عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

المجتمع المدني في الفكر الاسلامي

 

من المعقولات الأساسيّة لكلِّ إنسان مهما تكن عقيدته وفكره السياسيّ والاجتماعيّ هو الايمان بالحرِّيّة والأمن والعدل والسّلام وتكافؤ الفرص والحقوق ومبدأ التعاون والتعايش .
فالانسان لو خُلِّي وعقله الطبيعي الفطري لما كانت هذه المبادئ إلاّ من المسلّمات الفطريّة لديه ، وأحكام العقل الطبيعي السّليم يتوافق عليها العُقـلاء بما هم عقلاء ; بغضِّ النظر عمّا يكون لديهم من عقل صناعي كوّنته التربية وعمليّات التحصيل والتجارب الخاطئة والمصيبة .
وقد بحث علماء الاسلام من متكلِّمين وفلاسفة واُصوليين وفقهاء مسألة العقل وأحكامه بشقّيها : العقل العملي ، والعقل النظري والسِّيرة العقلائية .. وما انتهى إليه الفكر الاسلامي في مدرسة الشيعة الإماميّة ( أتباع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عليّ وبنيه ) ، من الإيمان بأنّ ما يحكم به العقل يحكم به الشّرع ، وما يحكم به الشّرع يحكم به العقل تحت عنوان التحسين والتقبيح العقليين (الذّاتيين) بمعزل عن الشرائع والأديان .
فإنّ العقل يدرك بطبيعته ـ مستقلاًّ عن الشّرع ـ حُسن العدل والأمن والنِّظام والصِّدق والحُبّ والتعاون والحرِّيّة ، وقُبح الظّلم والفوضى والعدوان والاضطهاد ... إلخ .. وهو المسمّى في مصطلح الفلاسفة والمتكلِّمين بالعقل العمليّ ..
وهكذا نفهم أنّ المفاهيم الكلِّيّة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموصوفة بالحُسن والقُبح، مسألة يدركها العقل البشري ، بما هو عقل بشري ، بغضّ النظر عن العقيدة والمبادئ ، وهو يتطابق في إدراكاته مع الشّرع .. لذا فإنّ الكثير من المفاهيم الكلِّيّة لبناء المجتمع الّتي اصطلح عليها البعض بالمجتمع المدنيّ ، هي من مدركات العقل ; لذا فهي تتطابق مع أحكام الشريعة ، وحين يدخل العقل المكتسب ، أو العقل الصناعي ، الّذي كوّنته المعرفة النظرية المكتسبة من البيئة والتعاليم ... إلخ ; لتشخيص بعض المفاهيم ، يبدأ الخلاف ، كالقناعة بإلغاء دور الدولة ، واشتراط العلمانيّة ، وأمثالها .
ويزوِّدنا التأريخ بمثال رائع في مجال إدراك العقل البشري لما هو حَسن وقبيح ، وتطابق الشريعة معه ، وهو حلف الفضول الّذي اُسِّس في الجاهليّة قبل الاسلام لنصرة المستضعف والمظلوم من السّلطة المتحكِّمة في المجتمع آنذاك ، وإنقاذ حقّه .. فهو تحالف اجتماعي (مؤسّسة اجتماعية) لنصرة الحقّ والوقوف بوجه الظّلم ، والدِّفاع عن حقوق الانسان، والحفاظ على الأمن .. فشارك فيه الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند عقده وإنشائه ، وأثنى عليه بعد مجيء الاسلام ، واعتبره إنجازاً عظيماً .
ومن هذا التقديم الموجز يتّضح لنا أنّ بناء مجتمع إنساني على اُسس المشتركات العقليّة هو من مدركات العقل، كما هو من مقرّرات الشريعة..
فالإسلام بنصوصه الشرعيّة وبدعوته إلى العمل بمشخّصات العقل الطبيعي السّليم يدعو إلى بناء مجتمع يسوده العدل والأمن والقانون وتكافؤ الفرص ، وتحفظ فيه حقوق الانسان وحرِّيّاته ، ويعمل أفراده ومؤسّساته على أساس التعاون .
والتشريع الاسلامي بطبيعته يفصل بين تقرير المبادئ وآليّات التنفيذ ، فهو مثلاً يدعو إلى حرِّيّة الانسان وسيادة القانون والتعاون والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي يُبرِز دور الاُمّة كقوّة سياسية واجتماعية إلى جانب دور الدولة .. ولكنّه لا يحدِّد اسلوباً معيّناً ، ولا يفرض آليّة خاصّة للتنفيذ; بل يدعو إلى أفضل الوسائل المُتاحة للإنسان المخاطَب . وعندما يجد الانسان أنّ أفضل وسيلة لتنفيذ تلك المبادئ والمفاهيم هي آليّة المؤسّسات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاصلاحية لحماية حقوق الانسان وحرِّيّاته وصيانتها من اضطهاد السّلطة وتجاوزها على المبادئ والحقوق والقيم ..
والمؤسّسات الاجتماعية والثقافية والمهنيّة والسياسية ، سواء الدستورية والقانونية ، أو مؤسّسات حقوق الانسان والدِّفاع عنه أو الأحزاب والجمعيّات ... إلخ .. إنّما تقوم في الشريعة الاسلامية على مبدأين أساسين دعا لهما القرآن ، وهما مبدأ التعاون ، ومبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .
ولقد أوجب القرآن عمليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في العديد من آياته ، كما دعا إلى التعاون على البرِّ والتّقوى ، واعتبر ذلك من الأعمال المقرِّبة إلى الله تعالى .

 

المجتمع المدنيّ في ظلِّ الاسلام

تفيد الدراسات والأبحاث العلميّة والملاحظة الميدانيّة، والإحساس الوجدانيّ أنّ الحالة الاجتماعية غريزة متأصِّلة في ذات الانسان ، فكما هو فرد يشعر بالأنا المستقلّة ، كذلك تشدّه غريزة الاجتماع إلى العيش مع الجماعة ، وتكوين الحياة الاجتماعية ..
فالفرد خُلِقَ ليعيش ضمن حياة جماعيّة ، وذلك لأنّ الأفراد المتكاثرين لا يمكن أن يعيشوا في إطار منظومة اجتماعية موحّدة .. تدفع الانسان إلى تلك الضرورة الدوافع الغريزية ، كما يدفعه إلى ذلك الاحساس بالحاجة إلى الجماعة وتبادل المنافع ..
ولقد تكوّنت حياة الانسان الفكريّة والحضارية والمدنيّة في ظلِّ المجتمع وفي إطار الجماعة، لأنّ ما لدى الانسان من حضارة وموجودات وعلوم وتقنيّة بشريّة هي نتاج التكامل بين الجهود والطّاقات والامكانات والخبرات والعقول البشريّة عبر تأريخ وجودها .
أي هي نتاج مبدأين أساسين ، كما يوضِّح القرآن ، هما :
1
ـ مبدأ التعاون ، 2 ـ مبدأ التسخير (16).
ففي مبدأ التعـاون يبرز الاحساس بالوعي الاجتماعي ، كما يبرز العنصر الأخلاقي في مجاله الاجتماعي ، الّذي قد يعطي فيه الفرد ولا يأخذ ، أو قد يعطي ويأخذ ، فليس المنظور في التعاون حجم الرِّبح الشخصي، بل المنظور فيه صنع موضوع نافع وبنّاء عن طريق التعاون، قد يشعر البعض فيه بالخسارة ، ولكن هذه الخسارة معوّضة تعويضاً .. ويشكِّل الايمان بالآخرة والجزاء الاُخروي المحفِّز الأكبر في سلوك الانسان المؤمن ، فهو ينفق ماله ويضحِّي بنفسه وراحته من أجل أن يكسب مرضاة الله سبحانه ، حسب الفهم الإيماني .. فالتعويض المادِّي يتلقّاه الفرد من المجتمع في هذه الحالة بطريقة غير مباشرة ، أي من غير عوض مباشر على جهده التعاوني الخاص بالموضوع المتعاوَن عليه، بل يتلقّاه من مواقع اُخرى من خلال وجوده الاجتماعي . فالمجتمع كما يأخذ منه بهذه اليد يعطيه بيد اُخرى . فهو يتلقّى من المجتمع الأمن والتربية والرّعاية وتوفير الخدمات التّي لم يبذل جهداً مباشراً فيها . فقد ولد في مجتمع مكتمل البناء : الطّرق والجسور والسدود والمدارس والأسواق والمغروسات والحيوانات والمصانع والمستشفيات وأرصدة الدولة ووسائل النّقل والعلوم والمعارف ... إلخ .. وكلّها جهود الآخرين لم يُشارك هو في تأسيسها ، بل ولدت قبله ، فوجد نفسه منتفعاً بها ووارثاً لها ..
وما أصدق الحكمة القائلة : «زرعوا فأكلنا ، ونزرع فيأكلون» .
وكم هو دقيق تصوير الشاعر العربي لتبادل المنافع حين قال :
الناس من بَدو ومن حَضر بعـ***ـض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فالبناء الاجتماعي في حقيقته عبارة عن منظومة من العلاقات والمنافع المتبادلة .. قد تجسّد الكثير منها في مشاريع ومؤسّسـات اجتماعية كالاُسرة والسّوق والسّدود والمدارس والمحاكم والمستشفيات والبرلمان والحزب والسّلطة والقانون والجمعيّة والشركة والمصنع ... إلخ .
لذا نجد القرآن يدعو إلى التعاون بقوله :
(...
وَتَعاوَنُوا على البِرِّ والتّقْوى وَلاَتَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوان... ).( المائدة / 2 )
ويشرح مبدأ التسخير بقوله :
( ...
وَرَفَعْـنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجات لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّا ... ). ( الزّخرف / 32 )
ليوفِّر الوعي المدني والاجتماعي للإنسان ، فيفهم أنّ الحياة الجماعيّة حياة تكامليّة ، وأنّ اللِّياقات والقابليّات والجهود مختلفة .. وهي عندما تتفاعل وتتبادل يحصل التكامل .
فالحياة الاجتماعيّة والشكل المدني المتحضِّر للمجتمع هو عبارة عن وحدة متكاملة من الجهود والمواقف السلوكيّة ، يختار الانسان آليّات التنفيذ المناسِبة للظّروف والإمكان والمرحلة ومستوى الحياة الاجتماعيّة التي يحياها الانسان .

 

 

المجتمع المدني في ظلِّ المفهوم الاسلامي

بعد أن اتّضحت لنا التعاريف المتعدِّدة والمختلفة ، بل والمتناقضة أحياناً للمجتمع المدنيّ في المفهوم المادِّيّ .. نعود هنا فنوضِّح أنّ هناك مسألتين أساستين في هذا المجال ، ينبغي أن نعرِّف بهما :
1
ـ مسألة الإسم والمصطلح .
2
ـ الاُسس والمبادئ والمفاهيم التي يُبنى عليها هذا المجتمع ..
ودراسة نشوء المصطلح والمفهوم الّذي اُسـتُفيدَ منه تدلّنا على أنّ هذا المصطلح ولدت أوليّات تسميته على يد الفلاسفة اليونانيين عندما بدأت المناداة بمجتمع المدينة ; ليكون البديل لمجتمع البداوة والقرية والعشيرة ..
فهو في تلك الفلسفة يعني المجتمع الّذي ينظِّمه القانون ، وله سلطة ، وتُقسّم فيه الأعمال والمسؤوليّات ، وهو مجتمع متحضِّر يسير وفق نظريّة فلسفيّة .
وفي العصر الأوربي جاء مفهوم المصطلح المدنيّ كمرادف لمفهوم المجتمع السياسي منطلِقاً هذا المفهوم من فلسفة تحليل المجتمع ونشأة الدولة .. فقد رأت هذه النظرية التي لم تستطع أن تصمد أمام النّقد الموجّه إليها .. رأت أنّ الانسان كان يعيش حياة الفطرة والغريزة في المجتمع البدائي الأوّل في مجتمع طبيعي تنظِّمه قوانين الطبيعة ، وهو قائم على أساس الحرِّيّة ، من غير أن تكون هناك دولة تنظِّم نشاطه أو قانون يضعه الانسان . فهو مجتمع حرّ يسير وفق قوانين الطّبيعة .. كما تسير حياة الطّيور والحيوانات .
وعن طريق العقد بين أفراده ولدت الدولة للحفاظ على حالة الحرِّيّة الطّبيعيّة والحقوق الطّبيعيّة ، وتخليص الانسان من حالة العدوان التي أخذت تهدِّد الحرِّيّة وحالة الطبيعة .. ومع ولادة الدولة ولد المجتمع السياسي الّذي تديره الدولة ، وولدت القوانين السياسية .. وهكذا انتقل الانسان من المجتمع الطّبيعيّ إلى المجتمع السياسيّ ـ وفق هذه النظريّة ـ .
وهذا يعني أنّ الدولة والمجتمع السياسي (المدنيّ) ولدا نتيجة العقد بين أفراد الجماعة .
لذا فانّ تدخّل الكنيسة والدِّين في السّلطة وحياة المجتمع هو مصادرة لحرِّيّة الانسان وحقوقه الطّبيعيّة التي تمّ التعاقد على الحفاظ عليها في المجتمع السياسيّ أو المدنيّ ..
وإذاً فالمجتمع المدنيّ هو المجتمع الّذي يفصل فيه الدِّين عن السِّياسة، ويقوم على أساس نظريّة العقد الاجتماعي في حياته السِّياسيّة وفق الفهم الأوربي للمجتمع والدولة.وعلى أساس هذه النظريّة بُني المجتمع البرجوازي الأوربي،ومن ثمّ المجتمع الرأسمالي..
وإلى جانب هذا الفهم كان هناك الفهم الديالكتيكي للمجتمع المدنيّ الّذي نادى به هيجل ، والّذي أعطى الدولة دوراً كبيراً في حياة المجتمع المدنيّ وفق نظريّة مثاليّة .
أمّا ماركس فكانت له فلسفته لبناء المجـتمع المدنيّ ، وتقـوم على أساس هدم الدولة والاُسرة والمُلكيّة الخاصّة والدِّين ، وبناء المجتمع المشـاعي الّذي لا دين فيه ولا دولة ولا اُسرة ولا ملكيّة ، كما كان المجتمع البدائي الأوّل ، ولكنّه حسب رأيه مجتمع علميّ ينظِّمه العلم . كما كانت هناك نظريّات ماركسيّة تعديليّة ; كنظريّة غرامش الماركسي الإيطالي وغيره لهذه النظريّة .
وإذاً فمصطلح(مجتمع مدنيّ)هو اسم لمجتمع تختلف قيمه وفلسفته ونظريّة بنائه من فلسفة إلى اُخرى.
وهكذا اُطلِقَ إسم مصطلح مدنيّ كمساوي لمصطلح مجتمع سياسي، وهو مقابل للمجتمع الطبيعيّ .. ثمّ استعمل كاسم مجتمع لا دور للدِّين فيه .. متصوِّرين أنّ هناك قوانين دينيّة واُخرى مدنيّة ، وأنّ القوانين الدينيّة (الكنسيّة) لا تتّفق والحياة المدنيّة ; لذا يجب التخلّص منها ، وتشريع قانون مدنيّ لمجتمع مدنيّ ..
والفهم ، كما نرى ، منتزع من فهم الدِّين من خلال الكنيسة الّذي كان يعني التخلّف والخرافة ومحاربة العقل والعلم .. وفرض سلطة سياسيّة كنسيّة تدّعي تمثيلها لله في الأرض .. ونتج عن ذلك أن صودِرَت حرِّيّة الانسان ودوره في صنع قراره السياسي ، وأصبحت سلطة البابا والملكيّات المطلقة فوق إرادة القانون والشّعب .
ويهمّنا أن ندرس هنا الفهم الاسلامي لبناء المجتمع المدنيّ . وتوضيح القيم والمبادئ التي يُبنى على أساسها المجتمع في الاسلام .

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشيخ هادي السبزواري
مبادئ المعرفة ومعرفة الوجود والإنسان لدى الإمام ...
أعمال الليلة الاولى من شهر رمضان المبارك
خصائص الأسرة المسلمة
مؤتمر مبلغي المجمع العالمي لأهل البيت (ع) في ...
الحُضور في مواضع التهم
إصدار كتاب "ضوابط الاصول" في 6 مجلدات
الجزع على الميت
ابن حجر و التوسّل
من هم المخلدون في النار؟

 
user comment