أبو ذر نموذج الثائر المؤمن الصادق ، و لا شك أن كثيراً من الثورات في تاريخ الإسلام مدينة لمواقف هذا الرجل العظيم في أصعب ظرف يمكن أن يمر به مؤمن صادق يشاهد التحريف الديني و الأخلاقي و السياسي من موقع قريب .
و أعظم ما في شخصية أبي ذر أنه وحده كان يضع مواقفه في مجتمع بدأت السلطة تسلب منه أبرز صفاته و أعظمها و هو : العدالة و الحرية .
و بقدر ما كان للانحراف المبدئي من أثر على المجتمع الإسلامي الأول بقدر ما كان لثورة أبي ذر من عظمة و خلود ، ذلك لأن الأحداث في بدأ تاريخ أي مجتمع تترك بصماتها على مستقبل ذلك المجتمع إلى قرون طويلة .
وإذا كان للانحراف المبدئي في صدر الإسلام آثاره المروعة في مستقبل ذلك المجتمع ، فإن لثورة أبي ذر و مواقفه البطولية آثارها العظيمة و الخالدة .
غير انه لا يكفي أن نقرأ تاريخ البطل فقط من زاوية ثورته . . . ذلك لأن ثورة أبي ذر لم تكن نزوة عابرة ، و إنما كانت جزء من تكوينه و مبادئه و قيمه . . و من هنا فلا بد أن نعرف سائر مواقف أبي ذر من القضايا الحياتية المصيرية ، فكلما كان لأبي ذر من القضايا الحياتية المصيرية ، فكما كان لأبي ذر موقف من عثمان و معاوية ، ضد جميع أشكال الاستغلال و الاستئثار . . فإن لأبي ذر مواقف اخرى من الفقر ، و الموت ، و العمل الصالح ، و الجهاد في سبيل الله .
و مواقف أبي ذر كلها صنعت منه ذلك الثائر العظيم ، و لولا مواقفه المبدئية تلك النابعة من صميم إيمانه بقيم الإسلام في الحياة لم يكن أبو ذر قادراً على أن يقف وحده في مواجهة أقوى سلطة في ذلك العصر . . و لم يكن قادراً على اسقاط السلطة . . و من ثم لم يكن بإمكانه أن يشق ذلك النهر الكبير من الثورات الشعبية المبدئية على طول تاريخ الإسلام ، و نحن هنا في هذا الكراس ، نهتم بإبراز سائر مواقف أبي ذر المبدئية من قضايا الحياة : التفكير ، العنف ، الجهاد و غيرها .
إن إخلاص أبي ذر نابع من شدة إيمانه بدينه ، و تمسكه برسالة الإسلام ، و إن نجاحه الأكبر يكمن في هذا الإلتزام المبدئي العظيم ، الذي قل نظيره في التاريخ ، و إلا فما أكثر الناقمين على السلطة في كل عصر و زمان ، و لكن الفرق بين النقمة الشخصية العابرة ، و بين الموقف المبدئي الملتزم هو الحد الفاصل بين الثورة الإنتهازية ، و الثورة المخلصة الأصيلة .
و نحن في هذا العصر ما أحوجنا إلى اتباع أبي ذر ليس فقط السياسية ضد العبودية للسلطة ، و لكن أيضاً في ثورته الدينية ضد العبودية للذات ! ، و ما أحوجنا إل فهم الإسلام كرسالة تحررية خالدة من خلال جهاد أبي ذر ، و رؤيته الواضحة للحياة ، و صموده البطولي ، و إيمانه الراسخ بالله تعالى .
و لابد أن نعرف : أن أبا ذر المؤمن بالإسلام هو الذي صنع أبا ذر الثائر الخالد ، و إن مواقفه البطولية في وجه الظلام و الإستغلال ، و أن علينا أن نقتدي بهذا الثائر العظيم في كل خطوة و كلمة و موقف ، فما أجمل أن نتخب \" قدواتنا \" بأنفسنا . . و أن نختار بطولاتنا من تاريخنا . . و أن نتعرف على أبطالنا التاريخين . من أجل أن نقوى على حمل رسالة الإسلام ، رسالة الحق و التحرر إلى العالم كله . .
و إذا كان أبا ذر وحده يضع مواقفه في ذلك اليوم ، إلا أن له اليوم عشرات الألوف ممن يتغنى بتاريخه و يهتز لبطولاته ، و يفتخر بالإقتداء به .
صحيح أن الصلاة : عبادة و الصوم : عبادة ، و لكن ما هو أفضل عبادة ؟
يقول الرسول الأكرم (ص) : \" تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة \" .
فالتفكير في البدء و المصير ، التقرير نوع المسيرة التي ينتجها المرء في الحياة يعتبر من أفضل العبادات ، هكذا فهم أبا ذر معنى العبادة ، لذلك جاء في الحديث الشريف : \" كان أكثر عبادة أبي ذر رحمه الله : التفكر و الإعتبار \" .
ما العمل لو استغل جهاز الحكم قدسية العلماء و المثقفين من أجل التضليل ؟
ماذا لو بدل الحكم قيم الناس و أخلاقهم ؟
ما العمل لو فرضت السلطات باطلها على الناس بالقوة ؟
لكي تعرف الموقف الصحيح الذي ينبغي أن يتخذه كل مسلم فاستمع إلى رسالة أبي ذر التي وجهها إلى حذيفة ابن اليمان
( أما بعد يا أخي فخف الله مخافة يكثر منها بكاء عينيك و حرر قلبك و سهر ليلك و انصب بدنك في طاعة ربك فحق لمن علم أن النار مثوى من سخط الله عليه أن يطول بكائه و نصبه و سهر ليله حتى يعلم أنه قد رضي الله عنه و حق لمن علم أن الجنة مثوى من رضي الله عنه أن يستقبل الحق كي يفوز بها ، و يستصغر في ذات الله الخروج من أهله و ماله ، و قيام ليله و صيام نهاره و جهاد الظالمين الملحدين بيده و لسانه حتى يعلم أن الله أوجبها له ، و ليس بعالم ذلك دون لقاء ربه ، و كذلك ينبغي لكل من رغ في جوار الله ، و مرافقة أنبيائه أن يكون .
يا أخي : أنت ممن أستريح إلى الضريح إليه ببثي و حزني ، و إليه تظاهر الظالمين عليّ ، إني رأيت الجور يعمل به بعيني و سمعته يقال فرددته فحرمت العطاء ، و سيرت إلى البلاد ، و غربت عن العشيرة و الأخوان وحرم الرسول (ص) ، و أعوذ بربي العظيم أن يكون هذا مني له شكوى ، أن ركب مني ما ركب ، بل انبئتك اني قد رضيت ما أحب لي ربي ، و قضاه علي ، و أفضيت ذلك إليه ، لتدعوا الله لي و لعامة المسلمين بالروح و الفرج ، وبما هو أعم نفعاً ، و خيرٌ مغبة و عقبى و السلام ) .
أقرأت الرسالة جيداً ، اقرءها مرة ثانية . تدبر في حياتك و حياة المجتمع من حولك ، و السلطة القائمة فيها ، ثم صمم ان تعمل بوصية أبي ذر ، ذلك الثائر في سبيل الله ( من بعد الإستفتاء من المرجع الجامع للشرائط ،فالرجوع إلى المرجع تكليف المؤمنين في زمن الغيبة )
أنه لا يقول ثر في وجه الظلم و كفى ، فكم من ثائر على الحكم الجائر و هو أكثر ظلماً و عتواً ممن يثور عليه ، إن للثورة الإسلامية شروطاً بينها أبو ذر في خطبته السابقة و هي كما يلي :
1-التقوى . (مخافة الله)
2-الحرية النفسية ، و التمرد على عبودية المال و الشهوة و السلطان الجائر . (حرر قلبك)
3-العمل الجاد في سبيل الله . (و سهر ليلك و انصب بدنك في طاعة الله ) .
4- الخوف من السقوط للإندفاع إلى القمة . (فحق لمن علم ان النار موى من سخط الله عليه أن يطول بكائه و نصبه و سهر ليله حتى يعلم أنه قد رضي الله عنه ).
5-الرجاء في المستقبل لطرد روح اليأس عن النجاح. (وحق لمن علم ان الجنة مثوى من رضي الله عنه أن يستقبل الحق كي يفوز بها ) .
6- الإيثار من أجل الله ، و بيع كل شئ في سبيله . (و يستصغر في ذات الله الخروج من أهله و ماله ، و قيام ليله و صيام نهاره ) .
7-الجهاد حتى النفس الأخير : (و جهاد الظالمين و الملحدين بيده و لسانه حتى يعلم أن الله أوجبها له ، و ليس بعالم ذلك دون لقاء ربه ، و كذلك ينبغي لكل من رغب في جوار الله و مرافقة أنبيائه أن يكون ) .
لن يتحمل مسؤولية الحق عباد الهوى و الشهوات ، وحدهم المتقون يعرفون قيمة الحق و شرف الإلتزام به و تحمل مسؤوليته في المجتمع .
إن الذين يصنعون تاريخ مجتمعهم هم الذين يتحملون مسؤوليته في الحياة ، إن صناع التاريخ المجيد للبشرية هم المتمسكون بالحق المناضلون من أجله ، و منطق الحق أكبر سلاح في وجه المستأثرين و الحكام الجائرين .
غير أن تحمل مسؤولية الحق ليس هيناً أبداً ، إنه يفقر و يتعب و يعذب و ربما يميت أيضاً ، قال أبو ذر العظيم : ( ما ترك الحق لي صديقاً ) .
و الآن : من أجل أن نصنع تاريخ أمتنا من جديد في سبيل مستقبل زاهر و حياة سعيدة .
من أجل أن نكون أمة بمفردنا لا بد أن نعمل بوصية الرسول الأكرم لأبي ذر : ( لا تخف في الله لومة لائم ) .
و : ( قل الحق و ان كان مراً ) .
إن الحق ليس مجرد شعار ، أو منطق ، أو موقف منفرد جزئي ، إنه مقياس المؤمن الصادق في الحياة .
فنحن كثيراً ما نحتار في اختيار الموقف الصائب من إزاء الآخرين ، فلا ندري مثلاً : ماذا يجب أن نعمل تجاه ظالم قدم لنا مالاً يستميلنا نحوه ؟ هل نقبله ؟ أم نرده ؟
ماذا نعمل لو دجننا المستأثرون في شلتهم ؟ هل نقبل الخطوة الأولى أم نرفض ؟ و كيف نرفض ؟ كيف نعلن غضبنا على الباطل ؟
ثم من نرجو إذا غضبنا ؟ على من نتكل في نصرة الحق عندما لا يدافع عنه و لا فرد واحد في المجتمع ؟
أتريد أن تعرف ماذا يجب أن تفعل ؟ استمع إلى وصية الإمام علي (ع) إلى أبي ذر (رض) : ( يا أبا ذر : إنك غضبت لله فارج من غضبت له ) .
إن الحق لا يعرف بالرجال ، و إنما الرجال هم الذين يعرفون بالحق !!
و العملية قد تبدو سهلة في البداية ، و لكنها أصعب من نقل الجبال و إنما الجهاد الأكبر الذي لا يقوى عليه إلا من صادق الحق طول العمر ، و رفض الباطل طول الحياة .
إن كل نعمة ورائها مسؤولية ، فكل فلس يضاف إلى رصيد المرء يعتبر ثقلاً جديداً يضاف إلى كاهله ، و لابد أن يتحمل أمانة هذا الثقل طيلة سيره في طريق الحياة المظلمة المتعرجة المخيفة ، حتى لقاء الله .
و لكن ظهر الإنسان أضعف من أن يتحمل وزر المال و الثروة ، أمام قوة أهوائه و شهواته ، فلا بد أن يحافظ بين ثقل الحمل و ضعف الظهر ، فلا يحمل من الثقل أكثر من قدرته ، لا بد أن يعرف قدرته على التحدي ، و تحمل المسؤولية .
و أن لا يحمل على ظهره ما يزيد ، بالطبع أن تكسب ما تريد من مال ، و لكن بشرط أن لا تحرق بها حياتك في الآخرة .
أسمعت وصية الإمام علي (ع) إلى ولده الإمام الحسين (ع) إنها تقول : \" لا تحمل على ظهرك فوق طاقتك فيكون وبالاً عليك و إذا وجدت من أهل الفاقة و الفقر من يحمل زادك و ثقلك هذا إلى يوم القيامة ، فيوافيك بها فاغتنمه ، و أكثر من إعطائك له و تزويده ، فلعلك تطلبه يوم القيامة فلا تجده \" .
إن بريق المال يسلب الكثيرين القدرة على تفهم الحياة و الإستعداد للمصير ، و يجرهم إلى الضياع في عالم المناقصات و المزايدات . و يتيهون بين خطوط الدينار و الدرهم ثم يهون إلى الحضيض .
إن عبادة المادة تحصر المرء في مجالات ضيقة ، و لا تدعه يرى الحياء والأشياء إلا من خلال ثقوب المصلحة الضيقة .
و للحيلولة دون سيطرة المادة على الإنسان لا بد أن ينفقه في سبيل الله و المحتاجين . . .! و لا يسعى وراء المال الحرام فإن في ذلك نهاية الإيمان .
و أبو ذر ما كان يمنعه من جلب الثروة شيء ، فهو صاحب رسول الله ، و خامس المسلمين ، و في طليعة المجاهدين مع صاحب الرسالة طيلة عمره . . إلا أن الإيمان كان يمنعه من ذلك ، ففي ذلك العصر الذي عاشه أبو ذر حيث كان الناس يعيشون في أشد حالات الفقر و الحرمان كانت حاشية الخليفة تقضم مال الله قضم الإبل نبتة الربيع (كما يقول الإمام علي (ع) ) .
يقول الأحنف بن قيس : \" كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر رضي الله عنه و هو يقول : بشر الكانزين بِكّيٍ في ظهورهم يخرج من جنوبهم و بِكّيٍ من أقفيتهم يخرج من جباههم
قال : ثم تنحى فقعد إلى سارية ، فقلت : من هذا ؟
قالوا : هذا أبو ذر فقمت إليه ، فقلت : ما شيءٌ سمعتك تقول قبيل .
قال : ما قلت إلا شيئاً سمعته من نبيهم .
قلت : ما تقول في هذا العطاء ؟
قال : خذه فإن فيه اليوم معونة ، فإذا كان ثمناً لدينك فدعه \" / الغدير ص 320 .
أعرفت أي موقف ينبغي للمؤمن الصادق أن يتخذه تجاه المال .
أن يطلب من حله
و ينفقه في سبيل الله (على) الناس .
و إن كان ثمناً للدين ، فدعه .
فـ\" إن خليلي عهد إلي أن أي مال ذهب أو فضة أو كي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله \" .
قال : كنت بالشام فأختلف أنا و معاوية في هذه الآية : { الذين يكنزون الذهب و الفضة } ، فقال : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : فينا و فيهم !
كان معاوية يريد تضليل الناس بتحديد القرآن لوقت نزوله ، و مورده فقط ، بينما كان أبو ذر الذي صحب رسول الله منذ بدء الدعوة ، يرفض هذا التغيير الكيفي التضليلي ، ليؤكد شمول القرآن لكل مجتمع ، في كل زمان و مكان .
على أبواب الشام وقف يودع أهلها . . . و كان جمع غفير من الطيبين قد تجمهروا لوداعه في مظاهرة واضحة على جور معاوية – وإلى الخليفة في البلاد .
هناك وقف أبو ذر يخطب فيهم قائلاً :
\" أيها الناس : إني موصيكم بما ينفعكم ، و تارك الخطب و التشقيق .
احمدوا الله عز وجل .
فقال الناس : الحمد لله .
ثم قال : أشهد أن لا إله الله و أن محمد عبده و رسوله ، فأجابوه بمثل ما قال .
فقال : أشهد أن البعث حق ، و أن الجنة حق ، و أن النار حق و اقر بما جاء من عند الله و أشهدوا عليّ بذلك .
فقال الناس : نحن على ذلك من الشاهدين .
قال : ليبشر من مات منكم على هذه الخصال برحمة الله و كرامته ما لم يكن للمجرمين ظهبراً ، و لا لأعمال الظلمة مصلحاً ، و لا لهم معيناً .
أيها الناس : اجمعوا مع صلاتكم و صومكم غضاً لله عز وجل إذا عصي في الأرض ، و لا ترضوا أئمتكم بسخط الله ، و إن أحدثوا ما تعرفون فجانبوهم ، و ازرئوا عليهم ، و إن عذبتم و حرمتم و سيرتم ، حتى يرضى الله عز وجل ، فإن الله أعلى و أجل ، و لا ينبغي أن يسخط برضى المخلوقين ، غفر الله لي و لكم .
عندما توفى ولده ( ذر ) في منفى الربذة من الجوع و العطش ، وقف على قبره قائلاً : \" رحمك الله يا ذر و الله كنت بي باراً ، ولقد قُبضت وأني عنك لراض ، أما و الله ما بي من فقدك ، و ما بي غضاضة ، و ما لي أحدٌ سوى الله من حاجة ، و لولا هول المطلع ، لسرني أن أكون مكانك ، و لقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، و الله ما بكيت لك ، و لكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلت و ماذا قيل لك ( إشارة إلى سؤال منكر و نكير ) ، اللهم إني قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي ، فهبني له ما افترضت عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود مني . \" /البحار ص435 .