عربي
Tuesday 23rd of April 2024
0
نفر 0

الصحابة وتحريم متعة الحج

الصحابة وتحريم متعة الحج

قد استنكر لفيف من الصحابة عمل الخليفة وتحريمه متعة الحج بحماس نذكر منهم بعضهم:

1. الإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام
قد كان الإمام أمير المؤمنين يكافح البدع والمحدثات الطارئة على الشريعة بحماس ولا يعير أهمية لنهي الناهي مهما كان له السطوة والشوكة.
1. روى البخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعلياً، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما; فلمّـا رأى علي، أهلّ بهما، لبّيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنّة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لقول أحد.
2. أخرج البخاري عن سعيد بن المسيب قال: اختلف عليّ وعثمان وهما بعُسفان ، في المتعة، فقال علي: ما تريد إلاّ أن تنهى عن أمر فعله النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فلمّـا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعاً.(1)
3. روى مالك في «الموطأ»: انّ المقداد بن الأسود دخل على عليّ ـ عليه السَّلام ـ بالسهَيا وهو يُنجع بكَرات له دقيقاً وخَبطاً، فقال: هذا عثمان بن عفان ينهى أن يقرن بين الحج والعمرة، فخرج علي ـ عليه السَّلام ـ وعلى يديه أثر الدقيق والخبط فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه، حتّى دخل على عثمان فقال: أنت تنهى عن أن يقرن بين الحجّ والعمرة، فقال عثمان: ذلك رأيي، فخرج علي ـ عليه السَّلام ـ مغضباً وهو يقول: لبيك اللّهم لبيك بحجة وعمرة معاً.(2)
4. عن سعيد بن المسيب قال: حجّ علي و عثمان فلمّـا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع، فقال علي: إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا، فلبّى علي وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان»(3)
5. روى عبد اللّه بن الزبير، قال: أنا واللّه لمع عثمان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام وفيهم حبيب بن مسلمة الفهري، إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحجّ : أن أتمّوا الحجّ وخلّصوه في أشهر الحجّ، فلو أخّرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل، فانّ اللّه قد وسع في الخير.
فقال له علي: «عمدت إلى سنّة رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ورخصة رخّص للعباد بها في كتابه، تضيق عليهم فيها وتنهي عنها، وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار»، ثمّ أهلّ بعمرة وحجّة معاً، فأقبل عثمان على الناس.
فقال: وهل نهيت عنها؟ إنّي لم أنه عنها إنّما كان رأياً أشرت به، فمن شاء أخذ به، ومن شاء تركه.
قال: فما أنسى قول رجل من أهل الشام مع حبيب بن مسلمة: انظر إلى هذا كيف يخالف أمير المؤمنين؟ واللّه لو أمرني لضربت عنقه، قال: فرفع «حبيب»
يده فضرب بها في صدره و قال: اسكت فانّ أصحاب رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أعلم بما يختلفون فيه.(4)

2.عبد اللّه بن عمر
ولم يكن عليّ ـ عليه السَّلام ـ هو الوحيد بين الصحابة في الاستنكار ـ و إن كان وحيداً في شدة استنكاره ـ بل كان هناك من يستنكر التحريم بين الفينة والأُخرى، روى القرطبي في تفسيره عن سالم قال: إنّي لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال ابن عمر: حسن جميل، قال: فإنّ أباك كان ينهى عنها، فقال: ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وأمر به أفبقول أبي آخذ أم بأمر رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ؟! قم عنّي.(5)
وسئل عبد اللّه بن عمر عن متعة الحج؟ قال: هي حلال، فقال له السائل: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أأمر أبي يتبع أم أمر رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ؟! فقال الرجل: بل أمر رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فقال: لقد صنعها رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .(6)
قال سالم: سئل ابن عمر عن متعة الحجّ فأمر بها فقيل له: إنّك تخالف أباك؟ قال: إنّ أبي لم يقل الذي تقولون إنّما قال: أفردوا العمرة من الحجّ، أي انّ العمرة لا تتم في شهور الحجّ إلاّ بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحجّ، فجعلتموها أنتم حراماً وعاقبتم الناس عليها، وقد أحلّها اللّه عزّ وجلّ وعمل بها رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قال: فإذا أكثروا عليه. قال: أفكتاب اللّه عزّ وجلّ أحقّ أن يُتبع أم عمر؟!
قال سالم: كان عبد اللّه بن عمر يفتي بالذي أنزل اللّه عزّ وجلّ من الرخصة في التمتع وسنّ فيه رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فيقول ناس لعبد اللّه بن عمر: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟!
فيقول لهم عبد اللّه: ويلكم، ألا تتقون اللّه؟ أرأيتم إن كان عمر نهى عن ذلك يبتغي فيه الخير ويلتمس فيه تمام العمرة فلم تحرّمون وقد أحلّه اللّه وعمل به رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ؟ أفرسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أحقّ أن تتّبعوا سنّته أو عمر؟! إنّ عمر لم يقل لك: إنّ العمرة في أشهر الحجّ حرام ولكنّه قال: إن أتمّ العمرة أن تفردوها من أشهر الحجّ.(7)

3. استنكار ابن عباس
وممّن استنكر عمل الخليفة ومن لفّ لفّه، حبر الأُمّة عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تمتّع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: ما يقول عريّة؟!( مصغَّر عروة)قال: نقول نهى أبو بكر وعمـر عن المتعـة، فقـال ابن عباس: أراهـم سيهلكون، أقـول قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ويقولون: قال أبو بكر وعمر.(8)

4. استنكار أُبي بن كعب
وممّن استنكر تحريم المتعة ولم ير نهي الخليفة صالحاً للأخذ هو الصحابي العظيم: أُبي بن كعب أخرج السيوطي عن مسند ابن راهويه وأحمد انّ عمر بن الخطاب همّ أن ينهى عن متعة الحجّ فقام إليه أُبي بن كعب فقال: ليس ذلك لك، قد نزل بها كتاب اللّه واعتمرناها مع رسول اللّه، فنزل عمر.(9)

5. استنكار سعد بن أبي وقاص
إنّ سعد بن أبي وقاص كان ممّن يعظِّمه عمر بن الخطاب ويحترمه وكان يأمر ابنه عبد اللّه باتّباعه، وقد أنكر تحريم متعة الحجّ. أخرج الإمام مالك عن محمد بن عبد اللّه بن حارث، أنّه حدّثه: أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وممّا يذكر انّ التمتع بالعمرة أي الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر اللّه عزّ وجلّ، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فانّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول اللّه وصنعناها معه.(10)
عن محمد بن عبد اللّه بن نوفل قال: سمعت عامَ حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال: حسنة جميلة، قال: قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟! قال: عمر خير مني وقد فعل ذلك النبي وهو خير من عمر.(11)

6. عمران بن حصين
قد استنكر عمران بن حصين تحريم متعة الحج وأوصى في أُخريات عمره وفي المرض الذي توفّـي فيه أن يُحدَّث عنه: انّ نبي اللّه جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب اللّه ولم ينه عنها نبي اللّه وإنّما نهى عنها رجل برأيه، دون دليل في كتاب اللّه وسنّة رسوله.(12)
وقد توالى الاستنكار في العهود اللاحقة وإن كان المرتقون على صهوات الحكم مصرّين على اتّباع السلف إلى أن زالت الحكومة الأُموية وأخذ بنو عباس بزمام الحكم، فانتشر القول بجواز التمتع بالعمرة إلى الحجّ، وذلك لأنّ الجواز موقف جد العباسيّين فرفعوا الحرج عن المسلمين، وتبنّى أحمد بن حنبل في عهدهم دخولها في الحج، وذاع القول به إلى يومنا هذا بين المذاهب خصوصاً بين الحنابلة.
التمتّع بالعمرة إلى الحج وشروطه
قد عرفت أنّ حجّ التمتّع عبارة عن الإهلال بالعمرة ثمّ الإهلال بعد الإتيان بها ثمّ الإحرام إلى الحجّ، وإليه يشير قوله سبحانه: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدي).
قال القرطبي: التمتّع بالعمرة إلى الحجّ عند العلماء على أربعة أوجه منها وجه واحد مجتمع عليه، والثلاثة مختلف فيها.
فأمّا الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول اللّه جلّ وعز: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدي) وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحجّ وأن يكون من أهل الآفاق، وقدم مكة ففرغ منها ثمّ أقام حلالاً بمكة إلى أن أنشأ الحجّ منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته، فإذا فعل ذلك كان متمتعاً وعليه ما أوجب اللّه على المتمتع، وذلك ما استيسر من الهدي يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيّام، وسبعة إذا رجع إلى بلده، وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين واختلف في صيام أيّام التشريق.
فهذا إجماع من أهل العلم قديماً وحديثاً في المتعة، ورابطها ثمانية شروط:
الأوّل: أن يجمع بين الحجّ والعمرة.
الثاني: في سفر واحد.
الثالث: في عام واحد.
الرابع: في أشهر الحجّ.
الخامس: تقديم العمرة.
السادس: لا يمزجها، بل يكون إحرام الحجّ بعد الفراغ من العمرة.
السابع: أن تكون العمرة والحجّ عن شخص واحد.
الثامن: أن يكون من غير أهل مكة.
وتأمّل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها.(13)
وهذا هو الذي مُنع عنه بعد رحيل الرسول، لا غير.
ونهى عنه عمر بن الخطاب و تبعه عثمان ومعاوية ومن بعدهم.
التبريرات المختلقة للحظر المفروض
لمّا كان النهي عن متعة الحجّ، يضاد صريح الكتاب، وعمل النبي وسنّته، وعمل أكابر أصحابه، حاول غير واحد تأويل النهي، بوجوه نذكر منها وجهين:

1. فسخ الحجّ إلى العمرة
ربما يقال: انّ المنهي، هو فسخ الحجّ إلى العمرة التي يأتي بعدها فمن أحرم للحجّ، فله أن يأتي بأعماله ثمّ ينشئ إحراماً آخر للعمرة، فليس له أن يعدل عن حجّ القران إلى حجّ التمتع، وهذا هو الذي ينقله بدر الدين العيني الحنفي عن بعضهم، وإليك نصّه : قال عياض وغيره جازمين بأنّ المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحجّ إلى العمرة، لا العمرة التي يحجّ بعدها.
ولمّا كان التأويل بمكان من الوهن ـ حيث تدفعه النصوص السابقة عن جابر و ابن عباس وعمران بن حصين و سعد بن أبي وقاص، كما تدفعه نصوص العلماء على أنّ المنهي عنه هو الجمع بين العمرة والحجّ ـ ردّ عليه بدر الدين الحنفي و قال: قلت: يرد عليهم ما جاء في رواية مسلم في بعض طرقه التصريح بكونه متعة الحجّ، وفي رواية له انّ رسول اللّه أعمر بعض أهله في العشر، وفي روايـة: جمع بين حج وعمرة، و مراده التمتع المذكور و هـو الجمع بينهما في عـام واحـد.(14)
ويخالف هذا التأويل، كلمات المحرِّم:
الف: أنّـي أخشى أن يعرّسوا بهن في الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجاجاً.
ب: انّي لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجاجاً.
ج. كرهت أن يكونوا معرسين بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحج تقطر رؤوسهم.
د: انّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم.
فانّ هذه الكلمات صريحة في أنّ النهي عن الجمع بين العمرة والحج، بل ليس للوافد إلاّ الحجّ، ثمّ الإتيان بالعمرة في العام المقبل، لاستكراهه التعرس بالنساء بين العملين أو ليفيض الزائر في عامة الشهور إلى مكة المكرمة.
2. اختصاص التمتّع بالصحابة
إنّ في الفقه الإسلامي باباً باسم خصائص النبي والأُمور أو الأحكام المختصة به، وقد ذكرها العلاّمة الحلّي برمّتها في كتاب «تذكرة الفقهاء» أوائل كتاب النكاح ولم تسمع إذن الدنيا، خصائص الصحابة وانّ لهم خصائص كخصائص النبي مع أنّ حكمه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ على الأوّلين كحكمه على الآخرين، وحلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
لكن لما كان تحريم التمتع، و المنع عن الجمع بين العمرة والحجّ، يضاد الكتاب والسنّة القطعية حاول بعضهم تأويله قائلاً بأنّ الجمع بينهما من خصائص أصحاب النبي، حتّى عزوه إلى أبي ذر، حسب ما رواه مسلم.
أخرج مسلم عن أبي ذر انّه قال: كانت متعة الحجّ لأصحاب محمد خاصّة.
وفي رواية أُخرى: لا تصلح المتعتان إلاّ لنا خاصة يعني: متعة النساء ومتعة الحجّ .(15)
وقد أيّدوه ببعض الآثار التي قال في حقّها ابن قيم الجوزية: إنّ تلكم الآثار الدالّة على الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصحّ عمّن نُسب إليه ألبتة، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرِّع المعصوم.(16)
وفي صحيح الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال: متعتنا هذه يا رسول اللّه لعامنا هذا أم لأبد؟ قال: لا بل لأبد أبد.
وفي صحيحة أُخرى عن سراقة: قام رسول اللّه خطيباً فقال: ألا إنّ العمرة قد دخلت في الحجّ إلى يوم القيامة.(17)
وقد مرّ نقل البخاري انّ العرب كانت تعدّ العمرة في أشهر الحجّ قبل الإسلام من أفجر الفجور، وقد نهض النبي بأمر من اللّه بإعادة السنّة الإبراهيمية إلى الساحة، فاعتمر أربع عمر كلّها في أشهر الحجّ.
3. عزوه إلى النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وطروء النسيان على الصحابة
قد تعرفت على مدى صحة التأويلين السابقين وبُعدهما عن النصوص الواردة في الموضوع فهلمَّ معي نقرأ ما انتحله ابن أبي سفيان حيث نسب النهي عن الجمع بين العمرة والحجّ إلى رسول اللّه، ولما سأل أصحاب النبي عن هذا النهي و واجه استنكارهم له، رماهم بالنسيان.
أخرج أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان انّه قال لأصحاب النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ هل تعلمون انّ رسول اللّه نهى عن كذا أو كذا، وركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون انّه نهى ان يقرن بين الحجّ والعمرة؟ فقالوا: أمّا هذا فلا، فقال: أما إنّها معهن ولكن نسيتم.(18)
ولو كان المسؤول شخصاً أو شخصين من أصحاب النبي لكان احتمال تطرق النسيان إليه أو إليهما مبرر، ولكنّه سأل أصحاب النبي، الظاهر في أنّ المسؤول كان جماعة كثيرة، فهل يحتمل أن يتسرب النسيان إلى هؤلاء، الذين طالت صحبتهم مع النبي ولا يذكره إلاّ ابن أبي سفيان الذي أسلم عام الفتح وقصرت صحبته وقلّ سماعه؟!
كيف و قد كان مع النبي أُلوف من الصحابة رأوا بأُمّ أعينهم عمل النبي وقوله وحثّه وترغيبه إلى الجمع بين العمرة والحجّ، والإحلال بينهما من المحظورات.
قال ابن قيم: لما عزم رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ على الحج علم الناس انه حاج فتجهّزوا للخروج معه، وسمع بذلك مَنْ حول المدينة فقدموا يريدون الحج مع رسول اللّه ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، فكان من بين يده ومن خلفه و عن يمينه وشماله مدّ البصر.(19)

خاتمة المطاف في أُمور:
الأوّل : اتّفقت كلمة شرّاح الصحيحين على أنّ المراد من «رجل» في قوله: «وقال رجل برأيه» هو عمر بن الخطاب، قال القسطلاني في شرح قوله: «قال رجل برأيه ما يشاء» هو عمر بن الخطاب لا عثمان بن عفان، لأنّ عمر أوّل من نهى عنها فكان من بعده تابعاً له في ذلك.
ففي صحيح مسلم انّ ابن الزبير كان ينهى، وابن العباس يأمر بها فسألوا جابراً فأشار إلى أنّ أوّل من نهى عنها عمر.(20)
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: هو عمر بن الخطاب، لأنّه أوّل من نهى عن المتعة، فكان من بعده من عثمان وغيره تابعاً له.(21)
الثاني: أخرج مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى قال: كان رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بعثني إلى اليمن فوافقته في العام الذي حجّ فيه، فقال لي رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : يا أبا موسى كيف قلت حين أحرمت؟ قال: قلت: لبّيك إهلالاً كإهلال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فقال: هل سقت هدياً؟ فقال: لا، قال: فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثمّ أحل.(22)
هنا سؤال هو انّ علي بن أبي طالب و أبا موسى علّقا أحرامهما بإحرام النبي، فأمر عليّاً بالدوام على إحرامه، وأمر أبا موسى بجعله عمرة فما هو الفارق بين الإحرامين؟
قد أجاب عنه النووي في شرحه و قال: إنّ عليّاً كان معه هدي كما كان مع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ الهدي فبقي على إحرامه كما بقي النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وكلّ من معه هدي، وأبوموسى لم يكن معه هدي فتحلّل بعمرة كمن لم يكن معه هدي ولولا الهدي مع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لجعلها عمرة.(23)
الثالث: انّ في حظر متعة الحجّ لعبرة لمن سبر التاريخ، وحاول الوقوف على الوقائع التي جرت فيه، فهذا هو النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قد حجّ ومعه آلاف من أصحابه و من تبعه من الأعراب حيث أمر فيه بإدخال العمرة في الحجّ والاحلال بينهما و قد شهد به الكبير والصغير والداني والنائي، وبالرغم من ذلك فقد غلب منطقُ القـوة على قـوة المنطق عُقْب رحيله حتى صار التمتع بالعمـرة إلى الحـجّ من المحرمات التي يعاقب عليها مرتكبها أشدّ العقـوبة، مع أنّ هذه المسألة لم تكن مصدر تهديد للسلطات الحاكمة.
فإذا كان هذا هو حالها فما ظنك بالمسائل السياسية التي تهدِّد المنافع الشخصية للبعض، فلا غرو في أن يقف أصحاب الآراء والأهواء بوجه الحقّ الذي أمر به النبي.
وبذلك يسهل على القارئ الكريم الوقوف على مغزى مخالفة بعض الصحابة للحقّ المشروع لعلي ـ عليه السَّلام ـ في الخلافة.
إنّ كثيراً من الباحثين من أهل السنّة يأوّلون ما ورد من النصوص حول خلافة الإمام أمير المؤمنين في أوائل البعثة وأواسطها وأواخرها ويفسرونها بالدعوة إلى نصرة علي ومحبّته، يقول الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر في وقته في رسالته إلى السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي:
إنّ أُولي البصائر النافذة والرؤية الثاقبة ينزّهون الصحابة عن مخالفة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في شيء من ظواهر أوامره ونواهيه ولا يجوّزون عليهم غير التعبّد بذلك، فلا يمكن أن يسمعوا النص على الإمام ثمّ يعدلوا عنه أوّلاً وثانياً وثالثاً، وكيف يمكن حملهم على الصحّة في عدولهم عنه مع سماعهم النصّ عليه؟ ما أراك بقادر على أن تجمع بينهما.(24)
وما ذكره شيخ الأزهر نابع من حسن ظنه بالصحابة كافة، ولكن لو سبر أخبارهم لوقف على أنّهم خالفوا النصوص في موارد كثيرة، ومنها متعة الحجّ على الرغم من أنّها لم تشكّل تهديداً لمصالحهم بل كانت مجرد استهجان للتحلّل بين العمرة والحجّ.
وأمّا النصوص التي تتعرض لمصالحهم الشخصية، فقد كانوا يخالفونها في حياته فكيف بعد رحيله؟! والموارد التي لم يتعبّد السلف من الصحابة بالنصوص فيها أكثر من أن تذكر في ذلك المجال، وكفانا في ذلك ما قام به السيد شرف الدين العاملي في كتابه القيّم «النص والاجتهاد» فقد جمع شطراً وافراً من اجتهادات الصحابة مقابل النص، وقد أنهاها إلى 66 مورداً، نقتصر منها على هذا النموذج:
رزية يوم الخميس التي حيل فيها بين النبي وما كان يرومه من كتابة أمر بالغ الأهمية، فانّها من أشهر القضايا وأكبر الرزايا أخرجها أصحاب الصحاح والسنن ونقلها الإمام البخاري في صحيحه، بسنده إلى عبيد اللّه بن عتبة ابن مسعود عن ابن عباس، قال: لمّا حضر رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، فقال عمر: إنّ النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلّـوا بعده، ومنهـم مـن يقـول ما قـال عمـر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال لهم رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : قوموا، فكان ابن عبـاس يقول: إنّ الرزية كـلّ الرزيـة ما حـال بين رسـول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهـم ولغطهم.(25)
ويكشف عن ذلك الحوار الذي جرى بين الخليفة وابن عباس الذي نقله على وجه التفصيل شارح نهج البلاغة ابن أبي الحديد في شرحه، يقول: قال عمر بن الخطاب لابن عباس: يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين.
قال: لكنّي أدري.
قال: ما هو، يا أمير المؤمنين؟
قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فتُجْحفوا الناس جحفاً، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت، ووفقت فأصابت.(26)
وبما انّ المقام لا يقتضي التبسّط فلنقتصر على ذلك.
الرابع: المعروف انّ الخليفة حرم متعة الحجّ لاستلزامه التحلّل بين العمرة والحجّ، وهذا ممّا كان يستهجنه الخليفة ويعرب عنه قوله:
«إنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً»، وقوله: «كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم».
وعلى ذلك فقد رخص في الإفراد والقران، أمّا الفارد فلأنّ العمرة يؤتى بها بعد الحجّ، وأمّا القران فانّ الحاج بما انّه يهل بالعمرة والحجّ معاً فلا يتحلّل بين العملين.
ولكنّه بالنسبة إلى سائر أقواله فقد منع عن حجّ القران أيضاً، وذلك لأنّه كان يصر بفصل الحجّ عن العمرة مستدلاً بأنّه ليس لأهل هذا البلد ضرع ولا زرع. وكان ينادي بقوله:«فافصلوا حجّكم عن عمرتكم فانّه أتم لحجّكم وأتمّ لعمرتكم» ومعنى ذلك حرمان أكثر الناس من العمرة التي دعا إليها سبحانه بقوله: (فأتمّوا الحجّ والعمرة)، إذ ربما لا تتهيّأ الأسباب لإقامة الآفاقي في مكة المكرمة حتّى يحول الحول فيأتي بالعمرة نزولاً لنهي الخليفة.
وما أبعد عمل الخليفة وما يرويه ابن عباس، ويقول: واللّه ما أعمر رسول اللّه عائشة في ذي الحجّة إلاّ ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، وقال كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض.(27)
الخامس: قد روي عن أئمّة أهل البيتعليهم السَّلام ما مرّ من احتدام النزاع بين النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ولفيف من صحابته في إدخال العمرة في الحجّ والتحلّل بعد الأُولى.
روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ عن آبائهعليهم السَّلام قال:« لمّا فرغ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرئيل ـ عليه السَّلام ـ عند فراغه من السعي وهو على المروة، فقال: إنّ اللّه تعالى يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي. فأقبل رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ على الناس بوجهه، فقال: يا أيّها الناس هذا جبرئيل ـ و أشار بيده إلى خلفه ـ يأمرني عن اللّه عزّ وجلّ أن آمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي فآمرهم بما أمر اللّه به.
فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ نخرج إلى منى ورؤوسنا تقطر من النساء. وقال آخرون: يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره. فقال: «يا أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما صنع الناس، ولكنّي سُقت الهدي ولا يحلّ من ساق الهدي حتّى يبلغ الهدي محلّه» فقصر الناس وأحلّوا وجعلوها عمرة.
فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فقال: يا رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد إلى يوم القيامة وشبّك بين أصابعه. وأنزل اللّه تعالى في ذلك قرآناً: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدي)(28)
السادس: انّ رسول اللّه أقام بالمدينة عشر سنين فلما نزل قوله سبحانه: (وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِر يَأْتينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق)(29)
أمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول اللّه يحجّ في عامه هذا فاتبعه من حضر المدينة وأهل العوالي والاعراب .
واختلفت كلمة أهل السنّة في كيفية حجّه إلى أقوال ووجوه:
1. انّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ كان قارناً لا مفرداً. وهذا خيرة ابن قيم الجوزية، وأقام على مختاره ما يربو على 21 دليلاً.
2. انّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حجّ حجّاً مفرداً لم يعتمر فيه واحتجّوا برواية عائشة في الصحيحين انّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أهل بالحجّ.
3. انّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حجّ متمتّعاً تمتعاً حلّ فيه من إحرامه ثمّ أحرم يوم التروية بالحجّ مع سوق الهدي.
4. حجّ متمتعاً تمتعاً لم يحل منه لأجل سوق الهدي.
هذه الوجوه ذكرها ابن قيم الجوزية وبسط الكلام في أدلّة القائلين ونقدها.(30) وأمّا ما هو الحقّ حسب روايات أئمّة أهل البيتعليهم السَّلام فموكول إلى محلّه وقد استدلّ صاحب الحدائق على أنّه لم يكن متمتعاً بقوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي».(31)
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْـعَ وَهُوَ شَهيـدٌ).(32)
منبع مقاله :
1- صحيح البخاري:2/142، باب التمتع والاقران والإفراد بالحج
2- موطأ مالك:336، باب القران في الحج، الحديث40
3- سنن النسائي:5/152، كتاب الحجّ باب حج التمتع; مستدرك الصحيحين:1/472.
4- جامع العلم : 270، طبع دارالكتب الحديثة، مصر.
5- تفسير القرطبي:2/388.
6- سنن الترمذي:3/186 برقم 824.
7- السنن الكبرى:5/21.
8- مسند أحمد:1/337.
9- الدر المنثور:1/520، ط دارالفكر.
10- الموطأ:294، برقم63، باب ما جاء في التمتع; زاد المعاد:1/179 ط مصر.
11- سنن الدارمي:2/36، ط دارالفكر.
12- صحيح مسلم:4/48، باب جواز التمتع.
13- الجامع لأحكام القرآن:2/391.
14- عمدة القاري في شرح صحيح البخاري:4/568.
15- الجمع بين الصحيحين: 1/271 رقم368.
16- زاد المعاد:1/207.
17- مسند أحمد:4/175; سنن البيهقي:4/352.
18- سنن أبي داود:2/157 رقم الحديث1794.
19- زادالمعاد:1/175، طبع مصر.
20- إرشاد الساري:4/169.
21- شرح النووي:8/451.
22- شرح صحيح مسلم للنووي:8/450.
23- شرح صحيح مسلم:8/450.
24- المراجعات: ص 234، المراجعة 83.
25- صحيح البخاري:1/30، باب كتابة العلم.
26- شرح نهج البلاغة:12/53، في شرح قوله : للّه بلاد فلان.
27- صحيح البخاري:3/69.
28- البقرة:196. التهذيب:5/30، باب ضروب الحجّ، الحديث3.
29- الحج:27.
30- زاد المعاد1/216ـ220 -222ـ232.
31- الحدائق:14/313.
32- سورة ق:37.

 


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

دخول جيش السفياني الى العراق
فاطمة عليها السلام وليلة القدر
آثار الغيبة على الفرد والمجتمع وإفرازاتها
مدة حكم المهدي المنتظر
العمل الصالح
معالم " نهضة العلماء "
قصة استشهاد الامام جعفر بن محمد الصادق عليه ...
زيارة السيد عبد العظيم الحسني علیه السلام
التوسل بأُم البنين عليها‌السلام
الحب بعد الأربعين

 
user comment