عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

حبّ الله

محبة الله هي الغاية القصوى والذروة العليا من الدرجات. فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها: كالشوق والأنس والرضا وأخواتها. ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها: كالتوبة والصبر والزهد وغيرها.
هذا وإن المحبة لا تُتصور إلا بعد معرفة وإدراك إذ لا يُحبّ الإنسان إلا ما يعرفه ومَن يعرفه. ولذلك لم يُتصور إن يتصف بالحب جماد، بل هو من خاصية الحي المدرك. ومعنى كون الشيء محبوباً إن في الطبع ميلاً إليه ومعنى كونه مبغوضاً إن في الطبع نفرة عنه فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوى سمي عشقاً. والبُغض عبارة عن نفرة عن المؤلم المتعب فإذا قوي سُمي مقتاً. ولما كان الحب تابعاً للإدراك والمعرفة انقسم لا محالة بحسب المقام المدركات والحواس. فلكل حاسّ إدراك لنوع من المدركات ولكل واحد منها لذة: فلذة العين في الأبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة. ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة. ولذة الشم في الروائح الطيبة. ولذة الذوق في الطعوم. ولذة اللمس في اللين والنعومة. ولما كانت هذه المدركات بالحواس مُلذة كانت محبوبة. وهناك حسّ سادس مظنته القلب يدرك لذة العبادة ويعبر عنه أيضاً بالعقل أو النور أو البصيرة. فالبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكاً من العين. وجمال المعاني المُدرَكة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي هي أجلّ من أن تدركها الحواس أتمّ وأبلغ. ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة.
قد يظن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات بأنه لا معنى للحسن والجمال ألا تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون وكون البياض مشرباً بالحمرة وامتداد القامة وغير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان ـ فإن الحُسن الأغلب على الخلق حسن الأبصار وأكثر التفاتهم إلى صور الأشخاص. فيُظن أن ما ليس مبصراً ولا متخيلاً ولا متشكلاً ولا متلوناً مقدراً فلا يُتصور حسنه وإذا لم يتصور حسنه لم يكن في إدراكه لذة فلم يكن محبوباً. فاعلم إن الحسن والجمال موجود في غير المحسوسات: إذ يقال هذا خُلق حسن وهذا عِلم حسن وهذه سيرة حسنة وهذه أخلاق جميلة. ولا شيء من هذه الصفات يدرك بالحواس بل بنور البصيرة الباطنة: فهي إنما تُحب لِذاتها لا لحظ يُنال وراء ذاتها بل تكون ذاتها عين حظها. وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق بدوامة. فمن حُرم البصيرة الباطنة لا يدرك هذه الصفات الجميلة ولا يلتذ بها ولا يحبها ولا يميل إليها. ومن كانت البصيرة الباطنة أغلب عليه من الحواس الظاهرة كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة.
إن الله هو المتفضل بالوجود على كل موجود وهو المتفضل بدوام الوجود وكماله. فليس في الوجود شيء له بنفسه قِوام إلا القيوم الحي الذي هو قائم بذاته وكل ما سواه فإنما هو قائم به.
وهكذا يكون إلى الله: الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء والقهر والاستيلاء. وهو المتفرد بالكمال المنزه عن النقص، المقدس عن العيوب وهو الجميل المطلق الواحد الذي لا ندّ له، الفرد الذي لا ضدّ له. الصد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا مرادّ لحكمه ولا مغبَّ لقضائه. العالِم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض، القاهر الذي لا تخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة، ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة، الأزلي الذي لا أول لوجوده، الأبدي الذي لا آخر لبقائه، الضروري الوجود الذي لا يوم إمكان العدم حول حضرته، القيوم الذي يقوم نفسه ويقوم كل موجود به، جبار السموات والأرض، خالق الجماد والحيوان والنبات، المنفرد بالعزة والجبروت المتوحد بالملك والملكوت، ذوالفضل والجلال والبهاء والجمال والقدرة والكمال الذي تتحير في معرفة جلاله العقول، وتخرس في وصفه الألسنة، الذي كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه. فسبحان مَن احتجب عن بصائر العميان غيرةً على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا مَن سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون وترك الخاسرين في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون.
الله هو ((المحبوب المطلق)) الذي يتفضل بالنعم ومفيض الوجود على كل ما موجود. فإن أحب العارف ذاته فإنه يكون بالضرورة أن يحب المفيد لوجوده والمديم له إن عرفه خالقاً موجوداً مبقياً وقيوماً بنفسه ومقوما لغيره. فإنك إن لا يحبه فهو ناتج عن جهله بنفسه وبربه. فالمحبة ثمرة المحبة تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها. هكذا يرى الغزالي ويشير إلى أنه ينبغي أن لا يحب العارف إلا الله وحده لأن المحسن إليه هو الله تعالى فقط. إذ الإحسان من غير الله محال ولذلك فإن الله هو المحسن إلى الكافة والمتفضل على الجميع من أصناف الخلائق وذلك على أقل تقدير في:
ب ـ تكميل الأعضاء والأسباب التي هي من ضرورات الخلق
ج ـ الترفيه والتنعيم بخلق الأسباب التي هي تكون في مظان حاجة الخلق وإن لم تكن في مظان الضرورة.
د ـ التجميل بالمزايا والزوائد الإضافية التي هي تكون في مظنة زينة الخلق وهي خارجة عن ضروراتهم وحاجاتهم.
وعليه فإن أعظم اللذات إنما هي لذة النظر إلى وجه الله تعالى. لكن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات مشغولة بلذة المنكوح والمطعوم والمشروب تستحضر لذة النظر إلى وجه الله ولقائه. وهذا الاستحقار إنما صدر عن الخلو عن المعرفة بالله. فمن خلا عن هذه المعرفة كيف يدرك لذتها؟ وإن انطوى على معرفة ضعيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا فكيف يدرك لذتها؟ فللعارفين في معرفتهم ومناجاتهم لله لذات لو عُرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوا بها لذة الجنة. ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلاً إلى لذة اللقاء والمشاهدة. فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له من غيره بل ربما يتأذى به. وإذا كان هذا هكذا فإن نعيم الجنة يكون بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر معرفته. ولهذه المعرفة من الجمال ما يبهت العقل وتعظم لذته بحيث يكاد القلب يتقطر لعظمته. وهذه المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع في العمر الطويل بمداومة الفكر والمواظبة على المجاهدة والانقطاع عن العلائق والتجرد للطلب. ولذلك حدود لا يرفعها إلا الموت.
هذا ويكتسب العبد حب الله تعالى بالطبع. وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة. وهو إنما يحصل بقطع علائق الدنيا وعدم التشاغل بحظوظ النفس وإخراج حب غير الله من القلب، فأحد أسباب ضعف حب الله في القلوب قوة حب الدنيا. وسبيل قلع حب الدنيا من القلب سلوك طريقا لزهد في المال والجاه والقوة والمجد وجميع حظوظ العاجلة وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرجاء وبذلك يتطهر القلب عن غير الله فيتسع بعد ذلك لنزول معرفة الله وحبه فيه. وهذا التطهير يجري مجرى وضع البذر في الأرض بعد تنقيتها من الحشيش ثم يتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة. ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا وعلائقها من القلب إلا بالفكر الصافي والذكر الدائم والجِد البالغ في الطلب والنظر المستمر في الله تعالى وفي صفاته وفي ملكوت سمواته وسائر مخلوقاته والواصلون إلى هذه الرتبة ينقسمون:
أ ـ الأقوياء: وتكون معرفتهم الأولى بالله تعالى. ومن خلال هذه المعرفة يدركون معرفة باقي الأشياء.
ب ـ الضعفاء: وتكون أولى معرفتهم بأفعال الله وآثاره في الخلق ثم يرتفعون بالترقي منها إلى الله الفاعل.
المسلك الأول صعب غامض. لا يدركه غالبية العامة من الناس. بل يقتصر على قلة معينة. في حين يعتبر المسلك الثاني أسهل وأيسر فهماً لدى الأكثرية وأنه الأوسع نطاقاً على السالكين. وإليه أكثر دعوة القرآن عند الأمر بالتدبير والتفكير والاعتبار والنظر في آيات خارجة عن الحصر. وبما أن المسلك الأول غامض والكلام فيه خارج عن حد فهم أكثر الخلق. لذا فإن المسلك الثاني هو الأسهل والأدنى ذلك لأن: أكثره غير خارج عن حد الإفهام وإنما قصرت الإفهام عنه لإعراضها عن التدبر واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس. فما من ذرة من أعلى السموات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات تدل على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته ومنتهى جلاله وعظمته. أما القول في المعرفة بعجائب صنع الله فإنها: بحر لا ساحل له، فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحسب لا حصر له إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابها. وأكثر الناس ليس لهم من الله تعالى إلا الصفات والأسباب التي قرعت سمعهم فتلقنوها وحفظوها وربما تيخلوا لها معان يتعالى عنها رب الأرباب وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا لها معنى فاسداً بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين. والمتخيلون هم الضالعون. والعارفون بالحقائق هم المقربون. فإن كنت طالباً سعادة لقاء الله تعالى فانبذ الدنيا وراء ظهرك واستغرق العمر في الذكر الدائم والفكر اللازم فعساك تحظى منها بقدر.
إن ما يتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح فكأنه من وراء ستر رقيق فلا يكون متضحاً غاية الاتضاح بل يكون مشوباً بشوائب التخيلات. فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن التمثيل والمحاكاة لجميع المعلومات، وهي مكدرات للعارف ومنغصات. وكذلك ينضاف إليها شواغل الدنيا فإنما كمال الوضوح بالمشاهدة وتمام إشراق التجلي ولا يكون ذلك إلا في الآخرة إنه منتهى محبوب العارفين. أجل إن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة. والعارف يعلم وجودها ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أ:ثر مما حضر فلا يزال متشوقاً إلى أن تحصل له المعرفة بما لم يحصل مما بقي من المعلومات التي لم يعرفها أصلاً لا معرفة واضحة ولا معرفة غامضة. والشوق الأول ينتهي في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ولا يتصور أن يسكن في الدنيا. وأما الشوق الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة من جلال الله تعالى وصفاته وحكمته وأفعاله ما لم يتضح له، وهذا الشوق لا يسكن هو أيضاً قط. وتتوالى عليه ألطاف الكشف والنظر إلى غير نهاية فلا يزال النعيم متزايداً أبد الآباد وتكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلة عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل ويكون ذلك مستمراً على الدوام ولا يتوقف عن الحاجة إلى مزيد الاستكمال والإشراق. وهذا منزل لا يناله إلا مَن رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لله.
إن محبة الله لا تقتصر فقط على الدعوة التي يدعيها كل واحد منا بل تمتد إلى أبعد من ذلك حيث لا يتوجب أن يفتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخدع النفس مهما أدعت محبة الله تعالى ما لم يمتحنها بالعلامات ـ هكذا يرى الغزالي ـ فعلامة المحبة كمال الأنس بمناجاة المحبوب وكمال التنعم بالخلوة به وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة. وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقاً بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه. وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره لم يشعر به وقطعت رجل بعضهم بسبب علة إصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به. ومهما غلب عليه الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم بل يستغرق في الحب والأنس قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر إلى سمعه مراراً كالعاشق الولهان يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه. فإنما الحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه ولا يسكن إلا إليه.
هذا وقد يظن أن الخوف يضاد الحب وليس كذلك بل إدراك العظمة يوجب الهيبة كما أن إدراك الجمال يوجب الحب. فالحب الحقيقي لا يخلو من خوف والخائف لا يخلو من محبة. ولكن الذي غلبت عليه المحبة اتسع فيها وسكر واضطربت أحواله فإذا جاء ثوب الخوف سكن وسكُر الحب قليلاً وعاد إلى جادة الاعتدال. فإنما الخوف يُعدِّل الحب ويخفف وقعه على القلب. لذلك كان من الواجب على المحب أن يكون في حبه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم دائباً على القرب من محبوبه وعدم فراقه. وقد قال بعض العارفين: من عبد الله تعالى بمحض المحبة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال ومن عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش ومن عبده عن طريق المحبة والخوف أحبه الله فقرّبه ومكّنه وعلمه.
ويشير الغزالي إلى أنه يجب كتمان الحب واجتناب الدعوى والتوقي من إظهار الوجد والمحبة تعظيماً للمحبوب وإجلالاً له وهيبة منه وغيرة على سره. فإن الحب سر من أسرار الحبيب. فإن قلت: المحبة منتهى المقامات وإظهارها إظهار للخير فلماذا يُستنكر؟ فاعلم أن المحبة محمودة وظهورها محمود أيضاً وإنما المذموم التظاهر بها لما يدخل فيها من الدعوى والاستكبار. وحق المحب أن يتم على حبه الخفي أفعاله وأحواله وينبغي أن يظهر حبه من غير قصد منه إلى إظهار الحب ولا إلى إظهار الفعل الدال على الحب بل ينبغي أن يكون قصد المحب اطلاع الحبيب فقط فأما إرادته اطلاع غيره فشرك في الحب وقادح فيه. وإذن فإن مَن عرف نفسه وعرف ربه واستحيا منه حق الحياء خرس لسانه عن التظاهر بالدعوى وإن كان يشهد على حبه حركاته وسكتاته واقادمه واحجامه وتردداته. وبالجملة جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة الحب وما لا يثمر الحب فهو إشباع الهوى وهو من رذائل الأخلاق.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

القرآن و القواعد
التعامل مع القرآن بين الواقع والمفروض
علاج الامراض النفسیة بذکر الله
هدم قبور البقيع ..............القصة الكاملة
الحرب العالمية في عصر الظهور
الإمام الحسن العسكري (ع) والتمهيد لولادة وغيبة ...
إنّ الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة ...
الإمام موسى الكاظم عليه السلام والثورات العلوية
زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
الصلاة من أهم العبادات

 
user comment