عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

أهـل البيت (عليهم السلام) العصمـة من الضـلالة

  • مقدمة

المدخل الطبيعي لهذه الدراسة هو تفكيك مفردات العنوان المفترض، وتحديد دلالة كل مفردة على حدة، ومن ثم إعادة تركيبها لتعطينا تصوراً كلياً عن القضية المبحوثة، بحيث يمكننا من اختبار الفرضية؛ إثباتاً أو نفياً. إذ من نافلة القول أن المفردات المذكورة وإن كانت في إطارها اللغوي تحتفظ بدلالة يمكن دعوى الاتفاق عليها، إلا أنها في إطارها المعرفي تتسم بالاختلاف طبقاً لاختلاف المدارس في مبتنياتها الفكرية والفلسفية. وهذا يعني أن أول ما يجب القيام به هو تحديد مفاهيمي، يتجاوز الإطار اللغوي؛ للبحث في المفردة على مستوى المفهوم والإشكالية.

  • تحديد المفاهيم

لعل من الجيد جداً بل ومن الضروري الرجوع إلى أهل لغة معينة لمعرفة دلالة مفردة معينة على معنىً، والتوفيق يحالف الباحث كثيراً إذا ما أراد البحث في مفردات لغوية ترتبط بأمور خارجية كانت متداولة عند أهل تلك اللغة قديماً، لأن سيجد في كتب لغوييهم ما يشير إلى معنى المفردة عندهم، كالبحث عن دلالة لفظة «مِغْفَر» في اللغة العربية؛ ليجد ـ بعد البحث ـ أنها آلة تصنع بكيفية خاصة للتدرع في الحرب، توضع على الرأس. لكن التوفيق لن يحالف الباحث كثراً عندما يريد البحث في مفردات لا ترتبط بأمور معاشية خارجية استعمالية، بل هي مرتبطة بمسائل معنوية تحمل في طياتها مفهوماً يتضمن رؤيةً معرفيةً ذات خلفيةٍ فلسفيةٍ معينةٍ تختلف باختلاف أنظارهم ومذاهبهم، كمفردة «الإيمان»، «الدّين»، «الغيب» . . . وغيرها.

وما نحن فيه، في إطار تحديد مفاهيم الدراسة من قبيل النوع الثاني، لأنها مفاهيم مبنائيّة أولاً، وتحمل في طياتها ـ وفقاً لمبناها ـ إشكاليات معرفية ثانياً.

  • [1]  الضلالة؛ المفهوم، الحدود، المرجعية.

المفهوم: مما لا يشك فيه أحد، ويعد من بديهيات الإنسان التي يدركها بوجدانه وجودُ الخير والشر في حياته، بحيث يسعى الإنسان بفطرته لبلوغ الخير ونيله، واجتناب الشر ونبذه، بل إن منشأ التقييم والمفاضلة والموازنة بين أمور الحياة المختلفة نتيجة اعتقاد الإنسان بوجود حدٍ أعلى يمثل الحسن والجمال والنفع، وحدٍ أدني يمثل القبح والفساد والضرر، بحيث يصنف فعلاً أو فكرةً أو شيئاً ما بأنه ضمن الحد الأعلى أو الأدنى.

ولا يهم في هذه الحالة وضوح أو غموض مفهوم الخير والشر لدى البشر، أو حتى اتفاقهم أو اختلافهم فيهما، إنما القضية الأساسية أن حالة البحث المستمرة لدى البشر تجاه الخير واجتناب الشر أمر لا شك فيه، لأن الخير ملازم للسعادة، والشر ملازم للشقاء.

وعندما يريد الإنسان الوصول إلى الخير فأنه يتخذ وسائلَ وطرقاً لمسيره، بحيث توفر له هذه الوسائل حدوداً تفصل الخير عن الشر على مستوى المفهوم، وفي الوقت نفسه على مستوى التطبيق، وهذه المعايير والمقاييس هي ما يعبر عنها  بـ«الهدى»، في حين أن ما يؤدي إلى الشر هو «الضلالة»، وبهذا يكون مفهوم «الضلالة»: أنها في مقابل «الهداية»، وهي الطريق الموصل إلى الشر والملازم للشقاء.

وههنا عدة حقائق في الإطار المفهومي:

1- ليست الضلالة والهدى أمران يبتغيان لذاتهما، بل هما عنوانين لطريق الخير والشر؛ حيث هما المطلوبان وذلك لأن الخير ملازم للسعادة؛ وهي غاية الإنسان، والشر ملازم للشقاء وهو ما يسعى لاجتبانه.

2- إدراك هذا المعنى «للضلالة» و«الهدى» أمر وجدانيّ، يجده كل إنسان في نفسه وفي الآخرين؛ منذ أن وجد الإنسان على الأرض وإلى اليوم.

3- في إطار إثبات هذه الحالة في الإنسان ـ السعي للخير وتجنب الشر واتخاذ الهدى واجتناب الضلالة ـ لا ندعي ـ في هذه المرحلة ـ مفهوماً محدداً مشخصاً للخير والهدى، والشر والضلالة، وإنما نثبت أصل الموضوع، لأن تحديد معنى الخير والشر وكيفية الوصول والاجتناب، تبقى مسألة مبنائيّة تعتمد على اجتهاد كل مدرسة فكرية في تحديد معناهما، وهذا يعني أن ما هو خيرٌ عند طرفٍ قد يكون شراً عند آخر، وما هو هدى قد يكون ضلالة ... وهكذا، لكن الذي لا يختلف عليه كل البشر أصل وجود الخير وابتغائه، والشر واجتنابه، وهذا ما نريد إثباته في هذه المرحلة في إطار تحديد مفهومَيْ الضلالة والهدى.

الحدود: بناءً على التأسيس السابق لمعنى الهدى والضلالة يتجلى لنا مدى استغراقهما في حياة الإنسان، بحيث يستوعبان كل تفاصيلها؛ ابتداء من الفكر وانتهاء بالعمل والنتيجة، بحيث لا تبقى هنالك منطقة فراغ واحدة في حياة الإنسان خارجة عن أحد عنوانَي الهدى أو الضلالة، فحتى بعض الأمور التي تبدو للوهلة الأولى أنها محايدة ولا تتصل بأي منهما إلا أنها في نهاية المطاف داخلة في إطارهما، وهذا ـ طبعاً ـ لا يلغي تفاوت الأمور في الخارج شدةً وضعفاً في انطباق أحد العنوانين عليهما، إذ بعض الأمور واضحة الدلالة في انطباق عنوان الشر عليها، كقتل النفس المحترمة عند معتقد حرمتها، وأداء نسك عبادي معين عند معتقد ضرورته لبلوغ الخير.

 لكن المحصل النهائي هو: استغراق عنوانَيْ الخير والشر في كل تفاصيل الحياة.

وهذا يجلي حقيقة أخرى وهي اتساع دائرة مفهومَيْ الهدى والضلالة من الدائرة الفردية الخاصة إلى الدائرة الاجتماعية العامة، حيث ما دام كل أمر من حياة الإنسان داخل في أحد العنوانين، لابد من أن تدخل الحياة الاجتماعية العامة ضمن أحدهما كما دخلت الحياة الفردية الخاصة، لأن ذات الأسئلة المصيرية تتكرر في مدى صلاحية هذا النظام الأسري المعين ـ على سيبل المثال ـ في تحقيق الخير واجتناب الشر، أو السياسي أو الاقتصادي أو التعليمي . . . الخ، وبعبارة أخرى مدى هديِِ هذا النظام إلى الخير، وإضلال ذلك نحو الشر.

المرجعية: من خلال التفسير السابق لمفهومَيْ الهدى والضلالة وحدوديهما، يتفرع سؤال آخر، هو البند الثالث ضمن المناقشة المفهومية، مفاده: إذا كان أمر الهداية والضلالة بهذا المستوى من الأهمية، فما هي المرجعية النهائية التي تحدد الهدى من الضلالة، بحيث توفر للإنسان الخلاص؟ وبعبارة أخرى: أي الأنظمة المعرفية هي التي تقدم النظام الهادي للسعادة على المستوى الفردي (الأخلاقي، النفسي . .) والاجتماعي (السياسي، الاقتصادي . .)؟

والحقيقة إن الإجابة على هذا السؤال متنوعة بقدر تنوع البشر بأفكارهم ومذاهبهم ومفاهيمهم، حيث قدّم كل طرف منهم مفهوماً خاصاً عن السعادة أولاً، ثم شرع في تأسيس أصولٍ ومناهجَ للوصول إليها ثانياً. فمنهم من حدد السعادة في إطار عالم الدنيا؛ خصوصاً بعد أن ألغى عالم الآخرة واعتبره ضرباً من الغيب الذي لا يمكن الحديث عنه، وآخرين اعتقدوا بوجود عالم آخر غير هذا العالم، وبالتالي جاوزوا معنى السعادة إلى ذلك العالم أيضاً، وهؤلاء هم أكثر البشر على مرّ التاريخ؛ إذ غالبية البشر مؤمنون.

 ولأن الدراسة غير معقودة لبحث تفاصيل هذا الموضوع؛ إذ للبحث فيه مجالات خاصة في علم الكلام والفلسفة. لكن الذي يهمنا من هذا البحث بما له دخل في إطار المناقشة المفهومية لمعنى الضلالة هو الحديث في إطار المؤمنين بالله ـ سبحانه ـ والمعتقدين بعالم الآخرة، وبالتالي مع الذي يؤمنون باتساع مفهوم السعادة لأبعد من عالم الدنيا، إذ أنهم جميعاً يؤمنون بوحدة المرجعية النهائية التي تحدد لهم سبل السعادة (الهداية) وهي «الدّين» لكنهم يختلفون في سعة دائرة هذه المرجعية أولاً، وانفرادها في عالم الدنيا ثانياً.

وبعبارة أخرى: بعد أن تحدد لنا مفهوم الهداية والضلالة، وسعة دائرتهما، بقي الحديث الأساسي في الموضوع، وهو الذي يختص بمناقشة المرجعية النهاية في تفسير معنى السعادة بشكل تفصيلي أولاً، وهل أن هذه المرجعية هي الوحيدة الكفيلة بتوفيرها أم أنها جزء مشارك لمرجعيات أخرى تعاضدها في التنظير والتوجيه والتطبيق ثانياً؟ ومن الواضح أن الحديث هنا مع المؤمنين بالدين ولو بصورة جزئية.

إذن؛ يمكننا صياغة سؤال البحث في هذا البند بالشكل التالي: أين تقف حدود الدين كمرجعية معرفية في تحديد «الهداية» و«الضلالة»؟

والظاهر أن مثل هذه الإثارة بهذه الصيغة لم تكن مطروحة بشكل ملح قبل تنامي الثورة العلمية؛ التي بدأت في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي وتبلورت في نهايات القرن الثامن عشر (1)، حيث كان الدين هو المسهم الأول في صياغة حياة الناس آنذاك، لكن مع تنامي العلم وتضخم آلياته التكنولوجية، وتصاعد الاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ التي تحاول دراسة الإنسان وتقديم المعالجات لمشاكله اليومية على المستويين الفردي والاجتماعي، بدأت تطرح نتائجُ هذه العلوم باعتبارها مرجعية تفسيرية مزاحمة بل ومعارضة لمرجعية الدين، وكلما تناما العلم أكثر ازداد السؤال إلحاحاً، هذا في الإطار المسيحي الغربي.

أما على المستوى الإسلامي فلم يكن السؤال ملحاً إلا بعد دخول العالم الإسلامي في بوتقة الحضارة الحديثة؛ التي يعتبر العلم فيها السمة البارزة، أي أن مثل هذا التساؤل بدأ مع انهيار الدولة العثمانية، ودخول العالم في الحرب العالمية الثانية، وتقاسم الغرب للعالم الإسلامي، حيث حصل آنذاك التلاقي بين الإسلام والغرب على المستوى الحضاري، وبتنامي الصحوة الإسلامية ودخولها في خيارات بناء المجتمع ضمن الوضع الجديد؛ الشديد التغيير والتقلب، بات التساؤل يأخذ حيزاً ملحاً جداً في ذهن المسلم اليوم، لما يراه من تنازع خيارات الحضارة الغربية مع خيارات الدين.

منهجان في حدود المرجعية: وفي الإجابة على السؤال المطروح هنالك منهجان في المعالجة، يبتني التفريق بينهما على أساس نقطة أساسية وجوهرية تعد الفارق بينهما؛ وهي: إن حدود أي دين متوقف على ما يتوقعه الإنسان من الدين أن يقدمه له في المساحات التي لا يمكن لأي حقل من حقول المعرفة الأخرى أن تقدمه.

 هذا مدعى المنهج الأول، والذي يصطلح عليه بـ«المنهج الخارجي» في دراسة الدين. في حين يرى المنهج الآخر أن نقطة الإطلاق في تحديد حدود الدين هي الدين نفسه، وذلك من خلال نبيه ونصوصه، وهذا المنهج يصطلح عليه بـ«المنهج الداخلي» في دراسة الدين.

 ولتوضيح المسألة بشكل أكثر نلجأ للتفصيل التالي:

عندما درس علماء النفس الإنسانَ، ورصدوا مجمل انفعالاته محاولين تقديم معالجات لمشاكله النفسية التي تعتريه في خضم الحياة، وجودوا أن ثمة مناطق أساسية في حياته إن بقيت دون معالجة فسيبقى هذا الإنسان مسلوب السعادة، دائم القلق والخوف، يعيش الاضطراب، وكلما حاولوا أن يقدموا له معالجات نفسية بائووا بالفشل، ثم وجودوا أن هذا الفراغ لا يسده إلا «الدين»؛ بما يقدمه من تصورات عن أهم الأسئلة الوجودية للإنسان، ابتداء من المبدأ إلى المعاد في عالم الآخرة، هنالك حددوا دائرة الدين في هذا الإطار.

ونفس التجربة مر بها علماء الاجتماع والسياسة . .  وغيرهم، فصار كلاً يحدد الدين طبق توقعه لمساهمة الدين في حياته، وبالذات في الأمور التي لا يمكن لأي حقل آخر أن يقدم له مساهمة حقيقية، كالروحانيات، والمعنويات، والعرفان، وطقوس العبادة، وتفسير الكون، ومجموع القيم الأخلاقية النبيلة . . إلخ؛ هذه رؤية المنهج الأول.

لكن المنهج الآخر آمن بالله ـ سبحانه ـ ورسالته للبشرية ولم يحدد لنفسه مسبقاً أي توقع من الدين، بل انتظر جواباً من الدين نفسه يحدد دائرته ومساحته في الحياة، وأَنَه إلى أي مدى يساهم في توفير الهداية والسعادة. وهذا المنهج في هذه المرحلة لا يذعن بأية حدود بل يقف منتظراً الدين نفسه، فإذا ما ادعى الدينُ شموليته لكل تفاصيل الحياة أذعن بهذه الشمولية، أما إذا ادعى اقتصاره على جانبٍ معينٍ من الحياة أذعن كذلك.

والسؤال هو: عن صلاحية أيٍ من المنهجين ـ الداخلي أم الخارجي ـ من الناحية المنطقية والمعرفية لمعرفة حدود الدين؟

الأساس النظري للمنهج الأول (الخارجي): حاول بعض المتبنين للمنهج الخارجي تقديم تبريرٍ منطقيٍ معرفيٍ يدعي أوحدية هذا المنهج في دراسة الدين، بل إن أي محاولة لمعرفة حدود الدين خارج هذا المنهج ستنتهي لتسييس الدين وأدلجته وعلمنته، ومن أبرز المدافعين عن هذا المنهج هو الدكتور عبدالكريم سروش؛ الذي يعرض نظريته في هذا المجال في مقامين، المقام الأول بنائي؛ يستدل فيه على أحقية منهجه، والمقام الثاني نقضي؛ ينقد فيه المنهج الداخلي، أي أن د.سروش قام بعملتَي بناء وهدم، بناء لمنهجه وهدم للمنهج المخالف (الداخلي).

  • المقام الأول؛ أسس البناء:

يقول د.سروش في مقام عرض نظرتيه: «إن توقُّعنا من الدين يعني تحديد ما يمكن للدين أن يؤديه لنا، وما الذي جاء يفعله، وما مدى قدرته على الوفاء بذلك. وواضح أن تحديد قدرات الدين متوقف على تشخيص جوهره، والحاجات التي تدفع بالإنسان إليه. فالدين الذي لا يفي بحاجات الإنسان الأساسية (تلك الحاجات المعطَّلة التي لم تُلَبَّ من معين آخر) دين مرفوض لا فائدة منه. من هنا، يتوقف تحديد مدى توقعنا من الدين على تحديد أمرين: أحدهما جوهر الدين، والآخر الحاجات الأساسية التي لا تسد من مكان آخر، وتحديد هذين الأمرين لا يتم إلا من خارج الدين»(2).

ولأن حاجات الإنسان تتطور بتطور الحياة فإن «ما يترقبه الإنسان من الدين عرضة أبداً للتحول التاريخي، أي أن إدراك الإنسان لسؤاله الأساسي الموجه لله والنبي يتطور تدريجياً عبر تاريخ وجوده، فيميز الثانوي والفرعي من بين أسئلته»(3).

وبالتالي لو أن ديناً ما لم يستطع تلبية حاجات الإنسان الأساسية فسيكون مصيره كما قال د.سروش:«الدين الذي لا يلبِّي حاجات الإنسان الأساسية دين مرفوض لا فائدة منه»(4).

والدليل الذي يرتكز عليه د.سروش لإثبات نظرتيه دليلٌ معرفي؛ متعلقٌ بمسألة في علم المعرفة، مفاده: إن عملية الفهم أساساً ترتكز على التوقع، فعندما يتوقع الإنسان من الفيلسوف تقديم تفسيرِ معين للحياة فإنه يفهم كلام الفيلسوف بهذا الاتجاه، لكن لو توقع من الفيلسوف تفسيراً آخر أخص وأضيق دائرة من التوقع السابق فإنه لا يفهم منه سوى ما توقعه، كذلك الأمر مع الدين، فعندما نتوقع منه تقديم تفسير لكل شيء فإننا سننبش في كل صغيرة وكبيرة فيه لاستخراج ما توقعنا، والعكس بالعكس، يقول د.سروش «فهم النص الديني متوقف على تعيين وتحديد ما نترقبه من الدين، وليس العكس، إذ لو فرض أن شخصاً يحسب أن القرآن والسنة قادران على رفدنا بكل شؤون الحياة وأسرار العالم صغيرها وكبيرها، لبدَت العبارات لديه بصورة أخرى، ولبذل قصارى جهده على أبسط الإشارات من الكتاب والسنة ليستخرج منها علاج مسائله في حقل الضوء والحركة والفلك والكيمياء والذرة . . .»(5).

إذن؛ ملخص نظرية د.سروش: إن التوقع هو الذي يحدد دائرة وحدود الدين، وهذا التوقع متوقف على أمرين أحدهما مولد للآخر، وهما يُتحصلان من خارج الدين لا من داخله: الأول جوهر الدين، الذي يعرف من خلال تنقيح حاجات الإنسان الأساسية.
ثم؛ إن مبنى التوقع يستلزم أمرين في الخارج (إثباتاً):

1- دائرة الدين وحدوده ليست ثابتة، بل هي عرض للتحول التاريخي الكاشف عن حاجات الإنسان المستجدة.

2- الدين الذي لا يلبي حاجات الإنسان مرفوضٌ لعدم فائدته.

ودليله في كل ذلك هو: مبنى معرفياً مفاده: توقف الفهم، وفهم نصوص الدين خصوصاً، على التوقع.

مناقشة المقام الأول؛ أسس البناء: ولنا أن نناقش هذه النظرية لاختبار مدى صحته من خطئها. وجوهر المناقشة يبدأ من دليل النظرية؛ إذ هي مستنده، ومن ثم ننتقل في المناقشة إلى كبرى (6)النظرية (منشأ التوقعات)، وأخيراً إلى مجموع اللوازم التي تلزم النظرية ونرى مدى صحتها.

1- دليل النظرية:

يتقوم الدليل بكبرى معرفية تدعي: «إن عملية الفهم مبنية على التوقع». وما لم نتوقع فلن نفهم، وواضح أن خلفية هذا الرأي مستمد من الفلسفات الحديثة الفردية بل والمتمحضة في الفردية، والتي تدعي عدم فاعلية النص إطلاقاً، بل النص عندهم مرتبط بقارئه وحقله الثقافي، فما يتوقعه القارئ لنص هو مراد صاحب النص ـ إن وجد والحال هذه صاحب نص ـ ولأن القراء متفاوتون في ثقافاتهم فإن توقعاتهم متفاوتة ومختلفة ويمكن حملها جميعاً على النص، وفي الحالة هذه ينعدم مراد المتكلم (صاحب النص).

ووجه المناقشة الأساسية في هذا الدليل هو: عند حصر الفهم بالتوقع فإن غير المتوقِع (7) لن يفهم شيئاً، فلا يمكن للباحث، أي باحث، أن يفهم الدين المسيحي مثلاً إلا بعد أن يتوقع من الدين المسيحي أموراً معينة. ثم؛ لو أراد هذا الباحث أن يفهم الدين الإسلامي وكرر نفس التوقعات فإنه سيفهم الدين الإسلامي على أساس هذه التوقعات لا غير، وبالتالي سينتهي إلى وحدة الديانتين الإسلام والمسيحية، وذلك لوحدة التوقعات، كل هذا دون أن يكون للنص (الدين) أي فاعلية في الإجابة. وهذا يعني في نهاية المطاف: أن الدين ما توقعتُ لا غير، إذن فإن عملية التوقع من الدين من أساسها كانت لغواً، لأن التوقع هو المُفهِم (8) للدين، وعند الفهم سأحصل على التوقع نفسه لا غير.
 
أي أن العملية تحصيل للحاصل، وللتوضيح نضرب مثالاً: لو أننا توقعنا أن حاجة الإنسان للمعنويات والروحانيات؛ المتعلقة بين الإنسان وربه، تُتحصل من الدين، وذلك ـ طبعاً ـ بعد دراسات في حقول المعرفة المتنوعة من علم النفس والاجتماع . . الخ، وأردنا أن نستحصلها من الدين، لكن قبل بدأ التحصيل قمنا بتفصيل للتوقع نفسه، وذلك بطرح السؤال التالي: أي نوع من الروحانيات سيلبيها الدين، هل هي نسك عبادي خاص ذو حركات خاصة مصحوبة بأذكار لفظية؟ وكان الجواب ـ بمعية الدراسات المعرفية ـ أن لا مدخلية للنسك والحركات في تحقيق الروحانية والمعنوية، بل المطلوب خاصةً هو الذكر اللفظي فقط. ثم طرحنا سؤال توقعي أكثر تفصيلاً: هل الذكر المطلوب هذا يلزم أن يكون ذو تناسق موسيقي في الألفاظ؛ بحيث تكون وقفاته وحركاته وكلماته متناسبة مع مخارج الحروف بحيث لا تُثقِل الحنجرة ورئتَي الإنسان؟ وكان الجواب ـ بمعية الدراسات المعرفية ـ أن المطلوب كذلك.

فأصبح عندنا توقع من الدين هو: تلبية حاجة الإنسان للمعنويات والروحانيات بكيفية خاصة هي ذكر لفظي متناسق التركيب الموسيقي. ثم سألنا الدين عن هذا الشيء المتوقع، فأجاب الدين الإسلامي بصلاة الليل، المكونة من أحدَ عشرةَ ركعة؛ المتضمنة لذكر لفظي متناسق التركيب الموسيقي، في الحالة هذه سيكون موقفنا هو: أن الدين هو مجرد تلك الأذكار، لا الركوع والسجود (الصلاة). إذن ما توقعناه وأردنا تحصيله (تلبية حاجة الإنسان للمعنويات والروحانيات بكيفية خاصة هي ذكر لفظي متناسق التركيب الموسيقي) حاصل من الأول، إنما الفارق الوحيد فقط هو شخصية الذكر اللفظي وهو «دعاء الرهبة» مثلاً، وواضح أن هذا الفرق لا يغير من التوقع شيئاً.
إذن؛ تحصل: إن ربط الفهم بالتوقع يعني تحصيل الحاصل، وتحصيل الحاصل باطل.

2- منشأ التوقعات:

يتقوم منشأ التوقعات على أساس تنقيح حاجات الإنسان، فإذا ما عيت حقول المعرفة عن تلبية حاجة أساسية من حاجات الإنسان سألنا الدين عنها ليجيبنا، أما إذا وَجدَت حاجةُ الإنسان ضالتَها في أحد حقول المعرفة فإنها تستغني عن الدين في تلك الحاجة.

وجوهر المناقشة في هذا المدعى هو: إن وجود الدين مناط بالحاجة، وتنقيح الحاجة مناط بحقول المعرفة المتنوعة كعلم النفس، والاجتماع، والسياسة، والأخلاق . . الخ، وصدق الدين مناط بتلبية الحاجة التي عَيت تلك الحقول عن تلبيتها، وكما قال صاحب النظرية ـ بناءً على ما مرّ ـ إن دائرة الدين في تحول طبقاً لكشوفات العلم في تشخيص حاجات الإنسان، لكن السؤال هو: لو احتملنا ـ وهذا الاحتمال عقلي ممكن ـ أن كشوفات العلم أثبتت ـ بعد خبرتها المتراكمة ـ سدّ حاجات الإنسان في كل المجالات بحيث لم تبق منطقة في حياة الإنسان تشكل حاجة أساسية لا يمكن تلبيتها، بل كل الحاجات قد لُبيت، في هذه الحالة: سينتفي وجود الدين من الأساس، هذا أولاً، وسيكذب النبي ثانياً، أي نبي، لأن بنوته متقومة بسدّ حاجة الإنسان حيث لا مَسَدّّ لها، والعلم؛ الذي هو المرجعية الأولى، أثبت عدم الحاجة إطلاقاً.

لكن لقائل أن يستبعد هذا الاحتمال بدعوى استحالته، وجوابنا: أن وجه الاستحالة ما هو، إن كان صدق الدين، فإن صدق الدين مناط بتلبية حاجة الإنسان، وإن كان بدعوى: أنه لا يمكن للعلم أن يسدّ كل حاجات الإنسان، هنا نسأل: هذه الدعوى من أين حصلت، من العلم نفسه أم من غيره؟ إذا كانت من العلم نفسه فهذه دعوى إثباتية ـ على فرض صحتها ـ وكلامنا ثبوتي، ناهيك أن العلم حسب مبنى د.سروش نسبي وفي تطور وهذا الاحتمال ممكن بحد ذاته. وإن كان من غيره، فهذا خلاف الفرض، حيث الفرض أن حاجات الإنسان تنقح في إطار العلم لا غير، وإلا لو أدعي أن من الممكن أن تقوم جهة أخرى غير العلم بتنقيح حاجات الإنسان فلماذا لا يكون الدين نفسه.

هذا؛ مضافاً إلى كون دعوى: إن الدين مهمته الحاجات الأساسية للإنسان، هي دعوى اعتباطية، لماذا لا يكون للدين دور حتى في الحاجات الثانوية للإنسان؟ ناهيك عن الفوضى المعيارية في فرز الحاجات الأساسية عن الثانوية؛ إذ ما المعيار في ذلك؟

3- بعض لوازم النظرية:

للنظرية مجموعة من اللوازم التي تلزم أمور باطلة قد لا يقرّ بها نفس صاحب النظرية، وتوضيحها كالتالي:

أ‌- لأن الدين هو الذي يلبي حاجات الإنسان، فإن الدين الذي لا يقوم بهذه المهمة باطل مرفوض لا تجدي نفعاً، في حين أن ما يلبي الحاجة هو حق مقبول فيه النفع.

والملاحَظ:

 لا معيارية هنا لأحقية الدين من بطلانه؛ أي ليس مهماً كون هذا الدين المعين محق في حد ذاته؛ منزّل من الله ـ سبحانه ـ، بل المعيار نفعيّتَه لسدّ حاجة الإنسان حتى لو كان هذا الدين خرافة. إذن فأي خصوصية للدين في أصل الموضوع، إذ يمكن لغير الدين من خرافات البشر وأساطيرهم أن تقوم بالمهمة ذاتها، ولا وجه لتخصيص الدين بمهمة «تلبية ما لم تلبيه حقول المعرفة الأخرى من حاجة الإنسان».

ب‌- لأن الدين هو ما نتوقعه، فإن كلَ فهمِ للدين منطلقٍ من التوقع، فهمٌ صحيح، من دون أن يكون للدين أمراً واقعياً نبتغي الوصول إليه.

والملاحَظ:

• هذا يلزم منه كل لوازم التصويب الأشعري، لأنه لا يتخلف في جوهره عن التصويب الأشعري، وإن اختلف في الأداة، حيث أن أداة الكشف عند الأشعري «الأمارة» تصيب الواقع دائماً وأبداً، وعند د.سروش «التوقع»(9).

المقام الثاني؛ أسس الهدم:

في هذا المقام يحاول فيه د.سروش إثبات نظريته من خلال هدم بناء النظرية المقابلة له (المنهج الداخلي)، ويقدم في هذا الإطار إشكالاً نقضياً على الذين يدعون صلاحية المنهج الداخلي، مفاده هو التالي:

بناءً على المنهج الداخلي لا يمكن لنا إثبات صدق أو كذب دعوى الدين في تلبيته لسدّ حاجات الإنسان، وذلك: لأنه إما أن نلجأ للمنهج الداخلي في التصديق والتكذيب وإما للمنهج الخارجي، وحيث أن المنهج الداخلي لا يمكنه القيام بذلك؛ لأن إما أن يكذب دعوى الدين وهذا خلاف طبيعة المنهج الداخلي لأنه في هذه الحالة يقع في تناقض، أو يصدقها بمقتضي طبيعته وفي هذه الحالة لم نتحقق من صدق الدعوى أو كذبها. وحيث أن المنهج الداخلي لا يمكنه القيام بالمهمة فلابد من المنهج الخارجي. يقول د.سروش موضحة فكرته: «لنفترض أن إنساناً رجع إلى الدين، وأنصت إليه في ما يخص تحديد أهدافه المرجوَّة، إلا أن المشكلة لا تنتهي هنا، لأن ذلك التحديد سيكون بمثابة ادعاء يعزوه التمييز بين كذبه وصدقه. تكتسب هذه المسألة أهميتها وظهورها لدى إنسان يدرس الدين من خارجه، وهو لا يؤمن بدين معين. فمن الضروري لشخص كهذا أن يعرف إن كانت ادعاءات الدين وتعاليمه صادقة أم لا. وعليه فليس من الممكن إطلاقاً أن نستنطق الدين نفسه في شأن سؤالنا: «ماذا نتوقع من الدين؟»، أو أن نكتفي بمجرد ادعاء الدين في هذا المجال»(10) .

ويقول أيضاً: «افترضوا أن المذهب الماركسي عرّفنا بمدى توقعنا منه، وادعى أنه جاء للوفاء بسعادة الإنسان في الدنيا وبناء المجتمع وتعزيز الصناعة والأدب والفن. فهل يقبل هذا الادعاء ويحكم بصدقه لمجرد صدورها من الماركسية؟

من المعلوم أننا نحتاج هنا لتعيين صدق المدعى أو كذبه لما هو أكثر من الادعاء نفسه، فالقضية غير محسومة حتى لو حدد لنا مذهب مدى توقعنا منه»(11) .

مناقشة المقام الثاني؛ أسس الهدم:

وقبل مناقشة المقام الثاني لابد من التذكير إننا وضمن مناقشة المقام الأول قد ذكرنا ـ ضمناً ـ ما يكفي لرد هذا الكلام، لكن سنحاول هنا تناول الموضوع من جهة أخرى.

أولاً: في الكلام مغالطة لابد من كشفها، وهي قياس المذاهب البشرية؛ التي لا تدعي أكثر من أن فكرها يستند ـ في أحسن الأحوال ـ على مستوى النظرية وبالجملة على مجموعة من النظريات العقلية ـ مع المسامحة الواسعة في نسبة النظريات للحكم العقلي ـ وهي من حيث التطبيق لا تعدوا أن تكون نشاط بشري بحت، أقول قياسها على الأديان الإلهية؛ التي تنفي البشرية في تعاليمها الأساسية وفي تطبيقها الخارجي الذي يقوم به شخص معصوم ـ حسب وجهة النظر الدينية ـ.

ثانياً: نحن لا نلجأ للمنهج الداخلي إلا بعد الفراغ بمنهج خارجي؛ يعتمد البرهان واليقين والقطع(12) في إثبات الدين والنبوة ومعصومية النبي الناقل للوحي والمبيِن له.

وهذا يعني أننا في المنهج الداخلي لا نقوم بعملية كشف صدق المدعى من كذبه بل نأتمر للدين بتسليم مطلق، إذ عملية كشف الصدق والكذب اُنتهِيَ منها في مرحلة سابقة، وهذا فارقٌ أساسٌ بين من يُطوِّعُ الدين لذاتياتِه؛ من الهوى والشهوة، وبين من يُطوِّع ذاتياتِه للدين.

الأساس النظري للمنهج الثاني (الداخلي): لعله من الكفاية، ما دمنا نناقش أحد خيارين، إبطال المنهج الأول لتبرير اللجوء للمنهج الثاني، لكن هذا لا يمنع من عرض موجز مجمل للأسس النظرية التي قام عليها المنهج الداخلي، والعرض هو التالي:

يبدأ هذا المنهج، وقبل اللجوء والحاجة إلى المنهج الداخلي، بإثبات الدين والنبوة العامتين، ثم الدين والنبوة الخاصتين؛ وهما الإسلام والنبي محمد \"\"، بمنهج خارجي، وأخيراً يستعين بالمنهج الداخلي لفهم تفاصيل حدود الدين، وذلك من الدين نفسه، حيث يحدد الدين نفسه معنى الخير والسعادة، والشر والشقاء، ثم معنى الهداية والضلالة، وحدود إفادته ـ أي الدين نفسه ـ في بيانهما، وكيفية تعامله مع الأمور الأخرى التي أدعى مرجعيتها في المقام أمثال: العقل؛ بمعنى الأحكام العقلية الأولية النظرية والعملية، والعلم؛ الذي هو تطبيق الأحكام العقلية على الواقع الخارجي بمصاحبة المادة، والضمير أو الوجدان . . . الخ .(13)

وهذا كله يرتبط ببحوث تفصيلية في حقل الكلام والفلسفة، تبحث خاتمية الدين، وشموليته، وكماله . . . وغيرها من المسائل، وما يهمنا في حدود هذه الدراسة إثبات ما سلف من أن مرجعية تحديد معنى الضلالة والهدى مناط بالدين، وهذا يمهد لنا الحديث في المفردة الثانية من البحث المفاهيمي وهي مفردة العصمة.

  • [2] العصمة؛ المفهوم، الحدود. 

المفهوم: ترتبط العصمة بمفهوم الهداية ارتباطاً وثيقاً، وذلك: أن الإنسان بإدراكه للخير والشر، وسعيه لنيل الخير (الهداية) واجتناب الشر (الضلالة) يسأل بإلحاح عن ضمانة هذا السير والاجتناب من حيث الصحة والخطأ، ولا فرق هنا أيِ المرجعيات انتخب؛ إلهية أم بشرية. وبعبارة أخرى: لأن الإنسان يريد نيل الخير واجتناب الشر فإنه يرسم لنفس طريقاً للوصول ووسائل للاجتناب، وسواء رسمها هو بنفسه أم أناط مسؤوليتها بيد الدين، فإنه يبقى يبحث عن ضمانة صحة الطريق، فنرى المؤمن بالدين يسأل عن السبل الصحيحة في تلقي الهداية من الله ـ سبحانه ـ، ونرى من أناط مسؤولية الهداية لنفسه (العقل البشري) يسأل عن سبل سلامة الأحكام العقلية بحيث يمكنه من تحقيق الهداية بصورة صحيحة. بمعنى آخر: السؤال في العصمة سؤال عن كيفية التلقي الصحيح للهداية، وهذا يكون على مستويين: الأول: المستوى النظري؛ وفيه يسأل الإنسان عن طرق فهم الهداية فهماً صحيحاً مطابقة لواقع الهداية دون أدنى لبس. الثاني: المستوى العملي (التطبيقي)؛ وفيه يسأل الإنسان عن طرق تطبيق الهداية في الواقع الخارجي دون أن يشوبه أيُ ضلالة.

وبهذا التقريب لمعنى العصمة، يمكننا دعوى: إن مفهوم العصمة مفهومٌ متجذرٌ في الوعي البشري، لا ينفك عنه مذّ وجد على الأرض، وإن أختلف البشر اختلافاً شديداً في تشخيصه في الواقع الخارجي، حيث ذهب بعض بالقول: أن العصمة مناطة بالعقل، وآخرين ادعوه في العلم ومناهجه، وغيرهم في الخبرة البشرية المتراكمة، وقوم في العقل الجمعي أو الدولة المطلقة، في حين ذهب المؤمنون بمرجعية الدين الشاملة إلى أنها متمثلة بالنبي المعصوم، وما يهمنا من بحثٍ هو في الإطار الأخير؛ إطار المؤمنين، وتفصيل الكلام كالتالي:

تكاد تتفق جميع الأديان على ضرورة عصمة الوسيط بين الإله والبشر؛ أي النبي، بل أن جوهر الأديان الأساس الذي يميز الفكر الديني عن أي فكر إلهي آخر هو إيمان الأديان بالنبوة، ومن لوازم النبوة وجود حدٍ معين من العصمة في النبي؛ تختلف سعة وضيقاً من دين لآخر، وذلك لضمان سلامة تبليغ رسالة الله ـ سبحانه ـ، لكن جوهر النبوة المعصومة ـ ولو جزئياً ـ أمرٌ مشتركٌ بين جميع الأديان .(14)

وهذا الأمر نجده بشكل واضح في الإطار الإسلامي، فجميع الفرق الكلامية الإسلامية تؤمن بحدٍ معينٍ من العصمة للنبي \"\"؛ وذلك في تبليغ الرسالة، إلا أنها تختلف بعد ذلك في شمول هذه العصمة لسائر أفعال النبي \"\"، ناهيك عن اختلافهم في كيفية العصمة بالنسبة له \"\"(15).

إذن؛ مفهوم العصمة يعني: المعيار الذي يضمن سلامة تلقي الهداية الإلهية.

الحدود: واضح أن كل ما مرّ كان حديثاً عن العصمة بخصوص شخص النبي \"\"؛ مبلغ الرسالة، وهذه الجهة من البحث ليست الدراسة معقودة من أجلها، إنما نظر الدراسة متجه إلى العصمة بخصوص المجتمع المؤمن برسالة إلهية، وبعبارة أخرى: عندما ننظر للعصمة في النبي \"\" فهنالك حدٌ أدنى يتفق عليها جميع المسلمين؛ وهي العصمة في التبليغ، وحد أعلى يشمل كل تفاصيل حركاته وسكناته \"\" إنْ في أمور التبليغ أو غيرها. لكن عندما ننظر للعصمة؛ بما هي ضمانة للهداية على المستويين النظري والعملي، بالنسبة للمجتمع فإن البحث هنا يأخذ بعداً آخر، إذ يمكن صياغة سؤال البحث في هذا البند بالشكل التالي: هل العصمة في النبي \"\"؛ والتي هي استغراقية فيه، تلزم عصمة المؤمنين به (16)، بحيث تشكل لهم هدايةً تفصيليةً تستغرقُ كل تفاصيل حياتهم أم أنها عصمةٌ إجماليةٌ تستوعب مجمل أفعالهم بالشكل الذي لا يخرجون فيه عن حد الهداية أم لا هذا ولا ذاك؟ وبصياغة ثانية: هل وظيفة النبي \"\" في الأمة أن يعصمهم من الزلل بشكل تفصيلي أم إجمالي، وذلك بما يبلغه من رسالة الله ـ سبحانه ـ؟ وبصاغية ثالثة للمسألة: ما هي علاقة النبي \"\" (الدين) بالمجتمع في حيثية الهداية؟ هذه الأسئلة الثلاثة وإن كانت مختلفة في الصياغة إلا أنها تحمل نفس الإشكالية وجوهرها، ونتيجة البحث فيها سيوضح حدود عصمة الدين للإنسان.

 وتفصيل الكلام كالتالي:

شاءت حكمة الله ـ سبحانه ـ أن يخلق الإنسان حر الإرادة والاختيار؛ بحيث يكون هو المسؤول الأول والأخير عن أفعاله كلها، فلا أحد يتحمل عن الآخر وزره ولا أجره (17)، وفي الوقت ذاته أراد الله ـ سبحانه ـ اختبار هذه الإرادة في استجابتها لأوامره ونواهيه، وذلك بإرسال الرسل والأنبياء \"\" لتتم الحجة على البشر (18)، لكن مقتضى اجتماع هذه العناصر الثلاثة (إرادة الإنسان، اختباره، إلقاء الحجة البالغة) في الحكمة الربانية استوجب عدة أمور؛ هي:

أولاً: على مستوى الحجة، استوجب أن يكون في الرسالة والبلاغ والإنذار والتبشير مستوىً من الوضوح لا يدع مجالاً للشك والريب والغموض.

ثانياً: على مستوى الاختبار، استوجب أن يكون في الرسالة والبلاغ . . . نوعاً من البلاء الذي يتناسب ومستوى الاختبار، وهذا يعني أن تظل مناطق في الدين يطلب فيها الخضوع التام الذي يتنافى وطبيعة البشر المتمردة .(19)

ثالثاً: على مستوى الإرادة، استوجب أن لا يجبر أحدٌ على الهداية كما لا يجبر على الضلالة، وإلا خرج الفعل عن كونه إراديا ً.(20)
وبهذا كان في الدين مستوى من الوضوح البالغ الذي لا يدع مجالاً للشك والريب وبه احتج الله ـ سبحانه ـ على العباد، وهذا ما نراه في المعجزة، وتذكير الدين بأحكام العقل المشتركة، والفطرة الإنسانية . . . وغيرها، وفي الوقت ذاته كان في الدين نوع من الابتلاء؛ على مستوى الإيمان النظري بالدين، بحيث طلب منه التسليم التام بل لو أن البشر طلب من الله ـ سبحانه ـ إنزال الآيات البينات الباهرات لطالبهم الله ـ سبحانه ـ بالإيمان المباشر وإلا أخذهم العذاب مباشرة ومن دون إعطائهم فرصة أخرى، وهذا المستوى هو ما نراه في غيب (21) السماوات والأرض من الملائكة وغيرهم، وعالم برزخ والآخرة، وكون النبي المرسل لهم بشراً مثلهم. وكما في الوقت ذاته لم يكلَف النبيُ المبلِغُ أكثرَ من البيان والبلاغ والإنذار والتبشير بحيث تبقى المسؤولية مناطة على عاتق إرادة الإنسان في الإيمان والهداية وتطبيق الدين.

وبهذا البيان السابق يمكننا توضيح إشكالية البحث في هذا البند عبر النقاط التالية:

-وظيفة النبي \"\" في الهداية تتوقف على بيان الدين بمستواه الواضح والبيّن، مضافاً إلى تعليم البشر سبل التعامل مع مستجدات الحياة بما يتوافق مع تعاليم الدين، وبهذا يحقق النبي \"\" على مستوى التبليغ الهداية التفصيلية من خلال التذكير والتبليغ والتعليم .(22)

-تقع على البشر مسؤولية الاستجابة للدين والتسليم لتعاليمه، وبالتالي تطبيقه في الواقع الخارجي، وهم بقدر استعصامهم به يستعصمون من الخطأ والضلالة .(23)

-الدين ملازم للتقدم والرقي والرفاه والحضارة، لكنه لا يحقق ذلك بطريقة الجبر والإكراه، بل إن تحقيق هذه الأهداف مسؤولية المؤمنين به وأي مخالفة منهم لن تضر الله شيئاً والله غني كريم.

وبهذا تكون حدود الهداية الإلهية تفصيلية على المستوى النظري؛ وذلك بتعليم الناس جوامع الكلم في المعارف ومقاصد الشرع في الفقه ومكارم الأخلاق في السلوك، لكن على المستوى التطبيقي تناط مسؤولية الهداية بإرادة الإنسان.

وخلاصة الكلام في هذا البند:

1-العصمة بمعنى: المعيار الذي يضمن سلامة تلقي الهداية الإلهية، مفهوم متجذر في الوعي البشري.

2-الدين يوفر للبشرية هداية تفصيلية على المستوى النظريّ من خلال «الرسول المعلم» الذي يبيّن للناس هداهم من ضلالتهم.

3-الناس في المستوى العمليّ والواقع الخارجي يعتصمون بقدر استعصامهم بالدين؛ فيحققون على المستوى الجمعي هداية عامة، وعلى المستوى الفردي يحقق كل فرد منها مفهوم الإنسان «العادل»؛ وهو الذي لا يتورط بكبائر الذنوب ولا يصر على صغائرها.

4-الهداية هذه تجعل الأمة في تعاملها مع الفتن (تقلبات الزمان) مستلهمة للرشد الربّاني بعيدة عن السفه، وهذا بقدر صبرها على الاستعصام.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المقصود من (أهل البيت) في آية التطهير
كرامات الإمام الحسن ( عليه السلام )
هكذا عرفت الإمام الحسين (عليه السّلام)
أهل البيت الأسمى والأفضل
ابو جعفر الثاني الامام الجواد (عليه السلام)‏
الجزع على الإمام الحسين (عليه السّلام)
مراحل بلوغ العبودية الكاملة
الولاء لأهل البيت عليهم السلام
الاستدلال بآية المباهلة على تفضيل الإمام علي ع ...
إصدار كتاب جديد لتراث الإمام السجاد عليه السلام

 
user comment