عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

التوسّل بدعاء النبی فی حیاته البرزخیة

دلّت الآیات الشریفة على حیاة الشهداء ; حیاة حقیقیة مقترنة بآثارها من الرزق والفرح والاستبشار ودرک المعانی والحقائق، قال سبحانه: ( ولا تحسبنّ الَّذین قُتلوا فی سبیل الله أمواتاً بل أحیاءٌ عند ربّهم یرزقون*فرحین بما آتاهم الله من فضله ویستبشرون بالَّذین لم یلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف علیهم ولا هم یحزنون*یستبشرون بنعمة من الله وفضله وأنّ الله لا یضیع أجر المؤمنین ) (1).

فالآیة تدل على حیاة الشهداء وارتزاقهم عند ربهم مقترنة بالآثار الروحیة من الفرح والاستبشار بالذین لم یلحقوا بهم من خلقهم، وتبشیرهم على أن لا خوف علیهم ولا هم یحزنون، إلى غیر ذلک ممّا جاء فی الآیتین.

إنّ الله سبحانه یطرح حیاتهم لأجل إظهار کرامته ونعمته علیهم، وبذلک یرد الفکرة السائدة فی صدر الرسالة من أن موت الشهید انتهاءُ حیاته. وإذا کان الشهداء أحیاءً لأجل استشهادهم فی سبیل دین الله الذی جاء به النبی الأکرم، فهل یُتصوّر أن یکون الشهداء أحیاءً، ولا یکون النبیّ ـ الأفضل ـ القائد حیّاً، وهذا ما لا تقبله الفطرة السلیمة، وأیّ مسلم لهج بخلافه فانّما یلهج بلسانه وینکره بقلبه وعقله.

هذا هو حبیب النجار لم یکن له شأن سوى أنّه صدق المرسلین ولقى من قومه أذىً شدیداً حتى قضى نحبه شهیداً. فنرى أنّه بعد موته خوطب بقوله سبحانه: { قیل ادخل الجنة } ثم إنّه بعد دخوله الجنة یتمنّى عرفان قومه مقامه ومصیره بعد الموت فیقول: { قال یا لیت قومی یعلمون بما غفر لی ربّی وجعلنی من المکرمین } فهو یتمنّى فی ذلک الحال لو أنّ قومه الموجودین فی الدنیا علموا أنّه سبحانه غفر له وجعله من المکرمین، یتمنّى ذلک لأجل أن یرغب قومه فی مثله ولیؤمنوا لینالوا ذلک.

فمن المعلوم أنّ الجنة التی حلّ فیها حبیب النجار کانت قبل یوم القیامة، بشهادة أنّه تمنّى عرفان أهله مقامه وکرامة الله علیه وهم على قید الحیاة الدنیویة، وإن لحقهم العذاب بعد ذلک، قال: ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السّماء وما کنّا منزلین*إن کانت إلاّ صیحة واحدة فإذا هم خامدون ) (2) فإذا کان الشهداء والصالحون ـ أمثال حبیب النجار المصدِّق للرسل ـ أحیاءً یرزقون فما ظنّک بالأنبیاء والصدّیقین المتقدّمین على الشهداء، قال سبحانه: ( ومن یطع الله والرَّسول فأُولئک مع الَّذین أنعم الله علیهم من النَّبیّین والصِّدّیقین والشُّهداء والصّالحین وحسن أُولئک رفیقاً ) (3) فلو کان الشهید حیاً یرزق فالرسول الأکرم الذی ربّى الشهداءَ واستوجب لهم تلک المنزلة العلیا، أولى بالحیاة بعد الوفاة وبعدهم الصدّیقون.

دلّت الآیات الکریمة والبراهین العقلیة على أنّ الموت لیس فناء الإنسان ونفاذه، وإنّما هو انتقال من عالم إلى آخر، نعم المادیون المنکرون لعالمِ الأرواح، والنافون لما وراء الطبیعة یعتقدون بأنّ الموت فناء الإنسان وضلاله فی الأرض بحیث لا یبقى شیء من بعد ذلک إلاّ الذرّات المادیة المبعثرة فی الأرض، ولهذا کانوا ینکرون إمکان إعادة الشخصیة البشریة، إذ لیس هناک شیء متوسط بین المبتدأ والمعاد.

جاء الوحی یندد بتلک الفکرة ویفنِّد دلیلهم المبنی على قولهم: ( أ إذا ضللنا فی الأرض أإنّا لفی خلق جدید ) فردّهم بقوله: ( قل یتوفّاکم ملک الموت الَّذی وکّل بکم ثم إلى ربّکم ترجعون ) (4).

وتوضیح الردّ أنّ الموت لیس ضلالا فی الأرض وأنّ شخصیة الإنسان لیست هی الضالة الضائعة فی ثنایا التراب، وإنّما الضال فی الأرض هو أجزاء البدن المادّی، فهذه الأجزاء هی التی تتبعثر فی الأجواء والأرض، ولکن هذه لا تشکّل شخصیة الإنسان، بل شخصیته شیء آخر هو الذی یأخذه ملک الموت، وهو عند الله محفوظ، کما یقول: ( یتوفّاکم ملک الموت الَّذی وکّل بکم ثم إلى ربِّکم ترجعون ) فإذاً لا معنى للتوفّی إلاّ الأخذ وهو أخذ الأرواح والأنفس ونزعها من الأبدان وحفظها عند الله.

وهناک آیة أُخرى تفسّر لنا معنى التوفّی بوضوح وأنّه لیس بمعنى الموت والفناء، بل الأخذ والقبض أی قبض شیء موجود وأخذ شیء واقعی، یقول سبحانه: ( الله یتوفّى الأنفس حین موتها والّتی لم تمت فی منامها فیمسک الّتی قضى علیها الموتَ ویرسل الأُخرى إلى أجل مسمّى إنّ فی ذلک لآیات لقوم یتفکّرون ) (5) فمفاد الآیة أنّ الله یقبض الأنفس ویأخذها فی مرحلتین: حین الموت وحین النوم، فما قضى علیها بعدم الرجوع إلى الدنیا أمسکها، ولم یردّها إلى الجسد، وما لم یقض علیها کذلک أرسلها إلى أجل مسمّى. کل ذلک یکشف عن أنّ الموت لیس فناءَ الإنسانِ وآیة العدم، بل هناک انخلاع عن الجسد وارتحال إلى عالم آخر.

وهناک کلمة قیّمة لأبی الشهداء الحسین بن علی (علیه السلام) توضح هذه الحقیقة إذ قال لأصحابه فی یوم عاشوراء: " صبراً یا بنی الکرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بکم عن البؤس والضراء، إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة فأیّکم یکره أن ینتقل من سجن إلى قصر، وما هو لأعدائکم إلاّ کمن ینتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إنّ أبی حدّثنی عن رسول الله أنّ الدنیا سجن المؤمن، وجنّة الکافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحیمهم ما کذبتُ ولا کُذِّبتُ "(6).

وفی هذه الآیات غنى وکفایة لثبوت الحیاة البرزخیة للأنبیاء والشهداء والصدیقین، بل لغیرهم وقد شهدت بذلک الآیات الکریمة التی لا مجال لنقلها، وهذه الحقیقة ممّا أجمع علیها أئمة أهل السنّة، فهذا الإمام الأشعری یقول: " ومن عقائدنا أنّ الأنبیاء (علیهم السلام) أحیاءٌ " وقد ألّف کتاباً أسماه "حیاة الأنبیاء"(7).

فلنقتصر بهذا البیان فی إثبات الموضوع الأوّل وقد ترکنا الاحتجاج على حیاتهم بما ورد فی السنّة النبویّة وسیوافیک بعضها فی المستقبل.

الصلة بین الحیاة الدنیویة والحیاة البرزخیة:

القول بالحیاة البرزخیة للأنبیاء والصدّیقین لا یفی وحده بما هو المهم هنا ما لم یثبت أنّ هناک صلة بیننا وبینهم فی البرزخ، بحیث یسمعوننا ویستطیعون أن یردّوا علینا، وهذا هو الموضوع الثانی الذی أشرنا إلیه وهنا نکتفی بأبرز الآیات الواردة فی هذا المضمار التی تدل على إمکان الاتصال بالأرواح المقدسة الموجودة فی عالم البرزخ، وهذا وإن أثبته علم النفس بعد تجارب کثیرة، ولکنّنا أخذنا على أنفسنا أن نستدل بالکتاب والسنّة، ولو کان هناک شیء فی العلم فهو أیضاً یدعم مدلول الکتاب والسنّة.

إنّ الکتاب والسنّة تضافراً على إمکان اتصال الإنسان الموجود فی الدنیا بالإنسان الحی فی عالم البرزخ وإلیک بعض الآیات:

 

1 ـ النبی صالح یخاطب قومه الهالکین:

أخبرنا الله تعالى فی القرآن الکریم عن النبی صالح (علیه السلام) أنّه دعا قومه إلى عبادة الله، وترک معجزته (الناقة) وأمرهم بعدم مسّها بسوء ولکنّهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم:

( فأخذتهم الرَّجفة فأصبحوا فی دارهم جاثمین*فتولّى عنهم وقال یا قوم لقد أبلغتکم رسالة ربّی ونصحت لکم ولکن لا تحبّون النّاصحین ) (8).

ترى أنّ الله یخبر على وجه القطع والبت بأنّ الرجفة أهلکت أُمة صالح (علیه السلام) فأصبحوا فی دارهم جاثمین، وبعد ذلک یخبر أنّ النبی صالح تولّى عنهم ثم خاطبهم قائلا: { لقد أبلغتکم رسالة ربّی ونصحت لکم ولکن لا تحبّون النّاصحین }.

والخطاب صدر من صالح لقومه بعد هلاکهم، وموتهم بشهادة جملة { فتولّى } المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقیب هلاک القوم.

ثم إنّ ظاهر قوله: { ولکن لا تحبّون النّاصحین } یفید أنّهم بلغت بهم العُنجهیة أن کانوا لا یحبّون الناصحین حتى بعد هلاکهم.

 

2 ـ مخاطبة النبی شعیب قومه الهالکین:

لم تکن قصة النبی صالح هی القصة الوحیدة من نوعها فی القرآن الکریم، فقد تبعه فی ذلک "شعیب" إذ خاطب قومه بعد أن عمّهم الهلاک، قال سبحانه: ( فأخذتهم الرَّجفة فأصبحوا فی دارهم جاثمین*الّذین کذّبوا شعیباً کأن لم یغنوا فیها الَّذین کذّبوا شعیباً کانوا هم الخاسرین*فتولّى عنهم وقال یا قوم لقد أبلغتکم رسالات ربّی ونصحت لکم فکیف آسى على قوم کافرین ) (9).

وهکذا یخاطب شعیب قومه بعد هلاکهم ویکون صدور هذا الخطاب بعد هلاکهم بالرجفة. فلو کان الاتصال غیر ممکن، وغیر حاصل، ولم یکن الهالکون بسبب الرجفة سامعین خطابَ صالح وشعیبَ، فما معنى خطابهما لهم؟

أیصح أن یفسّر ذلک الخطاب بأنّه خطاب تحسّر وإظهار تأسف؟

کلا، إنّ هذا النوع من التفسیر على خلاف الظاهر، وهو غیر صحیح حسب الأصول التفسیریة، وإلاّ لتلاعب الظالمون بظواهر الآیات وأصبح القرآن الکریم لُعبة بید المغرضین، یفسّرونه حسب أهوائهم وأمزجتهم.

على أنّ مخاطبة الأرواح المقدّسة لیست أمراً ممتنعاً فی العقل حتى یکون قرینة علیه.

 

3 ـ أمر النبی بالتکلم مع الأنبیاء:

 

جاء فی الذکر الحکیم قوله تعالى لنبیه: ( واسأل من أرسلنا من قبلک من رسلنا أجعلنا من دون الرَّحمن آلهة یعبدون )(10).

ترى أنّ الله سبحانه یأمر النبی الأکرم بسؤال الأنبیاء الذین بعثوا قبله، ومن التأویل الباطل إرجاعها إلى سؤال علماء أهل الکتاب استظهاراً من قوله سبحانه: ( فإن کنت فی شکٍّ ممّا أنزلنا إلیک فاسأل الذین یقرءُون الکتاب من قبلک لقد جاءک الحقُّ من ربِّک فلا تکوننّ من الممترین*ولا تکوننّ من الَّذین کذّبوا بآیات الله فتکون من الخاسرین ) (11) إذ لا مانع من السؤال عنهم وعن أمتهم ولکل موقفه.

هذا هو الذی یرشدنا إلیه الوحی فی إمکانیة الارتباط بالأرواح المقدسة، وأمّا السنّة الدالة على إمکانه، فهی أکثر من أن تحصى، ولکن نکتفی هنا بالبعض.

الأحادیث وإمکان الارتباط بالأرواح:

1 ـ روی عن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) أنّه وقف على قلیب "بدر" وخاطب المشرکین الذین قتلوا وأُلقیت جثثهم فی القلیب:

" لقد کنتم جیران سوء لرسول الله، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم علیه فحاربتموه، فقد وجدتُ ما وعدنی ربّی حقّاً ".

فقال له رجل: یا رسول الله ما خطابک لهام قد صدیت؟ فقال (صلى الله علیه وآله وسلم): " والله ما أنت بأسمع منهم، وما بینهم وبین أن تأخذهم الملائکة بمقامع من حدید إلاّ أن أعرض بوجهی ـ هکذا ـ عنهم "(12).

2 ـ روی أنّ الإمام علیاً بعد أن وضعت الحرب فی معرکة الجمل أوزارها مرّ على کعب بن سور وکان قاضی البصرة فقال لمن حوله: " أجلسوا کعب بن سور " فأجلسوه بین شخصین یمسکانه ـ وهو صریع ـ فقال (علیه السلام): " یا کعب بن سور قد وجدتُ ما وعدنی ربی حقاً، فهل وجدتَ ما وعدک ربک حقاً؟ " ثم قال: " أضجعوه " ثم سار قلیلا حتى مر بطلحة بن عبید الله صریعاً، فقال: " أجلسوا طلحة " فأجلسوه، فقال (علیه السلام): " یا طلحة قد وجدت ما وعدنی ربی حقاً، فهل وجدت ما وعدک ربک حقاً؟ " ثم قال: " أضجعوا طلحة " فقال له رجل: یا أمیر المؤمنین ما کلامک لقتیلین لا یسمعان منک؟ فقال (علیه السلام): " یا رجل والله لقد سمعا کلامی، کما سمع أهل القلیب کلام رسول الله "(13).

ثم إنّ المسلمین ـ على اختلاف مذاهبهم ـ یسلّمون على رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) فی الصلاة عند ختامها فیقولون: " السلام علیک أیّها النبی ورحمة الله وبرکاته ".

وینطلقون فی ذلک من تعلیم النبی ذلک للمسلمین، وانّ سنّة النبی ثابتة له فی حیاته وبعد وفاته(14).

فإذا کانت صلاتنا وعلاقتنا بالنبی (صلى الله علیه وآله وسلم) قد انقطعت بوفاته فما معنى مخاطبته والسلام علیه یومیاً؟

إنّ هذ السلام یدل على إمکان الارتباط بروحه المقدّسة بل وقوعه.

فلو کانت الصلة منقطعة فما معنى قول الرسول فیما تواتر عنه فی زیارته لأهل البقیع لعائشة:

" أمرنی ربی أن آتی البقیع فأستغفر لهم " قلت: کیف أقول یا رسول الله؟ قال:

" قولی السلام على أهل الدیار من المؤمنین والمسلمین، یرحم الله المستقدمین منّا والمستأخرین ".

وفی روایة: " السلام علیکم دار قوم مؤمنین، وإنّا وإیّاکم متواعدون غداً، أو مواکلون، وإنّا إن شاء الله بکم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقیع الغرقد ".

إلى غیر ذلک من الصور المختلفة لزیارة النبی لبقیع الغرقد، والاختلاف فی الصور انّما هو لأجل تکرار العمل منه (صلى الله علیه وآله وسلم)فلاحظ المصادر(15).

قال رسول الله: " إنّ لله تعالى ملائکة سیّاحین فی الأرض تبلغنی عن أُمتی السلام ".

" ما من أحد یسلّم علیّ إلاّ ردّ الله عزّ وجلّ علیّ روحی حتى أرد علیه السلام ".

" من صلّى علیّ عند قبری سمعته ومن صلّى علیَّ نائیاً أُبْلِغْتُ ".

" صلّوا علیّ فانّ صلاتکم تبلغنی حیث کنتم ".

" من زارنی بعد وفاتی وسلّم علیّ رددت علیه السلام عشراً، وزاره عشرة من الملائکة کلّهم یسلّمون علیه، ومن سلّم علیّ فی بیت ردّ الله علیّ روحی حتى أُسلّم علیه "(16).

سیرة السلف الصالح فی التوسّل بدعاء النبی بعد رحیله:

النظر إلى سیرة المسلمین بعد لحوق النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله وسلم) بالرفیق الأعلى یثبت أنّهم کانوا یتوسّلون بدعائه، کتوسّلهم به قبل لحوقه به فما کانوا یرون فرقاً بین الحالتین، فمن تصفّح سیرة المسلمین ورجع إلى غضون الکتب وشاهد عملهم فی المسجد النبوی قرب مزاره الشریف، یلمس بسهولة استقرار السیرة على التوسّل بدعائه من غیر فرق بین حیاته وانتقاله، وها نحن نذکر من أعمال بعض الصحابة والتابعین شیئاً یسیراً ونترک الباقی للمتصفّح فی غضون الکتب.

إنّنا لا یمکننا تصدیق جمیع ما روی مع العلم بأنّ بین المرویات قضایا صادقة صدرت عن أُناس صالحین غیر أنّها بکثرتها تدل على أنّ التوسّل کان أمراً رائجاً منذ عصر الصحابة إلى زماننا هذا، ولم یکن أمراً غریباً عند المسلمین.

ولو فرضنا أنّ بعض هذه القضایا تخالف الواقع، فلا ریب أنّه من باب استغلال الوضّاعین لأصل مسَلَّم صحیح بین المسلمین، وهو صحّة التوسّل بدعاء النبی الأکرم بعد رحیله. فانّهم نسجوا بعض القضایا فی ظل ذلک الأصل.

ولو فرضنا أنّه لم یکن أمراً رائجاً بین المسلمین بل کان أمراً غریباً أو محظوراً لما تجرّأ المستغِل أن ینسج قضیة کاذبة على نول الشرک أو المحرم، فانّ الذی یحفّز الوضّاع على نسج الخرافة هو استعداد العامة لقبول تلک الخرافة ولولاه لما تجرّأ علیه لعدم حصول الغایة المتوخّاة من نسجها.

فهذه القضایا الکثیرة تدل ـ على کلا التقدیرین ـ على المطلوب، فإن کانت صادقة فبصدقها، وإن کانت کاذبة فلأجل حکایتها عن وجود أصل مسلّم بین المسلمین وهو التوسّل بدعاء النبی الأکرم قبل وبعد موته، وکان هذا الأصل ربما یستغل أحیاناً من بعض المتاجرین بالدین.

على أنّ بعضها ممّا رواه الإمام البخاری وسائر أصحاب الصحاح فلنذکر نماذج:

1 ـ هذا أبوبکر: أقبل على فرسه من مسکنه بالسنخ حتى نزل فدخل المسجد فلم یکلّم الناس حتى دخل على عائشة فتیمم النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) وهو مسجّى ببرد حبرة، فکشف عن وجهه ثم أکب علیه فقبّله ثم بکى، فقال: بأبی أنت یا نبی الله لا یجمع الله علیک موتتین أمّا الموتة التی کتبت علیک فقد مُتَّها(17).

فلو لم تکن هناک صلة بین الحیاتین فما معنى قوله: " بأبی أنت یا نبی الله " لو لم یکن سماع فماذا قصد ذلک الصحابی من قوله: " لا یجمع الله علیک موتتین ".

2 ـ روى السهیلی فی الروض الأنف: " دخل أبو بکر على رسول الله فی بیت عائشة ورسول الله مسجّى فی ناحیة البیت، علیه برد حبرة، فأقبل حتى کشف عن وجه رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) ثم أقبل علیه فقبّله، ثم قال: بأبی أنت وأُمّی أمّا الموتة التی کتب الله علیک فقد ذُقتها ثم لن تصیبک بعدها موتة أبداً "(18).

3 ـ روى الحلبی فی سیرته وقال: " جاء أبوبکر من السنخ وعیناه تهملان فقبّل النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) فقال: بأبی أنت وأُمی طبت حیاً ومیتاً "(19).

4 ـ روى مفتی مکّة المشرّفة زینی دحلان فی سیرته فذکر ما ذکراه، وقال: قال أبوبکر: طبت حیاً ومیتاً، وانقطع بموتک ما لم ینقطع للأنبیاء قبلک، فعظمت عن الصفة وجللت عن البکاء، ولو أنّ موتک کان اختیاراً لجدنا لموتک بالنفوس، اذکرنا یا محمد عند ربک ولنکن على بالک(20).

5 ـ قال أمیرالمؤمنین علی (علیه السلام) عندما ولی غسل رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم): " بأبی أنت وأُمی یا رسول الله لقد انقطع بموتک ما لم ینقطع بموت غیرک من النبوة والإنباء وأخبار السماء ـ إلى أن قال: ـ بأبی أنت وأُمی اذکرنا عند ربک واجعلنا من بالک "(21).

وقد أوضح السبکی أمر الإجماع على الزیارة قولا وفعلا، وسرد کلام الأئمة فی ذلک، وبیّن أنّها قربة بالکتاب، والسنّة والإجماع، والقیاس.

وأمّا الکتاب فقوله تعالى: { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوک } الآیة دالّة على الحث بالمجیء إلى الرسول (صلى الله علیه وآله وسلم)، والاستغفار عنده، واستغفاره لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته (صلى الله علیه وآله وسلم)، وقد حصل استغفاره لجمیع المؤمنین، لقوله تعالى: {استغفِرْ لذنبک وللمؤمنین والمؤمنات } فإذا وجد مجیئهم، فاستغفارهم، کملت الأُمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته. وقوله: { واستغفر لهم } معطوف علیه قوله: { جاءوک } فلا یقتضی أن یکون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنّا لا نسلّم أنّه لا یستغفر بعد الموت، لما سبق الدلیل على حیاته وعلى استغفاره لأُمَّته بعد الموت عند عرض أعمالهم علیه، ویعلم من کمال رحمته أنّه لا یترک ذلک لمن جاءه مستغفراً ربّه.

والعلماء فهموا من الآیة العموم لحالتی الموت والحیاة، واستحبّوا لمن أتى القبر أن یتلوها ویستغفر الله تعالى، وحکایة الأعرابی فی ذلک نقلها جماعة من الأئمة عن العُتبى، واسمه محمد بن عبد الله بن عمرو، أدرک ابن عیینة وروى عنه، وهی مشهورة حکاها المصنّفون فی المناسک من جمیع المذاهب، واستحسنوها، ورأوها من أدب الزائر، وذکرها ابن عساکر فی تاریخه، وابن الجوزی فی مثیر الغرام الساکن، وغیرهما بأسانیدهم إلى محمد بن حرب الهلالی، قال: دخلت المدینة، فأتیت قبر النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)، فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابی فزاره، ثم قال: یا خیر الرسل إنّ الله أنزل علیک کتاباً صادقاً قال فیه: { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم ـ إلى قوله ـ رحیماً } وإنّی جئتک مستغفراً ربک من ذنوبی، متشفعاً بک، وفی روایة: وقد جئتک مستغفراً من ذنبی مستشفعاً بک إلى ربی، ثم بکى وأنشأ یقول:

یا خیر من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طیبهنّ القاع والأکم

نفسی الفداء لقبر أنت ساکنه فیه العفاف وفیه الجود والکرم

ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت فرأیت النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) فی نومی وهو یقول: إلحق الرجل وبشّره بأنّ الله غفر له بشفاعتی، فاستیقظت، فخرجت أطلبه فلم أجده.

قلت: بل قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان فی کتابه "مصباح الظلام": إنّ الحافظ أبا سعید السمعانی ذکر فیما روینا عنه عن علی بن أبی طالب (رضی الله عنه) قال: قدم علینا أعرابی بعدما دفنّا رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) بثلاثة أیام، فرمى بنفسه على قبر النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: یا رسول الله قلت فسمعنا قولک، ووعیت عن الله سبحانه وما وعینا عنک، وکان فیما أُنزل علیک: { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوک فاستغفروا الله... } وقد ظلمت، وجئتک تستغفر لی، فنودی من القبر: انّه قد غفر لک، انتهى.

وروى ذلک أبو الحسن علی بن إبراهیم بن عبد الله الکرخی عن علی بن محمد بن علی، قال: حدثّنا أحمد بن محمد بن الهیثم الطائی، قال: حدثنی أبی، عن أبیه، عن سلمة بن کهیل، عن ابن صادق، عن علی بن أبی طالب (رضی الله عنه)، فذکره، ولا منافاة بین النقلین لإمکان التعدّد، وعلى فرض الوحدة فأحد النقلین اقتصر، والآخر أسهب فی النقل، فنقل جمیع القصة.

وقد أدرک ذلک الأعرابی بسلامة فطرته أنّ الآیة الکریمة التی تدعو المسلمین إلى المجیء إلى النبی حتى یطلبوا منه أن یستغفر لهم،

لیست خاصة بحیاة النبی الدنیویة، بل تعم الحیاة الأُخرویة، فلأجل ذلک قام یطلب من النبی أن یستغفر له، وقال عیاض فی الشفاء بسند جید عن ابن حمید ـ أحد الرواة ـ عن مالک فیما یظهر، قال: ناظر أبو جعفر أمیر المؤمنین مالکاً فی مسجد رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)، فقال مالک: " یا أمیر المؤمنین لا ترفع صوتک فی هذا المسجد فانّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: { لا ترفعوا أصواتکم فوق صوت النَّبی } الآیة، ومدح قوماً فقال: {إنّ الذین یغضّون أصواتهم عند رسول الله } الآیة، وذمّ قوماً فقال: { إنّ الذین ینادونک من وراء الحجرات } الآیة، وانّ حرمته میتاً کحرمته حیاً، فاستکان لها أبو جعفر، فقال: یا أبا عبد الله أستقبلُ القبلة وأدعو أم أستقبلُ رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)؟ فقال: لم تصرف وجهک عنه وهو وسیلتک ووسیلة أبیک آدم (علیه السلام) إلى الله یوم القیامة؟ بل استقبله واستشفع به، فیشفعک الله تعالى قال الله تعالى: { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم } الآیة.

فانظر هذا الکلام من مالک، وما اشتمل علیه من أمر الزیارة والتوسّل بالنبی (صلى الله علیه وآله وسلم) واستقباله عند الدعاء وحسن الأدب التام معه.

وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسین السامری الحنبلی فی المستوعب "باب زیارة قبر النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)" وذکر آداب الزیارة، وقال: ثم یأتی حائط القبر فیقف ناحیته ویجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن یساره، وذکر کیفیة السلام والدعاء.

منه:اللّهم إنّک قلت فی کتابک لنبیک (علیه السلام): { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوک } الآیة، وإنّی قد أتیت نبیّک مسغفراً، فأسألک أن توجب لی المغفرة کما أوجبتها لمن أتاه فی حیاته، اللّهمّ إنّی أتوجه إلیک بنبیّک (صلى الله علیه وآله وسلم) وذکر دعاءًطویلا(22).

هذه نماذج قدمناه إلیک لتکون على بیّنة من هذا الأمر وانّه لم یکن هناک فرق بین الحیاتین، وقد نقل المؤرخون أُموراً کثیرة یضیق الوقت بنقلها ولو کنّا شاکّین فی صدق بعض هذه التوسّلات ولکن نقل علماء السیرة والتاریخ المقدار الهائل من التوسّلات بدعاء النبی ـ بعد رحیله ـ یکشف أنّ التوسّل بدعاء النبی الأکرم کان أمراً رائجاً بین المسلمین ولم یکن أمراً غریباً ولا محظوراً وإلاّ لما صحّ أن ینقل المؤرخ ما یتلقاه المسلمون أمراً مرغوباً عنه. وقد ذکرها لفیف من المحقّقین فی کتبهم فراجعها.

ولیس لنا أن نترک السیرة المستمرة الهائلة التی یلمسها من توقف هنیئة لدى القبر الشریف النبوی وقد قال سبحانه: { ومن یشاقق الرسول من بعد ما تبیّن له الهدى ویتّبع غیر سبیل المؤمنین نولّه ما تولّى ونصله جهنَّم وساءت مصیراً } (23).

وقد نقل السمهودی نبذاً ممّا وقع لمن استغاث بالنبی أو طلب منه شیئاً عند قبره فأعطى مطلوبه ونال مرغوبه ممّا ذکره الإمام محمد بن موسى بن النعمان فی کتابه "مصباح الظلام فی المستغیثین بخیر الأنام".

 

________________________________

1- آل عمران/169 ـ 171

2- یس/28 ـ 29

3- النساء/69

4- السجدة/10 ـ 11

5- الزمر/42

6- مصطفى الموسوى: بلاغة الحسین: ص 47.

7- السبکی: طبقات الشافعیة: 3/406.

8- الأعراف/78 ـ 79

9- الأعراف/91 ـ 93

10- الزخرف/45

11- یونس/94 ـ 95

12- صحیح البخاری: 5/76، باب قتل أبی جهل ; وسیرة ابن هشام: 2/292.

13- المفید: حرب الجمل، ص 195 ; والسید عبد الله شُبَّر: حق الیقین: 2/73.

14- کتاب الخلاف: 1/47، وقد اتفقت کلمة أئمة المذاهب الأربعة على وجود هذا السلام فی التشهد.

15- صحیح مسلم: 2/63، باب ما یقال عند دخول القبر ; سنن النسائی: 3/76، وسنن أبی داود.

16- راجع سنن أبی داود: 2/218، کنز العمال: 10/38 ; طبقات الشافعیة للسبکی: 3/406 ـ 408.

17- البخاری: الصحیح: 2/17، کتاب الجنائز.

18- أبو القاسم عبد الرحمن السهیلی (508 ـ 581 هـ)، الروض الأنف: 4/260.

19- الحلبی علی بن برهان الدین (975 ـ 1044 هـ): السیرة الحلبیة: 3/474 طـ. دار المعرفة، بیروت.

20- سیرة الزینی دحلان بهامش السیرة الحلبیة: 3/391، طـ. مصر.

21- نهج البلاغة: قسم الخطب، الخطبة 235.

22- السمهودی: وفاء الوفا: 4/1360 ـ 1362.

23- النساء/115


source : http://shiastudies.net/
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول اليوم
في رحاب نهج البلاغة – الأول
حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)
ما هو الدليل على أحقية الامام علي(علیه السلام) ...

 
user comment