عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

أثر الحج في الوحدة السياسية والاجتماعية والثقافية

قال تعالى: }وأذن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كلّ فجٍّ عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير{(154) .

فكرة الحج هي فكرة تمهيدية وصورة مصغّرة عن يوم القيامة ، بل قل هي القيامة الصغرى ، وهذه الفكرة تقوم بدور تذكيري كبير لإعادة الوضع الإنساني إلى الدائرة الوسط .

فهي أوّلاً : تثير بنفس الإنسان حالة القرب من النهاية ، والتي تجعل الإنسان يراجع حساباته في الظروف الصعبة ، ويتراجع عن أمور كثيرة ، ويتنازل عنها لحساب المستقبل .

وثانياً: تعيد إلى الإنسان ذاكرة الإنسانية في نفسه ، بل قل العبودية الصحيحة; لأنّ البيئة الاجتماعية خلقت فيه ميلاً حسيّاً ونفسيّاً إلى عبوديات كثيرة ، فهو مستغرق في أشكال العبوديات يهتف لها ويعمل من أجلها ويفلسفها ويدعو إلى العمل تحت شعاراتها ، كما نسمع أو نقرأ عن أشكال متعددة وعناوين متنوعة من فلسفة انجرار الإنسانية إلى عبودية البشر والحجر والشجر والذات والهوى والجند والرئاسة والقومية والعرقية والأصالة والعراقة والكرامة والمصلحة ، فهو عندما يحرم ويلبّي ويصلّي وينوي ويطوف ويسعى ويقصر ويقف ويبيت ويرجم ويذبح ويحلق ، يستشعر عظمة الله في نفسه ، ويستصغر كلّ الآلهة المصطنعة وأنصاف الآلهة الذين جعلوا أنفسهم أرباباً تُعبد من دون الله .

نعم في مناسك الحج يتجاوز الإنسان ذاته ويهاجر كهوفها المظلمة ويترك أنانيته وكبرياءه ; ليحقق أفضل المنطلقات الجديدة لها ، أو قل ليبني ذاته من جديد ، ويركز وجوده من جديد ويؤمن ذاته من جديد . ويعلي ذاته من جديد; لأنه كما ساهم في إنزال الذات وإسقاطها من لباس الكبرياء والعظمة والأنانية كما أعلى شأنها وأقام بناءها على أتمّ أساس وأكرم مستقبل .

ثالثاً: أن الحج يثير في النفس فكرة التجرّد والصعود إلى العلو حيث الشوق الكلي والاستغراق المجموعي في اُنس القداسة حيث للنفس أشواق تتجاوز فيها المعاني التي تعرفها عبر الحب والعلم والمجد والأمر والنهي والكرامة ، ولا يتم ذلك إلا من خلال المعاناة والقرب المعنوي ، الذي يجعل دائرة الذات أقرب إلى دائرة الاتحاد الكلّي .

لا يدرك الشوق إلا من يكابده *** ولا الصبابة إلاّ من يعانيها

رابعاً: الحج على مستوى الدائرة الشخصية أنفع عمل شاق لراحة النفس يكتسب الإنسان فيها قوّة ومناعة وطاقة روحية وإضاءة نفسية تعكس صورته وطاقته على حياته الفردية والعائلية والاجتماعية ، ويتحوّل الفرد من خلال هذا السلوك إلى اُمّة ; لأنه يحقّق جوهر العبودية ، ولم يصل سيّدنا إبراهيم (عليه السلام) إلى هذا المستوى الرفيع من السلوك ، أو قل لم يتحوّل إلى اُمّة إلاّ بعد أن مرَّ بمرحلة الاحتراق الكامل والانصهار التام بنار المحبّة الإلهية }إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتاًلله{(155) .

خامساً: عندما يصل الإنسان إلى المستوى العالي ، ويطهر هذه الذات الأمّارة بالسوء ينتقل إلى حبّ الآخرين ويعمل من أجل إسعادهم ، فهو يذوب جوعاً وشوقاً في محبتهم وخدمتهم ، ويعمل جاهداً من أجل راحتهم ، وإذا أصبح الإنسان كذلك ، ذابت من نفسه كلّ الفوارق القومية والعرقية والقبلية واللونية ، ونظر إلى بقية المسلمين بمنظار عالمي لا يفرق بين أرض وأرض وجنس وجنس وعرق وعرق ومذهب وآخر وعاد هذا الفرد يشكِّل اُمّة بكلّ ما لها من أحاسيس ومشاعر عامة وطموحات وتطلّعات كبيرة .

وأتذكّر أنني عندما تشرّفت قبل عشرين سنة إلى بيت الله الحرام وشاهدت عن كثب كيف أن الملايين من المسلمين ترمق بنظر الذلّة إلى العزيز الجبّار ، والجميع يطلبون منه تعالى فكاك رقابهم من النار ، ذهبت من نفسي كلّ الرواسب الجغرافية والعرقية والمذهبية ، ورحت معهم أدعو إلى الله أن يغفر لهؤلاء جميعاً . شعرت أنني أحبّهم بصدق; لأنهم يحبّون معبودي ومعشوقي بصدق .

وعندما تصل الاُمّة إلى هذا المستوى من الصدق في التعاطي ، وتذوب فيها كلّ الرواسب الجليدية ، وتلتقي على محبة الله سيكون عندئذ للاُمّة شأن آخر .

سادساً: عندما يحجّ الإنسان بوعي سوف يشعر أنه كان معزولاً عن أهله ومحبّيه ، وأنّ له اخوة إذا استحكمت علاقته الطيبة معهم سوف يكون علاقة من الوشائج الثقافية على مستوى طموحات الاُمّة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، ومن الأخطاء أن يحاول بعضٌ جرّ الناس لنفسه بدل أن يجرّها لربّه ، ويقدِّم لها ثقافةً شخصية بدل أن يزوّدهم بثقافة إلهية .

لأنه عندما يحجّ ويرى هذه الحشود البشرية الدولية العالمية كلّها تلتقي في الكعبة المشرّفة وتؤدّي نفس المناسك ، وتعبِّر المناسك عن مدلول وحدوي كبير سوف يشعر الحاج بأدائه لهذه الفريضة أنه مل الزمن ومل التاريخ ومل المستقبل ، وأنّ المعاناة التي يلاقيها من طواغيت زمانه ما هي إلاّ مشقّة صغيرة ، وبعدها الراحة الكبرى في وصول الإسلام المحمّدي الأصيل كما نادى به الإمام الخميني(قدس سره) ـ إلى قيادة الاُمّة ، وإحلال العدل الإلهي والسلام العالمي المنشود .

سابعاً: أنّ تأمّلات المسيرة الاجتماعية من خلال التصور الإسلامي سوف تظهر بشكل أبرز وأوضح : لأنّ المجتمع الإسلامي المجتمع النخبة يعيش حالة الانصهار الكامل في المشاعر والعواطف والشعائر ، وهذا المجتمع المتماسك القوي ، والذي يتفاعل مع ربّه وأوليائه في هذه الرحلة هو الذي سوف ينقل هذا التفاعل من خلال عملية تلقيحية تنتج زروعاً نامية الثمار في الحقل الاجتماعي الكبير . وأفضل وسيلة لتربية الاُمة التعليم السلوكي ، الذي يجسِّد الفكرة عملياً من خلال صبر القيادة أو صلاتبها أو ذوبانها في الحق .

وما كانت المسيرة الإسلامية في حياة الرسول الأقدس لتنتصر لولا وجود المجتمع القدوة صاحب السلوك النبيل والفارق في الايثار والمحبة وخدمة الناس ، وكذلك ما كانت المسيرة الالهية لتنتصر لولا وجود عناصر ذابت في الوحدة والاُمة وأعطت كلّ ما عندها ، وتنازلت عن الكثير الكثير من وجودها وحضورها في المسرح وتحت الشعاع .

ثامناً: أنّ المدخل السياسي المهم لحركة الاُمّة يؤخذ من قوّتها وتمسّكها بشعائرها ومقدّساتها ، وأنّه بلغ من حفاظ الاُمّة على مقدّساتها أن تبذل النفس والنفيس للوصول إليها ، فهاهم المسلمون اليوم وقبل اليوم يستجيبون لنداء الله ، ويأتون على كلّ ضامر ومن كلّ فجّ عميق في الجو والبر والبحر ، ليعلنوا موقفاً موحّداً وهدفاً موحّداً وثقافة موحّدة وشعائر موحّدة .

وعلى الاُمّة في هذا المجال أن تضع القيادة الموحّدة ، وتتّخذ المواقف الموحدة من أعدائها ، وتحدّد العداوات على ضوء المرحلة أو على ضوء الهدف .

والعدوّ جاد لانتزاع الكعبة من يد المسلمين; لأنّ بقاءها يشكِّل نقطة التمركز الكلّي الدائم والعام ، ويضفي عليها قوّة إضافية يصعب على العدو اختزان هذه المفاهيم .

بعد كلّ هذه المقدّمات ، لابد لي من إثارة بعض النقاط الهامّة:

أوّلاً: أنّ الاستكبار العالمي يرصد بحذر شديد كلّ تحركات الاُمة ، ويعمل جادّاً بكلّ ما يملك من وسائل متطوّرة لإيجاد حالة الشرخ بين المذاهب الإسلامية كما أوجد حالة الشرخ بين القوميات والعرقيات ، لهذا فإنّ هذا المؤتمر من الوسائل الأساسية للوقوف في وجه المدّ المعادي خارجياً وداخلياً ، وعلى علماء المذاهب الإسلامية تقع مسؤولية توعية الاُمّة أمام المخاطر المحدقة بها ، وأنّ كلّ فرد يثير في مجتمعه أي نوع من التشنجات والتعقيدات المذهبية يجب الوقوف في وجهه ومناقشته وبيان خطورة ذلك ، وأنّ عمله يصبّ في خانة الاستكبار العالمي ، وأنه يضرّ بالوحدة الإسلامية ، وبالتالي يضرّ طائفته ونفسه .

ثانياً: على علماء المذاهب الإسلامية أن يدفعوا بعجلة اعتراف المذاهب بعضها ببعض ، ولا يسمح لمن يكفر المسلمين لأي بادرة أن تتغلغل أفكاره بينهم ، بل يجب عليهم العمل السريع ، وتربية الناشئة على عملية التسامح المذهبي بين أهل القبلة كما فعل وأفتى المرحوم الشيخ محمود شلتوت ، وكما فعل الإمام المقدس الإمام الخميني(قدس سره) في دعوته إلى الوحدة بين المسلمين ، وتجنب ما يثير البغضاء بينهم . .

ثالثاً: دعوة الحركة الإسلامية العالمية للالتحاق بالموقف السياسي العام ، الذي تتبناه الجمهورية الإسلامية رائدة المسلمين ، حيث لا يجوز أمام التغيرات السياسية المتلاحقة أن نستفرد كلّ حركة على حدة ، بل لابد من ضم كلّ حركة إلى اُخرى; لتتحول الحزمة الصغيرة إلى عود قوي وغليظ يصعب على الآخرين كسره فضلاً عن عصره .

رابعاً: أنّ مسيرة البراءة من المشركين ، التي جدّدها الإمام الخميني وراح يدعو لها بكلّ قوّة ، تعني رفض اطروحة الشرك ، لأنها تتباين مع الحالة الإسلامية العالمية تبايناً كلّياً في تصوراتها وحضارتها ورفض كلّ لوازمها ، التي منها رفض نظرية السلام الأمريكية والصلح مع العدوّ الصهيوني الغاشم .

خامساً: جعل القدس قضية الإسلام المركزية ، التي تتمحور حولها كلّ قضايا الاُمة المصيرية مثل قضية المسلمين في فلسطين ولبنان وافغانستان والعراق وكشمير والبوسنة والهرسك والفلبين والصومال وغيرها .

إعادة النظر في اسلوب الحركات الإسلامية والاستفادة من خبرات الجمهورية الإسلامية والعمل على إسقاط الأنظمة الأمريكية التي تحكم بالحديد والنار .

سادساً: توجيه الرأي العام الإسلامي لدعم الانتفاضة الإسلامية الباسلة في فلسطين والمقاومة الإسلامية في جبل عامل لبنان

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

إتمَام الحجج في تفسير مَدلول ولا جدَال في الحَج
الوقف فـي نقاط
ما قيمة الحركات التي نؤديها أثناء الصلاة؟
سنّة الوضوء
بَابُ حُكْمِ الرِّيقِ
الخمس
الخمس فی زمن علی علیه السلام
الصلاة عبادة وتربية
أَبْوَابُ الْمَاءِ الْمُضَافِ وَ ...
أَبْوَابِ الْأَسْآرِ

 
user comment