عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

أصل المعرفة في القرآن الكريم



(أ) الله سبحانه هو مصدر المعرفة
لابد من الإشارة الى قضية هامة أثارها القرآن,وهو بصدد الحديث عن أصل المعرفة,وهي أن أصل المعارف كلها يعود الى الله سبحانه,فهو الذي خلق وعلم.وأن هذا الإنسان بما أعطيه من المعارف والاستعدادات اللازمة لتحصيلها,لا يتصرف في هذا الكون,شخصية مستقلة بذاتها,يعبد الحس ويقدسه,أو يعبد العقل ويقدسه,كما في الاتجاهات الفلسفية الشاردة عن هدى الله.وإنما يتصرف من منطلق أنه مخلوق ومدين في أصل خلقه لله سبحانه,وعارف مدين في أصل معرفته لله تعالى.وهنا يثور سؤال : هل الإنسان مدين في معرفته لله بأن علمه الله تعالى علما أو لقنه قضايا,أو بديهيات عقلية أم أن تعليمه إياه يعنى خلق العلم الضروري فيه,أم أنه منحه ما يؤهله للمعرفة والوصول اليها عن طريق الحواس والعقل؟
والاختلاف منبثق من الاختلاف في فهم الآية الكريمة التي تتحدث عن أصل المعرفة الإنسانية,تلك التي علمها الله سبحانه لأول إنسان خلقه,وهو آدم عليه الصلاة والسلام.وهل هناك من فرق بين أصل المعرفة لأول عارف لم تكن له تجربة بعد على وجه الأرض,وبين الإنسان الذي يعيش على وجه الأرض بعد ذلك,وله تجربته وخبرته ويجد من سبقه من بني جنسه فيعطيه ما عنده من معلومات سابقة أصبحت بمثابة العلوم الضرورية التي لا يبحث لها عن دليل؟ هذه المسائل قائمة كلها,على فهم قوله سبحانه وتعالى:( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال :أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.قالوا :سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم.فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).
وقوله سبحانه:( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
ونجعل البحث هنا في المسألتين التاليتين وهما: ماذا علم الله تعالى آدم؟ وكيف كان هذا التعليم؟
(ب) ماذاعلم الله تعالى آدم ؟
وهذا السؤال يعني ما المقصود بالأسماء في قوله تعالى:( وعلم آدم الأسماء كلها )؟ نجد للمفسرين رأيين في هذه المسألة:
الرأي الأول : وهو المشهور عن معظم المفسرين أن المقصود بالأسماء هو أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات. إذ ظاهر النصوص واضح في أن الله تعالى علم آدم أسماء الأشياء ثم عرض مسميات هذه الأسماء على الملائكة في معرض الامتحان وقال لهم :\"أنبئوني بأسماء هؤلاء\" والتعبيربالأسماء ظاهر كما أن إجابة الملائكة واضحة في أنهم لا يعلمون هذه الأسماء لأنهم لم يعلموها من قبل.ثم إن الإشارة دقيقة في قوله تعالى \"عرضهم\" حيث أرجع الضمير على المسميات لا على الأسماء الواردة في صدر الآية أي أنه عرض الأشياء نفسها أو حقائقها وطلب منهم أن يعرفوا أسماءها واستعمال ضمير المذكور في قوله \"عرضهم\" دون المؤنث إذ لم يقل \"عرضها\" تغليب للعاقل على غير العاقل وللكامل على الناقص,على عادة العرب في الاستعمال.
قال الزمخشري :\"وعلم آدم الأسماء كلها\" : أي أسماء المسميات,فحذف المضاف لكونه مدلولا عليه بذكر الأسماء,لأن الاسم لا بد له من مسمى.فإن قلت : هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه,وأن الأصل وعلم آدم مسميات الأشياء؟
قلت : لأن التعليم وجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات.لقوله :\"أنبئوني بأسماء هؤلاء\" و\"أنبئهم باسمائهم\" \"فلما أنبأهم بأسمائهم\" فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل أنبئوني بهؤلاء وأنبئهم بأسمائهم,وجب تعليق التعليم بها\" كما فسر قوله تعالى عرضهم :أي عرض المسميات.وفسر أسماء المسميات بأنها الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسم فرس وهذا اسم بعير وهذا اسم كذا...كما علمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية.
ورجح الطبري أنها أسماء ذريته – آدم – وأسماء الملائكة دون أسماء سائر أجناس الخلق معتمداً على قوله تعالى \"عرضهم\" أي عرض العاقلين.ويمكن أن يقال بأنه لا وجه لهذا التراجع,إذ العرب تغلب العاقل على غيره في الاستعمال.
وعن قتادة قوله : علم آدم من أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة فسمى كل شيء باسمه وألجأ كل شيء الى جنسه.
ولعلهم استندوا الى قوله تعالى \"كلها\" ذلك أنه بيان التقرير الذي هو تأدكيد الكلام بما يرفع احتمال المجاز والتخصيص.فقرر معنى العموم بذكر الكل في الاصلاح اسم لجملة مركبة من أجزاء ويقتضى عموم الأشياء وهي الإحاطة على سبيل الانفراد.
والرأي الثاني : للإمام الرازي حيث يذهب الى أن المقصود بالأسماء هو صفات الأشياء ونعوتها وخواصها,وليس رموز الأشياء أو أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات ووجه لذلك باللغة,ذلك أن الاسم مشتق إما من السمة أو من السمو.
وإن كان الاسم مشتقاً من السمو,فهو كذلك,لأن دليل الشيء,كالمرتفع على ذلك الشيء فلا امتناع في اللغة إذن,من أن يكون المراد من الاسم الصفة,وتخصيص النحاة الاسم بالألفاظ المخصوصة – في نظره – عرف حادث لا اعتبار به.
ووجه لذلك بالعقل من وجهين هما :
(1) أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها,وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من حمله على ماليس كذلك.
(2) إن التحدي إنما يجوز بما يتمكن السامع من مثله,والملائكة لم يعلموا لغة آدم,واللغة لا تعرف بالعقل,ومن ثم فتحدي الله لهم في أن يعلموا حقائق الأشياء أولى من تحديهم بمعرفة الأسماء أي الألفاظ اللغوية,إذ العقل متمكن من تحصيل الحقائق وغير متمكن من تحصيل اللغة بمفرده,فصح وقوع التحدي فيه.
والتحقيق :
إنه لا داعي لهذا الاختلاف والتطويل في المراد بالأسماء,هل هي السمات أي الحقائق والصفات الدالة على الحقائق فقط أو أنها أسماء الأشياء فحسب.
ذلك أن اشتقاق الاسم من السمة أو من السمو,إنما هو توجيه لوجه تسمية الشيء باسمه.كما أنه لا داعي لاحتمال الإضمار كما يرى الرازي إذ لماذا نضمر ونقدر,(وعلم آدم مسميات الأسماء؟ ولا يلجأ الى الإضمار والاحتمال الإ حينما لا يظهر المعنى بظاهر التركيب,والمعنى واضح جداً وظاهر في الآية,ذلك أن الله سبحانه علم آدم أسماء الأشياء أي أعطاه علما يلزمه على وجه الأرض مما لا يلزم الملائكة,ثم عرض مسميات هذه الأسماء على الملائكة ممتحنا لهم لإظهار كرامة وفضل هذا النوع الجديد العابد لله وفضله عليهم.ولم يكن التحدي لعقولهم كما ذهب الرازي,وإنما هو زيادة إظهار لقدرة الله وعلمه,وخاصة أن هؤلاء الملائكة ليسوا مكلفين حتى يكون التحدي بمعناه إما أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا,فهم مجبولون على الإيمان,كما أنه فيه المعنى الذي هو في سياق النص القرآني وهو إعلام جديد للملائكة بأن ثمة نوعا جديدا من المخلوقات سيخلف في هذه الأرض,وأنه له طبيعة عالية عارفة من نوع جديد,قائمة على الابتلاء.وأنه سبحانه قد زود هذه المخلوقات بعلوم تلزمهم ,إذ علم أباهم آدم وجعل له استعدادات التعلم الذي يكون طريقا من طرقه طريق التلقى المباشر من الله,على أحد احتمالات التعلم.
كما أنه لاداعى للاقتصار في ما علمه آدم على أسماء الأجناس فحسب,كما يرى المعتزلة والفلاسفة,ذلك أن الله سبحانه قد خلق الأرض قبل آدم عليه الصلاة والسلام,وفيها من المخلوقات المحدثة ما الله أعلم به,كما كان سبحانه قد خلق الجن والملائكة قبل آدم,والجن يسكنون الأرض كما يتصلون بالسماء,والملائكة تسكن في السموات وان كان ثمة لهم نزول الى الأرض فبحسب وظائفهم التي يؤدونها بتسخير الله لهم.وإبليس كان من الجن ووصل درجة من العبادة أهلته لأن يكون مع الملائكة ثم فسق عن أمر ربه في امتحان السجود لآدم,وهذا دليل على أن الجن مخلوق قبل الإنسان.وحوار الملائكة مع الله سبحانه حينما قال لهم :( اني جاعل في الارض خليفة) دليل على أسبقية الملائكة على آدم عليه السلام.على ضوء ذلك نقول :- والله أعلم – إن الله سبحانه علم آدم علما جديدا على الملائكة,بما يلزم الإنسان على وجه الأرض.وهو أعم من أن يكون مجرد الألفاظ وإنما ألفاظ ومعان,كما أنه أعم من أن يكون تصورات مفردة,الشيء واسمه,وإنما قضايا أيضاً,وأنه سبحانه لقنه معلومات بديهية جاهزة,- من جملة ما علمه – كي يستطيع أن يحيا أول حياة له على وجه الأرض,وكيف يترك من غير هذه المعلومات الضرورية زمنا ما أو فترة حتى تكتسب بخبرة وتجربة؟ وأما ما يتعلق بالمسألة الخاصة بالاسم والمسمى فإن الاسم في اللغة العربية إذا أطلق لا يمكن أن يكون مجرد لفظ وإنما هو اسم ومسمى,لفظ ومعنى,رمز وحقيقة,وهذا ما نفهمه من صريح النص في الآيات,فالاسم متضمن لحقيقة المسمى وصفته,إذ لا وجه لتعليم شيء لا حقيقة له,فضلا عن امتحان الملأ الأعلى به,فضلا عن جعل العلم به سببا لتفضيل نوع جديد من المخلوقات على نوع آخر.وحتى على اعتبار تعليم الأسماء الخيالية,فإن ذلك لا يكون بغير تركيب أشياء حقيقية لا بد أن تكون معروفة بأسمائها,فالمخيلة تستعين بالحس السابق على مرحلة التمثل ,أو التخيل.
( ولا مانع من أن يكون الامتحان للملائكة في كلا الأمرين الاسم والمسمى معا,اللفظ والحقيقة,بل لا مانع أن يكون ثمة معنى ثالث للامتحان,وهو الامتحان بأن هذا الاسم هو لهذا المسمى.وكل هذه :الاسم,والمسمى,وأن هذا الاسم لهذا المسمى هو ما علمه الله تعالى لآدم عليه السلام.) بل إننا نرجح – إذا كان له معنى للتحدي على راي الرازي – أن يكون هذا التحدي في الأسماء أقوى وأظهر,لأنه تحد شامل في الاسم والمسمى أو في اللفظ والحقيقة وأما تسمية الحقيقة باسمها,أو إطلاق الاسم على المسمى فإنه أظهر شيء في الدلالة عليه.فإن إطلاق الاسم فيه العلوم التالية: العلم باللفظ والعلم بحقيقة اللفظ أي ما يدل اللفظ عليه من المعنى الذهني المتصور عند إطلاق اللفظ الذي يكون بإزاء حقيقة الشيء في الخارج أو في الذهن,والعلم بأن هذا اللفظ يدل على هذا المعنى الذهني ويشير الى هذه الحقيقة للمسمى.ومن ثم فإن هذا الفهم أدق واشمل وأليق بنعمة الله تعالى في تعليم آدم عليه السلام.وهو رأى يجمع بين الفهوم السابقة ويتواءم مع النص ,والله اعلم.
وفائدة هذا المبحث فيما علمه الله للإنسان في أول مرة يحصل فيها تعليم له,أن القرآن يضعنا أمام مشكلة اللغة أو الرموز اللغوية,والتي أصبح من اللازم علينا أن نميز بين المعرفة التي نتلقاها أو نتعلمها أو نحصلها اليوم,وبين المعرفة في منبعها الوحيد أو أصلها الأول,والتي تلقاها آدم عليه السلام,أول مرة.وأنه وإن كان للعقل دوره وطريقته في المعرفة,وإذا كان الحس له دوره كذلك,فإن كلا من العقل والحس لا يستطيعان أن يتجاوزا مسألة اللغة كرمز للمعنى الحاصل في العقل والحس.وإن الإنسان لا يستغني عن الرموز اللغوية في كلتا الحاليتين,ولا بد أن يأخذ في الحسبان هذه المسألة قبل أن يفكر ويبحث في طرق المعرفة بعد ذلك من عقل وحس.إذ يجمع علماء اللغات اليوم,على أن ميزة الإنسان على غيره من المخلوقات هي قدرته على استعمال الرموز اللغوية,من أجل توصيل المعاني وتكوين المفاهيم,\"أي أن المفاهيم تتكون عن طريق اللغة,ولا توجد مستقلة عنها,بحيث يتعذر على الانسان أن يفكر بدون الكلمات والحروف.ولهذا قال بعض العلماء في اللغة والفكر: إنهما كقطعة النقود,وجهان لحقيقة واحدة.وهذا ما فطن له علماء الكلام المسلمون واللغويون العرب,عندما نصوا على أن العلاقة بين الشيء واللفظ الدال عليه تثبت دائما بواسطة,وهي الصورة الذهنية التي يحدثها الإدراك للشيء.والتي تثير في ذهن المتكلم اللفظ المرتبط بها ارتباطا اعتباطيا,وأنه على العكس من ذلك لا يمكن اللفظ أن يثير في ذهن السامع إلا الصورة التي يرتبط بها عادة في لغة هذا السامع\".
وهذا كله يعني أن المعرفة أصلا متوقفة على معلومات سابقة أو مسبقة,وهذا ما أشارت اليه الاية القرآنية الكريمة بوضوح,إذ أشارت الى أن حصول المعرفة لدى الإنسان متوقف على معلومات أو معارف مسبقة علمها من قبل الله عز وجل,مهما كان حجم هذه المعارف,ومهما كانت طبيعتها أو عددها.وإن كانت كلمة \"كلها\" في الآية بحاجة الى فهم دقيق ربما يفتح كثيرا من مغاليق الأمور في فهم الآية , رغم أن الجرجاني قد ذهب الى أنها \"تفيد العموم وترفع احتمال المجاز والاستثناء\".
وهذا الرأي وهو البحث في أصل المعرفة التي تدل عليها اللغة لا يلغي دور الحواس والعقل وأنهما طريقان للمعرفة,ذلك أن الفكر معناه \"الحكم على الشيء\" وعوامله في طبيعة الإنسان ووجوده من حواس وعقل,وفي تعامل الإنسان مع الواقع,ولكن ليس بالإمكان إعطاء الحكم على الواقع الذي ظهر بمجرد ظهوره للإحساس ووصوله صورة ذهنية للعقل,بل لا بد من معلومات سابقة.وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة في تحديد المنبع الأصيل للمعرفة.
( ج ) طريقة التعليم أو كيفيته في منبعه البعيد
تشير الآية الكريمة السابقة الى أن الله تعالى علم آدم عليه السلام.ولكن كيف علمه؟ هل لقنه العلم أو أصول المعرفة أو المعلومات المسبقة تلقينا ؟ وهل لقنه المعرفة كلها؟ أم كانت طريقة تعليمه إياه بإلقاء العلم الضروري في نفسه مع خلق القدرة على النطق ؟ ومن ثم تكون اللغة أو المعرفة تلقينية أو تعليمية وكلاهما يعني أنها بطريق التوقيف لا بطريق الوضع أو الاصلاح أو التواطؤ؟ والمسألة هنا تهمنا من جهة أصل اللغة وأصل المعرفة معاً,ومن جهة طريق التعليم أو تكوين اللغة واستقاء المعرفة الأولى ونفصل آراء العلماء في ذلك ,فنقول:
1- ذهب الأشعري من أهل السنة والجبائي والكعبي من المعتزلة وابن فارس من اللغويين,الى ترجيح رأي ابن عباس القائل بأن أصل اللغات والمعرفة كلها توقيفية بمعنى,إما أن الله تعالى علم آدم بطريق التلقين :\"وذلك بعرض المسمى عليه,فإذا رآه لقن اسمه بصوت مخلوق بسمعه,فيعلم أن ذلك اللفظ دال على تلك الذات بعلم ضروري.
وإما أنه علمه بطريق التعليم : وذلك بإلقاء علم ضروري في نفس آدم عليه السلام,بحيث يخطر في ذهنه اسم الشيء عندما يعرض عليه,فيضع له اسما بأن ألهمه وضع الأسماء للأشياء,ليمكنه أن يفيدها غيره,وذلك بأن خلق فيه قوة النطق وجعله قادرا على وضع اللغة.كما قال تعالى ( خلق الإنسان .علمه البيان ).
وجميع ذلك تعليم ,إذ التعليم مصدر علمه أي جعله ذا علم,مثل أدبه.فلا ينحصر في التلقين وإن تبادر فيه عرفا.
2- وذهب أبو هاشم من المعتزلة الى أن أصل المعرفة واللغة كان بطريق الوضع والاصطلاح,إذ لا بد من لغة اصطلاحية واحتج على انه لا بد وأن يكون الوضع سبوقا بالاصطلاح بأمور منها:
( أ ) أنه لو حصل العلم الضروري بأن الله تعالى وضع هذه اللفظة لهذا المعنى لكان ذلك العلم : إما أن يحصل للعاقل أو لغير العاقل.لا جائز أن يحصل للعاقل لأنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى لصارت صفة الله تعالى معلومة بالضرورة,مع أن ذاته معلومة بالاستدلال,وذلك محال.
ولا جائز أن يحصل لغير العاقل,لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل,فثبت أن القول بالتوقيف فاسد.
( ب ) وأنه تعالى خاطب الملائكة,وذلك يوجب تقدم لغة على ذلك التكلم.
( ج ) أن قوله تعالى :\"وعلم آدم الأسماء كلها\" يقتضى إضافة التعليم الى الأسماء وذلك يقتضى في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم,وإن كانت كذلك فاللغات حاصلة قبل ذلك التعليم.
والجواب على هذا الرأي لأبى هاشم :
- عن الأول : أنه لم لا يجوز أن يقال : يخلق الله لعلم الضروري بأن واضعا وضع هذه الأسماء لهذه المسميات,من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس؟ وعلى هذا فلا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة.
- وعن الثاني : لم لا يجوز أن يقال : خاطب الملائكة بطريق آخر,بالكتابة ؟ وغيرها.
- وعن الثالث : لا شك أن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم,فكفى ذلك في إضافة التعليم الى الأسماء.
ثم إن هذه النظرية في تحديد أصل المعرفة أو اللغة – نظرية المواضعة أو الاصطلاح – ليس لها سند عقلي أو نقلي أو تاريخي,بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظام الاجتماعية.كما أن ما يجعله من قبل.وفضلا عن هذا كله,فإن هذه النظرية تغفل المشكلة الرئيسية التي تهمنا في هذا البحث,وهي المعرفة في منبعها البعيد,وليس المعرفة أو اللغة وكيفية تحصيلها بعد ذلك.
3- وهناك نظرية ترى أن نشأة اللغة ترجع الى غريزة خاصة أو أستعداد فطري زود به الإنسان في الأصل,وكانت هذه الغريزة تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي أو معنوي بكلمة خاصة,كما أن غريزة التعبير الطبيعي عن الانفعالات تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة. وأنه بعد نشأة اللغة الإنسانية الأولى لم يستخدم الانسان هذه الغريزة فأخذت تنقرص شيئا فشيئا.و أصبح العلم بالنظر والاكتساب,والملاحظة والمعاناة والتجربة,الأمر الذي ليس من طبيعة الملائكة أن تعالجه .ففي آدم – بما أودع الله سبحانه فيه من قوى – قدرة على الترقي والاستزادة من المعارف بتوجيه ملكاته الى النظر في هذا الوجود وملاحظة الأسباب والمسببات,وربط العلل بالمعلولات,وقوله سبحانه \"وعلم آدم\" أي أودع فيه القدرة على البحث والنظر في الكشف عن خصائص الأشياء وعللها وأسبابها,وكلما عرف حقيقة وضع لها اسما تعرف به.
وهذه النظرية فاسدة كذلك:
- لأنها لم تحل مشكلة نشأة اللغة وأصلها,بل اكتشف بأن تضع مكانها مشكلة الغريزة الكلامية ,وهي أكثر منها غموضا.
- وهي من قبيل تفسير الشيء بنفسه إذ يفهم منها أن الانسان قد لفظ أصواتا مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة,وهذا ليس إلا تقريرا للمشكلة في صيغة أخرى.
- وإن غاية ما تثبته هذه النظرية هو وجود قدرة للإنسان أو غريزة على لفظ الأصوات وهذا ليس موضع الخلاف هنا.
كما أن تتمة هذه النظرية كما ذهب إليها السيد عبد الكريم الخطيب,تنحو الى جعل المعارف في أصولها استدلالية أو كسبية,بمعنى أنها قائمة على النظر والاستدلال.إذ لا ينحصر معنى قوله تعالى :\"وعلم آدم الأسماء كلها\" في أنه أودعه القدرة على البحث والنظر ومن ثم فالعلوم الاستدلالية لأنه لابد للنظر حتى ينتج من معلومات سابقة ضرورية.
- وهناك نظريات أخرى كنظرية المحاكاة أو التطور,تلك النظرية القائلة بأن اللغة الإنسانية في أصلها ناشئة من الأصوات الطبيعية أو من التطور الطبيعي للانفعالات وأصوات مظاهر الطبيعة.فأخذ الإنسان يستعين بالإشارات اليدوية والحركات الجسمية,ثم تطورت وسائل التعبير عنده وارتفعت شيئا فشيئا,تبعا لارتقاء الحياة العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة الى أن وصل التطور الى مرحلة النطق الإنساني,مع تطور في العلاقات بين اللغة والأشياء.ويرجح د. وافى هذه النظرية وكأنه مؤمن بنظرية التطور والنشوء والارتقاء.ونخالف د.وافى في ذلك :
- لأن هذه النظرية قائمة على نظرية التطور,وفساد نظرية التطور معروف على ألسنة الداروينيين أنفسهم.وهي مخالفة لما نص عليه اليقين القرآني من أن الله سبحانه خلق الانسان في أحسن تقويم كما في قوله سبحانه :( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ).وخلقه وخاطبه بلغة ناضجة,وكان عقله ناضجا منذ أن خلقه,وذلك لأنه خلق من أجل الخلافة على وجه الأرض مكلفا وعابدا لله سبحانه,ولا أهلية للخطاب الشرعي والتكليف الرباني,مالم يكن هذا الانسان متمتعا منذ أول يوم خلق فيه بكامل خلقته وتكوينه العقلي والنفسي واستعداده المعرفي.
- كما أن اعتماد د.وافى في ترجيح نظرية التطور على تطور لغة الطفل لا يعد دليلا على ذلك.وإنه يعمم ظاهرة ارتقاء الطفل في تكوين لغته على النوع الإنساني,وهذا التعميم ليس علما ولا سند له.ذلك أن هذا الطفل تتقدم لغته ويتطور عنده النمو اللغوي الخاضع لنمو عقلي وعضوي لأعضاء النطق,وضمن أبعاد اجتماعية وفكرية,ولكن هذا لا علاقة له بنشأة اللغة وأصلها,بل \"إن الأطفال لا يعلموننا,إلا كيف تحصل لغة منظمة,ولا يعطوننا أية فكرة عما كان عليه الكلام عند أصل نشوئه,فحينما نلاحظ المجهودات التي ينفقها أحد الأطفال ليعيد ما يسمعه مما يقال للمدركين,فإننا نلحظ أكثر من علامة دالة على أسباب التغيرات التي يتعرض لها الكلام.ولكن الطفل لا يؤدي إلا ما قيل أمامه,فهو يشمل بالعناصر التي يمده بها من حوله,ومنها يركب كلماته وجمله,إنه يقوم المحاكاة لا الخلق \".
\"أن الله علم آدم الأسماء كلها,أي علمه اللغة وما وضعت بإزائه من معان,فاللغة في أصلها تعليم والمعرفة في أصلها تلقين,ويكفي هذا المعنى للتوقيف.وكون أبي هاشم يعتبرها اصطلاحية على رأيه قبل التعليم,فنحن لا شأن لنا باللغة والفكر قبل خلق آدم عليه السلام,لأننا نتحدث عن المعرفة الإنسانية في منبعها البعيد الذي يبدأ من خلق آدم وتعلمه.والمعاني ثابتة ولكن لا مانع بعد ذلك من أن يصبح اشتقاق واصطلاح في اللغة لتدل على تلك المعاني الثابتة التي كانت الأسماء مسميات لها.ومن هنا نرى سر اختلاف اللغات واللهجات مع عدم الاختلاف في المعاني نفسها.ولعل في رسالات الأنبياء المتواصلة ما كان يوحد بين اللغة وبين ما تدل عليه من معان سابقة,فينزل الله سبحانه كتبا بلغات مختلفة تعبيرا عن المعاني النفسية الثابتة التي لا تخضع لتغير اللغة أو الألفاظ .ولهذا فإن الله سبحانه لما اقتضت حكمته أن يجعل الاسلام دينا عاما شاملا خالدا,أوقف اللغة العربية بألفاظها على تلك المعاني النفسية الثابتة متمثلة جميعها في القرآن الكريم,واقتضت حكمته أن تثبت اللغة في دلالتها على المعاني,وتكفل سبحانه بحفظ الذكر الذي هو القرآن ألفاظا ومعان,كما قال سبحانه :( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وبذا فإننا حينما نقول إن منبع اللغة التعليم,إنما نرد على من ادعى انفصال المعرفة البشرية عن الله سبحانه,وجعلها من وضع البشر وبا صطلاحهم وتواطئهم,ومن ثم تتغير المعاني والألفاظ فلا استقرار ولا ثبات للمعرفة – على رأيهم - .
وبعد أن أثبتنا أن أصل اللغة والمعرفة تعليم لا ضير من أن يقول :إنه لا مانع أن يراد بالتعليم كلا معنيية التلقين وخلق العلم الضروري والقوة الناطقة.ولا مانع أيضاً من أن تكون بعض هذه المعرفة بما أودع الله في الانسان من القدرة والاستعداد الفطري, وأن منها ما يرجع الى أوائل الحس وبداهة العقل,ولكن المعرفة النظرية أو الكسبية لا بد أن ترجع الى المعلومات السابقة.ولا مانع من أن يكون حصل ذلك كله آدم عليه السلام ثم نالت ذريته من ذلك كله,ولذا فإن استعمال حرف العطف \"ثم\" الذي يدل على التراخي والمهلة ربما يفيد أن آدم عليه السلام قد تعلم بهذه الطرق كلها : التلقين والتعليم والحس والبداهة العقلية,والكسب.ثم الوحي,وهو طريق من طرق المعرفة منفصل وخاص بالأنبياء دون الناس,فالله سبحانه \"علمه بخطاب الوحي مالم يعلمه بمجرد العقل \".

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

صلاة ألف ركعة
العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول اليوم
في رحاب نهج البلاغة – الأول
حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)

 
user comment