عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

بواكير الفكر التأريخي الإسلامي في عصر الراشدين


ليس أدل على نقلة الفكر التاريخي ـ بفضل الإسلام ـ مما حدث بالفعل في عصر الراشدين من الاهتمام بالتاريخ كموضوع وتطور تقنية تناوله. فمن حيث الموضوع ظهرت مباحث ثلاثة، الأول منها يتعلق بدراسة سيرة الرسول ومغازيه، والآخران يختصان بدراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي. ويخطئ بعض الدارسين حين يتصور أن الفكر التاريخي آنئذ كان فكراً دينياً قحاً غايته خدمة الحديث والفقه، بل لا يخفف من الخطأ تصنيف البعض الآخر هذا الفكر صنفين: الأول ديني، كما هو الحال بالنسبة للسيرة والمغازي، والثاني دنيوي متمثل في القصص العربي القديم والتراث القبلي.
والصواب ـ فيما نرى ـ أن كل موضوعات التاريخ ـ وبالتالي فكرة التاريخ ـ كانت ذات طابع دنيوي، فسيرة الرسول ومغازيه ليست إلا أحداثاً ووقائع حدثت على مسرح التاريخ، هذا فضلاً عن أن الاهتمام بدراستها ودراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي جرى لخدمة أغراض عملية دنيوية. وإذ اختلطت موضوعات التاريخ بغيرها من الموضوعات الأخرى كالحديث والفقه، فالثابت أن جهود المحدثين والفقهاء كذلك كانت تحركها حوافز حياتية، سياسية واقتصادية واجتماعية.
وتكمن تلك الحوافز ـ التي كانت من وراء النشاط الفكري عموماً ـ في محاولة الخلافة ـ وخاصة في عهد عمر ـ مواجهة المشكلات العديدة التي نجمت عن اتساع الدولة الإسلامية بعد الفتوح، وإقرار نظم وتشريعات تكفل إدارتها. كانت جميع المشكلات وطرائق إيجاد حلول لها ذات طابع دنيوي، ولعل من أهمها المسائل الإدارية والمالية، وأوضاع أهل الذمة، وتحديد العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام .. إلخ. ولا غرو فقد جاء التشريع متسقاً مع طبيعة تلك المشكلات، حيث أقر الخليفة عمر التنظيمات الموجودة كافة وأبقاها على حالها، مجتهداً في تأويل الشرع بما يجاري ويساير الواقع.
كما استجدت مشكلات متعلقه بالعرب أنفسهم، كانت جذورها تضرب في عصر ما قبل الإسلام، وإن اكتسبت في ظل الحكومة الثيوقراطية صبغة جديدة، أعني الصراعات والسخائم القبلية التي أعيدت صياغتها في شكل تيارات حزبية سياسية واجتماعية، احتوت العصبية القبلية في باطنها.
قصارى القول ـ إن تلك المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها أصبحت موضوعاً للتاريخ الإسلامي، فاتسعت دائرة مباحثهِ باتساع الإمبراطورية التي احتوت شعوباً أخرى غير العرب، وبديهي أن يحتوي موضوع التاريخ فضلاً عن تراث العرب، تراث الشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام.
وبديهي أيضاً أن يؤدي تشعب هذه الموضوعات إلى نوع من التخصص في معالجتها، وهذا يفسر اهتمام البعض بسيرة الرسول ومغازيه، والبعض الآخر بالتراث القبلي، وقطاع ثالث بالقصص العربي القديم. وساعد على ذلك التطور التقني المتمثل في وضع التقويم الهجري. ومعلوم أنه أنجز في خلافة عمر، وكان له أبعد الأثر في خدمة المهتمين بالأخبار، حيث أصبح توقيت الحوادث أو تأريخها العمود الفقري للمباحث التاريخية.
وسنحاول عرض ما أنجز من جهود في الميادين الثلاثة التي تشكل عصب بواكير التاريخ الإسلامي، متتبعين خيوط الجانبين الفكري والتقني في ضوء المعطيات السوسيولوجية لتلك الحقبة.
أولاً ـ السيرة والمغازي:
يصر الدارسون على أن نشأة هذا النوع من المعارف التاريخية كانت دينية قحة، على أساس أنها تمركزت في المدينة من ناحية، وارتبطت بدراسة الحديث من ناحية أخرى. نعود لمناقشة هذا الرأي فنقول بأن ظهورها في هذا العصر في المدينة أمر طبيعي، نظراً لقيام الدولة العربية الإسلامية في عصر الرسول في المدينة، التي ظلت عاصمة للعالم الإسلامي طوال عصر الراشدين، وبالتالي أقام فيها صحابته وتابعوه العالمون بسيرته والمشاركون في مغازيه.
فلما انتقل مركز الثقل خارج الحجاز، جرى الاهتمام بتراث الرسول من قبل رواة وإخباريين في جميع الأمصار كالعراق والشام ومصر.
أما عن مقولة الارتباط بعلم الحديث، فقد سبق إيضاح أن الاهتمام بعلم الحديث وغيره من العلوم التي اصطلح على تسميتها بالعلوم الدينية، جاء لخدمة أغراض عملية وبالذات في التشريع. وهو الهدف نفسه الذي دفع إلى الاهتمام بسيرة الرسول ومغازيه، أي الاسترشاد بها في تقرير السياسة، أو القياس عليها في المشكلات المستحدثة بعد الفتوح، كتنظيم العطاء ومعاملة الشعوب في البلاد المفتوحة، إقتداء بسنن الرسول في هذا الصدد. فالضرورة العملية إذن هي الحافز الأساسي لظهور رواة السيرة الرسول ومغازيه، وليس السبب ـ كما تصور البعض ـ ((روايتها كموضوعات محببة في مجالس السمر)) أو لمجرد ((الاهتمام بها لذاتها باعتبارها تراثاً مقدساً)).
إن القيمة الحقيقة لهذا التراث تبرز في كونه مرتبطاً بتاريخ الأمة برمتها، لذلك لم يقتصر رواته على الإلمام بحياة الرسول ودوره في المغازي فقط، إنما رووا تاريخاً لفترة الرسالة بكاملها، وأحاطوا بكافة أدوار أعلام الإسلام ومآثرهم في صنع هذا التاريخ، هذا فضلاً عن تقديم صورة جلية لقوى المعارضة، ليس فقط في موقفها من الدعوة، بل لأطوار حياتها قبل ظهور الإسلام أيضاً.
وليس أدل على سوسيولوجية هذا النوع من المعرفة التاريخية من اختلاف الرواة ـ رغم كونهم مصادر للأخبار ـ اختلافاً عبّر عن مواقف التيارات السياسية التي انتموا إليها. فأُبان ابن عثمان بن عفان (ت 95هـ ) كان عثماني الهوى، ومشايعاً للأمويين فيما بعد، يستدل على ذلك من رواياته ـ التي نجد نصوصاً منها عند اليعقوبي ـ في تبجيل عثمان وإظهار مآثر معاوية ككاتب من كتاب الوحي. أما عروة بن الزبير (ت 94هـ ) الذي عاصر الراشدين وفترة من الحقبة الأموية، فبديهي أن تتأثر رواياته ـ التي نجد بعضها عندا لطبري وابن كثير ـ بميوله للأرستقراطية الثيوقراطية، ولا غرو فقد ((كان شديد الاغترار بنسبهِ)). فلما فقدت طبقته مكانتها ـ بانتقال الخلافة إلى علي ـ ضرب صفحاً عن السياسة، وهجر المدينة إلى مصر، وانصرف لتحصيل العلم، فلما آل الأمر لبني أمية اتصل بهم حيناً ثم اعتزلهم ((وكان رأيه اعتزال أهل الجور))، ثم خرج من عزلته مناصراً أخويه عبدالله ومصعب، حتى إذا ما فشلت حركتهما، تصدى للتنديد ببني أمية. ذكر البلاذري أنه كان يحض المصريين على الثورة ورأى فيهم ((مجاهيد قد حمل عليهم فوق طاقتهم)).
أما عن مناهج رواة السيرة والمغازي الأُوَل، فإن النصوص القليلة المتناثرة في كتب التاريخ لا تكفي لتحديد طرائق رواياتهم، بل من الخطأ اعتبارهم رواة للأخبار لأنهم كانوا مصادر لها، إذ عايشوا معظم الأحداث وعاينوها. أما تلك التي استقوها من الصحابة فقد أوردوا أسانيدها. وتلمح بعض الإشارات إلى اطلاعهم أحياناً على وثائق مكتوبة. والروايات الخاصة بمرحلة ما قبل الإسلام لا تخلو من بصمات التأثر بأيام العرب. كما تلونت رواياتهم عن الحقبة التي عاشوها بلون انتماءاتهم السياسية وأوضاعهم الاجتماعية، وفي ذلك كله دلالة على صدق مقولة سوسيولوجية الفكر حتى لو تعلق الأمر بسيرة الرسول وكبار صحابته.
ثانياً ـ التراث القبلي:
يقصد بالتراث القبلي الأخبار المتعلقة بالقبائل العربية وأنسابها سواء قبل أو بعد ظهور الإسلام. ولقد حاول الرسول وضع حد للعصبية القبلية، وإحلال مبدأ الأخوة الإسلامية محلها، لكن بعد وفاته عاودت العصبية أدراجها فيما عرف بحركة الردة. وبرغم قمعها دون هوادة ظلت تمارس فعالياتها بشكل سافر حيناً ومستتر وراء التيارات الاجتماعية المتصارعة حيناً آخر. بل ظلت بصماتها واضحة فيما جرى من تنظيم الدولة العربية الإسلامية بعد حركة الفتوح الكبرى في الشام والعراق ومصر، فكانت القبائل تشترك في الجهاد تحت رايتها، وتوزيع العطاء جرى على قواعد وأسس قبلية، والهجرات العربية إلى الأمصار ظلت وثيقة الصلة بالأصول القبلية، واختطاط المدن الجديدة وسكناها سار على الوتيرة نفسها، فكان لكل قبيلة خططها وأحياؤها.
لذلك تواجدت أصداء النمط القبلي البطريركي في صدر الإسلام جنباً إلى جنب النظم الإسلامية المستحدثة، وإن دل ذلك على شيء فعلى صدق القاعدة السوسيولوجية بأنه في التحولات التاريخية الكبرى لا تختفي أنماط الإنتاج القديمة تماماً، إنما تظل تمارس وجوداً وفعالية تتراوح قوة وضعفاً بمدى ترسيخ النمط الجديد وإقراره.
على كل حال ـ شكلت الفعاليات القبلية في صيغتها الجديدة، وفي ظل النظام الإسلامي موضوعاً أساسياً من موضوعات التاريخ، بحيث اختلطت بتاريخ الأمة بأبعاده الواسعة. فلم يقتصر اهتمام الرواة على أنساب القبائل وتراثها قبل الإسلام فحسب، إنما انصب بالدرجة الأولى على تقصي فعاليتها في الحركة الإسلامية المتطورة داخل شبه الجزيرة وخارجها. وليس أدل على ذلك من ظهور أولئك الرواة في البلاد المفتوحة، وخاصة في العراق، وبالذات في مصري الكوفة والبصرة اللذين كانا مركزين للتجمعات العسكرية، تنطلق منهما شرقاً وغرباً لإتمام حركة الفتوح.
ومن هنا يمكن القول بأن الفكر التاريخي المتعلق بالتراث القبلي اتخذ مفهوماً مغايراً لما كان سائداً قبل الإسلام، فقد تشعبت موضوعاته واتسعت دائرته لتناول أخبار القبائل في حياتها الجديدة. كما تأثرت مناهج الرواة بمعطيات الماضي وخاصة بطرائق النسابة، ومستحدثات الواقع الجديد، حيث اعتمدوا في كثير من الأحيان على وثائق مدونة كتلك التي حفظت في ديوان العطاء أو سجلات الجند. وسيصبح هؤلاء الرواة الأوائل مصدراً أولياً لمن جاء بعدهم من الإخباريين.
ثالثاً ـ القصص القديم:
ويقصد به التواريخ القديمة الخاصة بعرب الجنوب والأمم المجاورة، وهو ما رواه الرواة عن ملوك حمير، وما قصة أحبار اليهود وقساوسة النصارى وسدنة معابد النار الزرادشتية عن أخبار الفرس والروم. وكان الاهتمام بهذه الأخبار ـ كما نؤكد ـ ليس فقط لمجرد خدمة التفسير والحديث، بل لأن هذه الشعوب أصبحت شعوباً إسلامية تلعب دوراً فعالاً ـ وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والإداري ـ في تاريخ الأمة.
لذلك فإن أعلام رواة هذا التراث كانوا إما من اليهود والنصارى الذين أسلموا، أو من العرب اليمانية أو عرب الشمال الذين عاشوا في الحيرة وبلاد الغساسنة.
ونسمع فيما بعد عن قاصّين ذائعين في رواية تلك الأخبار، هما عبيد بن شريه ووهب بن منبه، ومعلوم أنهما استقيا معظم قصصهما من رواة عاشوا في عصر الراشدين مثل كعب الأحبار (ت 32هـ )، الذي كان يهودياً وأسلم وساح في مصر والشام قاصاً رواياته المتعلقة بأحبار اليهود، وتميم الداري الحجة في أخبار النصارى، والذي سمح له عمر ومن بعده عثمان برواية قصصه في مسجد المدينة، وعبدالله بن سلام (ت 40هـ ) الذي نحا نحو كعب الأحبار، وامتاز عنه بالدقة والتحري، وخاصة فيما يتعلق بأوضاع اليهود والنصارى في بلاد العرب قبل الإسلام.
وبرغم الطابع الأسطوري الذي غلف تلك الأخبار، فقد خدمت الفكر التاريخي في تلك الحقبة، إذ نبهت إلى ضرورة الاهتمام بالكتب المقدسة لغير المسلمين كمصدر من مصادر المعرفة، فضلاً عن طرح بواكير فكرة التاريخ العالمي التي تعد مأثرة من مآثر مؤرخي الإسلام فيما بعد، هذا بالإضافة إلى إدخال تقنية ((الحبكة القصصية)) في الأخبار التاريخية، للتخفيف من جفاف الوقائع وإكسابها مسحة من الطلاوه والتشويق.
هكذا شهد عصر الراشدين تحديد موضوعات علم التاريخ، والتنبيه إلى مصادره، ووضع بعض تقنياته. وكان ذلك كله جزءاً من ظاهرة ثقافية عامة أفرزها التطور الاقتصادي ـ الاجتماعي، أو إن شئت فقل: إن تطور الفكر التاريخي كان مرتبطاً بتطور الأساس السوسيولوجي.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في تقدم الشيعة في علم الصرف ، وفيه صحائف -2
تأملات وعبر من حياة أيوب (ع)
تاريخ الثورة -6
من مناظرات الامام الصادق(عليه السلام)
من خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله ...
الكعبة‌
صموئيل النبي (ع)
خطبة الإمام الحسين ( عليه السلام ) الأولى يوم ...
حقيقة معنى الانتقال من الأمويين الى العباسيين
خالد بن الوليد و الطوق في الجيد

 
user comment