عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

المهدي المنتظر (عجّل الله فَرَجه) الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)

المهدي المنتظر (عجّل الله فَرَجه)

الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)

مقدمة:ليس المهدي (عجّل الله فَرَجه) تجسيداً لفكرة انطلقت من الإسلام كدين فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها عبر عصور التاريخ ، ومحطاً لآمالها في إقرار العدل في يوم موعود وعلى الأرض ، تتحقق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير وهدفها النهائي ، وتحط فيه المسيرة الإنسانية المتعبة رحالها في واحةٍ من الاستقرار والطمأنينة بعد عناءٍ طويل من ظلم الطغاة والجبابرة.

وهذا هو مقتضي فكرة العدل الإلهي الذي نعتبره من أصول ديننا الأساسية. وقد مارست الإنسانية عبر الزمن الطويل التجربة النفسية لهذا الشعور عبر كافة الأفكار والأديان ، فكل البشر عبر التاريخ اعتقدوا بقدوم (المخلّص) . أو (المنقذ) الذي يحرّرهم من العبودية والظلم ويحقق العدالة في جميع جوانب الحياة من خلال قيام دولة عادلة في يوم موعود من الله .
وإذا كانت فكرة المهدي (عجّل الله فَرَجه) أقدم من الإسلام وأوسع منه ، فإن الإسلام قد حدّد معالمها التفصيلية وحوَّل الفكرة من غيبٍ إلى واقع ، ومن التطلع والأمل بوجود المنقذ إلى الإيمان به فعلاً، كواقعٍ موجود يعيش بيننا ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمدّ يده إلى كل مظلوم ومحروم وبائس، ويقطع دابر الظالمين.
وتجمع الفرق والمذاهب الإسلامية على حتمية انتصار قوى الحق والعدالة في صراعها مع قوى الباطل والظلم في نهاية المطاف، وتؤمن بغدٍ يشع فيه نور الإسلام وتسود فيه القيم الإنسانية ويتحقق ظهور المجتمع الأمثل. ويجمع المسلمون على أنّ هذه الآمال الإنسانية الكبيرة ستتحقق على يد شخصية مقدسة هي شخصية الإمام المهدي (عجّل الله فَرَجه).
 

الاعتقاد بالمهدي والإصلاح العالمي في القرآن والكتب السماوية:

يسرد القرآن وقائع التاريخ البشري منذ بداية الخليفة ، على أنها صراعٌ مستمر بين قوى الحق وقوى الباطل، بين مجموعة من أمثال إبراهيم وموسى و عيسى و محمّد (عليهم الصلاة والسلام) وأتباعهم المؤمنين ،
 ومجموعة أُخرى من أمثال نمرود و فرعون وجبابرة اليهود وأبي سفيان وأمثالهم (لعنة الله عليهم) . فلكل فرعونٍ موسى ...
وفي خضم هذا الصراع المستمر ينتصر الحق حيناً والباطل حيناً آخر. والمهم ها هنا أن القرآن يؤكد على العوامل الأخلاقية في مسيرة التاريخ من خلال السنن الإلهية في التغيير، فحركة التاريخ لها ضوابطها وموازينها وقواعدها، وإرادة الإنسان تلعب دوراً أساسياً في تعيين مسار حركة التاريخ.
 قال تعالى: ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلّا سُنّتَ الْأَوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) فاطر / 43.
وقال تعالى أيضاً: ( إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الرعد / 11 .
وقد وعد القرآن الكريم الأمة بيوم يستلم فيه رجال الحق أزمّة القيادة في الأرض ويعمّ دين الإسلام الأرض.
وهذه الآيات تستند إليها الروايات في مسألة ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فَرَجه) على أنه تجسيد لآمال المؤمنين العاملين ومظهر لحتمية انتصارهم:
( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ ) الأنبياء / 105.
( وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُم مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) النور / 55.
هكذا يتوضح من هذه الآيات أنَّ العالم سيصل حتماً إلى اليوم الذي تستلم فيه القيادة الرشيدة اللائقة أزمة الأُمور فيه فيكون أولياء الله قادة الأرض ويعلو الإسلام على سائر العقائد والآيات.
 

المهدي في مصادر أهل السنة:

روى علماء أهل السنة في هذا المجال روايات كثيرة من طريق رواة يوثقونهم عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم )وتؤكد هذه الروايات على أنّ الأئمة إثنا عشر إماماً وأنهم كلهم من قريش وأن المهدي (عجّل الله فَرَجه) من أهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومن أبناء علي وفاطمة (عليهما السلام). وقد صرَّح الكثير منها أنه من نسل الإمام الحسين (عليه السلام) وقد رووا في هذا المجال المئات من الأحاديث والتي جاءت في أكثر من سبعين مصدراً معتبراً كمسند أحمد بن حنبل ، صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، صحيح الترمذي، وهؤلاء كلهم توفوا إمَّا قبل ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فَرَجه) ـ سنة 255 هـ ـ أو بعد ولادته بقليل .
 وثمة مصادر أُخرى مثل كتب مصابيح السّنة للبغوي ، جامع الأُصول لابن الأثير، الفتوحات المكية لابن عربي، تذكرة الخواص لابن الجوزي، فرائد السمطين للحموي، الصواعق لابن حجر الهيثمي وينابيع المودة للشيخ سليمان القندوزي.
وقد ألف عدد من علماء السنة كتباً مستقلة حول الإمام المهدي (عجّل الله فَرَجه) ومنها:
1-  (البيان في أخبار صاحب الزمان) للعلامة الكنجي الشافعي.
2-  (عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر) للشيخ جمال الدين يوسف الدمشقي.
3- (مهدي آل الرسول) لعلي بن سلطان محمّد الهروي الحنفي.
4-  (كتاب المهدي) تأليف أبي داود.
5-  (علامات المهدي) جلال الدين السيوطي.
6- (مناقب المهدي) الحافظ أبونعيم الأصفهاني.
7- (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر) لابن حجر.
8-  (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) للملا علي المتقي.
9-  (أربعون حديثاً في المهدي) لأبي العلاء الهمداني وغيرها.
 

المهدي في مصادر الشيعة الإمامية:

هناك أكثر من ثلاثة آلاف حديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) حول الإمام المهدي (عجّل الله فَرَجه) ،
ويستفاد منها أنَّ الإمام المهدي هو التاسع من ولد الحسين (عليه السلام) وأنَّ أباه هو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وأنَّ أمه هي (نرجس خاتون) واسمه اسم نبي آخر الزمان (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنيته كنيته ولقبه المهدي وأنه ولد في حياة أبيه في مدينة سامراء ، وفقد أباه في طفولته وهو حي إلى اليوم وسيبقى إلى ما شاء الله وأنه سيظهر في يوم من الأيام ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً وأنه غائب عن الناس لحكمة في ذلك. وأنَّه ما أن يظهر بطلعته المباركة حتى يتكئ على جدار الكعبة ويعلن ذلك ويدعو أتباعه وعددهم (313) شخصاً وهم عدة أهل بدر فيلبون نداءه ويحيطون به وينزل روح الله عيسى من السماء ويصلي جماعة خلفه وأنه سينشر أحكام الإسلام في أرجاء العالم وتصير الأرض كالفردوس.
والروايات الواردة في هذا المجال قد تجاوزت حد التواتر بلا شك وأنَّه يقلّ ورود مثل هذا العدد من الروايات في موضوع إسلامي آخر ، وعلى هذا فيجب على كل مؤمنٍ بالإسلام والنبي الأكرم أن يؤمن إيماناً راسخاً بوجود المهدي الموعود الذي يعيش الآن بين الناس ، بالرغم من أنه غائب عن أبصارهم.

 

طول عمر الإمام (عجّل الله فَرَجه):

إنَّ طول عمر الإنسان ليس من الأُمور المستحيلة وذلك لأنَّنا نقرأ في القرآن الكريم أنَّ نوحاً (عليه السلام) قد عمَّر طويلاً ولبث في قومه 950 سنة يدعوهم إلى الإيمان بالله.
وكذلك فالقرآن يخبرنا بأنَّ عيسى (عليه السلام) لم يمت فهو لا يزال حيّاً إلى الآن. وعلى أساس من التحقيقات العلمية، فقد ثبت إمكان أن يعمر الإنسان طويلاً.
 ويقول الأستاذ (ديمندوبرل) من أساتذة جامعة جونس هبكنس : ( إن كل الأجزاء الخلوية الرئيسية من جسم الإنسان قد ثبت أن خلودها بالقوة صار أمراً مثبتاً بالامتحان أو مرجحاً ترجيحاً تامّاً لطول ما عاشه حتى الآن ).
وإذا كنا نستسيغ ذلك الوضع الفريد تاريخياً على الرغم من أنه لا يوجد وضع مناظر له في تاريخ الإنسان فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر الذي لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة.
 

غيبة الإمام المهدي(عجّل الله فَرَجه):

لسنا هنا في وارد ذكر تفاصيل الغيبتين الصغرى والكبرى وحيثياتهما، وإن كانت الغيبة الصغرى تعد دليلاً علمياً موضوعياً عند من يعتقد بولادة الإمام (عجّل الله فَرَجه) ووجوده وتحديد شخصيته. أمّا لماذا كانت الغيبة الكبرى وما ضرورتها مع علمنا بأن الله تعالى لا تخلو له من حجة على الناس في الأرض لأسباب عديدة:
منها رفع الاختلاف بين الناس ، تفسير وتوضيح القوانين الإلهية والهداية المعنوية والباطنية وغير ذلك. والسؤال ها هنا أنَّه لو لم تكن هناك موانع فإن عليه أن يظهر للناس لكي يستفيدوا منه، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كان غائباً منذ بدء حياته؟ والجواب أنَّ الاعتقاد بحكمة الله تعالى يجعل من غير اللازم أساساً أن نعرف فلسفة الغيبة بعد أن تبتت ثبوتاً قاطعاً لا شك فيه عن طريق الروايات الصحيحة والبراهين القوية، لكن هناك بعض المصالح التي استدعت عن أن يبقى وراء ستار الغيبة ويبدو من بعض الروايات أن السبب الأصلي للغيبة سيعرف بعد ظهوره (عجّل الله فَرَجه)، وتقول الرواية الشريفة: (( أنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل فقلت له: ولم جعلت فداك؟ قال: لأمرٍ لم يؤذن لنا في كشفه لكم، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته، قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غياب من تقدّم من حجج الله تعالى ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر (عليه السلام) لموسى (عليه السلام) إلاّ بعد افتراقهما، يا بن الفضل إن هذا الأمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله وغيب من غيب الله ومتى علمنا أن الله (عزَّ وجلَّ) حكيم صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف )) (1).
وبالرغم من ذلك نستطيع أن نتبين للغيبة بعض الفوائد التي قد تكون بعض الأخبار قد أشارت إليها.
1- امتحان الأمة:
إنَّ إحدى فوائد غيبة صاحب الزمان هي امتحان الناس ليظهروا على واقعهم فتنكشف الفئة التي استبطنت السوء وعدم الإيمان ويمحص الله الناس وتفوز الفئة التي تمكن الإيمان من أعماق قلوبها وراح يزداد ويتعمق بانتظارها للفرج وصبرها في الشدائد واعتقادها بالغيب فيرتفع قدرها وتحصل على درجات عالية من الثواب.
يقول الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): (( إذا فقد الخامس من ولد السابع من الأئمة فالله في أديانكم لا يزيلنَّكم عنها أحد، يا بني إنَّه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به إنما هي محنة من الله امتحن الله بها خلقه )) (2).
2- حفظه (عجّل الله فَرَجه) من القتل:
إن ملاحظة تاريخ الأئمة (عليهم السلام) والجور الذي تعرضوا له من قبل بني أمية وبني العباس ترشدنا إلى أنَّ الإمام الثاني عشر (عجّل الله فَرَجه) لو كان ظاهراً فإنه سيقتل لا محالة كما قتل آباؤه من قبل جميعاً إمَّا بالسيف وإمَّا بالسم ، وذلك لأن السلطة الجائرة آنذاك كان قد انتهى إلى سمعها أنَّه سيظهر شخص من أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومن ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) يحطم عروش الظالمين المستبدين وأنه ابن الإمام العسكري (عليه السلام) لذا فإن العباسيين لم يدخروا وسعاً في تقصي أخبار هذا الإمام ولكن الله تعالى سلّمه من كيدهم وخيب آمالهم . وفي رواية ينقل زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (( إنَّ للقائم غيبة قبل ظهوره قلت : لم ؟ قال: يخاف القتل ))  (3) .
3- لئلا تكون في عنقه بيعة لأحد:
تؤكد بعض الروايات أن غيبته (عجّل الله فَرَجه) حفظته من بيعة الظالمين والحكام الغاصبين وأنه سيظهر وليس لأحد بيعة في عنقه فيظهر الحق ويقرّ حكم الله في الأرض . عن الإمام الصادق (عليه السلام): (( يقوم القائم وليس لأحد في عنقه بيعة )) (4) .
 

فوائد وجود الإمام الغائب (عجّل الله فَرَجه):

لا تنحصر فوائد وجود الإمام بالإرشادات والهداية الظاهرية بل هناك فوائد أُُخرى من حيث التكوين والتشريع تترتب على وجوده وإن كان غائباً عن الناس . وأهم فوائد وجوده طبقاً للأدلة التي أقامها العلماء ووفقاً للأحاديث الكثيرة الواردة في مجال الإمامة ، كونه الرابطة بين العالم والخالق، هذه الرابطة التي تنقطع بعدم وجود الإمام طبقاً للحديث الشهير: (( لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ))(5). فالإمام هو قلب عالم الوجود وقائد البشرية ومربيها.
وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن كيفية استفادة الناس من الإمام الغائب (عجّل الله فَرَجه) فقال:
(( بأنهم ينتفعون منه كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب )) (6) .
 

فائدة الغيبة الطويلة:

في نهاية المطاف ثمة سؤال يُسأل: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرر لها؟
وها هنا لا نحاول أن نعطي دليلاً نقلياً من الروايات التي تواترت عن طرق أهل السنة والشيعة حتى أحصي في مجموع الأخبار الواردة في هذا الشأن أكثر من ستة آلاف رواية ، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة. وإنما نحاول أن نوضح الظروف الموضوعية التي يجب توافرها طبقاً للسنة الإلهية العظيمة : ( إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) لأجل إعداد شخصية الإمام الموعود والتمهيد لظهوره (عجّل الله فَرَجه) وكما نعلم فإن عملية التغيير العالمية التي سيكلف الله بها صاحب الزمان تتطلب وضعاً نفسياً فريداً في هذا القائد، ومضمون هذا الوضع النفسي، الشعور بالتفوق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة الظالمة. كما أن رسالة اليوم الموعود هي عبارة عن تغيير عالم مليء بالظلم والجور، فمن الطبيعي إذاً التفتيش عن شخص يكون في شعوره النفسي أكبر من ذلك العالم كله. وهذا كله لا يتحقق إلا بالغيبة والعمر الطويلين حيث يستطيع هذا القائد أن يشهد الحضارات وهي في أول نشوئها ويشهد زوالها بعد عشرات السنين فلا يرهب أي قوة مهما كانت عظيمة ويرى فيها نقاط القوة والضعف من خلال التجربة التاريخية والاجتماعية التي يكتسبها الإمام الحجة (عجّل الله فَرَجه).
أضف إلى ذلك أن عملية بناء شخصية الإمام صاحب العصر (عجّل الله فَرَجه) تتطلب أن يكون قريباً في شخصيته من منابع الإسلام الأُولى فلا يتأثر بحضارة أُخرى أو يحمل رواسبها وهذا ما حتّم ولادته منذ أكثر من ألف عام.
وإذا نظرنا في كتاب الله المجيد نرى أعظم الأمثلة التي ضربها الله سبحانه وتعالى لنا في هذا الشأن. فهل قرأت سورة الكهف وماذا صنع الله تعالى بأهل الكهف وهم فتية آمنوا بربهم وزادهم هدى ، بعد أن كبر عليهم طغيان الباطل وامتداده لقد أنامهم ثلاثمائة وتسع سنين في ذلك الكهف ثم بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة بعد أن كان ذلك الكيان الذي قهرهم بقوته وظلمه قد تداعى وسقط وأصبح تاريخاً بائداً لا يرعب أحداً. كل ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية، مصرع ذلك الباطل ويرون نهايته بأعينهم وهذا هو فائدة طول الغيبة حيث سيتاح للقائد المنتظر أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة والإعصار هو مجرد نسمة ويشهد نهايتهم جميعاً.
 

الانتظار والأمل:

قضية الإمام المهدي ، صاحب العصر والزمان (عجّل الله فَرَجه) ، هي قصة الأمل بانتصار الحق على الباطل، والتطلع لقيام دولة الحق والعدل على يد الحجة القائم (عجّل الله فَرَجه) وأنصاره الأبرار الأخيار. لكن ثمة خلاف في مسألة انتظار ظهور الإمام يجعلنا نعتبر أن هناك نوعين من الانتظار:
أ ـ الانتظار الهدَّام: يتصور بعض المؤمنين بظهور المهدي (عجّل الله فَرَجه) أن نهضته هي عبارة عن طفرة مفاجئة في تاريخ المجتمع البشري دون أي حالة تطورية تسبقها على صعيد المسلمين ووضعهم الفكري والجهادي. وهؤلاء يعتقدون أن مسيرة البشر تتجه نحو الفساد وانعدام العدل حتى إذا استفحل أمر الباطل امتدت به يد الغيب لإنقاذ الحقيقة ، وليس لإنقاذ أنصار الحقيقة، إذ لن يبقى للحقيقة أنصار آنذاك.
وهذا التصور يجرنا إلى مذهب الذرائع الذي يقول بأن الغاية تبرر الوسيلة. وأصحاب هذا التصور ينظرون إلى الذنوب وأصحاب المعاصي نظرة تفاؤل واستبشار ويعتبرونها عاملاً مساعداً على ظهور المهدي (عجّل الله فَرَجه) ، وينظرون إلى المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر نظرة ارتياب لأنهم يعملون على تأخير ظهور المهدي (عجّل الله فَرَجه)!.
هذا اللون من الفهم لمسألة ظهور المهدي (عجّل الله فَرَجه)، وهذا النوع من الانتظار للفرج لا يرتبط على الإطلاق بالموازين الإسلامية والقرآنية إذ أنه يؤدي إلى التعمّد في تعطيل الحدود والأحكام الإسلامية وإلى نشر الإباحية.
ب ـ الانتظار البنَّاء: تتجه الآيات القرآنية التي تشكل أرضية التفكير حول ظهور الإمام الحجة (عجّل الله فَرَجه) والتي ذكرناها آنفاً في هذا الموضوع إلى جهة معاكسة للنظرة السابقة ، فهي تعتبر أن ظهور المهدي هو آخر حلقات النضال بين أهل الحق وأهل الباطل ، فظهور الإمام المهدي (عجّل الله فَرَجه) تجسيد لآمال المؤمنين العاملين ومظهر لحتمية انتصار فريق المجاهدين ، وهو تحقيق لمنة الله على المستضعفين ووسيلة لاستخلافهم في الأرض ووراثتهم ، وهو وعد من الله للمؤمنين الصالحين المتقين في الكتب السماوية المقدسة.
وثمة حديث معروف في هذا المجال يذكر أن المهدي (عجّل الله فَرَجه): (( يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاًً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً )) ,
وهذا الحديث شاهد على ما ذهبنا إليه في مسألة الظهور لا على إدعاء أرباب الانتظار السلبي.
وتتحدث الروايات أيضاً عن سلسلة من النهضات يقوم بها أنصار الحق قبل ظهور المهدي (عجّل الله فَرَجه) منها نهضة اليماني ، كما تتحدث عن قيام دول لأهل الحق وكل هذه النهضات أو الدول لا يمكن أن تظهر دون أرضيه مسبقة.
وهكذا نلخص أن ظهور الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فَرَجه) ليس أمراً فجائياً دون مقدمات وجهاد ، بل آخر حلقة من حلقات الصراع الطويل بين أنصار الحق وأنصار الباطل منذ بدء الخلق .
 فالمهدي (عجّل الله فَرَجه) باختصار, تجسيد لأهداف الأنبياء والصالحين والمجاهدين على طريق الحق: (وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيٌ عَزِيزٌ) صدق الله العلي العظيم

لماذا لم يظهر القائد إذن؟

بحث حول الإمام المهدي (عليه السّلام)

 السيد محمد باقر الصدر (قدّس سرّه الشريف)

 

لماذا لم يظهر القائد إذن؟

لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدّة؟ وإذا كان قد أعدّ نفسه للعمل الاجتماعي، فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى أو في أعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري وقتئذٍ أبسط وأيسر، وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قويّة، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوّة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطوّر العلمي والصناعي؟

والجواب: أنّ كلّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتّى لها أن تحقّق هدفها إلاّ عندما تتوفر تلك الشروط والظروف.

وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجّرها السماء على الأرض بأنّها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية; لأنّ الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربّانيّة، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف. ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم); لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخّرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك.

والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يشكّل المناخ المناسب والجوّ العام للتغيير المستهدف، ومنها ما يشكّل بعض التفاصيل التي تتطلّبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية.

فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها - مثلاً - لينين في روسيا بنجاح، كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الأولى وتضعضع القيصرية، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئية ومحدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلّل فيه إلى داخل روسيا وقاد الثورة، إذ لو كان قد اتّفق له أي حادث يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح.

وقد جرت سنّة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الربّاني على التقيّد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقّق المناخ المناسب والجوّ العام لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الإسلام إلاّ بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمرّ قروناً من الزمن.

فعلى الرغم من قدرة الله - سبحانه وتعالى - على تذليل كلّ العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربّانية وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالإعجاز، لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب; لأنّ الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان يفرض على العمل التغييري الربّاني أن يكون طبيعيّاً وموضوعيّاً من هذه الناحية، وهذا لا يمنع من تدخّل الله - سبحانه وتعالى - أحياناً فيما يخصّ بعض التفاصيل التي لا تكوّن المناخ المناسب، وإنّما قد يتطلّبها أحياناً التحرّك ضمن ذلك المناخ المناسب، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة، وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهيم، وإذا بيد اليهوديّ الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) تُشلّ وتفقد قدرتها على الحركة، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيّمات الكفّار والمشركين الذين أحدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب، إلاّ أنّ هذا كلّه لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن كان الجو المناسب والمناخ الملائم لعملية التغيير على العموم قد تكوّن بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية.

وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي (عليه السّلام) لنجد أنّ عملية التغيير التي أعدّ لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأيّ عملية تغيير اجتماعي أخرى بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها، ومن هنا كان من الطبيعي أن تُوقّت وفقاً لذلك. ومن المعلوم أنّ المهديّ لم يكن قد أعدّ نفسه لعمل اجتماعي محدود، ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك; لأنّ رسالته التي ادّخر لها من قبل الله - سبحانه وتعالى - هي تغيير العالم تغييراً شاملاً، وإخراج البشرية كلّ البشريّة، من ظلمات الجور إلى نور العدل، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح، وإلاّ لتمّت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنما تتطلّب مناخاً عالمياً مناسباً، وجوّاً عاماً مساعداً، يحقّق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.

فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبّل رسالة العدل الجديدة، وهذا الشعور بالنفاد يتكوّن ويترسّخ من خلال التجارب الحضارية المتنوعة، التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى، مدركاً حاجته إلى العون، متلفّتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول.

ومن الناحية المادّية يمكن أن تكون شروط الحياة المادّية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر كعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كلّه، وذلك بما تحقّقه من تقريب المسافات، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية لشعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة.

وأمّا ما أشير إليه في السؤال من تنامي القوى والأداة العسكرية التي يُواجهها القائد في اليوم الموعود كلّما أُجّل ظهوره، فهذا صحيح، ولكن ماذا ينفع نمو الشكل المادّي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل، وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كلّ تلك القوى والأدوات؟ وكم من مرّة في التاريخ انهار بناءٌ حضاري شامخ بأوّل لمسة غازية; لأنّه كان منهاراً قبل ذلك، وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعة

 

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

سيرة الإمام المهدي المنتظر(عجل الله فرجه)
كيف يكون الإنتظار للإمام المهدي عليه السلام
القسم الثالث. أعمال الإمام المهدي... دولة الخوارق
يا قائم آل محمد (عجل الله تعالى فرجه)
أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
دور العرب في عصر الظهور
نصوص في التوراة والإنجيل تبشّر بظهور قائم آل ...
کتابة رقعة الحاجة إلی مولانا صاحب العصر والزمان ...
إن سياسة النبذ والإهمال المتعمد والإقصاء ...
فی طریق الانتظار

 
user comment