عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

الحجّ في نهج البلاغة -2

والقبلة: اسم للمكان المتوجّه إليه للصلاة وغيرها.

وإنّما عبّر عن البيت الحرام بالقبلة; لأنّ المصلي يقابلها وتقابله، أو لأنّ الله ـ تعالى ـ يقبل صلاة مَن توجّه إليها.

وجعل الله ـ سبحانه ـ اختلاف القبلة سمات أهل الأديان، وأعلاماً يوقف بها على انتحال المصلّي إلى نحلة لزمها من النحل، فقال عزّ من قائل: (ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها)(3).

والأنام: الجنّ والإنس، وقيل: ما على وجه الأرض من جميع الخلق.

وبناءً على التفسير الأول، يكون بيت الله الحرام قبلةً للإنس والجنّ، أمّا الإنس فواضح، وأمّا الجنّ، فيدل كلامه (عليه السلام): جعله قبلةً للأنام ـ بناءً على تفسير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 12 : 406 ح16634.

(2) البقرة : 144.

(3) البقرة : 148.

الأنام بالجنّ والإنس ـ على أنّ بيت الله الحرام قبلةً للجنّ أيضاً، يتوجّهون إليه حين عبادتهم، وإن كانت ماهية عبادتهم لنا مجهولة.

وبناءً على التفسير الثاني، يكون بيت الله الحرام قبلةً لجميع ما على وجه الأرض من الخلق، ومعلوم أنّ المخلوقات كلّها تعبد خالقها، وإن كانت كيفية عبادتها مجهولة لنا، إلاّ أنّ المفهوم من قوله (عليه السلام): جعله قبلةً للأنام ـ بناءً على تفسير الأنام: ما على وجه الأرض من جميع الخلق ـ أنّ بيت الله الحرام قبلةً لجميع المخلوقات تتوجّه إليه في عبادتها لربّها وخالقها.

*      قوله (عليه السلام): يَرِدُونَهُ وُرُودَ الاَْنْعَامِ.

الورود: الموافاة، يقال: وردَ البعير الماء يرده ورداً بلغه ووافاه من غير دخول، وقد يحصل دخول فيه، وأكثر ما يستعمل ورود الأنعام على الماء، فهذا تشبيهٌ لطيف منه (عليه السلام) لورود الأنام بيت الله الحرام، فكما ترد الأنعام بتلهّف وظمإ واشتياق وازدحام لشرب الماء ومدافعة بعضهم بعضاً، يردُ الأنام بيت الله الحرام وهم على أشدّ الشوق والتلهّف لزيارة بيت ربّهم، يزدحمون ويهرولون للوصول إلى بيت الله الحرام; ليعترفوا بذنوبهم لربهم فيغفرها لهم، ويتزوّدوا من العرفان لربّهم، ويصوغوا أنفسهم صياغة ربّانية، ويتذكّروا إنسانيتهم التي نسوها من أمد بعيد!

والأنعام جمع نَعم، أكثر ما يقع على الإبل، وقيل: النعم: الإبل خاصة، والأنعام: ذوات الخفّ والظلف، وهي الإبل والبقر والغنم، وقيل غير ذلك.

وقيل: إنّ وجه الشبه بين الأنام والأنعام: عدم اطّلاع الخلق على أسرار الحجّ وعلى ما تشتمل عليه المناسك من الحكمة الإلهية، ولمّا كان العقل الذي به يتميّز الإنسان عن الأنعام وسائر الحيوان معزولا عن إدراك هذه الأسرار كاد أن

لا يكون بين الإنسان وبين مركوبه فرق في الورود إلى البيت!

وفي بعض الوجوه من هذا القيل بُعدٌ.

وروي: أنّ الكعبة شكت إلى الله ـ تعالى ـ في الفترة بين عيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله)، فقالت: يا ربّ، ما لي قلّ زوّاري؟ فأوحى الله إليها: آ«إنّي منزلٌ نوراً جديداً على قوم يحنّون إليك كما تحنّ الأنعام إلى أولادها، ويُزَفّون إليك كما تزفّ النسوان إلى أزواجهاآ»، يعني: أُمّة محمد (صلى الله عليه وآله)(1).

*      قوله (عليه السلام): وَيَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ.

قال الراوندي: أله يأله ألهاً: أي تحيّر، والأصل وله يوله ولهاً، وقال أبو الهيثم: أصل الله إلاه، وأصله ولاه، فقلبت الواو همزةً، فالخلق يولهون إليه في حوائجهم، ويفزعون إليه في كلّ ما ينوبهم(2).

وقال ابن أبي الحديد: الوله: شدّ الوجد، حتى يكاد العقل يذهب، وله الرجل يوله ولهاً. ومَن روى: آ«يألهون إليه ولوه الحمامآ» فسّره بشيء آخر، وهو يعكفون عليه عكوف الحمام، وأصله أله: عبد، ومنه الإله، أي: المعبود، ولمّا كان العكوف على الشيء كالعبادة له لملازمته والانقطاع إليه، قيل: أله فلان إلى كذا، أي: عكف عليه كأنه يعبده. ولا يجوز أن يقال: آ«يألهون إليهآ» في هذا الموضع بمعنى يولهون، وأنّ أصل الهمزة واو، كما فسّره الراوندي; لأنّ فعولا لا يجوز أن يكون مصدراً من فعلت بالكسر، ولو كان يألهون هو يولهون، كان أصله ألِه بالكسر، فلم يجز أن يقول: آ«ولوه الحمامآ»، وأمّا على ما فسّرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدراً; لأنّ أله مفتوح، فصار كقولك: دَخل دخولا(3).

وقال التستري: قلت: أمّا ما قاله من أنّ معنى آ«يألهون إليهآ» أي: يعكفون عليه، فخلط لفظاً ومعنى. أمّا لفظاً; فلأنه لم يقل أحد أن معنى أله عكف، بل عبد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 11 : 22 ح14143.

(2) منهاج البراعة 1 : 106.

(3) شرح نهج البلاغة 1 : 123.

فإن قال: قلته كناية، يمنعه إليه ]في قوله: يألهون إليه[، فلو كان عليه كان له وجه. وأمّا معنىً، فلأنّ الناس لا يعكفون في مكة، وإنّما يشتاقون إلى زيارتها اشتياق الحمام إلى وكرها. وأمّا ما قاله: من أنّ فعولا لا يكون مصدر فعل بالكسر، ووله بالكسر، فليس ذلك كليّاً، بل إذا كان مضارعه يفعل بالفتح، وأمّا إذا كان يفعل بالكسر فيجوز، كما في قولك: وثق وثوقاً، وقد قال في القاموس: وله مثل ورث ووجل ووعد. وأمّا ما قاله من أنه إذا كان يألهون مهموز الأصل، فيجوز أن يكون مصدره ولوهاً; لأنّ أله مفتوح، فيكون مثال: دخل دخولا. ففيه: أنّ مصادر المجرّد ليست بقياسية، ولم ينقل في اللغة كون مصدر أله: ألوهاً، بل الاهه والوهه(1).

والحمام عند العرب: كلّ ذي طوق من الفواخت والقماري والقطا والدواجن وأشباه ذلك، الواحدة حمامة، والعامة تخصّ الحمام بالدواجن، وكان الكسائي يقول: الحمام هو البري واليمام هو الذي يألف البيوت، وقال الأصمعي: اليمام حمام الوحش، وهو ضرب من طير الصحراء.

وفي تشبيهه (عليه السلام) ولوه الأنام بولوه الحمام عدّة وجوه:

منها: إشارة إلى شوق الخلق في كلّ عام إلى ورود البيت كما يشتاق إليه الحمام الذي يسكنه عند خروجه.

ومنها: إشارة إلى أنّ الحمام كما يفزع إلى محله عند الخوف، فكذلك الأنام، فإنّ الحمام يظهر عليه أثر اللوذ بكثرة.

قالوا: ومن طبع الحمام أنه يطلب وكره ولو أرسل من ألف فرسخ، وربّما اصطيد وغاب عن وطنه عشر حجج فأكثر، ثمّ هو على ثبات عقله حتى يجد فرصة فيطير إلى وطنه.

وقيل: حمام الحرم يلتجئ إليه إلهاماً من الله لها أنه المأمن، ويقال: إنها من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بهج الصباغة 9 : 314-315.

نسل طير أبابيل.

*      قوله (عليه السلام): جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَواضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ.

علامة لتواضعهم: أي دليلا لتواضعهم، فإنّ المواقف والأعمال تدلّ على التواضع والخشوع.

ومَن لابس عملا لا يلائم صورة التكبر وينافي أعمال الجبابرة: من الإقبال على حجر أصم بالتقبيل، وعلى مواطن خالية من حوادث الاطماع بالإجلال، صار ذلك الفعل أتمّ رياضة على طرح الأنَفَة; فإنّ من أطاعته نفسه لوجه الله ـ تعالى ـ في توقير شيء، ظاهره لا ينفع ولا يؤذي ولا يعلم ولا يشكر، فهو إلى توقير مَن هو أعلى منه درجة من الأنبياء والملائكة أسرع.

*      قوله (عليه السلام): وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ.

أذعن إذعاناً: انقاد ولم يستعص، وناقة مِذعان: منقادة.

والعزّة: الغلبة، والعزيز من أسمائه سبحانه: الغالب الذي لا يُغلب.

وإنّما جعله ـ سبحانه ـ علامةً لإذعانهم لعزّته; لأنّ العقل لمّا لم يكن ليهتدي إلى أسرار أعمال الحج، لم يكن الباعث عليها في أكثر الخلق إلاّ الأمر المجرّد وقصد امتثاله من حيث هو واجب الاتباع فقء وفيه كمال الرقّ وخلوص الانقياد لله، فمن فعل ما أمر به من إتيان بيت الله وأداء مناسك الحج، فهو المنقاد لعزّة الله، المخلص الذي ظهرت عليه علامات المخلص المتواضع المذعن لجلال الله ربّ العالمين.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الجنة لمن زارها
لـمـــاذا كــــتـم جـمـــاعـــــة مــن ...
غزة
من وصايا الإمام الباقر (عليه السلام)
منزلة القرآن الكريم في خطب أمير المؤمنين في نهج ...
آراء المستشرقين ومواقفهم من القرآن
فضلِ السَّخاء و الجود
من هم الذين يحبهم الله؟
الحسد والسعایة
حجّ الإمام الكاظم(عليه السلام)

 
user comment