عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

في معالم الإيمان والكفر (2)

الأصلُ السادسُ والعشرون بعد المائة :التوسّل
إنّ حياةَ البَشَر قائمةٌ على أساس الاستفادة من الوسائل الطبيعيّة والإستعانة بالأسباب، التي لِكلّ واحد منها أثرٌ خاصٌ.
فَكُلُّنا عندما نعطش نشربُ الماء، وعندما نجوعُ نأكلُ الطعام، وعندما نريد الانتقالَ من مكان إلى آخر نستخدم وسائلَ النَقل، وعندما نريد إيصال صوتنا إلى مكان نستخدم الهاتفَ، لأنّ رفعَ الحاجة عن طريق الوسائل الطبيعيّة ـ بشرط أن لا نعتقد بإستقلالها في التأثير ـ هو عينُ «التوحيد» ومن صميمه.
فالقرآنُ الكريمُ وهو يُذكّرُنا بقصّة ذي القرنين في بنائه للسدِّ يُخبرُنا كيف طلب العونَ والمعونة من النّاس إذ قال: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) ([31] ) .
وإنّ الذين يُفسّرُون الشركَ بالتعلُّق والتوسُّل بغير الله، إنَّما يصحُّ كلامُهم هذا إذا اعتقد الإنسانُ بتأثيرِ الوسائل والأسباب على نحوِ الإستقلال والأصالةِ.
وأمّا إذا اعتقد بأنَّها تؤثّر بإذن الله فإنّه سينتهي حينئذ إلى نتيجة لا تُخرِجُه عَن مسيرِ التوحيد.
ولقد قامَت حياةُ البشرية من أوّل يوم على هذا الأساس والقاعدة أي على الاستفادة من الوسائل والوسائط الموجودة، ولم يزل يتقدم في هذا السبيل.
والظاهر أنّ التَوَسُّل بالأسباب والوسائلِ الطبيعيّة لِيس مَحَطّاً للمناقشة والبحث، إنّما الكلام هو في الأسباب غير الطبيعيّة التي لا يعرفها البَشرُ، ولا سبيلَ له إليها إلاّ عن طريق الوحي.
فإذا وُصِفَ شيءٌ في الكتاب والسُّنة بالوسِيلِيَّةِ كانَ حكمُ التوسّل به نظير حكم التوسّلِ بالأُمور الطبيعيّة.
وعلى هذا الأساس فإنّنا إنّما يجوز لنا التوسل بالأسباب غير الطبيعيّة إذا لاحَظنا مطلبين:
1. إذا ثَبَتَ كونُ ذلك الشيء «وسيلةً» لنيل المقاصد الدنيويّة أو الأُخروية بالكتاب أو السنة.
2. إذا لم نعتقد بأيّة أصالة أو استقلال للوسائل والأَسباب، بل اعتبرنا تأثيرها منوطاً بالإذنِ الإلهي والمشيئةِ الإلهيّة.
إنّ القرآنَ الكريمَ يدعونا إلى الإستفادة من الوسائل المعنوية إذ يقول:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسِيلَةَ وجاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ([32] ) . هذا ويجب الإنتباهُ إلى أنّ «الوسيلة» لا تعني (التقرُّب) بل تعني الشيء الذي يوجب التقرّبَ إلى الله، وأحَد هذه الطرق هو الجهادُ في سبيل الله الذي ذُكِرَ في الآية الحاضِرة كما يمكن أن تكون أشياء أُخرى وسيلة للتقرّب أيضاً.([33] )
الأصلُ السابعُ والعِشرون بعد المائة: التوسُّل بأسماء الله الحسنى ودعاء الصالحين
ثَبَت في الأصلِ السابقِ أنّ التوسّلَ بالأسباب الطبيعيّة، وغير الطبيعيّة (بشرط أن لا تُصبَغ بصبغة الأصالة ولا يعتقد فيها بالإستقلال في التأثير) عينُ التوحيد، ولاشك في أنّ القيام بالواجباتِ والمستحبّاتِ، كالصَّلاة والصَّوم والزَّكاة والجِهاد في سبيل الله وغير ذلك وسائل معنويّة تُوصِل الإنسان إلى المقصد الأسمى، ألا وهو التقرّبُ إلى الله تعالى.
فالإنسان  في ظلّ هذه الأعمال يجد حقيقة العبوديَّة، ويتقرّب في المآل إلى الله تعالى.
ولكن يجب الإنتباهُ إلى أنّ الوسائل غير الطبيعيّة لا تنحصر في الإتيان بالأعمالِ العبادِيّةِ، بل هناك سلسلة من الوسائل ذكرَت في الكتابِ والسُّنةِ يستعقبُ التوَسلُ بها استجابةَ الدعاءِ، نذكر بعضَها فيما يأتي:
1.التوسُّل بالأسماء والصّفات الإلهيَّة الحُسنى التي ورَدَت في الكتاب العزيز، والسُّنة الشريفة، إذ يقول سبحانه:
( وَللهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها) ([34] ) .
ولقد وَرَدَ التوسُّل بالأسماء والصفات الإلهيّة في الأدعية الإسلامية كثيراً.
2. إن التوسُّل بأدعية الصالحين، والذين يكون أفضلُ أنواعه: التوسّلُ بالأنبياء والأولياء المقرّبين إلى الله، لِيَدعو للإنسان في محضر ذي الجلال.
إنّ القرآنَ الكريمَ يحثُّ الذين ظَلَموا أنْفُسَهم (أي العُصاة) إلى أن يذهَبوا إلى رسولِ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ويطلبوا منه أن يَستغفِرَ لهم، إلى جانب استغفارِهم هم بأنفسِهم، ويبشِّرُهم بأنّهم سيجدون الله توّاباً رحيماً:
( وَلوْ أنّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جاءُوك فَاْستغَفُروا اللهَ واْسَتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لوجَدُوا اللهَ توّاباً رَحِيماً) ([35] ) .
ويَذمُّ في آية أُخرى المنافقين، بأنّهم كلّما دُعوا إلى الذهاب إلى رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ لِيَستغفر لهم أعرَضوا عن ذلك إذ يقول:
( وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تعالَوْا يَسْتغْفِرْ لَكُمْ رسُوْلُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيتهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتكْبرُون) ([36] ) . ويُستفاد من بعض الآيات أنّه كان مثل هذا العَمَل جارياً ورائجاً في الأُمم السابقة.
وللمثال: طلبَ أبناءُ يعقوب من أبيهم أن يستغفرَ لهم، واستجاب لهم أبوهم يعقوبُ ـ عليه السَّلام ـ ووعدهم بذلك:
( يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إنا كُنّا خاطِئِين * قال سَوْفَ أسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَبِّي إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ) ([37] ) .
ومن الممكن أنْ يُقال أنّ التوسُّل بدعاء الصالحين يكون في صورة خاصّة عين التوحيد (أو على الأقلّ مفيداً ومؤثراً) وهي إذا كان من نتوسّلُ به على قيد الحياة.
أمّا إذا ماتَ الأنبياء والأولياءفكيفَ يكونُ التوسُّل بهم مُفيداً وعين التوحيد؟
في الجواب على هذا الإشكال لابدّ من التذكير بنقطتين:
ألف : إذا افترَضْنا أنّ التوسُّل بالنَبي أو الوليّ مشروطٌ بكونهم على قيد الحياة، ففي هذه الصورة يكون التوسُّل بالأنبياء والأولياء الإلهيّين بعد الموت مجرّد عمل غيرِ مفيد، لا أنّه يكون موجباً للشرك.
وقد غُفِلَ عن هذه النقطة الهامّة في الغالب، وتَصوّر البعض أنّ الموتَ والحياةَ رمزُ التوحيد والشرك! مع أنّ هذا الشرط (أي حياة النبيّ أو الولي عند توسُّلِ الآخرين به) ملاكٌ لكون التوسّل مفيداً أو غير مفيد، لا أنّه «ملاكٌ» لكون التوسُّلِ عَمَلاً توحِيديّاً أو شِركيّاً.
ب : إنّ تأثيرَ التوسّل وكونَه مفيداً يُشترط فيه أمران:
1. أن يكونَ الفردُ المتوسَّلُ به مُتصِفاً بالعلم والشعور والقدرة.
2. أن يكونَ بين المتوسّلِ، والمتوسَّل به ارتباط واتصال وكلا هذين الشرطين (الإدراك والشعور ووجود الارتباط بينهم وبين المتوسَّل بهم) موجودان في التوسّلِ بالأنبياء، وإن فارقت أرواحُهم أجسْادَهم وذلك ثابت بالأدلة العقلية والنقلية الواضحة.
إنَّ وجودَ الحياة البرَزَخيّة من المسائل القرآنيّةِ والحديثيّةِ المسلّمة الضَّرُوريّة، وقد مرّت أدلّتها في الأصل 107.
فإذا كانَ الشهداء الّذين قُتلُوا في سبيلِ الحقِّ أحياءً حسب تصَريح القرآن الكريم، فأولى أن يكون أنبياء الشهداء والأولياء المقرّبون أحياءً عند ربّهم ـ خاصة وانّ أكثرهم قد استشهد في سبيل الله ـ أيضاً بحياة أعلى وأفضل.
ثم إنّ هناكَ أدلةً كثيرةً على وجود الارتباط بيننا وبين الأولياء الإلهيين نذكر بعضَها:
1. إنّ جميع المسلمين يقولون في نهاية الصَلاة مخاطِبين رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «السَّلامُ عَليكَ أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وَبَرَكاتهُ».
فهل هم يقولون ما يقولونه لغواً وعبثاً؟ وهل النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ  لا يسمع كلّ هذه التحيات وكل هذا السلام ولا يردّ عليها؟!!
2. إنّ النبيَ الأكرم أَمَر ـ في معركة بدر ـ بأن تلقى أجسادُ المشركين في بئر (قليب) ثم وَقَفَ يُخاطبهم قائلاً: لَقَد وَجَدْنا ما وَعَدنا ربُّنا حقاً، فهل وَجَدتُم ما وَعَدَكم ربُّكم حَقاً؟
فقال أحدُ أصحاب النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : يا رسولَ الله أتكلم الموتى؟!
فقالَ النبيُ  ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ :«ما أنْتُمْ بأسَمعَ مِنْهُمْ»([38] ).
3. لقد ذَهَبَ رسولُ الله  ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ إلى البقيع مراراً وقال مخاطباً أَرواح الراقدين في القبور والأجداث: «السَلامُ على أهلِ الدّيار مِن المؤمِنين والمؤمِنات».
وفي رواية كان يقولُ: «السلامُ عليكمْ دارَ قوم مؤمِنين»([39] ) .
4. روى البخاريُ في صحيحهِ أنّه لما تُوفّي النبيُ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ دخل أ بو بكر حجرة عائشة ثم ذهبَ إلى حيث سُجِّيَ رسولُ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فكَشَفَ عن وجهِ رسولِ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وقَبَّلهُ ثم قال وهو يَبكي: بأَبي أنتَ يانبيَّ الله; لايجمعُ اللهُ عليكَ موتَتَين أمّا الموتة الأُولى التي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فقد متّها([40] ).
وإذا لم يكن لرسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ حياةٌ برزخيّةٌ، ولم يكن بينه وبيننا أيُّ ارتباط فكيف خاطَبَه أبو بكر قائِلاً: يا نبيّ الله؟! 5. عندما كان الإمامُ عليٌ ـ عليه السَّلام ـ يغسّل رسولَ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ويجهّزه قال: انقطَعَ بموتِكَ ما لمْ يَنْقَطِعْ بموتِ غَيْرِك مِن النُبوَّة والإنْباءِ، وأخبارِ السماء بأبي أنَت وأُمّي اذكُرْنا عند ربِّكَ واجْعَلْنا مِن بالِكَ([41] ).
وفي الختام نُذَكّرُ بأنّ للتَوَسُّلِ بالأنبياء والأولياء صُوَراً مختلِفةً جاء شرحُها في كُتُبِ العَقائد.
الأصلُ الثامن والعشرون بعد المائة: البَداء
إنّ لله تعالى في شأنِ الإنسان نوعين من التقدير :
1. تقدير محتومٌ وقطعيٌّ لا يقبل التغييرَ والتبديلَ مطلقاً.
2. تقديرٌ معلَّقٌ ومشروطٌ وهو يتغيَّر ويَتَبَدّلُ مع فقدان بعضِ الشرائطِ، ويحلُّ محلَّه تقديرٌ آخرٌ.
وبالنَّظَر إلى هذا الأصْلِ نُذَكِّرُ بأن الإعتقاد بالبَداء هو أحَدُ الأُصول الإعتقاديّة الإسلاميّة الأصِيْلَة التي اتَّفَقَتْ جميعُ الفِرَقِ الإسلاميّة على الإعتقادِ بها إجمالاً، وإنْ أحجَمَ البعضُ عن استخدام لَفظة «البَداءِ» وهذا الإستيحاش من إستعمال لفظة «البَداء» لا يَضُرُّ بالقَضِيّة أيضاً، إذ أنّ المقصود هو بَيان محتوى «البَداء» ومعناه، لا لفظه واسمه.
إنّ حقيقةَ «البَداء» تقومُ في الحقيقة على أصلين: ألف : انّ لله تعالى قدرةً وسلطةً مُطلقةً، فهو قادرٌ على تغيير أيّ تقدير، وإحلالِ تقدير آخر محلَّه متى شاءَ، في حين يعلم سلفاً بكلا التقديرين، ولا سبيل لأيّ تغيير إلى عِلمه قط أيضاً، لأنّ التقديرَ الأوّل لم يكن بحيث يحدُّ من قدرةِ الله أو يَسلُبَ منه القدرةَ، فإنّ قدرة الله تعالى على خلاف ما تعتقِدُهُ اليهود من كَونها محدودةً لقولهم: ( يَدُ الله مَغْلُولَةٌ) ، قدرةٌ مطلقةٌ، أو كما قال القرآن:
( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان) ([42] ) .
وبعبارة أُخرى: إنّ خلاّقية الله وإعمال السُّلطة والقُدرة من جانبهِ تعالى مستمرٌ، وبحكم قوله تعالى: ( كلَّ يَوم هُوَ في شَأن) ([43] ) فالله تعالى لم يفرغ سبحانه عن أمر الخلقِ، بل عمليّة الخَلق لا تزال متواصِلة ومستمرة.
روى الصدوق باسناده عن الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ : أنّه قال في قول الله عزّ وجل: ( وقالتِ اليهودُ يَدُ اللهِ مَغلُولةٌ) لم يعنوا أنّه هكذا، ولكنّهم قالوا قد فرَغَ من الأمر فلا يزيدُ ولا ينقص (أي في العمر والرّزق وغيرهما)، فقال الله جلّ جلالُه تَكذيباً لقولهم: ( غُلّتْ أيدِيهمْ ولُعِنُوا بِما قالُوا بل يَداهُ مَبْسُوطَتان يُنْفِقُ كيفَ يَشاءُ) . أَلم تسَمع الله عزَّ وجَلَ يقول: ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ) ([44] ) .([45] )
فالعقيدة الإسلاميّة تقومُ على أساس الاعتراف بقدرة الله المطلقة وسلطتهِ التي لا تُحدُّ، وبدوام خلاّقيته واستمرارها، وبأنّ الله تعالى قادر كلّما شاءَ ومتى شاء أن يُغيّر المقدَّرات المرتبطة بالإنسان في مجال العُمرِ والرِزقِ وغيرهما، ويُحلَّ مَحَلَّ ذلك مقدرات أُخرى، وكلا التقديرين موجودان في «أُمّ الكتاب». وفي علم الله سبحانه.
ب : إنّ إعمالَ القُدرةِ والسُّلطَة من جانبِ الله تعالى، وإقدامَه على إحلال تقدير مكان تقدير آخر لا يتمُّ من دون حكمة ومصلَحة، وان قسماً من هذا التغيير يرتبط في الحقيقة بِعَمل الإنسان وسلوكه، وإنتخابه، واختياره، وبنمط حياته الصالح أو السّيء، فهو بهذه الأُمور يهيِّئ أرضيّة التغيير في مصيره.
وَلْنفترض أنَّ إنساناً لم يراع ـ لا سمح اللهُ ـ حقوقَ والدَيه، فإن منَ الطبيعيّ أنّ هذا العَمل غير الصالح سيكونُ له تأثيرٌ غير مرغوب في مصيره.
فإذا غيَّر من سُلُوكِهِ هذا في النصفِ الآخر من حياتهِ، واهتمَّ بِرعاية حقوقِ والدَيْهِ فانَّه في هذه الحالة يكون قد هَيَّأ الأرْضيّة لتغيير مصيرِهِ، وصار مشمولاً لقولِهِ تعالى:
( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ويُثبتُ) .
وينعكس هذا الّذي ذكرناه إذا انعكسَ الأمر .
إنَّ الآيات والرّوايات في هذا المجال كثيرةٌ نذكرُ بعضها هنا: 1. ( إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ([46] ) .
2.( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ وَلَكن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ([47] ) .
3. يروي السيوطيُ في تفسيره «الدرّ المنثور» أنَّ الإمام أمير المؤمنين علياً ـ عليه السَّلام ـ سأل رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ عن قوله: ( يَمْحوا الله ما يَشاء) .
فقال النبي  ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «لأُقِرنَّ عَيْنَك بِتفسيرها ولأُقِرَنَّ عَين أُمّتي بَعدي بتفسيرها: الصّدَقةُ على وَجهها، وبِرُّ الوالِدَين وَاصطِناعُ المعروف يُحوّلُ الشقاءَ سعادةً ويزيدُ في العُمُر ويقي مصارَع السُّوء».([48] )
وقالَ الإمامُ الباقُر  ـ عليه السَّلام ـ : صِلةُ الأرحام تُزَكّي الأعْمالَ، وتُنمّي الأموالَ، وَتَدْفَعُ البَلوى، وتُيَسِّرُ الحِساب، وتُنْسِئُ في الأَجَل.([49] )
وبالنَظر إلى هذين الأَصلين يتَّضح أن الاعتقاد بالبداء عقيدة إسلاميّة قطعيّة، وأنّ جميع الفرق الإسلامية تعتقد به بغضِّ النظر عن التعبير والتسمِية، واستخدام لفظ «البَداء».
وفي الختام نُذَكّرُ بُنقطتين لنعرف لماذا أُطلقت لفظة «البدَاء» على هذه المسألة في الرّوايات فجاء التعبير عن هذه العقيدة الإسلامية بقولهم: «بَدا لله».
ألف : إنّ استخدامَ هذه اللَّفَظة في هذه المسألة جاء تبعاً للنَبيّ الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، فقد روى البخاريُ في صحيحه أنّ النبيّ قال في شأن ثلاثة أشخاص: أبرص وأقرع وأعمى: «بدا لله عزَّ وجلّ أن يَبْتَلِيهُمْ...».
ثم ذكر بعد ذلك قصّتهم بصورة مفصَّلة وبيَّن كيف أن اثنين منهم سُلبَت منهما سلامتُهما بسبب كفران النعمة، وأصابَهما ما أصيب به أسلافُهم من الأمراض([50] ).
ب : إنّ هذا النّوع من الاستعمال من باب المشاكلة، والتحدّث بلسان القوم حتى يفقهوا، ويفهموا الموضوع.
فقد تعارَفَ في العرف الاجتماعي أنَّه إذا غيَّرَ أحد قراراً قد اتخذه أن يقول بدا لي.
وقد تَحدَّث أئمةُ الدين بلسان القوم ليمكنهم تفهيم مخاطبِيهم، وقد استعملوا مثلَ هذه اللفظة في حق الله تعالى.
والجدير بالذِكر أنّ القرآنَ الكريمَ استخدمَ في شأن الله تعالى ألفاظاً وصفات مثل المكر والكيد، والخُداع والنسيان، في حين أنّنا نعلم أنّ الله تعالى منزَّهٌ عن مثل هذه الأُمور (بِمعانيها ومفاهيمها الرائجة بين البشر) قطعاً ويقيناً، ومع ذلك كرّرَ القرآنُ الكريمُ هذه الصِفات واستعمل الألفاظ في حق الله سبحانه. 1. ( إنَّهم يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً) ([51] ) .
2. ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً) ([52] ) .
3. ( إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) ([53] ) .
4. ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ([54] ) .
وعَلى كلّ حال فإنّ لمحقّقي الشيعة حول استعمال لفظ البداء، بالنظر إلى امتناع حصول التغيّر، والتبدّل في علم الله تعالى دراسات وتحقيقات قَويّةً وشيِّقةً لامجال لذكرها هنا، ونحن نحيل من يحب الاطّلاعَ عليها إلى الكتب والمؤلّفات التي تتضمن هذه الأبحاث([55] ).
الأصلُ التاسعُ والعشرون بعد المائة: الرَجعة
«الرَجعَة» في اللغة تعني العَودة، والمقصود منها في الثقافة الشيعيّة هو عودة جماعة من الأُمّة الاَسلاميّة إلى الحياة بعد ظهور الإمام المهديّ عجّل اللهُ فرجَه الشريف، وقبل قيام القيامة.
ويَشهَد القرآنُ الكريمُ قبل أيّ شيء بوجود مسألة الرَّجعة في الثقافة الإسلاميّة. فقد قال سبحانه وتعالى في سورة النَّمل الآية 83 :
( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّة فَوْجاً مّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ) .
وفي الآية 87 من سورة النمل يقول:
( وَيَومَ يُنْفَخُ في الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلاّ من شاءَ الله وكُلٌّ أتَوْهُ داخِرينَ) .
أي بعد النفخ يفزع كل الناس جميعاً ومن دون استثناء.
إنّ الآية الأُولى تتحدّث عن إحياء فريق خاصٍّ في اليوم الأوّل بينما تتحدث الآيةُ الثانيةُ عن إحياء جميع الناس مّما يكشف عن أنّ اليوم الأوّل هو غير يوم القيامة وإنّهما يختلفان.
فالقرآنُ يتحدَّث كما نرى بوضوح عن يومين، وقد عطف اليوم الثاني على اليوم الأوّل، ممّا يكشف عن أن هناك حَشرين وإعادتين إلى الحياة بعد الموت.
ونُذكِّر ثانيةً بأنّ الآية الأُولى تتحدّث عن إحياء طائفة من الناس ومن الطبيعي أن مثل هذا اليوم لا يمكن أن يكون يوم القيامة، لأنّ الناس في ذلك اليوم يُحشرون بأجمعهم، كما قال أيضاً في الآيات 93 ـ 95 من سورة مريم:
( إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أحصَاهُمْ وعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً) . وكما يقول تعالى في آية أُخرى في وصف يوم القيامة:
( وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) ([56] ) .
فيُستنتج من المقارنة بين الآية 83 من سورة النمل وبين الآيات 93 إلى 95 من سورة مريم و 47 من سورة الكهف الاختلاف بينها في المضمون: أنّ العالم البشري ينتظر يومين يُحشَر في أحدهما بعضُ الناس ، ويُحشَر في الآخر جميعهم بلا استثناء.
وروايات الشيعة التي ترتبط بالرجعة، تتعلق بما يقع بعد ظهور الإمام المهدي ـ عليه السَّلام ـ ، وقبل يوم القيامة.
إنّ عودة جماعة من الصالحين، والظالمين قبل يوم القيامة ليس بالأمر العجيبِ أبداً لأنّه قد وَقَع مثلُ ذلك في الأُممَ السالفة حيث عاد بعضُ الناس إلى الحياة مرةً أُخرى ثم ماتوا بعد ذلك ثانية.([57] )
إنّ عودةَ البعض إلى الحياة في هذا العالَم (الدنيويّ) بعدَ الموت لا هو مخالف لحكم العقل، ولا هو معارضٌ للنقل، لأنّه كما أسلفنا مّما صرّح القرآنُ الكريمُ بوقوع نظيره في الأُمم السالِفة، وهذا هو خير دليل على إمكان وقوعه. على أنّ «الرَّجَعةَ» تختلف عن «التَّناسخ»، وتشبيه الأَوّل بالثاني تشبيهٌ خاطئٌ جِداً، وذلك لأنّ «التناسخ» يعني عودة الرُّوح والنفس إلى الحياة بعد الموت مرّةً أُخرى إبتداءً من مرحلة النطفة، أو تعلّقها بِبَدن آخر، والحال أنّه لا يَحدُث مثلُ هذين الأمرين الباطلين في «الرجعة» قط.
إنَّ حكمَ الرَجعة ـ من هذه الجهة ـ أشبه ما يكون بعودة الموتى إلى الحياة في الأُمم السابقة وبالمعادِ الجِسمانيّ الذي يقع في القيامة.
وفي الحقيقة إنّ «الرَّجعة» هو مظهرٌ مصغَّرٌ مِن القيامة النهائية الحقيقيّة الكبرى التي يُحشَر فيها الناسُ أجمعون، وبلا إستثناء.
إنَّ البَحث المفَصَّل حول «الرَّجعة» والحديث حول جزئيّاتها، وتفاصيلها، موكول إلى: كتب التفسير، والحديث، والكلام، الشيعية، وقد بَلَغت رواياتُ الشيعة في هذا المجال حدَّ التَّواتر، وثمّت مايفوق ثلاثين حديثاً رويت في أكثرمن خمسين مؤلَّفاً([58] ).
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات


 
user comment