عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

كربلاء دروس وعبر

كربلاء دروس وعبر

بسم الله الرحمن الرحيم  

والصلاة على محمد وآله الطاهرين

إنّ الله( سبحانه وتعالى) أمر عباده بالتأمّل في التاريخ وأخذ العبر منه، قال عزّ وجل ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (111 سورة يوسف)، نعم لا شك ولا ريب أن قصّة النبي يوسف (عليه السلام) وإخوته التي نزلت فيها سورة في القرآن الكريم لم يقصها ربنا( سبحانه وتعالى) لأجل التسلية والترويح عن النفس، بل سيقت للبشرية جمعاء لكي يأخذوا منها العبر والمواعظ.

إنّ قصّة يوسف(عليه السلام) لها فوائد كثيرة منها عواقب الحسد، تعلمنا العفة والطهارة....إلخ وهكذا فإنّ القصص التاريخية ينبغي لنا أن نتدبر فيها لنأخذ منها دروساً تنعكس على حياتنا وتؤثر في سلوكنا، كما ورد إنّ:(( السعيد من وعظ بغيره))، فالعقلاء يرون من غير اللائق أن لا يستفيد الإنسان من  ما جرى على من سبقه.
من تلك الأحداث الكبيرة في تاريخ الأمة الإسلامية فاجعة كربلاء، هذه الملحمة الأليمة زاخرة بالقصص والمواقف التي يمكن لنا أن نستفيد منها دروساً تنفعنا وتؤثر أثراً إيجابياً في حياتنا، الصبر والتسليم لأمر الله، في كربلاء المقدسة تتجلى فضيلة الصبر والتسليم لأمر الله سبحانه وتعالى، وقد مدح القران الكريم الصبر والصابرين في مواطن عدة قال عز وجل:
( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (46 سورة الأنفال) وفي آية أخرى ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (146 سورة آل عمران).
ها هو سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه في يوم عاشوراء كالجبل الشامخ، لا تحرّكه العواصف فرغم ما حلّ به من المصائب العظام التي لو وضعت على الجبال لذابت من شدتها لم يصدر من الإمام الحسين (عليه السلام) إلا التسليم لأمر الله في جميع المواطن حين قتل ولده علي الأكبر(عليه السلام) وأخوه أبو الفضل العباس(عليه السلام) وطفله الرضيع عبد الله(عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه جميعاً، لم تصدر منه كلمة واحدة أو موقف واحد يدل على عدم الصبر، بل الرضى التام بقضاء الله وقدره، حتى أعداؤه قالوا فيه أنهم ما وجدوا رجلاً قتل أصحابه وأهل بيته أربط جأشاً منه، وهذه الصدّيقة زينب الكبرى(عليها السلام) بعد مقتل أخيها سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) تضع يدها على جسده الشريف وتقول(مضمونه) ((اللهم تقبل منا هذا القربان)).
أين نحن من ذلك؟ تجد أحدنا بمجرد أن تصيبه أتفه المصائب وأبسطها يقيم  الدنيا ويقعدها! فترى البعض يقول ما الذي صنعت أنا يا رب حتى ينزل بي ما نزل؟، فنقول  له هل المصائب لا تحل إلا بالعاصين والمذنبين؟ هل فعل الإمام المعصوم (عليه السلام) ذنباً؟ كلا، وهل أنت خالي من الذنوب فعلاً؟ تأمل قليلاً وستجد أن ما يصيبك لو كان بسبب الذنوب فقط فقد تكون مستحقاً لصاعقة من السماء تنزل وتحرقك.
علينا جميعاً أن نستلهم الصبر من يوم عاشوراء ونتأسى بإمامنا الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام.

  • الرأفة والرحمة وحفظ حقوق الإنسان:

من الدروس العظيمة التي تفيضها كربلاء، الرأفة والرحمة وحفظ حقوق الإنسان كإنسان بغض النظر عن موقفنا منه، فعندما وصل جيش الحر الرياحي وكانوا جميعاً قد كظهم الظمأ فما كان من سيد الشهداء(عليه السلام) إلا أن أمر بسقيهم الماء وخيولهم.

 إنّه رحمة الله الواسعة فقد كان بإمكان الإمام (عليه السلام) وهم في هذه الحالة أن يتخلص منهم جميعاً ولا ملامة عليه، فهم أعداؤه وجاءوا لقتاله، لم يتعامل معهم بالمقاييس السياسية والعسكرية المجردة عن القيم الربانية التي لا تعطي للإنسان قيمة.

أين منظمات حقوق الإنسان التي تكيل بمكيالين، هي اليوم مدعوة لأن تعيد مبادئها وتستفيد من ما جسّده الإمام الحسين (عليه السلام) لحفظ حقوق الإنسان، بل وحقوق الحيوان، حيث سقى خيولهم مع حاجته إلى الماء، وعلى العكس تماماً ما فعله أتباع بني أمية يوم عاشوراء بالإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه ونسائه وأطفاله، لا تفعله حتى الوحوش الضواري، إنهم مسخت قلوبهم فلا تجد فيها إلا العمى والحقد والكراهية، فمع إدعائهم للإسلام يقتلون ابن نبي الإسلام(عليه السلام).   

  •   الارتباط الدائم بالله:

لو تأملنا في ملحمة كربلاء، نجد أن الإمام الحسين(عليه السلام) ما برح يذكر الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال وفي أحلك الظروف، لقد طلب الإمام الحسين(عليه السلام) من أعدائه أن يمهلوه سواد ليلة عاشوراء لكي يتوجه إلى الله بالصلاة والدعاء وتلاوة القران، ولقد بات الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه تلك الليلة ولهم دوي كدويّ النحل، فلم يمنعهم  ملاقاة العدو الذي لا يرحم من التوجه إلى الله(تعالى).

يوم عاشوراء عند القتال يلتفت أحد أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) فيقول إني أحب أن لا أموت إلا وقد صليت معك هذه الصلاة التي دنا وقتها، فيقول له(عليه السلام): (مضمونه) ((ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين))، وهنا نشير إلى أمر مهم هو أنه عندما تسير مواكب العزاء ينبغي عدم تعارض وقتها مع الصلاة.

نعم إن  الإمام الحسين كان دائم التوجه إلى الله (سبحانه وتعالى) في جميع الحالات، حتى عند استشهاده (عليه السلام) لم يشغله شيء عن ذكر الله والدعاء، وعلينا أن نستفيد درساً منه في التوجه الدائم إلى الله تبارك وتعالى في جميع الأحوال.

نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا مع الحسين(عليه السلام) وأن يحشرنا في زمرته ويرزقنا في الدنيا زيارته وفي الآخرة شفاعته وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

كربلاء إحياء لمنطلقات الرسالة

 

قسم التحرير/ موقع بينات

 

لا خلاف من الناحية التاريخية في أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد سار إلى كربلاء، واستشهد في العاشر من المحرم سنة61هـ، وأنّه شخصية إسلامية جامعة، وبالرغم من ذلك نجد أنّ الواقع يحفل بتفسيرات عديدة ومختلفة حول حركته أدّت إلى وجود حالة من التشظي، والانقسام على صعيد الممارسة ، ما يطرح التساؤل حول البواعث الحقيقية لهذا التحرّك، ويرسم في المخيلة تصورات مختلفة تحاول معالجة ما أمكن منها، والوقوف عند أهمّ محطاتها، من قبيل: هل أنّ ذلك يعود إلى صعوبة كشف ملامح ومزايا السلطة الحاكمة وممارساتها، أمّ إلى صعوبة فهم خطاب الحسين(عليه السلام) وخطوات تحركه، ودور العناصر الشخصية والقبلية، وما يستتبع ذلك من عدم الإمعان في النظر بدوافع الثورة ومحفزاتها البعيدة والمباشرة وما إلى ذلك؟ و في هذا السياق نحاول أن نرسم صورة متواضعة للعوامل المساهمة في حركة الإمام الحسين(عليه السلام) والوقوف عند أهم محطاتها...

عقبات في طريق البيعة:

لعلّ المعضلة الأقوى التي واجهت معاوية بن أبي سفيان كانت تسمية ابنه يزيد ولياً للعهد، سعياً منه لتطبيق مقولة أبي سفيان الداعية للاستيلاء على السلطة، (يا بني أمية تداولوها بينكم تداول الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أنتظرها لكم، ولتصيرن إلى أبنائكم وراثة)، ولكن هذا الهدف كانت تعترضه عقبات كثيرة، لعلّ أبرزها شخصية يزيد نفسه التي كانت تشكل استفزازاً لمشاعر المسلمين، وخروجاً على قيم وتعاليم الإسلام، وذلك لمّا اشتهر عنه من ميل لحياة اللهو واللعب، والنساء، واستهتاره وشربه للخمر، واتصاله ببطانة السوء على حد تعبير الطبري.

كان معاوية يعي صعوبة طرح هذه القضية على المسلمين، لمّا ينطوي عليها من خروج عن المبادئ الأساسية التي حكمت المرحلة التي سبقت توليه السلطة، وتحويل الخلافة إلى (هرقلية)، وهذا شأن لا قبل للمسلمين به، ولكنّ بعض المتنفذين في السلطة الأموية وبدافع من المصلحة الشخصية، وهو المغيرة بن شعبة قد زيّن له السعي بولاية العهد ليزيد، وذلك في خطوة منه لاستمالة معاوية، بعد جفوة حصلت بينهما، وبالرغم من عملية التزيين هذه، ومحاولة القفز فوق المشكلات فإنّه كانت تحول دون ذلك معوقات، خاصة من جانب المعارضة في كل من الكوفة والمدينة، حيث كانت الأولى تشكل مركز التشيع والثورة وناقمة على ما آلت إليه الأوضاع جراء الممارسات القاسية، من قبل السلطة الأموية، أمّا الثانية فكانت تحمل رصيداً معنوياً من الناحيتين الدينية والتاريخية، فهي كانت تحتل مكانة سامية في نفوس المسلمين تجسد من قبل في حركة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وموطن كبار الصحابة من أهل الحل والعقد وأبناء المهاجرين والأنصار وبعد تأمل وتفكر طويلين، حاول معاوية أخذ البيعة ليزيد من المدينة مراراَ بهدف اختصار الطريق لأنّه إذا ما حقق هدفه فإنّ الشام لا حرج ولا مشكلة فيها، بل ستقاتل من أجل بيعته، وتبقى الكوفة، فإذا ما عارضت فإنها ستصبح مكشوفة، لأنّ قيادتها تكون قد سلمت بالأمر.

سمات شخصية يزيد ومحاولات البيعة:

ولكنّ معاوية فشل في تحقيق ما كان يصبو إليه بالرغم من عمليات التجميل التي كان يقوم بها، والتي لم يكن آخرها محاولة مروان بن الحكم ـ بعد أن أخفق زياد بن أبيه في المحاولة الأولى ـ في مطارحته لكبار الصحابة في المدينة حيث حاول أن يسمّ فيها يزيد بالشخصية التي تجمع روح الإلفة بين المسلمين، والتي يريد معاوية من خلالها الحفاظ على مصالح الأمّة، وقد تجلّى ذلك بقوله:(رأى أن يختار لكم ولي عهد يجمع الله به الإلفة، ويحقن به الدماء، وأراد أن يكون ذلك عن مشورة فيكم وتراضٍ…).

وهذا ما يتناقض في الواقع مع شخصية يزيد، والأهداف التي رسمها الإسلام بشأن الخلافة، ولذلك فإن خدعته هذه لم تنطل على كبار الصحابة، حيث دحض عبد الرحمن بن أبي بكر مزاعم مروان، وكشف عن نوايا معاوية، بقوله: (كذبت وكذب من أمرك بهذا والله ما يزيد بمختار ولا رضىّ، ولكن تريدون أن تجعلوها هرقلية، ويزيد هو يزيد القرود، ويزيد الفجور، ويزيد الخمور…).

فشل مروان بهذه المهمة، وهو الذي كان يريد الخلافة لنفسه، إنّما يعبّر عن أزمة حقيقية في تولي يزيد ولاية العهد، وكشف بالتالي عن رغبة دفينة للتحكم في ناصية الحكم، لم يكن معاوية بعيداَ عن العمل من أجل الوصول إليها، ولذلك رأى أن يذهب بنفسه إلى المدينة لتوفير الأجواء الملائمة للقبول بفكرته، خاصة وأنّها كانت تلقى معارضة فورية من جانب كبار الصحابة، وقادة المسلمين، ولا سيما الحسين(عليه السلام)، فرأى أن يتفادى هذا الاعتراض والاقتناع من الحسين(عليه السلام) بالسكوت، أو بالبيعة الصورية، لعلّه بذلك يصل إلى مبتغاه، ولكنّ الحسين(عليه السلام) لم يستجب لرغبة معاوية، وردّ على ادعاءاته التي حسّن فيها صورة يزيد ووهن ما ذهب إليه، بقوله: ((فهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائبا،ً أو تخبر عمّا كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد على موضع رأيه، فخذ من يزيد به من استفزازه الكلاب الهارشة عند التهارش، والحمام السبّق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً ودع ما تحاول…)).

لاقت هذه المحاولة الفشل كسابقاتها، عندها رأى معاوية أن يذهب إلى مكّة ويأخذ البيعة ليزيد عن طريق القوة، وبذل الأموال للأشراف، وأمر صاحب حرسه أن يقيم على رأس كل رجل من الأشراف رجلاً بالسيف، وأمرهم أن يضربوا عنق كل من يتخلف عن البيعة، وقد خاطب الناس بقوله: (إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، ولا يقض أمر من غير مشورتهم، وقد بايعوا يزيد فبايعوا باسم الله). وبهذه الصورة المخادعة أخذ البيعة ليزيد، بولاية العهد، ما جعل الوفود تقصده لتأكيد البيعة.

ولكنّ هذا الأمر لم يطل حتى توفي معاوية، فخلفه يزيد في الحكم، وأصبح يحمل وسام إمرة المؤمنين، وهو الذي نفى الأسس التي ارتكز عليها هذا الموقع الهام (الوحي) عندما قال:( لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل)!!؟

وكانت الخطوة الأولى التي فكر يزيد بالقيام بها عند استلامه الحكم أن يعمل على إرغام المعارضين لفكرة أبيه على البيعة له طوعاً أو كرهاً، فكتب لعامله على المدينة الوليد بن عتبة ليأخذ له البيعة بالقوة، وخاصّة من الإمام الحسين(عليه السلام)، وحار الوليد في الأسلوب الذي يتبعه تجاه قضية من هذه النوع، وهو الذي يعرف مكانة الإمام الحسين(عليه السلام) في نفوس المسلمين، وما يمثّله من منهج رسالي، وكان يدرك ما يمكن أن تؤول إليه عاقبة استخدام القوة، الأمر الذي دفعه إلى اعتماد أسلوب الملاينة، بعكس ما كان يراه مروان من الحكم، ولكنّ الحسين(عليه السلام) كعادته رفض أن يبايع يزيد، منطلقاً بذلك من ثوابته الرسالية، وقال للوليد: ((أيّها الأمير إنّا بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، وقاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالبيعة والخلافة)).

أهداف خروج الحسين (عليه السلام):

وفي هذا السياق نلفت أنّه ربّما قد التبس على البعض الهدف من خروج الحسين(عليه السلام) على يزيد، فاعتبر أنّه خروج على إمام زمانه، أو أنّه أراد أن يبثّ الفتن والفرقة في صفوف المسلمين، أو أنّه ذهب مأموراً حيث يتحرك وفق أوامر واضحة، أو ما إلى ذلك، ولكنّ الحسين(عليه السلام) خطّ أهداف تحرّكه، وأعلن عن منهاج نهضته، ودوافعها، ليدحض بذلك كل التفسيرات والإدعاءات التي تخرج نهضته عن أهدافها، وأطلقها صرخة ترددت أصداؤها عبر الأثير، ولم تنحصر في المدينة أو مكّة، بل امتدت إلى كل مكان تضجّ به الناس، وحلّقت في أجواء الزمان ولا تزال، وهذا ما تجلى بقوله: ((إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً أو ظالماً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين، وهو خير الحاكمين)).

ولمّا رأى(عليه السلام) أنّ المقام بالمدينة بات يشكّل خطراً على حركته غادرها في العشر الأواخر من شهر رجب، فأثارت هجرته موجة سخط عارمة على الدولة الأموية، ولكنّه استفاد من هذه الهجرة، والتقى بعدد لا يستهان به من وجهاء الناس، حيث شرح لهم أهداف تحركه، ما أثار نقمة السلطة الأموية التي توجست خيفة من وجوده في مكّة، الأمر الذي جعل يزيد يتخذ قراراً باغتياله ولو كان معلقاً بأستار الكعبة.

إصرار على المضي إلى الكوفة:

أدرك الحسين(عليه السلام) خطورة الموقف، فقرر الخروج من مكّة يوم التروية، ليتلافى ما يمكن أن يحصل من انتهاك لحرمة الحرم وقدسيته، كما صرّح(عليه السلام) بذلك لمن كان يحاول إقناعه بالتريث، وترك الاستعجال في السفر:((لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ بأن تستحلّ بي حرمة مكّة)). وذلك استجابة لأهل الكوفة، حيث كانت قد تواردت عليه كتبهم التي تدعوه للقدوم إليهم، ولكنّه قبل الذهاب إلى الكوفة، أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ليكشف عن واقع الحال فيها والتي ما أن وصل إليها حتى التفّ الناس من حوله، في ظل حالة من التجاهل لما يجري، كان النعمان بن بشير قد أبداها والتي اختلفت التفسيرات حولها، ما جعل السلطة الأموية تعيش حالة من الإرباك والفوضى، وشعرت إنّ الخطر يتهددها، فانتدب يزيد ابن زياد لمعالجة هذا الواقع المستجد.

انطلق ابن زياد من البصرة إلى الكوفة وهي تموج بالفوضى والاضطرابات، ، وما إن دخلها حتى تغيرت أوضاعها وانقلبت فيها الموازين، ما فاجأ مسلم الذي انتقلت دعوته من حالة العلن إلى التكتم، وخصوصاً بعد أن اعتقل أهم زعماء الشيعة، وتوارى عن الأنظار معظم الذين كتبوا للإمام الحسين(عليه السلام) ويدعونه للقدوم إليهم.

في هذه الأثناء كان الحسين(عليه السلام) يعدّ العدّة للخروج إلى العراق، وحاول بعض الصحابة صرفه عن الاستجابة لأهل الكوفة، فأشار عليه ابن عباس بالشخوص إلى اليمن لمحاربة يزيد، ودعاه محمد بن الحنفية وعبد الله بن الزبير إلى البقاء في مكّة وعرض عليه عبد الله بن عمر ترك الجهاد والدخول في بيعة يزيد بن معاوية، ولكنّ الحسين(عليه السلام) واجه كل هذه الدعوات بالرفض، ونعرض بعض نماذج رفضه، ما قاله لعبد الله بن عمر: ((يا أبا عبد الرحمن أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله، أنّ رأس يحيى بن زكريا، أهدي إلى بغي من بغايا إسرائيل)).

كان الحسين(عليه السلام) يدرك بنظره الثاقب، ورؤيته الواضحة للأمور، أبعاد ما ينطوي عليه خروجه إلى العراق، ما قد يحدق به من مكاره ومخاطر، وقد ذهب في ذلك إلى أقصاها. حيث قال: ((خطّ الموت على آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف… إلى أن يقول : إلا فمن كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل محجّاً إن شاء الله)). وهذه دعوة صريحة إلى القوم للالتحاق بركبه بدل أن يقتصر بهم الأمر على دعوتهم له بالابتعاد عن ذلك، وهذا ما يعبّر عمّا قاله الحسين(عليه السلام) لجهة أنّ من يرغب بالرحيل معه يجب أن يبذل فيه مهجته، ويوظف نفسه على لقاء الله، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلاّ في من باع دنياه بآخرته.

اختيار نهج العزة والكرامة:

وكلّما كان الإمام الحسين(عليه السلام) يقترب من اللحظات الحاسمة كان موقفه يزداد عزماً وصلابة، وتأكيداً على المضي في حركته، وتشديداً على منطلقاتها الرسالية. وهذا ما تمثل بقوله: ((ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركّز بين اثنتين، بين السِلّة والذِلّة، وهيهات منّا الذِلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي قد أعذرت وأنذرت، وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قِلّة العدد، وكثرة العدو، وخذلان الناصر)).

وبالفعل ترك الحسين(عليه السلام) مكّة المكرمة، وانطلق مع صفوة أهل بيت النبوة، وحملة الرسالة، والتحق به عدد كبير من حجاج بيت الله الحرام، وبينما هو في الطريق إلى الكوفة التقى ببعض الأعراب فسألهم عن أمر الناس، فقالوا:(لا ندري غير أنّا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج) ما يدلّ على أنّ الكوفة كانت تعيش أوضاعاً صعبة، وأنّ حالة من الحصار قد ضربت حولها، تمنع الوافدين من الدخول إليها، ومن في الداخل الخروج منها.

انقلاب الكوفة:

وبقي الحسين(عليه السلام) يواصل مسيره حتى وصل إلى مكان يدعى (الثعلبية وهناك وافته أخبار الكارثة المفجعة بمقتل مسلم، وهاني بن عروة، وعبد الله بن بقطر، وهنا خيّر الإمام الحسين(عليه السلام) من كان بصحبته بين الانصراف أو البقاء معه: ((من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، من غير حرج، ليس عليه منّي زمام)) فافترق عنه البعض، وبقي متابعاً سيره باتجاه الكوفة، ولكنّ السلطة الأموية كانت تراقب تحركاته، فوضعت خطة لمنعه من الوصول إليها، لما يترتب على ذلك من مخاطر على سياستها، ما قد يؤدي إلى إخراج العراق عن دائرة سيطرتها، ومن ثمّ الإطاحة بها نهائياَ في مرحلة لاحقة، لأنّ أهالي الكوفة كانوا يختزنون في قلوبهم حبّ الحسين(عليه السلام)، وهذا ما تجلّى بشكل واضح بقول الفرزدق عندما سأله الحسين(عليه السلام) عن حال أهلها فقال: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك). فأرسل ابن زياد الحر على رأس قوة لمنعه من الوصول إليها، وقد دارت بين الحسين(عليه السلام) والحر مكالمات عديدة ذكّر فيها الحرّ بالكتب التي أرسلها أهل الكوفة إليه، وأنّه إنّما جاء بناء على دعوتهم له، بعد أن أعطوه العهود والمواثيق، وذكّرهم بما ارتكبوه بحق والده علي(عليه السلام) وأخيه الحسن(عليه السلام) وابن عمه مسلم بن عقيل، واعتبر أنّ من ينكث بعهده للحسين إنّما ينكث بعهده لنفسه، ولم تقتصر مهمة الحرّ على منع الحسين(عليه السلام) من الوصول إلى الكوفة، بل كان يعمل على دفعه إلى ابن زياد، وهذا ما ترجمه الحرّ بقوله: (لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد). وبقي الحرّ مصمماً على مضايقة الحسين (عليه السلام) حتى انتهى به الأمر به أخيراً إلى كربلاء، ليواجه بجمعه القليل من صحبه وأهل بيته جيشاً أموياً كثيفا،ً يتراوح عدده ما بين أربعة آلاف، وثلاثين ألفاً كما تشير الروايات إلى ذلك.

كشف مزاعم السلطة:

ومن المفيد الإشارة إلى أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد ذكّر أيضاً جمع الحرّ من الكوفيين وأصحابه بمثالب السلطة الأموية وما اقترفته من جرائم، داعياً الحرّ وجماعته للالتحاق بركبه، والثورة على الحكم الأموي وذلك تطبيقاً لنداء رسول الله الذي قال كما جاء على لسان الحسين(عليه السلام):((أيّها الناس إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأي سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل، ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.

ألا إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرمّوا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر)).

وفي كربلاء حيث حطّ الإمام الحسين(عليه السلام) رحاله، اتخذت الحرب بين الفريقين أشكالاً متعددة، لجا فيها الأمويون إلى ما يسمّى بأسلوب(الحصار وهدم المعنويات ظهرت فيه الأحقاد التاريخية، والدفينة، وجاءت ترجمة ذلك في أوامر ابن زياد لعمر بن سعد:(أن امنع الحسين من شرب الماء فلا يذوقوا منه حسوة كما فعلوا بالتقيّ عثمان) في دلالة واضحة على مضايقة الحسين(عليه السلام)، وإجباره على الاستسلام لابن زياد ويزيد، ثمّ الاقتصاص منه من خلال تحميله، وأهل بيته مسؤولية ما آل إليه أمر عثمان، ولكن بالرغم من الإجراءات التي اتخذها الأمويون لإيقاع الوهن بالحسين وأصحابه، فإنّهم لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم، لأنّ الحسين(عليه السلام) وأصحابه كانوا يتمتعون بروح معنوية عالية مكّنتهم من الصمود في وجه كافة أشكال الضغط والحصار التي مورست ضده.

التفاني في سبيل الرسالة:

ومرة أخرى تبرز مأثرة الحسين(عليه السلام) وتفانيه من أجل الرسالة، وأنّه يتحمّل مسؤولية تحرّكه وحيداً دون إلقاء تبعاتها على أي من أصحابه، فخيّر أصحابه بين البقاء معه، والانطلاق في كنف الليل، إلى حيث شاؤوا لأنّ القوم لا يريدون غيره، وهذا ما ردده(عليه السلام) على مسامع أصحابه في ليلة العاشر من المحرم، حيث كانت اللحظات الحاسمة تتقادم، والمعركة تشرف على نهايتها، في وقت كانت السلطة الأموية تستنفذ كل ما لديها من وسائل للإجهاز على الحسين(عليه السلام) وحركته، حيث قال:((إنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم منّي زمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم رجلاً من أهل بيتي، فجزاكم الله خيراً وتفرقوا في سواركم ومدائنكم، فإنّ القوم إنمّا يطلبونني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري)).

أمّا جنود المعسكر الآخر، فقد خاطبهم غداة يوم عاشوراء بالعودة إلى رشدهم، والتفكر في أمور الآخرة، والتزويد بالتقوى بدل الانكباب على الدنيا، وذكّرهم بسنن الماضين، وما آلت إليه أمورهم، ((عباد الله، اتقوا الله، وكونوا من الدنيا على حذر، فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد، كانت الأنبياء أحقّ بالبقاء، غير أنّ الله خلق الدنيا للبلاء وخلق أهلها للفناء، فجديدها بال، ونعيمها مضمحلّ، وسرورها مكفهرّ، والمنزل بلغة، والدار قلعة، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، فاتقوا الله لعلّكم تفلحون)).

وهو في ذلك ينطلق من أسس إيمانية راسخة، ويتحرّك في نهضته لنيل مرضاة الله في الدار الدنيا والآخرة، ويرفض أن يعيش ذليلاً في هذه الدنيا، بل وهو الساعي لتحقيق العدل وإنصاف الناس، وإقامة بنيان الدولة الإسلامية على أساس الرسالة حيث قال ((لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد، يا عباد الله إنّي عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب)).وكان من أقواله :((لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً)).

وقد عبّر الحسين(عليه السلام) عن استيائه من ممارسات أمّته، وما آلت إليها أوضاعها، وهي تخوض حرباً لا هوادة فيها ضدّ معالم الدين، والتآمر على حركة الإصلاح التي يقودها، فكانت فعلتها أشدّ إيلاماً ممّا حصل للأمم السابقة وهذا ما جسّده بقوله: ((اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس، إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتدّ غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم، أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي)).

وبالفعل لقي الإمام الحسين(عليه السلام) الله سبحانه وتعالى مخضّباًَ بدمه، وهو الذي لم يهن أمام الشدائد بالرغم من كل الذي حصل له ولأهل بيته، وهذا ما أدلى به أحد الشهود العيان عندما قال:(والله ما رأيت مكسوراً قط، قد قتل أهل بيته وولده وأصحابه أربط جأشاً منه).

وهكذا يبدو جلياً أنّ كربلاء تجسد جلياً مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الإسلامي، تجلّت في الصراع بين منهجين: الأول يتمثل في السلطة الأموية الحاكمة، التي حاولت إعادة إحياء المفاهيم القبلية، وإنتاج مفاهيم سلطوية جديدة تقوم على الإخضاع والإكراه (التوريث)، في حين أن، المنهج الثاني كان يتمثل في حركة المعارضة (الإمام الحسين(عليه السلام)) التي قامت من أجل اٌلإصلاح وإعادة اللحمة إلى بنيان الأمّة على قاعدة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

وبعبارة أخرى يمكننا القول إنّ كربلاء أعادت إنتاج وتأصيل مفاهيم الإسلام، من خلال بثّ روح الوعي، وكشف الالتباسات التي كانت تلف الأمّة، ما جعلها قضية متجددة، تنطلق من أعماق التاريخ لتفتح الآفاق إلى الحاضر والمستقبل.

كما أنّها كشفت من جانب آخر عن مكامن الخلل في بنية السلطة، ونمطية أدائها، وآليات اشتغالها، ما يعبّر عن معضلة حقيقية أحدثت الفرقة والانقسام في صفوف الأمّة، والتي لا زالت تداعياتها تعشعش في واقعنا حتى اليوم وربما إلى المستقبل، إن لم نتخذ الحسين(عليه السلام) نموذجاً وقدوة للسير على نهجه، فنبذل التضحيات لانتزاع الحرية ، ولتحقيق الوحدة.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عاشوراء في خطابات القادة
قصيدة تلقى قبل اذان الصبح في حضرة الامام الحسين ...
الملهوف على قَتلى الطفوف
في رثاء الحسين ( عليه السلام ) للعرندس
اصحاب الامام الحسين عليه السلام يوم الطف
الولاية عند الامام الحسين عليه السلام
جذور التشيع في تركيا من أين يمتد ؟!
الإمام الحسين والقرآن الكريم
شعر الإمام الحسين ( عليه السلام )
كرامات الإمام الحسين ( عليه السلام )

 
user comment