عربي
Thursday 18th of April 2024
0
نفر 0

التفكير الديني في المراهقة

يفتح القرآن الكريم أمام المراهق مجالات كثيرة للتأمل والتفكير في نفسه وبني جنسه والكائنات من حوله، وبالجملة فإنه يفتح أمامه صفحة الوجود كله.
إن النضوج العقلي للمراهق في هذه المرحلة يدفعه إلى التفكير بجدية في العالم المحيط به ـ العالم المادي ـ العلاقات الأسرية ـ العلاقات الاجتماعية ـ العواطف والاتجاهات النفسية ـ بقصد التأكد من صحة معلوماته التي تعرف عليها في مراحل عمره السابقة، ويعتبر التفكير الديني في هذه المرحلة من أبرز أنواع التفكير الحادثة فيها، لغرض الإقرار العملي بالميثاق الذي أخذها لله على جميع الخلق وهم بظهر الغيب بأصلاب آبائهم.
إن تفكير المراهق يشمل مسائل الدين عامة، وأن أهم القضايا الدينية تلح على عقله وتتطلب تفسيراً هي قضايا التوحيد (توحيد الألوهية والربوبية) والغاية من خلق الإنسان وأصل نشأته والمراحل التي مر بها خلقه، وقضايا البعث والحشر والحساب والصراط والجنة والنار والملائكة والجن وحكمة التشريعات والتكليف بالعبادات.
ولما كانت العقول متفاوتة في قدرتها على الفهم والإدراك والتفكير، فإن القرآن الكريم قد اشتمل على آيات كونية ونفسية واجتماعية تتناسب مع قدرات كل طائفة من البشر حسب استعداداتها وامكاناتها العقلية والعلمية والثقافية وتجربتها الميدانية.
إن القرآن الكريم يعالج كل قضية من قضايا العقيدة بطرائق متعددة وأساليب متنوعة لتناسب كل المستويات العقلية، فمن يستعصي عليه الفهم في إحداها ـ لقصر عقله وسذاجة تفكيره ـ يستطيعه في أخرى، لذا نجد القرآن الكريم يعالج قضايا الألوهية والربوبية والبعث مجتمعين كما يعالج كل واحدة منها على حدة، وهكذا في جميع قضايا أصول الدين والقضايا الأخرى.
قال الله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون).
تعالج الآية قضية الألوهية بدعوة الإنسان للإدراك البصري، وملاحظة حال السماء وما فيها من كواكب ونجوم، وملاحظة حال الأرض وما عليها من مخلوقات وما في باطنها من معادن وسوائل وغازات.
والأمر البارز المقصود بالملاحظة هو التناسق بين الكواكب والنجوم في حركتها ودورانها حول فلكها، والآية بحالها معروضة على العقل الإنساني بكل مستوياته، فالمتوسطون ومن دونهم يلاحظون الحركة الظاهرة للكواكب والنجوم ومواقعها. وأما العلماء بجميع تخصصاتهم فنهم لا يقفون عند مجرد هذه النظرة البدائية، بل الكل ينظر بحسب قدرته وبقدر حاجته وما يناسب تخصصه، ويستفيد بتجاربه السابقة أملاً في التوصل إلى نتائج جديدة، والجميع في النهاية يلتقون عند إقرار واحد، وهو وحدة القانون الذي يضبط حركة هذه الكائنات جميعها في تناسق بديع لا يتطرق إليه خلل وهذا يدل على أن مدبر هذه الكائنات إله واحد سبحانه وتعالى.
(.. هذا الناموس الواحد من صنع إرادة واحدة لإله واحد، فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات. ولتعددت النواميس تبعاً لها.
ويعالج القرآن الكريم القضية ذاتها بمظهر آخر في قوله تعالى:
(قل لو كان معه آلهة كما يقولون لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً * سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً * تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً) وتعالج الآيات القضية في المظهر الحاضر، مظهر القهر والتسبيح، فالسماوات السبع والأرض ومن فيهن مقهورات لسلطانه تعالى، يسبحن بحمده تبارك وتعالى.
(لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا ـ أي الآلهة المزعومة ـ أي لطلبوا إلى ذي العرش ـ أي إلى الله سبيلاً ـ أي إلى مغالبته وإزالة ملكه لأنهم إذاً يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
يعالج القرآن الكريم مجموعة من القضايا مجموعة في آية أو آيات تجمع بينها وحدة موضوعية في مثل قوله الله تعالى:
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور).
تعالج الآيات الكريمة السابقة مجموعة من القضايا التي يهتم بها المراهق اهتماماً كبيراً في هذه المرحلة وهذه القضايا هي الألوهية والربوبية والبعث وأطوار خلق الإنسان ومراحل تكوينه في رحم أمه ومراحل حياته بعد الولادة وموته عند انقضاء أجله وقيام الساعة التي لا ريب فيها، والآيات تناسب كل المستويات العقلية كل بحسب حاجته واستعداده.
إن الحمل والولادة والإرضاع والطفولة والشباب وامتداد العمر إلى الشيخوخة حالات متكررة شاهدها المراهق كثيراً في طفولته وصباه، ولكنها لم تستوقفه وكأنها حالات مألوفة، لكنه بعد نضوج العقل، فإذا ما قرأ أو استمع إلى هذه الآيات ومثيلاتها، فإنه ينظرها بحس جديد، ونظر بعيد، يطالع من خلاله أسراراً لم يعهدها من قبل ويطالع فيما يطالع منها الأرض يابسة مجدبة ما فوقها من أغصان قد علاه الذبول، وينظر إليها بعد نزول الماء وقد تحركت التربة ونمت فانسابت جزئياتها في الشقوق التي أحدثها الجفاف، وإذا الحياة والنماء ينبعث في أرجائها من جديد فأورقت الأغصان وأزهرت.
ويطالع في الآية سراً من أسرار الله سبحانه بامتثال الآداب الفاضلة مع الوالدين عند تقدم اللسن بهما ولين عظامهما وانحناء ظهورهما، وقد فهم هذا الأمر فهماً ساذجاً بسيطاً يناسب طفولته، لكنه اليوم يطالع سراً جديداً لم يدركه من قبل، فيدرك أن هذا الجيل الذي قد أفنى حياته في رعاية أبنائه قد رد إلى مرحلة أشبه بحال الطفولة، واصبح بحاجة ماسة إلى الشعور بالأمن والرحمة، يلحظ هذا وغيره، وكلما أعاد النظر تكشفت له الأسرار والدلائل على وحدانية الله تعالى وربوبيته وأنه على كل شيء قدير وإن الساعة آتية لا ريب فيها، ألا إنها تربية مزدوجة تربية للعقل، وتربية للإحساس بالغير، وتربية للضمير الأخلاقي وتهذيب سوي للسلوك، يجعل الإنسان يتعامل مع والديه وغيرهما معاملة تنم عن خلق كريم.
وفي قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة خرى).
تعالج الآية ثلاثاً من القضايا الكبرى في إيجاز وبيان ليس بعدهما إيجاز ولا بيان، تعالج قضية الخلق من تراب الأرض، وقضية الموت بالعودة إلى تراب الأرض، وقضية البعث والخروج من تراب الأرض، تعالج القضايا الثلاث بأسلوب يأخذ بقلوب الأدباء والحكماء والبلغاء.
والإنسان مخلوق من مادة هذه الأرض. عناصر جسمه كلها من عناصرها إجمالاً، ومن زرعها يأكل، ومن مائها يشرب، ومن هوائها يتنفس، وهو ابنها وهي له مهد. وإليها يعود جثة تطويها الأرض، ورفاتاً يختلط بترابها، وغازاً يختلط بهوائها، ومنها يبعث إلى الحياة الآخرة، كما خلق في النشأة الأولى.
إن مرحلة المراهقة مرحلة عادية غاية ما تمتاز به عن المراحل السابقة لها نضوج العقل وقدرته على التفكير المستقل، وأما اهتمام المراهق بالتفكير في قضايا الدين فلا شوب عليه، فالمراهق قد تلقى بعض المفاهيم والعادات الدينية في مرحلتي الطفولة والصبا، ومارس آداء العبادات والشعائر حسب قدرته لكن تلقيه لها كان بطريقة الإيحاء والتقليد، هو الآن يريد أن يضيف عليهما إيماناً يستعين بالعقل في فهم قضايا الدين.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

حق المسلم على المسلم
حال المجتمع فى عصر الإمام المهدى (عج)
الاعلام الرسالي في الثورة الحسينية
موقف الإسلام من المذهب الفردي أو الحر (أو المذهب ...
أساليب القرآن للحث علی التکافل
دعاء ابی حمزة الثمالی
يا ليتَنا كنّا مَعكم
أولويات التغيير والمنظور الاسلامي
مقتل الحسين ( ع )
المهدي المنتظر في القرآن الكريم

 
user comment