عربي
Wednesday 24th of April 2024
0
نفر 0

المتعة ؛ سنة في زمن الرسول(ص) و أبي بکر ـ (الحلقة الأولی)

المتعة ؛ سنة في زمن الرسول(ص) و أبي بکر ـ (الحلقة الأولی)

مقدمة

يقوم تشريع الزواج في الإسلام علي خطّين:

الأوّل : الزواج الدائم.

والثاني : الزواج المؤقّت، فهو يشترك مع جوهر الزواج الدائم من جهة صرف الشهوة في طريق الحلال، وحفظ الأنساب والحيلولة دون اختلاطها، ورعاية مظاهر العفّة والاحتشام في المجتمع، ويمتاز من جهة ثانية في أُمور جانبية لا تمس جوهر الزوج، ففي الزواج المؤقّت عقد ومهر وعِدّة وأجل محدود، وينتفي فيه الميراث والنفقة.

وهذا النوع من الزواج ثابت من الناحية الشرعية بنصّ الكتاب العزيز والسنّة الشريفة ولها آثار منها أنه صمّام الأمان الذي يحول دون وقوع المجتمع في رذيلة الزنا، ولم يخالف أحد من المسلمين في تشريعه في عصر الرسول (صلّي اللّه عليه وآله). وكلّ ما حصل بشأنه أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب قد منعه وعاقب عليه، فتبعته مدرسة الخلفاء اعتمادا منها علي مبدئها القائل بحجية عمل الصحابي، ومنهم من نزّل ذلك منزلة النسخ له. وقد ظهرت إدّعاءاتشتي منها: أنّ التحريم والمنع بدأ من عصر النبيّ (صلّي اللّه عليه وآله) نفسه، وأنّ القرآن قد نسخ آية المتعة.

ولأجل إجلاء الحقيقة في هذه القضية التشريعية المهمّة لابدّ لنا من المرور بنقاط أربع:

النقطة الاُولي: الزواج المؤقت في الكتاب والسنّة.

النقطة الثانية: هل أنّ عمل الصحابي حجّة؟

النقة الثالثة: هل نُسخ حكم الزواج المؤقت ؟

النقطة الرابعة: موقف الصحابة والتابعين من الزواج المؤقت.

------------------------------------


النقطة الأولی: الزواج المؤقت في الکتاب و السنة

لقد أجمع أهل القبلة كافة علي أنّ اللّه تعالي قد شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام، ولا يرتاب في أصل مشروعيته أحدٌ من علماء المذاهب الإسلامية علي اختلافها، والكتاب العزيز يدلّ علي مشروعيته ، كما أنّ الأخبار في مشروعيته نُقلت حتي عند من يدّعي نسخه .

أما الكتاب العزيز : فقد قال اللّه تعالي: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً...)1 وكان أُبي بن كعب وابن عبّاس وسعيد بن جبير وابن مسعود والسدّي يقرأونها «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلي أجل مسمي» أخرج ذلك عنهم الطبري في تفسير الآية من تفسيره، وأرسل الزمخشري في الكشّاف هذه القراءة، إرسال المسلّمات ، وكذلك الرازي في تفسيره، وشرح صحيح مسلم للنووي في أوّل باب نكاح المتعة2. واضافة هذه الجملة «الي أجل مسمي» منهم شارحة وغرضهم بيان لامعني والمورد والتفسير.

وأيّد الإمام أحمد بن حنبل فيمسنده ، وأبو بكر الجصّاص في أحكام القرآن، وأبو بكر البيهقي في السنن الكبري، والقاضي البيضاوي في تفسيره، وابن كثير في تفسيره، وجلال الدين السيوطي في الدر المنثور، والقاضي الشوكاني في تفسيره، وشهاب الدين الآلوسي في تفسيره نزول هذه الآية في موضوع المتعة، بأسناد تنتهي الي أمثال ابن عبّاس، وأُبي بن كعب، وعبداللّه بن مسعود، وعمران بن حصين، وحبيب بن أبي ثابت من الصحابة، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد من التابعين عن ابن عبّاس3.

وليس بالإمكان تفسير الآية بالنكاح الدائم كما أصرّ عليه صاحب تفسير المنار4، وذلك للأسباب التالية:

1 ـ ما مرّ من أنّ عدداً من الصحابة كانوا يقرأون الآية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً...)5 بإضافة جملة شارحة في الوسط هي «الي أجل مسمّي» ، وغرضهم منها بيان المعني والمورد والتفسير، وهذه الجملة الشارحة لا تنسجم إلاّ مع النكاح المؤقت.، ثم إنّ تعليق دفع الأُجرة علي الاستمتاع في قوله سبحانه: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...) يناسب نكاح المتعة الذي هو الزواج المؤقت لا النكاح الدائم، فإن المهر هنا يجب بمجرد العقد ولا يتنجز وجوب دفع الكل إلاّ بالمس، وأما الزوج المتعارف فيختلف حسب اختلاف العادات العرفية، فربّما يؤخذ قبل العقد وأُخري يترك إلي أن يرث أحدهما الآخر6.

2 ـ إنّ الآية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ...) مدنية نازلة بعد الهجرة علي ما يشهد به معظم آيات سورة النساء، ونكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في تلك البرهة من الزمان من غير شك، وقد أطبقت الأخبار علي تسالم ذلك سواء كان الإسلام هو المشرّع لذلك أو لم يكن، فأصلوجوده بينهم بمرأي من النبي ومسمع منه لا شكّ فيه، وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبّر عنه إلاّبهذا اللفظ فلا مناص من كون قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) محمولاً عليه مفهوماً منه هذا المعني كما أنّ سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلّما نزلت آية متعرّضة لحكم متعلق بشيء من تلك الأسماء بإمضاء، أو ردّ، أو أمر، أو نهي لم يكن بدّ من حمل الأسماء الواردة فيه علي معانيها المسمّاة بها من غير أنّ تحمل علي معانيها اللغوية الأصلية، وذلك كالحجّ والبيع والربا والربح والغنيمة وسائر ماهو من هذا القبيل، فلم يمكن لأحد أن يدّعي أنّ المراد بحجّ البيت معناه اللغوي أي قصده وهكذا، وكذلك ما أتي به النبيّ (صلّي اللّه عليه وآله) من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتي عرفت بأساميها الشرعية كالصلاة والصوم والزكاة وحجّ التمتع وغير ذلك لا مجال بعد تحقّق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم علي معانيها اللغوية الأصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعية فيها. فمن المتعيّن أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية علي نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزولالآية7 .

3 ـ إنّ آية المتعة واردة في سورة النساء التي ابتدأت بذكر النكاح والزواج الدائم بقوله تعالي: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَ لاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَي فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَي وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً...)8 ، وأما أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)9 . ثم ذكر نكاح المتعة في قوله سبحابه: (...وَأُحِلَّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)10 . فهذه الآية ناظرة إلي نكاح المتعة لأنّ الحمل علي النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه. فالناظر في السورة يري أنّ آياتها تكفلت ببيان أقسام الزواج علي نظام خاص ولا يتحقّق ذلك إلاّ بحمل الآيةعلي نكاح المتعة11 .

4 ـ الآيات النازلة قبل آية نكاح المتعة قد استوفت بيان وجوب إيتاء الأجر في النكاح الدائم مثل (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ...)12 وقوله تعالي: (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً...)13 . وقوله تعالي: (لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَي الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَي الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ... ـ الي أن قال ـ : وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ...)14، وبعد بيان وجوب إيتاء الأجر علي جميع تقاديره لا وجه لتكرار بيانه ذلك. علي أنّ آية المتعة وردت فيها كلمة «الأُجرة» وهي تلائم النكاح المؤقت الذي تجب فيه الأُجرة بمجرد العقد15.

أما النصوص والأخبار : فهي متواترة وكثيرة جداً ونشير الي بعضها:

1 ـ عن جابر، قال كنّا نستمتع ... علي عهد رسول اللّه (صلّي اللّه عليه وآله) وأبي بكر.. ثم نهي عنه عمر16.

2 ـ قال ابن عباس: إنّ آية المتعة محكمة ليست بمنسوخة17.

3 ـ عن عطاء قال: سمعت جابر بن عبداللّه يقول: تمتعنا علي عهد رسول اللّه وأبي بكر ونصفاً من خلافه عمر ثم نهي عنها عمر الناس18.

4 ـ عن الحكيم، وابن جريح وغيرهما، قالوا: قال عليّ (ع): «لولا أن عمر نهي عن المتعة ما زني إلاّ شقي»19.

5 ـ عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه تعالي ، لم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسولاللّه ، وتمتّعنا مع رسول اللّه (صلّي اللّه عليه وآله) ومات ولم ينهنا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء20.

6 ـ وأخيراً فقد روي ابن جريج وحده ثمانية عشر حديثاً في حلّية المتعة21 فضلاً عمّا رواه غيره.

فالأخبار والنصوص تؤكّد ما دلّت عليه الآية الكريمة من حلّية الزواج المؤقت (أي زواج المتعة) ودوام مشروعيتها، وأنّ التحريم إنّما كان من عمر ـ لا من النبي الأعظم (صلّي اللّه عليه وآله) ـ وأن طائفة من الصحابة والتابعين وحتي ابن عمر نفسه ، قد استمروا علي القول بحلّيتها رغم تحريم عمر.

النقطة الثانیة: هل أن عمل الصحابي حجة؟

من ما روي من قول النبيّ (صلّي اللّه عليه وآله)، وفعله، وتقريره حجّة إلهية يجب اتّباعها، والعمل بموجبها. فإذاروي صحابي السنّة النبويّة وحازت تلك الرواية علي كلّ شرائط الحجيّة تلقاها الجميع بالقبول ولزم العمل وفقها، ولكن إذا ذكر الصحابي رأيه أو استنباطة من آية قرآنية، أو حديث نبوي، أو نقل عنه قول، ولم يتبيّن أنّ ذلك المنقول هل هو سنّة رسول اللّه (صلّي اللّه عليه وآله)، أو أنّه رأي ذلك الصحابي واجتهاده الخاصّ، لم يكن في هذه الحالة حجّة، لأنّه يعبّر عن رأيه واجتهاده22 .

وفي ذلك يقول الدمشقي: «الكلام فيقول الصحابي والذي يظهر والحقّ أنّ ـ قول الصحابي ـ ليس بحجّة، فإنّ اللّه لم يبعث إلي هذه الأُمّة إلاّ نبيّناً محمّداً (صلّي اللّه عليه وآله) وليس لنا إلاّ رسول واحد، والصحابة من بعدهم مكلّفون علي السواء باتباع شرعه والكتاب والسنّة، فمن قال إنّه تقوم الحجة في دين اللّه بغيرهما، فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت، وأثبت شرعاً لم يأمر به اللّه »23 .

وقد أنكر الغزالي في المستصفي حجيّة قول الصحابي وعدّه من الأُصول الموهومة فقال: «الأصل الثاني منالأُصول الموهومة: قول الصحابي، وقد ذهب قوم إلي أنّ مذهب الصحابي حجّة مطلقاً، وقوم إلي أنّه الحجّة إن خالف القياس، وقوم إلي أنّ الحجّة في قول أبي بكر وعمر خاصّة لقوله (صلّي اللّه عليه وآله): «اقتدوا باللّذين من بعدي» وقوم إلي أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتّفقوا. والكل باطل عندنا، فإنّ من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه، فلا حجّة في قوله، فكيف يحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟»24 .

ولو تنزّلنا وسلّمنا بحجيّة قول الصحابي، فإنّما ذلك في صوره عدم وجود نصّ علي خلافه، فكيف إذا صرّح الصحابي نفسه بوجود النصّ وبتعمّد مخالفته؟! ثم إذا كان قول عمر حجّة لأنّه صحابي، فليكن قول عليّ (عليه السلام)، وجابر، وابن مسعود، وابن عبّاس، وأُبي بن كعب، و.. و.. حجّة لأنهم من الصحابه أيضاً، أو علي الأقل ليكن قول هؤلاء معارضاً لقول الخليفة وحده، وليتساقط القولان، فيرجع إلي أصالة الحلّية. لماذا سنّة عمر، وليس سنّة عليّ (عليه السلام)25 .

وممّا تقدّم نخلص الي القول: إنّ الشيعة الإمامية تأخذ بقول الصحابي إذا كان ما ينقله هو من سنّة رسول اللّه (صلّي اللّه عليه وآله)، واجتهاد الصحابي ليس بحجّة علي أحد، وحجيّته لا دليل عليها.

النقطة الثالثة: هل نسخ حکم الزواج المؤقت؟

لجأ جمعٌ من علماء أهل السنّة الي القول بنسخها، فقال بعضهم: إنّها منسوخة بالقرآن، وقال آخرون: بأنها منسوخة بالسنّة ، ثم اختلف الفريقان علي أقوال شتي:

أمّا دعوي النّسخ بالقرآن : فهناك قول بأنّ الناسخ هو قوله تعالي: ( إِلاَّ عَلَي أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَي وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)26 .

لكن هاتين الآيتين مكّيتان، وآية المتعة مدنية، والمتقدّم لا ينسخ المتأخر.

ثم إنّ المتعة زواج، والمتمتع بها زوجة، فلا تعارض بين هاتين الآيتين وبين آية المتعة حتي يصح القول بالنسخ.

القول بالنسخ

وهناك قول بأنّ الناسخ هو آية العدة قوله تعالي (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)27 فإنّ الأمر بالعدّة في هذه الآية ينسخ حكم المتعة التي لا طلاق فيها ولا عدّة.

والجواب: إنّ المتعة ليست مستثناة من العدّة ، نعم استثني الطلاق فيها، ونحن إذا أثبتنا أنّ الزواج في الإسلام علي قسمين : دائم ومنقطع ، تكون آية الطلاق خاصّة بالدائم دون المنقطع لأنّ العلاقة الدائمة هي التي تحتاج إلي إعلان عن إنهاء العلاقة عند حصول سبب طارئ معين، أمّا العلاقة المؤقتة فلا تحتاج الي هذا الإعلان، وهي تنتهي بانتهاء أمدها المحددّ بشكل تلقائي، وحينئذ تكون آية الطلاق غير ناظرة إلي آية المتعة حتي تكون ناسخة لها، والمتعة خارجة موضوعاً عن الآية، وعليه فلا معني لأنّ تكون آية الطلاق ناسخة للمتعة.

وهناك قول ثالث بأنها منسوخة بآية الميراث، حيث لا ميراث في المتعة .

ويردّ علي هذا القول الجواب السابق، كما يردّ عليه أيضاً أنّ انتفاء بعض الآثار لا يدل علي انتفاء الموضوع، فالزوجة الناشزة لا نفقة لها، ومع أنّ النفقة قد انتفت عنها إلاّ أنها معذلك تبقي زوجة وتجري عليها سائر الأحكام والآثار المختصّة بالزوجات، ولا إرث في الزوج المؤقت سواء كانت الزوجة مسلمة أو كتابية، لكن تبقي زوجة في باقي الآثار والأحكام كاختصاص المرأة بالرجل والعدّة وحقوق الأولاد وغيرها.

علي أنّ تعدد مزاعم النسخ بنفسه دليل آخر علي عدم ثبوته، ويشهد لذلك أيضاً : اختلافهم في زمن النسخ. فقيل: إنّها نسخت ونهي النبيّ (صلّي اللّه عليه وآله) عنها في عام خيبر. وقيل : إنّ النهي جاء في عام الفتح. وقيل : كانت مباحة ونهي عنها في غزوة تبوك . وقيل: أُبيحت في حجّة الوداع ثم نهي عنها. وقيل: أُبيحت ثم نسخت ثم أُبيحت ثم نسخت ثـم اُبيحت ثم نسخت . وقيل : غير ذلك28.

والقرائن القطعية تفيد عدم النسخ، وأهمّ هذه القرائن اضطراب وتعدّد إدّعاءات النسخ، حتي جعل مسلم في صحيحه عنوان باب المتعة هكذا: «باب نكاح المتعة وبيانأنّه أُبيح ثم نسخ ثم اُبيح ثم نسخ واستقر تحريمه الي يوم القيامة»29 .

وقد أورد القرطبي في تفسيره ما قاله ابن العربي: من أن النسخ تناول هذا الحكم مرتين، ثم علّق عليه بقوله: «وقال غيره ممن جمع طرق الأحاديث فيها، إنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات» ثم عدد ادعاءات النسخ وقال: «هذه سبعة مواطن اُحلّت فيها المتعة ثم حرّمت»30.

وقال ابن القيّم الجوزية : «وهذا النسخ لا عهد بمثله في الشريعة البتة ولا يقع مثلها فيها»31 .

ثم ما بال هذه الادعاءات تظهر بعد انقراض عصر الصحابة؟ ولِمَ لم يستشهد بواحدة منها عمر بن الخطّاب نفسه في تحريمه للمتعة ؟ فإنّه من الواضح لو كان بيده شيء منها لاستشهد به، وقد اُثر عنه أنه عارض أبا بكر في محاربته مانعي الزكاة بالأحاديث النبويّة المانعة من قتال أهل الشهادتين، فلماذا لم يتمسك هنا بالسيرة النبويّة الناسخة إن كان يوجد منها شيء كما يقال؟ أم أنّ أصحاب هذهالادعاءات أعلم بسيرة النبي (صلّي اللّه عليه وآله) من الصحابة ومن عمر بن الخطاب نفسه؟

ولم يكن الخليفة الثاني مستغنياً عن ذلك ، بل كان في أمسّ الحاجة إليه، لأن المسلمين وعلي رأسهم الصحابة لم يتلقوا موقف الخليفة بالقبول وإنّما ردّوا عليه، بأنهم قد عملوا ذلك في عهد الرسول (صلّي اللّه عليه وآله) وعهد أبي بكر، فلو كان هناك نسخ لظهر.

ثمّ إنّ هذه الإدعاءات معارضة لكلام الخليفة الثاني نفسه فإنه قال: «متعتان كانتا علي عهد رسول اللّه (صلّي اللّه عليه وآله) أنهي عنهما وأُعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج»32 فلو كان هناك شيء من النسخ لذكره ولما نسب ذلك الي نفسه. وعليه تكون إدّعاءات النسخ معارضة لكلام الخليفة نفسه.

وحادثة اُخري تفضح حكاية النسخ هذه، فقد روي الطبري في تاريخه في حوادث سنة ( 23 ه ) أنّ عمران بنسوادة دخل علي عمر بن الخطّاب وذكر له ما يتحدث به الناس من الاُمور التي أحدثها فيهم ولم يرضوها منه، منها تحريمه المتعة، قال: «ذكروا أنك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من اللّه نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث! قال ـ أي عمر بن الخطاب في جوابه ـ : إنّ رسول اللّه (صلّي اللّه عليه وآله) أحلّها فيزمان ضرورة، ثم رجع الناس الي سعة، ثم لم أعلم أحداً من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها ، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد أصبت»33.

و هذا النصّ صريح في أنّ المنع كان عن اجتهاد ورأي لعمر، والناس معترضة عليه لمخالفته سنّة الرسول (صلّي اللّه عليه وآله)، ولكنّهم لا تستطيعون مواجهته خوفاً من درّته وعذابه. كما أنّ ظاهر كلام الخليفه هو الإقرار بعدم صدور النسخ فيحياة النبيّ (صلّي اللّه عليه وآله)، فإنّه هو الذي اجتهد، فحرّم المتعة عن رأيه، بحجّة أنّ الناس رجعت إلي سعة، وأنّ المتعة كانت لأجل ضيق الناس في المعيشة، وعدم الاستطاعة الماليه... وأنّ الخليفة لم يعلم، ولم يطّلع علي تحقّق المتعة بعد زمان السعة! يا تري هل من الضروريواللازم علي من أراد التمتع، أن يخبر الخليفة بذلك؟! سيّما قبل تسلّمه للخلافة؟ وهل عدم علم الخليفة بذلك دليلٌ علي حرمة المتعة؟34

ثم إنّ الاجتهاد الذي بيّنه في تحريمها في هذه المحاورة غير تام، وواضح البطلان فهو يدّعي أنّ الرسول (صلّي اللّه عليه وآله) قد أحلّها في زمان ضرورة، وهذا يعني أنّها مباحة عند الضرورات ، فلماذا أطلق تحريمها ومنعها وتوعّد العقوبة عليها ولم يقيد ذلك بالضرورة؟ علي أنّ الرسول (صلّي اللّه عليه وآله) قد أباحها في أسفاره ، والسفر شيء والضرورة شيء آخر.

النقطة الرابعة: موقف الصحابة و التابعین من الزواج المؤقت:

ودليل آخر علي عدم النسخ هو اشتهارها لدي الصحابة والتابعين والفقهاء الي حين ظهور المذاهب الأربعة في القرنين الثاني والثالث الهجريين.

ومن شواهد ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من روايات عن سلمة بن الأكوع، وجابر بن عبداللّه الأنصاري وعبداللّه ابن مسعود، وابن عباس، وسبرة بن معبد، وأبي ذر الغفاري، وعمران ابن حصين، والأكوع بن عبداللّه الأسلمي35.

وقد أخرج مسلم في باب نكاح المتعة عدّة روايات عن جابر بن عبداللّه ، وابن عبّاس، أنّهما عملا بالمتعة علي عهد الرسول (صلّي اللّه عليه وآله)، وأبي بكر، حتي نهي عنها عمر بن الخطاب36.

وفي صحيح البخاري قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتي مات، قال رجل برأيه ما شاء37.

بل عارض تحريمها جمع من كبار الصحابة كالإمام عليّ (عليه السلام)، وعبداللّه بن عباس ، وجابر بن عبداللّه الانصاري، وعبداللّه بن عمر، وعبداللّه بن مسعود.

وهناك من علماء السنة في القرن الهجري الأوّل والثاني من أفتي بها ، بل وعمل بها وهو عبد الملك بن جريج المتوفي سنة (149 ه )38. ففي روايه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن المتعة؟ فقال: إلقْ عبدالملك بن جريج فسله عنها فإنّ عنده منها علماً، فلقيته فأملي عليَّ شيئاً كثيراً في استحلالها، وكان فيما روي لي فيها ابن جريج، أنّه ليس فيها وقت ولا عدد، إنّما هي بمنزلة الإماء يتزوّج منهن كم شاء، وصاحب الأربع نسوة يتزوج منهن ما شاء بغير ولي ولا شهود، فإذا انقضي الأجل بانت منه بغير طلاق، ويعطيها الشيء اليسير، وعدّتها حيضتان، وإن كان لا تحيض فخمسة وأربعون يوماً. قال: فأتيت بالكتاب أبا عبداللّه (عليه السلام) فقال: صدق، وأقرّ به»39 .

قال ابن حزم في المحلّي : «وقد ثبت علي تحليلها بعد رسول اللّه جماعة من السلف منهم من الصحابة، أسماء بنت أبي بكر، وجابر بن عبداللّه ، وابن مسعود وابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن حريث، وأبو سعيد الخدري، وسلمة ومعبد ابنا اُمية بن خلف ، ورواه جابر بن عبداللّه عن جميع الصحابة مدّة رسول اللّه (صلّي اللّه عليه وآله) ومدّة أبي بكر الي قرب آخر خلافة عمر...»40.

وإليك فهرس جمع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الذين قالوا بحلّيتها وعدم نسخها، وهم:

1 ـ عمران بن الحصين

2 ـ أسماء بنت أبي بكر

3 ـ عبداللّه بن عمر

4 ـ سلمة بن اُمية

5 ـ معبد بن اُمية

6 ـ الزبير بن العوام

7 ـ خالد بن مهاجر

8 ـ اُبي بن كعب

9 ـ ربيعة بن اُمية

10 ـ سمير ـ في الإصابة ـ لعله سمرة ابن جندب

11 ـ السدّي

12 ـ مجاهد

13 ـ ابن أوس المدني

14 ـ أنس بن مالك

15 ـ معاوية بن أبي سفيان

16 ـ ابن جريج

17 ـ نافع

18 ـ صبيب بن أبي ثابت

19 ـ الحكم بن عتيبة

20 ـ جابر بن يزيد

21 ـ البراء بن عازب

22 ـ سهل بن سعد

23 ـ المغيرة بن شعبة

24 ـ سلمة بن الأكوع

25 ـ زيد بن ثابت

26 ـ خالد بن عبداللّه الأنصاري

27 ـ يعلي بن اُمية

28 ـ صفوان بن اُمية

29 ـ عمرو بن حوشب

30 ـ عمرو بن دينار

31 ـ ابن جرير

32 ـ سعيد بن حبيب

33 ـ إبراهيم النخعي

34 ـ الحسن البصري

35 ـ ابن المسيب

36 ـ الأعمش

37 ـ الربيع بن ميسرة

38 ـ أبي الزهري مطرف

39 ـ مالك بن أنس

40 ـ أبو حنيفة علي بعض الوجوه

هذا مضافاً الي ما قاله أمثال أبي عمرو: إنّ أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلّهم يرون المتعة حلالاً. وقال القرطبي في تفسيره42: أهل مكّة كانوا يستعملونها كثيراً. وقال الرازي في تفسيره43: ... وقال السواد منهم: أنها بقيت مباحة كما كانت.

وقال أبو حيّان في تفسيره بعد نقل حديث إباحتها: وعلي هذا جماعة من أهل البيت والتابعين44.

ولمن أراد المزيد من التفصيل في هذا المجال فقهياً وتاريخياً وحديثياً مراجعة كتاب المعالم45 للعلاّمة السيد مرتضي العسكري (رحمة اللّه عليه).

وإذا صدقت دعوي تحريم النبي (صلّي اللّه عليه وآله) لها فالتحريم يكون من قبيل الحكم الحكومي الولائي المؤقت، وليس من قبيل التشريع الدائم، ولهذا السلوك نظائر في سيرة الرسول (صلّي اللّه عليه وآله) ، كتحريمه أكل لحوم الحمر الأهلية في عام خيبر، فإنه كان منعاً حكومياً وليس تحريماً شرعياً ثابتاً. ولو أننا سايرنا مزاعم النسخ والتحريم وافترضنا أنّ زوجين اتفقا علي الزواج وتباينا علي الطلاق بعد مدّة، فما هو حكم هذه العلاقة؟ فهل يحكم بحرمتها وأنّها زنا ؟ أم يحكم بجوازها؟ فإنّ القول بحرمتها زعم بلا دليل، والمصير الي جوازها هو الموافق للصواب الذي عليه مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

انتهت الحلقة الأولی ، وللموضوع صلة.

 

 


source : www.abna.ir
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ثورة الحسين (عليه السلام) ... أهدافها ودوافعها
متى و كيف توفي و الد النبي الأكرم (ص) عبد الله بن ...
واقع ﺍﻏﺘﻴﺎﻝ ﻋﺎﺋﺸﺔ
أي لو أخبر حذيفة بأسماء المنافقين الأحياء منهم ...
عبد المطلب بن هاشم جد النبي (ص) وكبير قريش
الهجوم على دار الزهراء عليها السلام وما ترتب ...
ينبغي إقامة ندوة عالمية حول "الغدير وتقريب ...
الإمام الخميني من الولادة حتى الهجرة إلى مدينة ...
واقعة الحَرّة
ما المراد بکلمة یتیهون فی الآیة المبارکة؟ و هل ...

 
user comment