ثمّ قال الرضا : یا سلیمان ، هل یعلم الله جمیع ما فی الجنة والنار ؟
قال سلیمان: نعم.
قال: أفیکون ما علم الله تعالى أنه یکون من ذلک ؟
قال: نعم.
قال: فإذا کان حتى لا یبقى منه شیء إلا کان ، أیزیدهم أو یطویه عنهم ؟
قال سلیمان: بل یزیدهم.
قال : فأراه فی قولک قد زادهم ما لم یکن فی علمه أنه یکون.
قال: جعلت فداک ، فالمرید لا غایة له.
قال: فلیس یحیط علمه عندکم بما یکون فیهما، إذا لم یعرف غایة ذلک، وإذا لم یحط علمه بما یکون فیهما لم یعلم ما یکون فیهما قبل أن یکون تعالى الله عزّ وجلّ عن ذلک علواً کبیراً.
قال سلیمان إنّما قلت: لا یعلمه لاَنّه لا غایة لهذا لاَن الله عزّ وجلّ وصفهما بالخلود وکرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً.
قال الرضا : لیس علمه بذلک بموجب لانقطاعه عنهم لاَنّه قد یعلم ذلک ثمّ یزیدهم ثم لا یقطعه عنهم ، وکذلک قال الله عزّ وجلّ فی کتابه : ( کُلَّمَا نَضِجَت جُلُودُهُم بَدَّلنَاهُم جُلُوداً غَیرَهَا لِیَذُقُوا العَذَابَ )(14)وقال لاَهل الجنة: ( عَطَاءً غَیرَ مَجذُوذٍ )(15)وقال عزّ وجلّ : ( وَفَاکِهةٍ کثیرَةٍ * لاَّ مَقطُوعةٍ وَلاَ مَمنُوعَةٍ )(16) فهو عزّ وجلّ یعلم ذلک ولا یقطع عنهم الزیادة ، أرأیت ما أکل أهل الجنة وما شربوا لیس یخلف مکانه ؟
قال: بلى.
قال: أفیکون یقطع ذلک عنهم وقد أخلف مکانه ؟
قال سلیمان : لا.
قال : فکذلک کلما یکون فیها إذا أخلف مکانه فلیس بمقطوع عنهم ؟
قال سلیمان: بلى یقطعه عنهم ولا یزیدهم.
قال الرضا : إذاً یبید فیها ، وهذا یا سلیمان إبطال الخلود وخلاف الکتاب ، لاَنّ الله عزّ وجلّ یقول: ( لَهُم مَّا یَشَاؤُنَ فِیهَا وَلَدینَا مَزِیدٌ )(17)ویقول عزّ وجلّ :( عَطَاءً غَیرَ مَجذُوذٍ )(18)ویقول عزّ وجلّ : ( وَمَا هُم مِّنهَا بِمُخرَجینَ )(19) ویقول عزّ وجلّ : ( خَالِدِینَ فِیهَا أَبدَاً )(20)ویقول عزّ وجلّ : ( وَفَاکِهةٍ کثیرَةٍ * لا مَقطُوعةٍ وَلاَ مَمنُوعَةٍ )(21).
فلم یحر جواباً ؟!
ثمّ قال الرضا : یا سلیمان ، ألا تخبرنی عن الاِرادة فعل هی أم غیر فعل؟
قال: بلى هی فعل.
قال : فهی محدثة لاَنّ الفعل کله محدث.
قال: لیست بفعل.
قال: فمعه غیره لم یزل.
قال سلیمان: الاِرادة هی الاِنشاء.
قال: یا سلیمان ، هذا الذی عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: إن کُلَّ ما خلق الله عزّ وجلّ فی سماء أو أرض أو بحر أو بر من کلب أو خنزیر أو قرد أو إنسان أو دابة إرادة الله ، وإن إرادة الله تحیى وتموت وتذهب وتأکل وتشرب وتنکح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش وتکفر وتشرک ، فیبرأ منها ویعاد بها ، وهذا حدها.
قال سلیمان: إنها کالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا : قد رجعت إلى هذا ثانیة ، فأخبرنی عن السمع والبصر والعلم أمصنوع ؟
قال سلیمان : لا.
قال الرضا : فکیف نفیتموه ؟ قلتم : لم یرد ، ومرة قلتم: أراد ولیست بمفعول له.
قال سلیمان: إنّما ذلک کقولنا مرة علم ومرة لم یعلم.
قال الرضا : لیس ذلک سواء ، لاَن نفی المعلوم لیس کنفی العلم ، ونفی المراد نفی الاِرادة أن تکون ؛ لاَن الشیء إذا لم یرد لم تکن إرادة ، فقد یکون العلم ثابتاً ، وإن لم یکن المعلوم بمنزلة البصر فقد یکون الاِنسان بصیراً وإن لم یکن المبصر ، وقد یکون العلم ثابتاً وإن لم یکن المعلوم.
قال سلیمان: إنّها مصنوعة.
قال: فهی محدثة لیست کالسمع والبصر ، لاَن السمع والبصر لیسا بمصنوعین وهذه مصنوعة.
قال سلیمان: إنها صفة من صفاته لم تزل.
قال: فینبغی أن یکون الاِنسان لم یزل ، لاَن صفته لم تزل.
قال سلیمان: لا لاَنّه لم یفعلها.
قال الرضا : یا خراسانی ، ما أکثر غلطک ! أفلیس بإرادته وقوله تکون الاَشیاء ؟
قال سلیمان: لا.
قال: فإذا لم تکن بإرادته ولا مشیئته ولا أمره ولا بالمباشرة فکیف یکون ذلک ؟ تعالى الله عن ذلک علواً کبیراً.
فلم یحر جواباً ؟!
ثمّ قال الرضا : ألا تخبرنی عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَإذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِکَ قَرْیَةً أمَرْنَا مُتْرَفِیهَا فَفَسَقُوا فِیهَا )(22)
یعنی بذلک أنّه یحدث إرادة.
قال له : نعم.
قال : فإذا حدث إرادة کان قولک إن الاِرادة هی هو أو شیء منه باطلاً، لاَنّه لا یکون أن یحدث نفسه ، ولا یتغیر عن حالةٍ تعالى الله عن ذلک.
قال سلیمان: إنّه لم یکن عنى بذلک أنّه یحدث إرادة.
قال: فما عنى به ؟
قال : عنى فعل الشیء.
قال الرضا : ویلک کم تردد فی هذه المسألة ؟ وقد أخبرتک أن الاِرادة محدثة لاَن فعل الشیء محدث.
قال: فلیس لها معنى.
قال الرضا : قد وصف نفسه عندکم حتى وصفها بالاِرادة بما لا معنى له، فإذا لم یکن لها معنى قدیم ولا حدیث بطل قولکم إن الله عزّ وجلّ لم یزل مریداً.
قال سلیمان: إنّما عنیت أنّها فعلٌ من الله تعالى لم یزل.
قال: ألا تعلم أن ما لم یزل لا یکون مفعولاً وقدیماً وحدیثاً فی حالة واحدة ؟
فلم یحر جواباً ؟!
قال الرضا : لا بأس أتمم مسألتک.
قال سلیمان : قلت إنّ الاِرادة صفة من صفاته.
قال: کم تردِّد علیَّ أنها صفة من صفاته فصفته محدثة أو لم تزل ؟
قال سلیمان: محدثة.
قال الرضا : الله أکبر فالاِرادة محدثة وإن کانت صفة من صفاته لم تزل.
فلم یرد شیئاً.
قال الرضا : إنّما لم یزل لم یکن مفعولاً.
قال سلیمان : لیس الاَشیاء ارادة ، ولم یرد شیئاً.
قال الرضا : وسوست یا سلیمان ، فقد فعل وخلق ما لم یزل خلقه وفعله، وهذه صفة من لا یدری ما فعل ، تعالى الله عن ذلک.
قال سلیمان: یا سیّدی فقد أخبرتک أنّها کالسمع والبصر والعلم.
قال المأمون : ویلک یا سلیمان ، کم هذا الغلط والتردّد ؟ اقطع هذا وخذ فی غیره ، إذ لست تقوى على غیر هذا الرد.
قال الرضا : دعه یا أمیر المؤمنین ، لا تقطع علیه مسألته فیجعلها حجّة، تکلم یا سلیمان.
قال: قد أخبرتک أنّها کالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا : لا بأس أخبرنی عن معنى هذه أمعنى واحد أم معانٍ مختلفة ؟
قال سلیمان: معنى واحد.
قال الرضا : فمعنى الاِرادات کلها معنى واحد ؟
قال سلیمان: نعم.
قال الرضا : فإن کان معناها معنى واحداً کانت إرادة القیام إرادة القعود، وإرادة الحیاة إرادة الموت ، إذا کانت إرادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضاً ولم یخالف بعضها بعضاً وکانت شیئاً واحداً.
قال سلیمان: إن معناها مختلف.
قال : فأخبرنی عن المرید أهو الاِرادة أو غیرها؟
قال سلیمان: بل هو الاِرادة.
قال الرضا : فالمرید عندکم مختلف إذا کان هو الاِرادة.
قال: یا سیدی لیس الاِرادة المرید.
قال: فالاِرادة محدثة وإلا فمعه غیره ، إفهم وزد فی مسألتک.
قال سلیمان: بل هی اسم من أسمائه.
قال الرضا : هل سمَّى نفسه بذلک ؟
قال سلیمان: لا ، لم یسمِّ نفسه بذلک.
قال الرضا : فلیس لک أن تسمیه بما لم یسمِّ به نفسه.
قال: قد وصف نفسه بأنّه مرید.
قال الرضا : لیس صفته نفسه أنّه مرید إخبار عن أنّه إرادة ولا إخبار عن أن الاِرادة اسم من أسمائه.
قال سلیمان: لاَن إرادته علمه.
قال الرضا : یا جاهل ، فإذا علم الشیء فقد أراده ؟
قال سلیمان: أجل.
فقال: فإذا لم یرده لم یعلمه.
قال سلیمان: أجل.
قال: من أین قلت ذاک ؟ وما الدلیل على إرادته علمه ؟ وقد یعلم ما لا یریده أبداً ، وذلک قوله عزّ وجلّ : ( وَلَئِن شِئنَا لَنَذهَبَنَّ بِالَّذی أَوحَینا إِلیکَ )(23) فهو یعلم کیف یذهب به وهو لا یذهب به أبداً ؟
قال سلیمان: لاَنّه قد فرغ من الاَمر ، فلیس یزید فیه شیئاً.
قال الرضا : هذا قول الیهود ، فکیف قال تعالى: ( ادعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُم )(24)؟
قال سلیمان: إنّما عنى بذلک أنه قادر علیه.
قال: أفیعد ما لا یفی به ، فکیف قال: ( یَزِیدُ فی الخَلقِ مَا یشاءُ )(25)وقال عزّ وجلّ : ( یَمحُو اللهُ مَا یَشَاءُ وَیُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الکِتَابِ )(26)وقد فرغ من الاَمر.
فلم یحر جواباً ؟!
قال الرضا : یا سلیمان ، هل یعلم أن إنساناً یکون ، ولا یرید أن یخلق إنساناً أبداً ، وأن إنساناً یموت الیوم ولا یرید أن یموت الیوم.
قال سلیمان : نعم.
قال الرضا : فیعلم أنه یکون ما یرید أن یکون ، أو یعلم أنه یکون ما لا یرید أن یکون ؟
قال: یعلم أنهما یکونان جمیعاً.
قال الرضا : إذاً یعلم أن إنساناً حی میت قائم قاعد أعمى بصیر فی حالة واحدة ، وهذا هو المحال.
قال : جعلت فداک ، فإنه یعلم انّه یکون احدهما دون الآخر ؟
قال : لا بأس ، فأیهما یکون الذی أراد أن یکون أو الذی لم یرد أن یکون؟
قال سلیمان: الذی أراد أن یکون.
فضحک الرضا والمأمون وأصحاب المقالات.
قال الرضا : غلطت وترکت قولک: إنّه یعلم أن إنساناً یموت الیوم وهو لا یرید أن یموت الیوم ، وأنه یخلق خلقاً وأنه لا یرید أن یخلقهم ، وإذا لم یجز العلم عندکم بما لم یرد أن یکون فإنّما یعلم أن یکون ما أراد أن یکون.
قال سلیمان: فإنّما قولی أن الاِرادة لیست هو ولا غیره.
قال الرضا : یا جاهل ، إذا قلت: لیست هو فقد جعلتها غیره وإذا قلت: لیست هی غیره فقد جعلتها هو.
قال سلیمان: فهو یعلم کیف یصنع الشیء؟
قال: نعم.
قال سلیمان: فإن ذلک إثبات للشیء.
قال الرضا : أحلت ؛ لاَن الرجل قد یحسن البناء وإن لم یبن ، ویحسن الخیاطة وإن لم یخط ، ویحسن صنعة الشیء وإن لم یصنعه أبداً، ثمّ قال له : یا سلیمان هل تعلم أنّه واحد لا شیء معه ؟
قال: نعم.
قال الرضا : فیکون ذلک إثباتاً للشیء ؟
قال سلیمان: لیس یعلم أنّه واحد لا شیء معه.
قال الرضا : أفتعلم أنت ذاک ؟
قال : نعم.
قال: فأنت یا سلیمان أعلم منه إذاً.
قال: سلیمان: المسألة محال.
قال : محال عندک أنّه واحد لا شیء معه ، وأنّه حی سمیع بصیر حکیم قادر؟
قال: نعم.
قال: فکیف أخبر عزّ وجلّ : أنّه واحد حی سمیع بصیر حکیم قادر علیم خبیر وهو لا یعلم ذلک ، وهذا رد ما قال وتکذیبه ، تعالى الله عن ذلک.
ثمّ قال له الرضا : فکیف یرید صنع ما لا یدری صنعه ولا ما هو ؟ وإذا کان الصانع لا یدری کیف یصنع الشیء قبل أن یصنعه فإنّما هو متحیّر ، تعالى الله عن ذلک علواً کبیراً.
قال سلیمان: فإن الاِرادة القدرة.
قال الرضا : وهو عزّ وجلّ یقدر على ما لا یریده أبداً ولا بدَّ من ذلک، لاَنّه قال تبارک وتعالى : ( وَلَئِن شِئنَا لَنَذهَبَنَّ بِالَّذی أَوحَینا إِلیکَ )(27)فلو کانت الاِرادة هی القدرة کان قد أراد أن یذهب به لقدرته.
فانقطع سلیمان.
فقال المأمون عند ذلک: یا سلیمان ، هذا أعلم هاشمی ، ثمّ تفرّق القوم(28)
المصادر :
(1) تهذیب الکمال : ج 11 ص 453 ترجمة رقم : 2529 ، تهذیب التهذیب لابن حجر : ج 4 ص 199 ترجمة رقم : 338 ، مستدرکات علم رجال الحدیث للشیخ علی النمازی الشاهرودی : ج 4 ص 146 ترجمة رقم : 6608 ، منتهى المقال فی أحوال الرجال للمازندرانی : ج 3 ص 387 ترجمة رقم : 1363 ، مسند الاِمام الرضا للعطاردی : ج 2 ص 534.
(2) سورة مریم : الآیة 67.
(3) سورة الروم : الآیة 27.
(4) سورة البقرة : الآیة 117.
(5) سورة فاطر : الآیة 1.
(6) سورة السجدة : الآیة 7.
(7) سورة التوبة: الآیة 106.
(8) سورة فاطر: الآیة 11.
(9) سورة الذاریات : الآیة 54.
(10) سورة الذاریات : الآیة 55.
(11) سورة المائدة : الآیة 64.
(12) سورة المائدة : الآیة 64.
(13) سورة القدر: الآیة 1.
(14) سوره النساء : الآیة 56.
(15) سورة هود: الآیة 108.
(16) سورة الواقعة : الآیة 32 و 33.
(17) سورة ق : الآیة 35.
(18) سورة هود: الآیة 108.
(19) سورة الحجر: الآیة 48.
(20) سورة النساء: الآیة 57.
(21) سورة الواقعة : الآیة 32 و 33.
(22) سورة الاِسراء : الآیة 16.
(23) سورة الاِسراء: الآیة 86.
(24) سورة غافر : الآیة 60.
(25) سورة فاطر : الآیة 1.
(26) سورة الرعد: الآیة 39.
(27) سورة الاسراء: الآیة 86.
(28) عیون أخبار الرضا للصدوق: ج2 ص 159 ـ 168 ب 13، التوحید للصدوق: ص441 ـ 454 ب 66 ح 1، بحار الاَنوار للمجلسی : ج10 ص 329 ـ 338 ح 2.


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أسباب الغيبة الصغرى للإمام المهدي
في أن الاستقامة إنما هي على الولاية
صُبت علـَـيَ مصـــائبٌ لـ فاطمه زهراعليها ...
التقیة لغز لا نفهمه
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
وصول الامام الحسین(ع) الى کربلاء
دعاء الامام الصادق عليه السلام
الصلوات الكبيرة المروية مفصلا
الشفاعة فعل الله
أخلاق أمير المؤمنين

 
user comment