عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

القسمُ الثاني ( في الموقف السياسِي قبل البيعة)

القسمُ الثاني ( في الموقف السياسِي قبل البيعة)

القسمُ الثاني
في الموقف السياسِي قبل البيعة

يكفينا الآن، ونحن بصدد موضوع لا ندري على التحقيق، مدى تأثره بسوابقه ومقارناته، ان نرجع --ولو قليلاً - الى استعراض بعض الاوضاع الاجتماعية التي ثاب اليها المسلمون لاول مرة بعد عهد النبوة، بما كان للنبوة من اثر عميق في النفوس، وسلطان قوي على تكوين المجتمع، ويد صناع في بناء عناصر الحيوية في الاتباع.
يكفينا ونحن نستوحي الذكريات لوضع الصورة العابرة هنا، ان نأخذ من كل مناسبة صلتها بموضوعنا، أو نأخذ بالمناسبات ذات الصلة من دون غيرها، لنتعرف - على ضوء هذا الاسلوب - مدى تأثر موضوعنا بماضيه.

* * *

وكان الحدث الاكبر في تاريخ الاسلام هو وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وانقطاع ذلك الاشعاع السماوي الذي كان يفيض على الدنيا كلها بالخير، فاذا الدنيا كلها مظلمة تستعد للشر. وانقطعت الارض بموت رسول اللّه (ص) عن السماء، اذ كان الوحي هو بريدها الى الارض واداة صلتها بها. وهل للارض غنى عن السماء، وفي السماء رزقها ومنها خيرها وحياتها وحيويتها ونورها ودينها. وما كان أشد من هذه الوحشة على الدنيا، ولا أفدح من هذه الخسارة على المسلمين، لو انه كان - ونعوذ باللّه -
انقطاعاً باتاً وانفصالاً نهائياً. ولكن رسول اللّه (ص) أدرك ما سيمتحن به المؤمنون بعده من عظيم الرزية بانقطاع الوحي من بينهم، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فأخبرهم بان حبلاً واحداً سيبقى متصلاً بينهم وبين السماء. وهل حبل أولى بالتمسك من حبل السماء وقد انقطع الوحي، قال:
«اني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الارض، وعترتي اهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(1).

* * *

ومن حق البحث الذي بين ايدينا ان يستقرئ في هذه المناسبة موقف المجتمع من عترة النبي (ص)، او موقف الجماعات التي كانت تدعي لنفسها حق التمثيل للمجتمع، لينظر فيما خلفوا رسول اللّه في عترته - استغفر اللّه - بل لينظر فيما يتصل من ذلك بموضوعنا من هذه المناسبة العابرة. واذا كانت العترة عشيرة الرجل، فعلي أبرز رجالها بعد رسول اللّه، واذا كانت ذريته، فالحسن كبير عترة النبي من بعده. وتجيز اللغة اطلاق العترة على الصنفين - العشيرة والذرية - معاً.
نعم انه قدّر لهذا المجتمع، ان ينقسم انقسامته التاريخية التي وقعت فور الفاجعة العظمى بوفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، حين تأول قوم فانساحوا الى تأولاتهم، وتعبّد آخرون فثبتوا على الصريح من قول نبيهم، وللنبي تصريحات كثيرة في موضوع الترشيح للخلافة ليس هنا مكان استعراضها. ولسنا الآن بصدد مناقشة المتأولين أو مساجلة المتعبدين، لان كل شيء مما نتفق عليه معهم جميعاً، أو مع فريق واحد منهم، أو مما نختلف فيه قد تم في حينه على صورته. وليس فيما تتناوله بحوثنا الآن ما يستطيع ان يغير الواقع عن واقعه.
ولكنا - ولنلتمس المعاذير للمتأولين - على مخالفتهم لنصوص نبيهم نقول: انهم نظروا الى هذه النيابة عن الوحي التي جعلها رسول اللّه (ص) للكتاب وللعترة من بعده، في حديثه هذا وفي نظائره الكثيرة من الاحاديث الاخرى، نظرتهم السياسية التي لا تعني الانكار على رسول اللّه، ولكنها تهدف - قبل كل شيء - الى «المصلحة» فيما يرون، ورأوا ان وجوب اطاعة الاوامر النبوية في الموضوعات السياسية، منوط بذوي التجارب من الشيوخ المتقدمين بالسن. فان صادقوا على ما أراده النبي فذاك، والا فليكن ما أرادوا هم.
وهكذا زويت الخلافة عن العترة. وهكذا صار من الممكن وربما من المستحسن لدى فريق عظيم من مسلمة محمد (صلى اللّه عليه وآله)، ان يصبح معاوية أيضاً ممن ينازع على خلافة الاسلام ويطلبها لنفسه، ويحتج عليها بالسن(2) ايضاً، ويصادق عليها الشيوخ المسنون ايضاً كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وابي هريرة الدوسي. ولم تكن حملة معاوية هذه بما فيها من استخفاف بقدسية الاسلام، الاولى من نوعها، ولكنها كانت تمتد بجذورها الى عهد أقدم، والى تصالح وتعاون أسبق، ومن طراز أسمى(3).
ولم يبق مخفياً ان الحجر الاساسي لهذا التدهور غير المنتظر، كان هو الذي بني هناك في المدينة المنورة، وقامت عليه سقيفة بني ساعدة بما ابرم فيها من حبل جديد هو غير الحبل الممدود - عمودياً - من السماء الى الارض الذي عناه رسول اللّه (ص) في حديثه الآنف الذكر. ولكنه حبل آخر اريد ليمتد مع التاريخ - افقياً -.

وتوالــــت تحــــت السقيــفة أحدا***ثٌ أثــــارت كــــوامنــــاً وميــــولا
نزعـــــات تفرقــــت كغــصون الـ***ـعـوسج الغض شائكاً مدخولا(4)

* * *

ووقف صاحب الحق بالخلافة من اخوانه المتأولين، موقفه المشرف الذي دل بذاته، وبما حفظ الاسلام من الانهيار، على انه وحده كان الوسيط بين الناس وحبل السماء. وتلكأ عن بيعتهم بمقدار ما نبه الذهنية الاسلامية الى الحق المغلوب على امره، واخذ الى البيعة - بعد ذلك - أخذاً(5). وسأله بعض اصحابه: «كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟» فقال: «انها كانت أثرة، شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم للّه والمعود اليه القيامة. ودع عنك نهباً صيح في حجراته(6)»..
لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم.
وعشا عن انواره مناوئوه، وعلى أبصارهم غشاوة الذحول. فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره واخوته وعلمه وعبادته، وتصريحات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في شأنه، التي كانوا يستوعبونها يومئذ اكثر مما نستوعبها نحن. ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه، ونقموا عليه شدته في احقاق الحق، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين، منذ كان يصنع الاسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.
ونقموا عليه سنه لانه كان في العقد الرابع. ولا عجب اذا رأى ذوو الحنكة المسنون، ان لا يكون الخليفة بعد رسول اللّه مباشرة، الا وهو في العقد السابع مثلاً.
وخفي عليهم ان الامامة في الاسلام دين كالنبوة نفسها، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة، ولا يجوز عليها ما لا يجوز على النبوة في عظمتها. فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص على التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات اللّه وتصريحات نبيه (ص). وكانت سن علي يوم وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، سن عيسى بن مريم يوم رفعه اللّه عز وجل، أفيجوز لعيسى ان ينتهي بقصارى نبوته في الارض الى هذه السن، ولا يجوز لعلي أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين، وهي السن التي اختارها اللّه لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سنيّ الانسان لما اختارها اللّه للمصطفين من عباده في الجنان.
ونقموا عليه قرباه «فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد» ولا نعرف كيف انقلبت الفضيلة - على هذا المنطق - سبباً لنقمة. ولا نفهم كيف كانت «القرابة» بموجتها القصيرة، وبما هي اقرب الى النبي صلى اللّه عليه وآله حائلاً دون الخلافة، ثم هي بموجتها الطويلة، وبما هي أبعد عن النبي، دليل الخلافة والحجة الوحيدة في ما دلفوا به من حجاج خصومهم.
وحسبوا انهم أحسنوا صنعاً للاسلام وللمصلحة العامة بفصلهم الخلافة عن بيت النبوة، وبما فسحوا المجال لبيوتات اخرى، تتعاون - بدورها - على غزو المنصب الديني الأعلى، أبعد ما يكون بطبيعته عن مجالات الغزو والغلبة والاستيلاء بالقوة والعنف.
وخفي عليهم ما كان يحتاط به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لامته ولعترته، حين سجل الخلافة في بيته.

______________________________
(1) اخرجه الترمذي وهو الحديث 874 من احاديث كنز العمال (ص 44 ج 1) وعلى نسق هذا الحديث احاديث كثيرة اخرى روتها الصحاح والمسانيد، وجاء في بعضها «اني تارك فيكم خليفتين كتاب اللّه ممدود بين السماء والارض او ما بين السماء والارض وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» - (الامام احمد والطبراني في الكبير).
(2) يلحظ هنا كتاب معاوية الى الحسن عليه السلام شرح النهج (ج 4 ص 13).
(3) ويراجع للتأكد تصريح معاوية نفسه فيما رواه المسعودي (ج 6 ص 78 - 79 هامش ابن الاثير). وبنى على ذلك كثير من شعرائنا القدامى قصائدهم العامرة. وهو ما عناه مهيار الديلمي في لاميته بقوله:
وما الخبيثان ابن هند وابنه***وان طغى خطبهما بعد وجل
بمبدعــين في الذي جاءا به***وانما تـقـفــيا تلـــــك السبل
وهو ما عناه قبله استاذه الشريف الرضي رحمه اللّه بقوله:
الا ليس فعل الآخرين وان علا***على قبـــــح فعـل الاولين بزائد
وهو ما عناه قبلهما الكميت بقوله:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم***فيـــــا اخـــــرا اســــدى له الشـراول
الى امثال كثيرة اخرى.
(4) لبولس سلامة.
(5) قال معاوية فيما كتبه اليه مع أبي امامة الباهلي:
«وتلكأت في بيعته - يعني بيعة ابي بكر - حتى حملت اليه قهراً تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش !!.» اه.
(6) نهج البلاغة (ج 1 ص 299)، شرح محمد عبده.

 


source : www.sibtayn.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ابتکار نظرية الصحابة
غزوة بدر الكبرى أسبابها وأهميتها
مناظرة أمير المؤمنين(ع) مع رجل من أهل الشام في ...
احتجاج الإمام علي(ع) بحديث الغدير
الاسرة والحقوق الزوجية
الملهوف على قَتلى الطفوف
نساء يأكلن من خبز النفايات لإشباع بطونهن ، في ...
بعث الإسلام مجدداً وتعميم نوره على العالم:
خروج الحسين: سؤال الحرية؟
اليهود ودورهم في عصر الظهور:

 
user comment