عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

إعادة قراءة فلسفة الانتظار

الملخص

إن القرآن الكريم يؤكد على شخصية التاريخ وواقعيته، كما يؤكد على الاتجاه الارتقائي والتكاملي للمجتمع. والمعارك البشرية تتجه على مر التاريخ بالتدريج نحو اتخاذ صفة أيديولوجية، ويتجه الإنسان بالتدريج نحو التكامل في قيمة الإنسانية، أي يقترب من الإنسان المتعالي ومن المجتمع المثالي. وستكون نهاية المسيرة الإنسانية إقامة حكومة العدل وحكومة سيادة القيم الإنسانية، أو بالتعبير الإسلامي: \"حكومة المهدي\".

يهدف هذا البحث إلی إزالة النظرة التشاؤمية إلى فترة الغيبة ويفيد أنها حلقة من مراحل الاستكمال التدريجي للإمام والبلوغ التدريجي للبشر. ويری الباحث أن فترة الغيبة الكبرى هي جزء من ولاية المهدي التي تتراوح بين الغياب والظهور، ونستمد من توحد الظهور بالبطون في الأسماء الإلهية الشريفة, لنقول إن غياب المهدي(عج) قد يكون بحد ذاته حضوراً لحقيقته من خلال تحريك العقل والاجتهاد في تعاطي الأمة التي غاب عنها وليها, وناب عنه علماء وفقهاء وضعت على عاتقهم إدارة شؤون الناس وشجونهم بتوظيف العقل في استنباط المتغيرات من ثوابت العقل والشرع.

المقدمة

تنطلق هذه المقالة من \"إن الولاية سر النبوة وباطنها\".

أصبحت النبوة ساحة لظهور الأشياء، لا في النبوة التشريعية التي من شأنها إظهار ما في الغيب بسرد الوحي والألفاظ فحسب, بل وأيضاً في النبوة التكوينية التي من شأنها إظهار ما في باطن هذا العالم من الحقائق والأسرار. وهكذا أصبحت الولاية ساحة لبطون الأشياء. إذ إن لكل شيء ظهراً ولظهره بطناً,

وإذا كان محمد(ص) خاتم الأنبياء, وبه اكتمل الدين في التنظير للشريعة الأسمى وبروز مظاهره, وتمت النعمة الإلهية على صعيد النظر والفكر والأيديولوجيا, فسميّه والملقب بلقبه: الحجة بن الحسن(عج) خاتم الأولياء, وبه يكتمل الدين في تطبيق الشريعة الحقة وبروز أسرارها وكنوزها عبر العدالة الإلهية العالمية.

في هذه القراءة يمكننا تقسيم الأدوار التاريخية إلى دورتين رئيسيتين:

الدورة الأولى

فترة النبوة وإرسال الرسل وإنزال الكتب, وتبدأ بآدم(ع) وتنتهي بخاتم الأنبياء(ص).
في هذه المرحلة تأتي الشرايع الإلهية واحدة بعد أخرى, وكل شريعة تنسخ ما سبقها. وتلغي مفعولها وتقدم نموذجاً جديداً يواكب مع مستجدات الحضارة البشرية مع الاحتفاظ بجوهر الدين الواحد.

الدورة الثانية

هي دورة الولاية التي اعتبرنا باطن النبوة, وهي تبدأ بولاية الإمام علي بن أبي طالب(ع), وتستمر إلى آخر نشأة الدنيا. وبانتهائها تنطوي السموات والأرض, ويستعد الإنسان للبدء بحياة الخلد.

الدورة الثانية أيضاً تنقسم إلى فترة قصيرة جداً تتوزع بين ولاية الأئمة الأحد عشر، وتليها مرحلة ولاية خاتم الأنبياء، التي تنقسم بين الغيبة الصغرى والكبرى والثورة العالمية.

في قراءة سريعة عن ركائز هاتين الدورتين, أرى أن دورة النبوة تمتاز بصفتين أساسيتين:

الأولى: حضور الإنسان الكامل أي النبي بين حين وآخر بين الناس, ليقدم لهم أسوة حسنة تتجسد فيها القيم الإلهية, وتتبلور هذه القيم في شخصيته وأنماط علاقته بالناس وحياتهم الفردية والاجتماعية .

والثانية: الإعجاز المقرون بالتحدي كآية بينة لإثبات مصداقية نبوءة النبي و علاقته بمنبع القدرة المطلقة. هذه المعجزات عادة أمور تخرق النظام الإعدادي الحاكم على مسار المادة في الطبيعة, كناقة تظهر من تفجر جبل, وإلقاء عصاً تصبح ثعباناً مرعباً, والتحدث مع النمل والطير, وتسخير الرياح, وتسبيح الحصا في كف النبي, وشفاء الأكمه والأبرص, وإحياء الموتى. وهي عادة تنسجم مع معطيات العقلية البشرية الآخذة بالتطور والارتقاء من نبي إلى نبي آخر.

هذا الغياب التدريجي لأئمتنا الأطهار(ع), يأتي حسب رأيي في سياق التمهيد للغيبة الصغرى والغيبة الكبرى للحجة الثاني عشر

إلاّ أن هناك أكثر من برهان عقلي ونص شرعي يزيل النظرة التشاؤمية إلى فترة الغيبة ويفيد أنها حلقة من مراحل الاستكمال التدريجي للإمام والبلوغ التدريجي للبشر. إن اعتبار فترة الغيبة فراغاً سياسياً وخروجاً على الأصل يساوي اعتبار نهضة المنجي على حد تعبير الشهيد المطهري:

ذات طابع انفجاري محض، ناتجة عن انتشار الظلم والفساد والطغيان، أي أن مسألة الظهور نوع من الإصلاح الناتج عن تصاعد الفساد.[1]

وهذا باطل عقلاً, لاستحالة الطفرة أولاً, ولاستحالة التراجع من الكمال إلى النقص في أية حركة لالإنسان الذي هو العالم الصغير وللعالم الذي هو الإنسان الكبير ثانياً.

إن غياب المهدي بجسده, الذي يفتح المجال لحضوره بحقيقته ونوره الذي هو العقل, يهيء الأرضية في نضج المجتمع البشري الذي يجب أن يتأهل لأن يقوم هو بالقسط,:(لِيقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). وسيف المهدي لا يشهر على الناس بل على الطغاة الذين يأسرون عقول الناس وقلوبهم وأرواحهم وأبدانهم.

الولاية باطن النبوة

الحقيقة الغيبية المقدسة عن تعينات الأسماء والصفات أرادت أن تخرج من كتم العماء, وأحبت أن ترى نفسها في مرائى الأسماء والصفات. فتجلّت على الاسم الأعظم الذي يستجمع فيه كل الأسماء والأوصاف, وتمظهرت في الحقيقة المحمدية التي تعم جميع مراتب المخلوقات والظهورات. هذا التقابل بين حضرة الغيب وحضرة الكون الجامع, أدى بدوره إلى ظهور بقية الأسماء والصفات واحدة تلو أخرى، فبرز الغيب المغيّب مرة في الاسم \"الظاهر\", وتحقق في سلسلة الأنبياء, وأخرى في الاسم \"الباطن\", وتجلى في سلسلة الأولياء.

هكذا أصبحت النبوة ساحة لظهور الأشياء، لا في النبوة التشريعية التي من شأنها إظهار ما في الغيب بسرد الوحي والألفاظ فحسب, بل وأيضاً في النبوة التكوينية التي من شأنها إظهار ما في باطن هذا العالم من الحقائق والأسرار. وهكذا أصبحت الولاية ساحة لبطون الأشياء. إذ إن لكل شيء ظهراً ولظهره بطناً, مثل القرآن الذي هو نسخة صادقة عن كل مراتب الوجود, وبالأحرى كل مراتب الظهور. والنسخة طبق الأصل. فأصبح للقرآن ظهر, ولظهره بطن, ولبطنه بطن إلى سبعين بطناً. فأصبحت النبوة في عالمي التكوين والتشريع مجلى الظهور, والولاية موطن البطون. وتسنّى لنا أن نقول:
إن الولاية سر النبوة وباطنها.
وإذا كان يتحتم على النبوة في عالم الناسوت أن تنتشر في آفاق الجغرافيا, وتتوزع في أعماق التاريخ بدءً من أبينا آدم عليه السلام، الذي ابتدأ به سير الإنسان في سكة الزمان, مروراً بالأنبياء والمرسلين الذين أخذوا بيد البشرية, وساروا بها على درب الهداية خطوة خطوة, ومهدّوا الأرواح والأنفس لأعظم حدث ومنعطف في تاريخ الإنسانية, تمثل في نزول القرآن على قلب خاتم الأنبياء، فكذلك تحتم على الولاية أن تنتشر في عالم الناسوت بين فترات التاريخ, بدءً من الولاية العلوية, ومروراً بالحجج الطاهرة الذين فسروا القرآن وحققوا محكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده, وقدّموا في سلوكهم وتعاملهم تفسيراً حياً له, وفجروا في القرآن اثنتي عشرة عيناً حتى يعلم كل أناس مشربهم, ويتهيأوا لأعظم حدث يتحقق به القسط الذي نادى به جميع الأنبياء والمرسلين.

وإذا كان محمد(ص) خاتم الأنبياء, وبه اكتمل الدين في التنظير للشريعة الأسمى وبروز مظاهره, وتمت النعمة الإلهية على صعيد النظر والفكر والأيديولوجيا, فسميّه والملقب بلقبه: الحجة بن الحسن(عج) خاتم الأولياء, وبه يكتمل الدين في تطبيق الشريعة الحقة وبروز أسرارها وكنوزها عبر العدالة الإلهية العالمية.

\"فدائرة الولاية هي باطن دائرة النبوة. وهي في كامل التماثل مع دائرة النبوة, لأن النبوة من جانبها ليست غير ظاهر هذه الولاية … وكما أن دائرة النبوة قد وجدت كمالها وتمامها في خاتم الأنبياء، كذلك دائرة الولاية تجد مقامها في خاتم الأولياء\".[2]

ورغم أن أقوال شراح فصوص الحكم تضارب بشأن خاتم الأولياء, حيث أن الشيخ الجندي رأى ختم الولاية في شخص الشيخ الأكبر ابن عربي, وأفاد القيصري أن ابن عربي يصرّح في كلماته بأن عيسى هو خاتم الأولياء, لكن ابن عربي نفسه يقول إن ختم الولاية يخصّ سر الأنبياء وإمام العالمين علياً(ع), لأن علياً كان أقرب الناس إلى رسول الله. هذا بحسب الرتبة. وأما بحسب الزمان, فالخاتم المطلق عنده هو المهدي المنتظر. وعيسى وإن كان بحسب الظاهر والزمان خاتماً للولاية العامة، أما بحسب المعنى فهو مختوم بالختم المحمدي أي المهدي عليه السلام، لأن ولاية عيسى تكون من لمعات الولاية المهدوية, وهي حسنة من حسنات الإمام المنتظر\".[3]

كذلك يرى ابن عربي في الفصوص أن:\"الفتوح الربانية ثلاثة: الأول عبارة عن الفتح القريب, وهو المشار إليه بقوله: (نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ). والثاني هو الفتح المبين. وهو المشار إليه بقوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا). وأعلى الفتوح هو الفتح المطلق المشار إليه بقوله: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ). ونصر الله العزيز لا يتحقق إلاّ بوجود المهدي(عج), لأن هذا الفتح وإن ظهر بعض آثاره, لكن الظهور التام يحصل بوجود المهدي، ولذا قال ابن عربي أن النصر العزيز من مختصاته(عج).

والمقصود بالخاتم كما يقول الشيخ العارف عبد الرزاق القاساني: \"هو الذي يقطع المقامات بأسرها ويبلغ نهاية الكمال. والبالغ إلى نهاية الكمال واحد لا يقبل التعدد. وخاتم النبوة هو الذي ختم الله به النبوة, ولا يكون إلاّ واحداَ وهو نبينا(ص). وكذلك خاتم الولاية على الإطلاق. وهو أيضاً لا يتعدد. وهو الذي يبلغ به صلاح الدنيا والآخرة ونهاية الكمال, ويختّل بموته النظام. وهو المهدي الموعود عليه السلام الخاتم لجميع مراتب الولاية ودرجات الإلهية\".[4]

ننتقل الآن من هذه المقدمة إلى نتيجة أساسية تتفرع من اعتبار الولاية سراً وباطناً للنبوة, واعتبار خاتمية الولاية سراً وباطناً لخاتمية النبوة. هذه النتيجة هي: الاعتراف بأن زمن المهدي(عج) وفترة إمامته هي فترة بلوغ الإنسان وفترة تطبيق الشريعة الكاملة الحقة، التي لم تتحقق في زمن الأنبياء، مما يدفعنا نحو دراسة مراحل تطور واستكمال المجتمع البشري, ليتسنى لنا المجال بعد ذلك في الحديث عن سرّ غيبة المهدي(عج), ودور هذه الغيبة في مسار تكامل الإنسان.

إن القرآن الكريم في قراءة الشهيد المطهري; \"يؤكد على شخصية التاريخ وواقعيته، كما يؤكد على الاتجاه الارتقائي والتكاملي للمجتمع. والمعارك البشرية تتجه على مر التاريخ بالتدريج نحو اتخاذ صفة أيديولوجية، ويتجه الإنسان بالتدريج نحو التكامل في قيمة الإنسانية، أي يقترب من الإنسان المتعالي ومن المجتمع المثالي. وستكون نهاية المسيرة الإنسانية إقامة حكومة العدل وحكومة سيادة القيم الإنسانية، أو بالتعبير الإسلامي: \"حكومة المهدي\".[5]

ويلتقي الشهيد المطهري مع تويمبي في أن:

انحطاط الحضارات أمر لا يمكن رفضه، لكن تاريخ البشرية يسير نحو مسيرة تكاملة.[6]

هذا الاعتراف بمبدأ الاتجاه الإرتقائي والحركة التكاملية كاتجاه عام للمجتمع البشري في صناعة تاريخه, يتفق أيضاً مع تفسير الحكمة المتعالية الصدرائية لواقع الحركة في قوس الصعود. فالحركة في هذه المدرسة الفلسفية العرفانية تفسّر وتعرّف بالخروج التدريجي للأشياء من القوة إلى الفعل. وحيث أن نسبة القوة إلى الفعل هي نسبة النقص إلى الكمال، ويستحيل عقلياً الرجوع من الفعل إلى القوة، فكل الحركات والتبدلات في عالم الناسوت وفي قوس الصعود تتم بالخروج من النقص إلى الكمال، بما فيها التطورات التي تحصل في المجتمع البشري على الصعيدين الفردي والاجتماعي، وخاصة مع ملاحظة أن النفس الإنسانية جسمانية الحدوث وروحانية البقاء، فهي أيضاً تتّبع نفس النظام. والأهم من هذا, ملاحظة الآيات القرآنية الجمة التي تؤكد على رجوع الأمور والأشياء كلها إلى الله: (وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) و(وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ), مما يرفض إمكانية الحركة القهقرية والتراجع عن الاستكمال في الدنيا وحتى في الآخرة: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ).

إن الاقتناع بهذه الرؤية الكونية يترسخ في فكرة المهدوية التي على قول الشهيد المطهري: \"تنطوي على نظرة تفاؤلية تجاه المسيرة العامة للنظام الطبيعي وتجاه مسيرة التاريخ، وتبعث الأمل بالمستقبل، وتزيل كل النظريات التشاؤمية بالنسبة لما تنتظره في آخر تطلعاتها … والقرآن الكريم يرفض بشدة النظرة العبثية إلى التاريخ، ويشدّد على وجود قواعد ثابتة دائمة لمسيرة الأمم والجماعات، فيقول: (فَهَلْ ينظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)[7].[8]

من هذه الآراء العبثية, ما نقرأه من \"رسل\" في كتابه:\"في الآفاق الجديدة\": \"ثمة أفراد ـ منهم اينشتاين ـ يزعمون أنه من المحتمل جداً أن يكون الإنسان قد طوى دورة حياته، وسيستطيع خلال السنوات القليلة القادمة أن يبيد نفسه بما يتمتع به من مهارة عملية فائقة\".[9]

طبعاً, لا نقصد بالحركة التكاملية التاريخية فكرة الحتمية التاريخية التي بناها بعض التيارات الفلسفية المادية كالماركسية, والتي لا تدع أي مجال لمبدأ الحرية والاختيار للإنسان.صحيح أن الإنسان مسيّر لمستقبل سيكون أفضل من الحاضر والماضي. لكن له الخيار أن يكون في داخله نفساً تستجمع جميع أسماء الله, من منطلق: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا), فيصبح خليفة \"الله\" في أرضه, وينال مقال العبودية التي كنهها الربوبية، وله الخيار في تفتيت هذا الاستجماع وتبني التفرق المذكور في الآية الشريفة: (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

والآية الشريفة (وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيرَكُمْ), وكذلك: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ), تدلان على اختيار الإنسان في عين حتمية تحقق الإرادة الإلهية بشأن استكمال الإنسان فرداً وجماعة.

ثم إن الاقتناع بمبدأ الحركة التكاملية التاريخية في عين الاعتراف بحرية الإنسان واختياره في تحديد مرتبته في هذه المجموعة اللامتناهية من كلمات الله ومخلوقاته, يتطلب منا دراسة الفترات التاريخية التي مرت وتمر بالمجتمع البشري للتعرف على حكمة غيبة المهدي(عج).

فتقول: إن تقسيم التاريخ إلى مراحله وأطواره يتنوع بتنوع المعايير التي نختارها للتعريف بالإنسان ومجتمعه. حيث يمكن إجراء التقسيم باعتماد مبدأ السياسة والإرادة, فتنقسم المراحل في كل شعب بين الأفراد والعوائل المالكة التي حكمت على رقاب الناس، أو اعتماد مبدأ الاقتصاد, ويأتي الحديث عن الاشتراكية الأولى والرقية والإقطاعية والرأسمالية والشيوعية في التقسيم الماركسي, أو اعتماد مبدأ الثقافات والحضارات التي تذكرنا بالحضارات الصينية والمصرية واليونانية والروسية والفارسية والغربية.

لكن الثقافة الإسلامية والشيعية التي نفتخر بها ترسم لنا أدوار التاريخ بنحو مختلف تماماً, وتعتمد على مبدأ الشرايع السماوية التي ترى أن جوهر الارتقاء يكمن في العبادة كآلية للتقريب إلى الله أي الكمال المطلق.

نلاحظ هنا أن الدين يستخدم دائماً في القرآن بلفظه المفرد: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)، (وَمَن يبْتَغِ غَيرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يقْبَلَ مِنْهُ). والاختلاف لا يتعرض لجوهر الدين الذي يبقى واحداً منذ اللحظة الأولى لتاريخ البشر ومجيء آدم كأول إنسان وأول نبي، حتى نهاية التاريخ وانطواء الدنيا، بل يتعرض للشرايع التي تبرمج حياة الإنسان في شؤونه وعلاقاته المتشابكة: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[10]، مما يعني أن الدين حقيقة واحدة, لكنها مشككة تتظاهر في الشرايع المختلفة التي ليست إلاّ حلقات مرتبطة بعضها بالبعض أشد ارتباط. فالطفرة مستحيلة سواء في عالم التكوين أو نظام التشريع.

في هذه القراءة يمكننا تقسيم الأدوار التاريخية إلى دورتين رئيسيتين:

الدورة الأولى: فترة النبوة وإرسال الرسل وإنزال الكتب, وتبدأ بآدم(ع) وتنتهي بخاتم الأنبياء(ص).

في هذه المرحلة تأتي الشرايع الإلهية واحدة بعد أخرى, وكل شريعة تنسخ ما سبقها. وتلغي مفعولها وتقدم نموذجاً جديداً يواكب مع مستجدات الحضارة البشرية مع الاحتفاظ بجوهر الدين الواحد.

الدورة الثانية: هي دورة الولاية التي اعتبرنا باطن النبوة, وهي تبدأ بولاية الإمام علي بن أبي طالب(ع), وتستمر إلى آخر نشأة الدنيا. وبانتهائها تنطوي السموات والأرض, ويستعد الإنسان للبدء بحياة الخلد.

الدورة الثانية أيضاً تنقسم إلى فترة قصيرة جداً تتوزع بين ولاية الأئمة الأحد عشر، وتليها مرحلة ولاية خاتم الأنبياء، التي تنقسم بين الغيبة الصغرى والكبرى والثورة العالمية.

في قراءة سريعة عن ركائز هاتين الدورتين, أرى أن دورة النبوة تمتاز بصفتين أساسيتين: الأولى: حضور الإنسان الكامل أي النبي بين حين وآخر بين الناس, ليقدم لهم أسوة حسنة تتجسد فيها القيم الإلهية, وتتبلور هذه القيم في شخصيته وأنماط علاقته بالناس وحياتهم الفردية والاجتماعية . والثانية: الإعجاز المقرون بالتحدي كآية بينة لإثبات مصداقية نبوءة النبي و علاقته بمنبع القدرة المطلقة. هذه المعجزات عادة أمور تخرق النظام الإعدادي الحاكم على مسار المادة في الطبيعة, كناقة تظهر من تفجر جبل, وإلقاء عصاً تصبح ثعباناً مرعباً, والتحدث مع النمل والطير, وتسخير الرياح, وتسبيح الحصا في كف النبي, وشفاء الأكمه والأبرص, وإحياء الموتى. وهي عادة تنسجم مع معطيات العقلية البشرية الآخذة بالتطور والارتقاء من نبي إلى نبي آخر.

هذه الخطوات, تمهد لمرحلة هامة من بلوغ الفكر والعقل واكتساب أهلية لتلقّي معجزة خالدة لا تكون خرقاً لنظام الطبيعة والجسم, بل تكون خرقاً لحجب الفكر ومطبات العقل. وهي تتجلى في الكلام واللغة التي هي آية الفكر. هذا المنعطف, يطوي دورة النبوة التي تشبه دورة الطفولة وحياة ما قبل البلوغ, والتي يحتاج فيها البشر إلى رعاية إلهية محسوسة تتمثل بحضور النبي في الشارع وبين الناس وبيده معجزة تثبت لتلك العقلية علاقة النبي برب السماء.

هذا المجتمع في دورة الولاية يصل إلى مستوى من البلوغ الفكري لا يحتاج فيه إلى نبيّ مدجج بمعجزة طبيعية تثبت صدقه. لكنه في دورة انتقالية ولو قصيرة يحتاج إلى حضور إنسان كامل كالنبي وهو إمام معصوم يقدم نموذجاً عملياً لإمكانية تحقيق المثل والقيم على صعيد الواقع.

هذه الفترة القصيرة تمتاز بحضور الإنسان الكامل في الشارع وبين الناس، لكن عنصر الإعجاز المقرون بالتحدي يغيب عن الساحة ليصبح التعقل والتدبر بديلاً عنه. طبعاً لا نقصد بالبلوغ الفكري والتعقل أن الإنسان يستغنى عن الوحي والإعجاز. كلاّ. بل المقصود أن القرآن باعتباره المعجزة الخالدة الأخيرة يؤكد على إعجازه لا عبر اختراقٍ في نظام الطبيعة, بل عبر مناشدة العقول ومخاطبة الأفكار بالدعوة إلى التعقل والتدبر في آياته المعجزة التي رغم ثباتها بألفاظها واستحالة أي تغير في كلمة واحدة منها, لكنها تواكب كل المتغيرات والمستجدات التي ستطرؤ على الآفاق والأنفس بل تتنبؤ بها قبل حدوثها.

صحيح أن بعض الكرامات تظهر بأيدي الأئمة(ع) بعد غياب عنصر الإعجاز المقرون بالتحدي, لكنها هي أيضاً تخف شيئاً فشيئاً من إمام سابق إلى إمام لاحق.

اللافت للنظر أن العنصر الأول أي حضور الإمام المعصوم الذي يفسر القرآن بقوله وفعله وتقريره, هو أيضاً يتقلص تدريجياً في الأئمة الستة الأواخر. فبعدما يعمل الإمام الصادق على بلورة صياغة شبه كاملة للمذهب الشيعي في فقهه وأصولهو كلامه وتفسيره في مدرسته العلمية الرائعة, نواجه ابتعاد الإمام الكاظم(ع) عن الجمهور في فترة السجن، وإقصاء الإمام الرضا(ع) عن وطنه والرقابة المشددة عليه رغم تعيّنه لولاية العهد في طوس, وخفة حضور الإمام الجواد(ع) الذي دام عمره خمساً وعشرين سنه والذي يعقبه الإمام علي والإمام الحسن العسكريين8 الذين أمضيا معظم عمرهما الشريف في معسكر الخلافة العباسية الغاصبة.

هذا الغياب التدريجي لأئمتنا الأطهار(ع), يأتي حسب رأيي في سياق التمهيد للغيبة الصغرى والغيبة الكبرى للحجة الثاني عشر. أفضّل هنا، وقبل تقديم قراءتي عن سر الغيبة وحكمتها, أن نلقي نظرة عابرة على ترتب الغيبتين الصغرى والكبرى:

الحكمة الأساسية من إيجاد الغيبة الصغرى كما يقول الشهيد السيد محمد الصدر:

هو التمهيد الذهني لوجود الغيبة الكبرى في الناس. إذ لو بدأ المهدي(عج) بالغيبة المطلقة فجأة وبدون إنذار وإرهاص لما أمكن إثبات وجوده في التاريخ، فتنقطع حجة الله على عباده.[11]

ويلتقي معه الشهيد محمد باقر الصدر بقوله:

إن القواعد الشعبية للإمامة الشيعية كانت على الاتصال بالإمام في كل عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حل المشاكل المتنوعة. فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة، وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية سببت هذه الغيبة المفاجأة الإحساس بفراغ دفعي هائل, قد يعصف بالكيان كله ويشتت شمله. فكان لا بد من تمهيد لهذه الغيبة, لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج, وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها.[12]

وكما كانت الغيبة الصغرى تمهيداً لتكيّف الناس مع ظروف الغيبة الكبرى, فكذلك سلسلة الأحداث التي تتعاقب في الغيبة الكبرى ليست إلاّ حلقات توطئ الأمور لظهور خاتم الأولياء.

من هذه الأحداث:\"النهضة الخمينية التي برهنت عملياً على إمكانية إقامة الدولة الإسلامية العادلة في العصر الحاضر، المواكبة لتطوراته والمستجيبة لمتطلباته. ومجرد قيادة مثل هذه النهضة يمثل تمهيداً للثورة المهدوية، حيث يتضمن التعريف بهوية المصلح الكبير على الصعيد الإسلامي والعالمي. وإلى هذا الأثر تشير الأحاديث الشريفة عندما تقول بعد حديثها عن حركة الموطئة:\"فعند ذلك يتمنى الناس المهدي ويطلبونه\". قال رسول الله(ص):

يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي سلطانه.[13]

نلاحظ كيف أن التخطيط الإلهي يرتب حلقات تاريخ المجتمع البشري ويمهد للحلقات اللاحقة عبر الحلقات السابقة. كأنّ هذه الدورات الزمنية المترتبة تشبه الترتب المكاني في الكواكب والمجرات, حيث لا حلقة مفقودة فيها, وتشبه (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَينِ ينقَلِبْ إِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ).

وفي نظرة عابرة وكما يقول السيد محمد الصدر: \"نستطيع أن نلاحظ كيف أن خط الأنبياء الطويل والأعداد الكبيرة منهم إنما كان باعتبار التقديم والتمهيد للغرض الكبير، باعتبار أن البشرية حين أول وجودها كانت قاصرة عن فهم تفاصيل العدل الكامل. فلم يكن في الإمكان إيجاد المجتمع العادل الكامل الموعود في ربوعها لأول وهلة، بل كان لابد أن تسير البشرية تدريجياً إلى أن تصل إلى المستوى اللائق الذي يؤهلها لفهم العدل الكامل الذي يريد الله تطبيقه في اليوم الموعود\".[14] وهو يرى أن الغرض الإلهي لدورة النبوة تمهيد الناس عبر الأنبياء, والغرض من دورة الولاية تمهيد الناس عبر الأئمة الأولياء لتطبيق العدل الكامل في اليوم الموعود بواسطة خاتم الأولياء.

الاعتراف بسرد الأحداث التاريخية حسب التخطيط الالهي لاستكمال الانسان, يتطلب منا دراسة غيبة الإمام المنتظر, وتحديد مكانة هذه الفترة في حلقات الاستكمال.

أول ما يخطر بالبال في هذا المجال هو أن محدودية عدد الأئمة الأطهار باثنى عشر إماماً حسب نصوصنا المتواترة تتطلب قبول استمرار ولاية المهدي(عج) منذ تسلمها بعد استشهاد أبيه حتى تحقيق ثورته. وافتراض أن يموت ثم يحييه الله تعالى يتنافي مع ضرورة استكماله التدريجي المواكب لتطورات المجتمع الإنساني في تكامل ما بعد العصمة. هذا التكامل التدريجي حقيقة عامة تشمل الأولياء والأنبياء بما فيهم نبي الإسلام المكرم(ص) الذي )دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى(.

\"إن ما يمر به القائد من مصاعب ومحن في فترة الغيبة يوجب تصاعد كماله … وما يقوم به من أعمال فانه يتكامل بذلك ويزداد في أفق وجوده العظيم ترسخاً وعمقاً . وعقد المرحوم الكليني باباً بعنوان: \"إن الأئمة يزدادون في ليلة جمعة \" .[15] وقال الله تعالى:

(وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا).

تكامل الإمام المهدي هذا, يترافق مع تكامل البشر طوال الغيبة. وتعمق الفكر الإسلامي بواسطة العلماء والمفكرين \" يجعل الأذهان مستعدة أكثر فأكثر لتقبل وفهم الأحكام التفصيلية التي يعلنها المهدي(عج) في دولته العالمية الموعودة … وليست الدقة في الفكر الإسلامي فقط هي التي تشارك في تعميق المستوى الثقافي اللازم تحققه في اليوم الموعود، بل يشارك في ذلك سائر القطاعات والشعوب في العالم بما تبذل من دقة وعمق في سائر العلوم, مضافاً إلى أن التقدم العلمي في سائر حقول المعرفة البشرية سوف يشارك مشاركة فعالة في بناء الغد المنشود\".[16]

نعم، هذه القراءة التي تنظر إلى فترة غياب المهدي كحلقة من حلقات التطور والاستكمال, قد تصطدم بجمّ غفير من الأحاديث التي ترسم معالم هذه الفترة في إطار مفعم بالسيئات والشرور، كالروايات التي تشير إلى ظهور المهدي الذي (عج)به يملا الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً) . أو تلك التي ترى علامات قيام القائم فيما: (عج)إذا تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال, وركبت ذات الفروج السروج وأمات الناس الصلوات واتبعوا الشهوات واستخفوا بالدماء وتعاملوا بالربا وتظاهروا بالزنا واستحلوا الكذب واخذوا الرشا واتبعوا الهدى وباعوا الدين بالدنيا وقطعوا الارحام وضنوا بالطعام… \"[17], وما إلى ذلك مما قد يثير الشك في إصرارنا على اعتبار فترة الغيبة حلقةً من مراحل تكامل المجتمع البشري, ويعتبر هذا الزمن زمن سقوط القيم وتراجع البشرية عن خط الاستكمال الذي سلكته في زمن الأنبياء, ويفسر عصر الغيبة بفترة الفراغ وزمن الاستثناء. بالفعل هذا ما يراه الكثيرون منا. وبتعبير أحد الكتاب:

\"الحضور التاريخي للشيعة كان يتقلب على ضفاف دولة الخلافة السنية, ويتكون خارج أروقتها ودوائرها, حيث غلب على الموقف السياسي للشيعة الانكفاء عن موضوع السلطة والحكم، وتعزز في الوعي رؤية متعالية حول الدولة والحكم ذات طبيعة نموذجية ومثالية . فالدولة الحقة هي التي ستحقق آخر الزمان بظهور الإمام المهدي(عج). أما زمن غيبة الإمام فهو فترة فراغ سياسي وزمن الاستثناء والخروج على الأصل . وكان أقصى ما ابتكره الاجتهاد الشيعي في المجال التنظيمي هو التأسيس لمرجعية الفقية كمرجعية إجرائية للجماعة الشيعية تحفظ وجودهم وتمنع اختراقهم . إلاّ أن هذه المرجعية تبلورت في سياق ملء الفراعات واستيعاب الظرف الطارئ للغيبة . فالأصالة للإمام ولزمانه والمؤقت للفقيه الذي سيصبح نائبه في تصريف الأعمال من دون أية صلاحية بملامسة كليات الواقع. فلا سلطة سياسية مشروعة في زمن الغيبة, ولاقيادة سياسية إلا للإمام المعصوم، إذ كل راية قبل الظهور و هي راية ضلال\".(عج)د. وجيه قانصو. السفير). هذه فكرة تعود عليها الكثيرون.

إلاّ أن هناك أكثر من برهان عقلي ونص شرعي يزيل النظرة التشاؤمية إلى فترة الغيبة ويفيد أنها حلقة من مراحل الاستكمال التدريجي للإمام والبلوغ التدريجي للبشر. إن اعتبار فترة الغيبة فراغاً سياسياً وخروجاً على الأصل يساوي اعتبار نهضة المنجي على حد تعبير الشهيد المطهري:

ذات طابع انفجاري محض، ناتجة عن انتشار الظلم والفساد والطغيان، أي أن مسألة الظهور نوع من الإصلاح الناتج عن تصاعد الفساد.[18]

وهذا باطل عقلاً, لاستحالة الطفرة أولاً, ولاستحالة التراجع من الكمال إلى النقص في أية حركة لالإنسان الذي هو العالم الصغير وللعالم الذي هو الإنسان الكبير ثانياً.

وباطل نقلاً بصريح الآيات القرآنية التي تحيل كل الحركات والتطورات إلى الله الذي إليه المصير وإليه ترجع الأمور، وبصريح الروايات الموثوقة التي لا ترى بداً من تحقق فترة الغيبة لتكوين النضج العقلاني والأخلاقي بالابتلاء والامتحان, ومنها ما رواه الشيخ الصدوق; عن الإمام الصادق (ع):

إن ظهور المهدي لا يتحقق حتى يشقى من شقى ويسعد من سعد.[19]

فالحديث عن الظهور يدور حول بلوغ كل شقي وكل سعيد مداه في العمل، ولا يدور حول بلوغ الأشقياء فقط منتهى درجتهم في الشقاوة.

يقول الله تعالى:

(لِّيقْضِي اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَينَةٍ وَيحْيى مَنْ حَي عَن بَينَةٍ).[20]

والآية صريحة في ضرورة إجراء قانون التمحيص والاختبار. و\"المجتمع الموعود لا يمكن أن يحدث ما لم تسبقه فترة من التمحيص\".[21] كما أن الفرد \"قبل حصول ظروف الجهاد وقبل تشريعه يكون ناقص التكوين حقيقة, لا مجاهداً ولا صابراً، وتكون حالته النفسية واتجاهاته مجملة\".[22] ومن ثم قال الله تعالى:

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ).

من هنا يتبين أن ازدياد الفتن والمزلات بشكل تصاعدي في زمن الغيبة, وإن كان ظاهرها أمر سلبي تشاؤمي للغاية, لكنها تحمل في طياتها أمراً إيجابياً للغاية, وهو أن كثرة الابتلاءات بحد ذاتها تدلّ على ظهور نفوس مترسخة في الإيمان استطاعت أن تتجاوز العقبات الصغيرة وحان لها أن تضغط بمزيد من العراقيل وتبتلى بمزيد من المطبات، ولا بد للصراط أن يصبح أحد من السيف وأدق من الشعر، لأن أفضل الأعمال أهمزها. ولابد أن يكون حفظ الإيمان أصعب من حفظ نار … (لِيمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ), وألا يكفي هذا لإثبات وجود الطيب إلى جانب الخبيث حسب الآية, ووجود السعيد إلى جانب الشقي حسب الرواية ؟

دعونا نتجاوز الظاهر ونتسلل في العمق، ونرى وراء الظاهر المفعم بالفتنة والفساد في فترة الغيبة باطناً رائعاً يتمثل في نفوس:

لا تضرها الفتنة شيئاً لأنهم يمثلون الحق صرفاً، وينتمون إلى قسطاط الحق الذي لا كفر فيه كما ورد في الأخبار.[23]

هذا, وإن التفاؤل بتكامل البشر على المستوى العلمي لا يقل عن التشاؤم من الابتذال الأخلاقي. وإذا كان العلم بدون التهذيب لا قيمة له, فالعكس أيضاً صحيح. وربما يعود إلى هذا التوازن, السر في تقديم التزكية على التعليم في الآية 2 من سورة الجمعة: (وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وتقديم التعليم على التزكية في الآية 129 من سورة البقرة: (وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيزَكِّيهِمْ).

إن هذه القراءة تدعي أن اعتبار فترة الغيبة زمن الفراغ والاستثناء والخروج على الأصل له مردوده السلبي في إبعاد الشيعة عن التفاعل الإيجابي طوال دورة قد تطول أكثر من فترة تواجد الأنبياء وفترة حكومة المهدي نفسه والتي لا تدوم كثيراً.

وتفيد القراءة بعد تبني هذه النظرة التفاؤلية أن السر في غيبة الإمام المهدي لا ينحصر في الحفاظ على نفس الإمام وكثرة العدو كما ذهب إليه معظم متكلمي الشيعة. وعبارة العلامة الحلي في الباب الحادي عشر التي يقول فيها:\"وأما سبب خفائه عليه السلام فإما لمصلحة استأثره بعلمها أو كثرة العدو وقلة الناصر\"[24] تفتح المجال لأكثر من قراءة في علل غيبة المهدي وحكمتها.

انطلاقاً من الرؤية المتفائلة القائلة بأن فترة الغيبة مرحلة طويلة من تاريخ البشر, وحلقة أساسية من حلقات الاستكمال التدريجي للإنسان, نرى أن فترة الغيبة الكبرى هي جزء من ولاية المهدي التي تتراوح بين الغياب والظهور، ونستمد من توحد الظهور بالبطون في الأسماء الإلهية الشريفة, لنقول إن غياب المهدي (عج) قد يكون بحد ذاته حضوراً لحقيقته من خلال تحريك العقل والاجتهاد في تعاطي الأمة التي غاب عنها وليها, وناب عنه علماء وفقهاء وضعت على عاتقهم إدارة شؤون الناس وشجونهم بتوظيف العقل في استنباط المتغيرات من ثوابت العقل والشرع.

الخاتمة

إن غياب المهدي هو بعينه حضوره من خلال تحريك العقل وتوكيله وحجتنا أن خاتمية الولاية بالمهدي هي سّر لخاتمية النبوة بمحمد(ص). والحقيقة المحمدية هي العقل كله. والذي قال:\"أول ما خلق الله نوري\"، قال أيضاً \"أول ما خلق الله العقل\".

إن غياب المهدي بجسده, الذي يفتح المجال لحضوره بحقيقته ونوره الذي هو العقل, يهيء الأرضية في نضج المجتمع البشري الذي يجب أن يتأهل لأن يقوم هو بالقسط,: (لِيقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). وسيف المهدي لا يشهر على الناس بل على الطغاة الذين يأسرون عقول الناس وقلوبهم وأرواحهم وأبدانهم.

مصادر البحث

الحلي، العلامة. الباب الحادي عشر. بيروت: دار الأضواء

الصدر، محمد باقر. بحث حول المهدي. بيروت: دار التعارف للمطبوعات

الصدر، محمد. تاريخ الغيبة الكبرى. بيروت: دار التعارف للمطبوعات

قانصو، وجيه. إيران بين الدولة الولاية وولاية الدولة. بيروت: جريدة السفير.

القيصري. شرح فصوص الحكم . بيروت: مكتبة النور

كوربان، هانري. الشيعة الإثنى عشرية. ترجمة د. ذوقان قرقوط. القاهرة: مكتبة مدبولي

محمود، عرفان(عج)1418). النهضة الخمينية والتمهيد لظهور المهدي. مجلة الحياة الطيبة. العدد التجريبي

المطهري، مرتضى. نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ. بيروت: دار التيار الجديد

المطهري؛ مرتضى. نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

------------------------------------------------------------------------------
* أستاذ مشارک في قسم اللغة العربية بجامعة اصفهان.

[1]. المطهري.نهضة المهدي43.

[2]. كوربان، ص287.

[3]. القيصري، ص850.

[4]. المصدر السابق، ص 151.

[5]. المطهري. نهضة المهدي، ص 11 ـ 21.

[6]. المصدر السابق،.ص 34.

[7]. سورة الفاطر / 43.

[8]. المصدر السابق، ص 6 ـ 10.

[9]. المصدر السابق، ص 41.

[10]. سورة المائدة / 48.

[11]. محمد الصدر، 32.2.

[12]. محمد باقر الصدر.

[13]. عرفان محمود.

[14]. محمد الصدر، ص207.

[15]. السيد محمد الصدر، ص 423.

[16]. نفس المصدر، ص 238.

[17]. نفس المصدر، ص 266.

[18]. المطهري، ص43.

[19]. السيد محمد الصدر.

[20]. الأنفال / 42.

[21]. السيد محمد الصدر، ص231.

[22]. نفس المصدر، ص 264.

[23]. نفس المصدر، ص 261.

[24]. العلامة الحلي، ص 118.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في أن الاستقامة إنما هي على الولاية
صُبت علـَـيَ مصـــائبٌ لـ فاطمه زهراعليها ...
التقیة لغز لا نفهمه
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
وصول الامام الحسین(ع) الى کربلاء
دعاء الامام الصادق عليه السلام
الصلوات الكبيرة المروية مفصلا
الشفاعة فعل الله
أخلاق أمير المؤمنين
اللّيلة الاُولى

 
user comment