عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

تاريخ الاسلام من العصر الجاهلي إلى وفاة النبي -2

صفات العرب وخصائصهم
الصفات المتناقضة
وعند العرب مساوئ لا يُغتفر مثلها لو لم يكن عندهم من الفضائل ما يُشْفَعُ لهم به. ومن هذه الفضائل ان الاعرابي المحارب المتعطّش للنهب والانتقام والذي يفعل عند مَسّ كرامته ما لم تسمع به اذن من ضروب القسوة، مضياف كريم أنيس، والذي يصبح في جواره يعد من افراد اسرته، فلا يستطيع احد بعدئذ ان يعتدي على حياته المقدسة التي يدافع عنها ذلك الاعرابي أكثر من ان يدافع عن نفسه، وان ظهر هذا الغريب من اعدائه الذين تمنّى زوالهم مائة مرّة .
ان الشجاعة الشخصية، والشهامة التي لا حد لها، والكرم الى حد الاسراف، والاخلاص التام للقبيلة، والقسوة في الانتقام، والأخذ بالثأر ممن اعتدى عليه أو على قريب له أو على قبيلته بقول أو فعل، هذه هي اصول الفضائل عند العرب الوثنيين في الجاهلية .
منطلقات الفضائل عند العرب
وكما ذكرنا سابقاً فلئن كان التزاحم على الماء والمرعى الذي نشأت عنه معظم اسباب القتال قد قضى ان ينشق سكان البادية قبائل يناوئ بعضها بعضاً، فان الشعور المشترك بضعفهم وعجزهم تجاه مشاق الطبيعة القاسية العنيدة انشأ فيهم الاحساس بحاجة ماسّة مقدّسة إلى الضيافة. وكيف يبخل المرء على الضعيف بهذا الحق في بلاد لا تُعرف فيها الفنادق ولا النُزُل. ولقد تغنّى شعراء الجاهلية وهم صحافيو يومهم بفضل الضيافة التي تُعتبر هي والحماسة والمروءة من اسمى الشمائل التي تميّز بها الشعب العربي .
ولكن ينبغي الالتفات الى ان الكثير من الصفات التي كانت فيهم مما لا يوجب مدحاً وليس في تلك الامور المنسوبة الى العرب ما يبرر تمدّحهم من اجلها، لا من حيث المنطلقات والدوافع ولا من حيث الأهداف والغايات. فقد امتاز العرب بالكرم وحسن الضيافة وحماية الجار (وهو ما دعت إليه الشريعة الإسلامية لاحقاً) ولكن ذلك لم يكن بدافع القيم المعنوية والانسانية، بل كان الدافع اليها عوامل غير انسانية، فالشجاعة عند العرب ـ مثلاً ـ هو انهم بحكم بيئتهم وحياتهم في الصحراء يشعر كل واحد منهم انه مسؤول عن حماية نفسه والدفاع عن ذاته، ويضاف الى تلك الدوافع الأمل بحسن الذكر او الطمع بزعامة قبيلة، او لابعاد العار والتحرّز من هجاء الشعراء حتّى لا يسير ذكرهم في البلاد في اللؤم والخسّة. فهذه الامور هي التي كانت تدفع العرب الى البذل والجود، والوفاء بالعهد، وحماية المستجير وامثال ذلك. وكذا الحال في ما يخص المروءة والكرم وحسن الضيافة فهذه امور طبيعية في مجتمع يتفاخر بكثرة الاموال والاولاد والمقاتلين. فهذه تعتبر من المفاخر لهم. وهذا لا يخفى على المطلع على تاريخ الإسلام .
الجهل والاساطير
غالباً ما يقضي البدوي من اهل الحجاز حياته في الصحراء، فكان بعيداً عن الثقافة ولا حظ له في المدينة، ويغلب عليه الجمود العقلي والفكري، ولا يدرك العلاقة بين اكثر الاشياء. فلم يكن قادراً على تحليل الظواهر برؤية منطقية، واستيعاب طبيعة العلاقة بين العلّة والمعلول. نذكر على سبيل المثال ان الشخص هناك كان يمرض ويتألم فيصفون له الدواء، ويدرك هو وجود علاقة بين الالم والدواء، ولكن هذا الادراك يخلو من الدقّة والتحليل. فهو يعرف ان افراد قبيلته يستخدمون هذا الدواء ومعرفته لا تتعدى ذلك. نذكر على سبيل المثال انه يصدّق بكل سهولة ان دم شيخ القبيلة يشفي من داء الكَلَب (وهو داء يأتي عادة من عض الكلاب المسعورة) وكان يتصور ايضاً بأن المرض يحصل نتيجة لحلول روح خبيثة في جسم المريض. ولهذا السبب كان العلاج يتركّز على طرد تلك الروح من جسم المريض. وكان من عاداتهم انهم اذا خافوا على الرجل الجنون وتعرّض الارواح الخبيثة له نجّسوه بتعليق الاقذار عليه كخرقة الحيض وعظام الموتى. وكانوا يعتقدون بوجود الغول وانها تظهر في الليل في الخلوات وفي البراري وتعترض طريق الناس وتوقع بهم الأذى.
وكان من معتقداتهم أيضاً انهم اذا أوردوا البقر الماء فلم ترد ضربوا الثور ليتقحّم البقر بعده، ويقولون ان الجن تصد البقر عن الماء وان الشيطان يركب قرني الثور . وكانت مثل هذه الاعمال المضحكة كثيرة الرواج بينهم.
وطالما كانت تلك الأفعال مقبولة وسارية المفعول عند القبيلة لم يكن العربي يشك في صحّتها وصوابها، وذلك لأن الشك في الامور انّما يأتي نتيجة لدقّة النظر والقدرة على فهم وادراك المرض واسبابه واعراضه وسبل علاجه. في حين كان العرب يومذاك يعيشون حالة البداوة ولم يبلغوا تلك المرحلة من الفهم.
ومن الطبيعي انك قد تجد احياناً في اشعار الجاهلية أو امثالها أو قصصها ما يدل على فكر نيّر ومقدرة على استيعاب العلاقة بين العلّة والمعلول، ولكن حتى هذه تكون عادة سطحية وتفتقر الى العمق والتحليل. وهذا العجز عن تحليل الظواهر هو السبب في ظهور انواع شتّى من الاوهام والاساطير التي اعتقد بها العرب يومذاك. وكتب تاريخ العرب والإسلام حافلة بانواع من هذه المعتقدات .
حظ العرب من العلم والفن
حاول بعض العلماء ان يثبتوا بأن العرب كانت لهم علوم كالطب والنجوم والقيافة . الا ان هذا الادعاء لا يخلو من مبالغة. فللبادية من اهل العمران طب يبثونه في غالب الامر على تجربة قاصرة على بعض الاشخاص متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه وربّما يصح منه البعض، الا انه ليس على قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم اطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره .
مجتمع أُمّي
كان مجتمع الحجاز حسب تعبير القرآن مجتمعاً أُمياً. أي انهم كانوا على الحالة التي ولدتهم عليها امّهاتهم، أميون لم يدرسوا ولم يتعلّموا القراءة والكتابة. كتب البلاذري في هذا المجال ما يلي:
دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب، وفي الأوس والخزرج (من أهالي يثرب) احد عشر رجلاً يكتبون .
هذا في حين كانت لقريش مكانة ممتازة في مكّة وكان عملها في التجارة يتطلب اتقان القراءة والكتابة. وعلى هذا الأساس كيف لقوم في مثل هذه الدرجة من الجهل، ان تكون لهم مثل هذه العلوم التي زعمها البعض؟!
الشعر
الميزة الكبرى التي كانت للعرب في العصر الجاهلي براعتهم في الشعر والخطابة. وخاصة الشعر الذي بلغ حينذاك ذروة ازدهاره.
فقد كان الشاعر العربي مؤرّخ العرب، وجامع أنسابهم، وهجّاءهم، والمتغنّي بفضائلهم، وناقل أخبارهم، وملهمهم، وداعيهم إلى القتال. .
في ذلك العصر كان كبار شعراء العرب يجتمعون في اسواق موسمية مثل سوق عكاظ، وذي المجاز، ومَجَنّة . كانت تلك الاسواق والمشاهد العامّة تُقام فصلياً وينشد فيها الشعراء أروع قصائدهم. وكان اختيار قصيدة أي شاعر بمثابة مفخرة عظمى لقبيلته. وكانت تلك القصائد تعلق على جدار الكعبة. والمعلّقات السبعة هي أروع سبع قصائد نظمها اعظم سبع شعراء عرب مما لم يكن له نظير من قبل حتى ذلك الوقت. ولهذا السبب كانت تعلّق على جدار الكعبة. وهذا هو وجه تسميتها بالمعلّقات.
وعلى الرغم مما يتصف به الشعر العربي من جمال لفظي الا انه يفتقر للمعاني الرفيعة وغزارة المحتوى بسبب افتقار اولئك القوم الى الحضارة والمدنية والثراء الفكري. ولم تكن مضامين تلك الاشعار تتعدى موضوعات الغزل، والشراب، والمرأة، والحماسة، ومفاخر القوم، ويقتصر جماله على جذّابية الالفاظ والصور الفنّية الدقيقة التي يرسمها.
العرب والمدنيات المجاورة
عند دراسة الحالة التي كان عليها العرب عل صعيد العلم والفن، يتبادر الى الاذهان سؤال وهو هل أخذ العرب شيئاً من حضارة وثقافة الدول المجاورة أي ايران والروم من خلال ما كانت لهم من علاقات تجارية معها؟ وهل أدّت تلك الوشائج والعلاقات الى ايجاد تحوّل في حياتهم؟
للاجابة عن هذا السؤال ينبغي التنبيه الى ان أهالي الحجاز كانوا بحكم الموقع الطبيعي والجغرافي الخاص بهذه المنطقة، بعيدين عن سلطة ونفوذ تلك الدول والحكومات، ليس على الصعيد السياسي فحسب بل على الصعيد الثقافي أيضاً. وكان تأثر العرب بالمدنيات والثقافات المجاورة متاحاً من خلال ثلاثة طرق، وهي: التجارة، والإمارات التي انشأها الفرس والروم (المناذرة والغساسنة) وأهل الكتاب (اليهود والنصارى).
ولكن ينبغي ملاحظة مدى ذلك التاثّر. ويبدو ان الآراء التي سجّلها قسم من المؤرخين في هذا المجال، لا تخلو من مبالغة. نذكر على سبيل المثال ان بعضهم كتب في هذا المجال ما يلي:
وكان من اثر اتصال العرب بالفرس والبيزنطيين أمران: الأول نزول العرب في المدن الفارسية والرومانية للتجارة؛ وكان لذلك اثره في تثقيف عقول العرب الذين شاهدوا الفرق الشاسع بين مدنهم ومدن بلاد فارس والرومان، الأمر الذي نقف عليه في الشعر الجاهلي. وأما الثاني: انهم نقلوا الى العرب كثيراً من الالفاظ والقصص الفارسية والرومية. كما تسرّب عن طريقهم الكثير من اخبار الفرس والروم ومعتقداتهم .
ولكن لابد من الالتفات الى ان أسفار تجار الحجاز الى هاتين الدولتين لم يكن لها تأثير بالغ في ارتقاء الثقافة والتطوّر الفكري عند العرب؛ وذلك لأن هذه المدنيات كانت تتسرّب من مجرى ضيّق، وقد ينال التحريف ما ينقلونه عن غيرهم كالذي نراه في بعض امثال العرب المنقولة عن امثال سليمان، وفي بعض القصص المنقولة عن الفرس والروم. فلم يكن العرب يأخذون ممن حولهم علماً منظماً لأن هناك عوائق كانت تحول دون ذلك منها:
1ـ الحوائل الطبيعية بين العرب وغيرهم من بحار وجبال وصحراوات.
2ـ ومنها البعد الكبير بين العرب والفرس والروم من حيث الحالة الاجتماعية والدرجة العقلية. واكثر ما يكون الاقتباس اذا تقاربت العقليّتان.
3ـ ومنها انتشار الامية بين العرب اذ ذاك، حتى ندر ان تجد فيهم القارئ الكاتب، انما كان المخالطون للفرس والروم ينقلون حكماً أو قصصاً أو امثالاً أو حوادث تاريخية مما يخف حمله على الناقل، ومما يستطيع البدوي ومن في حكمه ان يهضمه. وعلى هذا فقد كان سطحياً ولا يتصف بعمق وغزارة المغزى.
وبناءً على ذلك يمكن ان نستخلص بأنه كانت هناك علاقات بين العرب وغيرهم من الامم اثرت في حياتهم المادية والأدبية .
وأما بالنسبة الى تأثير اليهود فينبغي القول بأن اليهود لجأوا إلى الحجاز منذ زمن النبي موسى× وما بعده وخصوصاً في القرون الاخيرة قبل الميلاد والاولى بعده فراراً من اضطهاد الحكام الرومانيين ولاسيما بعد خراب بيت المقدس. وكان لهم تأثير مشهود على الوضع الاجتماعي هناك؛ وتعلموا منهم بعض اقاصيص التوراة والتلمود .
هناك ثمّة وثائق تشير الى ان اليهود كانوا في مستوى فكري وديني أرقى من العرب. وحتى بعد ظهور الإسلام كان بعض المسلمين يسألونهم أحياناً عن بعض القضايا الدينية . ولكن بما ان اليهودية قد تعرضت لكثير من التحريف كما هو الحال بالنسبة الى الديانة المسيحية، لذلك فان الافكار التي كان العربي يتلقّاها من اليهود كانت ممسوخة ومشوّشة الى حد بعيد. فتعاليم اليهود لم تكن نافعة وليس فيها حلول مثالية لهم، لا بل كانت تزيدهم ضلالاً.
ضعف العرب في مقابل الفرس والروم
كما ذكرنا سابقاً، بما ان أهالي الحجاز كانوا يعيشون متفرقين على شكل قبائل وكانوا اكثر بداوة؛ فلم تكن هناك حكومة تجمعهم وتنظم امورهم، وكانوا على الدوام في حروب وخصومات قبلية فابتلوا بالضعف والهوان، ولم يكن لهم شأن يُذكر بين امم ذلك الزمان.
كان العرب يومذاك يعيشون اشقياء ضمن دائرة ضيّقة وهي القبيلة والعشيرة، وحياتهم تقتصر على الرعي والخيام، وتستولي عليهم القبلية ويتقاذفهم الحرمان والتشتت. ولم يكن يدور في خلدهم قط شيء خارج جزيرة العرب، ولم تكن تراود ذهنهم فكرة الانتصار على الدول المجاورة، بل بالعكس كانوا يشعرون بالضعف في مقابل الفرس والروم. وقد وصف قتادة ـ وهو رجل من العرب ـ قومه آنذاك بقوله:
>كان هذا الحي من العرب معكومين على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم<.
ومما يؤيد هذا المعنى هو ان رسول الله’ كان في سنوات دعوته في مكة يتحاور ذات يوم مع جماعة من وجوه العرب ويدعوهم الى الإسلام ويتلو عليهم آيات من القرآن الكريم مما يشتمل على تعاليم اخلاقية وفطرية، فوقعت موقعها في انفسهم واثرت فيهم حتى ان كل واحد منهم انطلق بالثناء عليها، الا ان كبيرهم، وهو المثنى بن حارثة، قال:
وانا انّما نزلنا بين صريين، أما احدهما فطفوف البر وارض العرب، واما الآخر فارض فارس وانهار كسرى. وانما نحن نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ان لا نحدث حدثاً، ولا نؤوي محدثاً. ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك: فاما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، واما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول .
مفاخر وهمية
كتب المؤرخون عن شعور العرب بالضعف ما يلي: وفد حاجب بن زرارة على كسرى لما منع تميم من ريف العراق، فاستأذن عليه، فاوصل اليه فقال له كسرى: انكم معشر العرب غُدُر، فان اذنت لكم افسدتم البلاد واغرتم على العباد، وآذيتموني. قال حاجب: فانّي ضامن للملك ان لا يفعلوا. قال: فمن لي بأن تفي انت؟ قال: ارهنك قوسي (وكانت تعتبر مظهراً للشجاعة والبسالة والفروسية). فقبضها منه كسرى، واذن لهم ان يدخلوا الريف. وبعدما مات حاجب بن زرارة، ارتحل ابنه عطارد بن حاجب الى كسرى يطلب قوس ابيه، فردّها عليه . وبقيت قبيلة تميم تفتخر بهذا العمل سنوات طويلة .
وعلى صعيد آخر لما انتصرت قبيلة بني شيبان بمساعدة العجليين واليشكريين يوم ذي قار على كسرى  أحَسّ العرب بالفخر العظيم، ومع انه ليس بشيء ذي خطر، فكل
امّة قد تتعرض للهزيمة ولكن احسوا بالفخر العظيم كأنّهم ما كانوا يتوقّعون ان يهزموا الفرس. وان العرب لما انتصروا يوم ذي قار، لم يتغنّوا بنصرة العرب على الفرس، انّما تغنوا بنصرة القبائل التي اشتركت في الحرب. وبلغ تفاخرهم بذلك الانتصار درجة جعلت الشاعر ابو تمام  يقول في مدح ابي دلف العجلي  ، في مقابل تفاخر تميم برهن حاجب بن زرارة قوسه عند كسرى ووفاء ابنه بالعهد، ما يلي:

اذا افتخرت يوماً تميم بقوسها    
وزادت على ما وطدت من مناقب


فانتم بذي قار أمالت سيوفكم  
عروش الذين استرهنوا قوس حاجب


العصر الجاهلي
عند بحثنا حول جزيرة العرب اطلقنا على مرحلة ما قبل ظهور الإسلام تسمية العصر الجاهلي، واطلقنا على سكّان تلك البلاد تسمية عرب الجاهلية. ونود ان نشير هنا الى وجود شواهد دالة على ان هذا الاصطلاح ـ أي اصطلاح الجاهلية ـ قد ظهر بين المسلمين بعد ظهور الإسلام، حيث استلهموه من القرآن الكريم، واطلقوه على عصر ما قبل الإسلام وتبلور له مفهوم خاص حوله  وذهب بعض المؤرخين المعاصرين الى القول بأنَّ هذه التسمية تُطلق على حقبة تناهز مائة وخمسين الى مائتي سنة قبل بعثة النبي محمد’ .
ومع ان كلمة الجاهلية مشتقّة من الجهل، الا ان الجهل هنا لا يقع في النقطة المقابلة للعلم، وانما يقع في النقطة المقابلة للعقل والمنطق .
وصحيح ان مجتمع جزيرة العرب كان مجتمعاً امياً يفتقر الى العلم ـ كما ذكرنا ـ بيد ان الثقافة الإسلامية اذا كانت قد اطلقت كلمة جاهل على ذلك المجتمع، وعبارة العصر الجاهلي على ذلك العصر، فذلك لا يُعزى الى افتقارهم للعلم فحسب، وانّما يُعزى الى رؤيتهم المغلوطة والبعيدة عن العقل والمنطق، وممارستهم لعادات وتقاليد خرافية والاتصاف بسجايا مقيتة كالحقد، والغرور، والتفاخر، والتعصّب الأعمى، وهي سجايا حاربها الإسلام بشدّة .
وربّما يمكن القول بأن المراد من كلمة الجهل هنا شيء قريب من معنى الحمق وهو ما لا يقترن بالضرورة بمعنى الامية، وانّما اكثر ما يراد به السفه والحمق والانفة .
استخدمت كلمة الجاهلية في عدّة مواضع في القرآن الكريم بهذه المعاني والمفاهيم.
نشير في ما يلي الى أمثلة منها:
1ـ سُمّيت الآمال والأماني المغلوطة لجماعة من أهل الكتاب ممن كانت قلوبهم تهوى ان يحكم الرسول بما تشتهي انفسهم >حكم الجاهلية<.
2ـ وصف الباري تعالى في كتابه الكريم التعصب القبلي الاعمى للعرب من عبدة الاوثان بصفة >الحمية الجاهلية<.
3ـ امر القرآن الكريم زوجات الرسول بعدم اتباع اساليب >تبرّج الجاهلية الاولى<.
4ـ ذم القرآن الكريم جماعة من المنافقين المتزعزعي الايمان الذين انهارت معنويّاتهم وغلب عليهم الارتباك والتشاؤم في اعقاب هزيمة جيش المسلمين في معركة أحد؛ وذلك لأنهم ظنّوا بالله >ظن الجاهلية<.
5ـ قصَّ الله تعالى من نبأ قوم موسى انه عندما أمرهم بذبح بقرة، فقالوا له اتتخذنا هزواً فقال لهم موسى: {اَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
ووصف امير المؤمنين علي× الحياة البائسة التي كان عليها العرب في عصر عبادة الاوثان بأنهم قد استخفّتهم الجاهلية .




الفصل الثالث

الاديان والمذاهب في شبه جزيرة العرب وما حولها
لم يكن سكان الجزيرة العربية جميعهم على دين واحد ابان ظهور الاسلام، ومع أن الديانة الغالبة حينذاك هي عبادة الاصنام فقد كان هناك أتباع ديانات اخرى كالمسيحية واليهودية والحنيفية والمانوية والصابئة يقطنون في بقاع شتى من الجزيرة.
ولم يسلم أي من تلك الأديان من التشويش والتحريف الذي طرأ عليها عبر الزمن فانطوت على الكثير من المغالطات والتضليل مما جعل النفوس تنفر منها.
وسنعرض في ما يلي شرحاً حول كل واحد من الأديان والمذاهب المعروفة المتبعة آنذاك:
الموحّدون
الموحّدون أو الحنفاء  هم الذين كانوا يرفضون عبادة الأصنام ـ خلافاً لما كان عليه أكثر الناس الذين كانوا مشركين ـ ويؤمنون بوحدانية الله، ويؤمنون احياناً بالبعث والحساب يوم القيامة. كان قسم من هذه الجماعة من اتباع الديانة المسيحية، ولكن بعض المؤرّخين عدّوهم في عداد الحنفاء، ويمكن ان نذكر منهم:
ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جَحْش، وعثمان بن حُوَيرث، وزيد بن عمر بن نفيل ، والنابغة الجعدي (قيس بن عبد الله)، وامية بن ابي الصلت، وقُسّ بن ساعدة الأِيادي، وابو قيس صرمة بن ابي اَنس، وزُهير بن ابي سُلمى، وابو عامر الاوسي (عبد عمرو بن صيفي)،
وعدّاس (غلام عتبة بن ربيعة)، ورئاب الشني، وبحيرى الراهب . وكان قسم من هؤلاء من مشاهير الحكماء او الشعراء.
ومن الطبيعي ان نزوع هؤلاء الاشخاص الى التوحيد يمكن ان يُعزى الى سلامة فطرتهم واستنارة فكرهم وخواء الاديان الشائعة في ذلك العصر، ووجود فراغ ديني في ذلك المجتمع. حيث ادرك هؤلاء بفطرتهم السليمة وجود خالق مدبّر لشؤون هذا الكون، ولم يكن باستطاعتهم الاعتقاد بديانة سخيفة ومجافية للعقل مثل عبادة الأصنام. أما بالنسبة الى الديانتين المسيحية واليهودية فقد فقدتا اصالتهما مع تقادم القرون، وما كانتا قادرتين على بث السكينة في النفوس الثائرة لذوي العقول النيّرة. ولذلك فقد ورد في وصف بعض الموحّدين الذين كانوا يبحثون عن الديانة الحقّة انهم كانوا يتحمّلون مشاق الاسفار للقاء علماء من النصارى واليهود واستبانة الحق منهم ومناقشتهم في الأمر ، والتحقق منهم حول العلامات الواردة في الكتب السماوية حول بعثة رسول الإسلام’. ولكنهم غالباً ما كانوا لا يصلون الى نتيجة مفيدة، ولهذا السبب كانوا يعتقدون بأصل التوحيد. وعلى كل الاحوال فليس من الواضح لدينا كيف كانوا يؤدون عباداتهم وشعائرهم الدينية.
ولابد من الاشارة الى ان الاحناف ـ خلافاً لما يتصور البعض ـ لم يكن لهم أي تاثير في توجيه العرب وتحولهم نحو التوحيد، بل صرّح المؤرخون بأنهم كانوا يعيشون في عزلة وفي حالة من التأمل والتفكير، ولم يتبلوروا على شكل جماعات أو فرقة منظمة، ولم يكن لهم دين أو مذهب له أحكام ثابتة ومعيّنة، بل اكتفوا بالابتعاد عن المجتمع واجتناب عبادة الأصنام. وكان حَسبُ هؤلاء الافراد انهم ايقنوا بفساد معتقدات قومهم، من غير ان يكلفوا انفسهم عناء دعوة غيرهم الى ما يعتقدون به، أو التصريح بآرائهم. ولهذا السبب كانت علاقاتهم مع قومهم تسير بشكل طبيعي ولم يقع فيها أي تصادم أو تضارب .
المسيحية
انتشرت المسيحية في بعض اجزاء جزيرة العرب، فانتشرت في الجنوب عن طريق الحبشة، وفي الشمال عن طريق سورية (التي كانت تحت سيطرة الدولة الرومانية الشرقية) وشبه جزيرة سيناء، الا انها لم تجتذب اليها انصاراً كثيرين منهم . وفي شمال جزيرة العرب انتشرت المسيحية في قبائل تغلب (بطن من بطون ربيعة)، وغسان وقُضاعة .
وكان من هؤلاء النصارى قس بن ساعدة، وحنظلة الطائي، وأمية بن أبي الصلت، وبعض هؤلاء فارق قومه ولبس المسوح ونَسكَ ولزم العبادة في الجبال .
المسيحية في اليمن
تغلغلت المسيحية في اليمن منذ القرن الرابع للميلاد، وقد ذكر فيليب حتّي ـ وهو رجل مسيحي ـ ما يلي:
اول وفد مسيحي ذهب إلى جنوب شبه جزيرة العرب وخبره صحيح، هو الوفد الذي بعثه الامبراطور قسطنتيوس برئاسة ثيوفليوس اندوس اريوس. وجاء ارسال ذلك الوفد في سياق التنافس الذي كانت تفرضه السياسة العالمية يومذاك بين امبراطورية فارس وامبراطوية الروم، على مناطق النفوذ في جنوب شبه جزيرة العرب. وقد بنى ثيوفليوس كنيسة في عدن، وكنيستين أُخريين في بلاد الحميريين. وقد اعتنق أهالي نجران الديانة الجديدة في عام 500 للميلاد .
وعند ظهور الإسلام كان على دين النصرانية من أحياء العرب في اليمن طيء، ومُذحج، وبهراء، وسُليح، وتنوخ، وغسان، ولخم .
وأهم مواطن النصرانية في جزيرة العرب كان نجران، وكانت مدينة خصبة عامرة بالسكّان، تزرع وتصنع الأنسجة الحريرية، وتتاجر في الجلود وفي صنع الأسلحة، وكانت قريبة من الطريق التجاري الذي يمتد الى الحيرة .
وبقيت الديانة النصرانية رائجة في اليمن الى ان حكم ذو نواس ارض اليمن فوقع بالنصارى وقتلهم لكي يرغمهم على ترك دينهم، وعندما رأى ثباتهم احرقهم في اخدود نار حفره لهم . وقد استنجد النصارى بالحبشة فانجدوهم وغزوا بلاد العرب سنة 525م وهزموا ذا نواس، وعاد المسيحيون الى الحكم من جديد .
المسيحية في الحيرة
ومن المناطق الاخرى التي تسربت اليها الديانة النصرانية هي الحيرة الواقعة قرب الكوفة؛ ذلك ان الحكومة الفارسية في عهد هرمز الاول انشأت مستعمرات كوّنتها من أسرى الحرب الرومانيين، ومن هؤلاء الأسرى من نزلوا الحيرة. ويظن بعضهم انهم هم منبع النصرانية فيها. وعلى كل حال فقد كان في الحيرة مبشرون بالنصرانية داعون اليها. حيث نشروا تعاليمهم في بلاد العرب وكانوا يتحدّثون عن البعث والحساب والميزان. ولبّى الدعوة منهم هند زوج النعمان الخامس، وقد أنشأت ديراً سُمّي بدير هند كان باقياً الى عهد الطبري. وكان حنظلة الطائي، وقس بن ساعدة، وامية بن أبي الصلت (وهي شخصيات ذكرناها سابقاً) من أهالي الحيرة .
ويذكرون ان النعمان بن المنذر ملك الحيرة استجاب لنصح عدي بن زيد واعتنق النصرانية .
وقد وردت في القرآن الكريم عدّة آيات في ذكر النصارى وشرح افكارهم ومعتقداتهم وبيان مواطن الضعف والخطأ في معتقداتهم وأعمالهم (وخاصة قولهم في الوهية المسيح) .
وأهم دليل يشهد على وجود هذا الدين في زمن نزول القرآن في جزيرة العرب، هو مباهلة رسول الله’ ـ وهي واقعة معروفة في تاريخ الإسلام ـ مع قساوسة وفد نجران .
وكما سبقت الاشارة فان الديانة النصرانية كانت قد فقدت اصالتها وبريقها على مر الزمن، وطالتها يد التحريف. ولذلك فهي لم تكن قادرة على سد الفراغ الفكري والاعتقادي للناس في ذلك العصر، وبقيت عاجزة عن تلبية ما تتوق إليه أنفسهم من السكينة والطمأنينة.
الديانة اليهودية
انتشرت اليهودية في جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام لاسيما في يثرب
التي عرفت لاحقاً باسم >المدينة<وكانت هناك مناطق يسكنها اليهود في تيماء 
وفدك  وخيبر  حيث كانت تقطن هناك قبائل بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع .
وكانت تسكن المدينة غير هذه القبائل اليهودية الثلاثة، قبيلتا الأوس والخزرج اللتان نزحتا الى يثرب من اليمن في حوالي القرن الثالث للميلاد وقطنتا فيها بعد ان سبقهم اليهود الى استعمارها.
كانت هاتان القبيلتان تعبدان الأصنام، وبسبب مجاورتهم اليهود تهوّد عدد منهم. وقالوا انه كان في الطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب، فأقاموا بها للتجارة .
وقد اشتهر اليهود في جزيرة العرب حيث حلّوا بمهارتهم في الزراعة كما اشتروا في يثرب أيضاً بصناعاتهم المعدنية كالحدادة والصياغة وصنع الأسلحة . وكان هناك اتباع للديانة اليهودية بين قبائل حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة ، وغسان، وجذام .
اليهود في اليمن
نشر اليهود في البلاد التي نزلوها في جزيرة العرب تعاليم التوراة وما جاء فيها حتّى تهود كثير من قبائل اليمن. ومن اشهر هؤلاء المتهوّدين ذو نواس ـ ملك اليمن ـ وقد اشتهر بتحمّسه لليهودية واضطهاده لنصارى نجران، واعلانه اليهودية ديناً رسمياً.
ويظن بعض المؤرخين أن حركة ذي نواس هذه كانت حركة وطنية، ذلك أن نصارى نجران كانوا على ولاء مع الحبشة، وكانت الحبشة تعد حامية النصرانية في نجران، وقد اتخذت النصرانية وسيلة للتدخل في شؤون اليمن، فأراد ذو نواس وقومه محو هذا النفوذ الحبشي؛ ولذلك لما قَتَل ذو نواس نصارى نجران استنجد بقيتهم بالحبشة فأنجدوهم، وكانت بينهم حروب، وكان عامُ الفيل مما لا محل لذكره هنا.
وهزم ذو نواس في عام 525م. وبقيت نجران الى بعثة رسول الله’ مركزاً مهماً للنصرانية .
الصابئة
يرى البعض ان تاريخ ظهور هذه الجماعة يعود الى عهد حكم طهمورث، ومؤسس هذه الديانة هو يوذاسف. وقد كتب ابو ريحان البيروني (360 ـ 440هـ) بعد بيانه لتاريخ ظهور هذه الديانة، ما يلي:
ونحن لا نعلم منهم الا اناس يوحّدون الله وينـزهونه عن القبائح ويصفونه بالسلب لا الايجاب، كقولهم لا يُحد ولا يُرى ولا يَظلم ولا يجور، ويسمّونه بالأسماء الحسنى مجازاً اذ ليس عندهم صفة بالحقيقة. وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه، ويقولون بحياتها ونطقها وسمعها وبصرها ويعظمون الانوار. كانت لهم هياكل وأصنام باسماء الشمس معلومة الاشكال مثل هيكل بعلبك لصنم الشمس، وهياكل في حرّان منسوبة إلى القمر، وصنم الزهرة في قرية اخرى .
كان مركز الصابئة مدينة حرّان . وقد شاع هذا المذهب يوماً ما في اقطار الارض كالروم واليونان وبابل وغيرها . وقد ذكرهم القرآن الكريم في ثلاثة مواضع . وقد آل هذا المذهب في عصرنا هذا الى الانقراض، ولم يبق من اتباعه الا عدد قليل يقطنون  في خوزستان  والعراق .
ديانة ماني
كان منشأ الديانة الزرادشتية والمزدكية والمانوية هو ايران. وهنالك اختلاف في الآراء حول انتشار أو عدم انتشار هذه الديانات في جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام. فقال مؤرخون بوجود هذه الأديان في جزيرة العرب يومذاك. بيد ان الوثائق التاريخية تؤيد ان الديانة المانوية فقط هي التي كان لها وجود من بين هذه الديانات هناك.
وقد كتب اليعقوبي حول هذا الموضوع ما يلي:
دخل قوم من العرب في دين اليهود، ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق قوم منهم فقالوا بالثنوية .
ورغم ان كلمة الزنديق تعني الملحد والمنكر لوجود الله، ولكن اصحاب النظر يرون ان الزندقة دين خاص من اديان الفرس، وتطلق على اتباع مذهب خاص من الثنوية ثم استعملت في الالحاد على العموم وصارت تشمل الكافر والدهري. وعلى هذا الأساس فان المصادر القديمة كانت إذا أطلقت كلمة الزندقة ارادت منها الديانة الثنوية . ونعلم ان الثنوية مزيج من المسيحية والمجوسية .
كتب جماعة من المؤرخين ان الزندقة في قريش اخذوها من الحيرة . وأخذ هذه الديانة من الحيرة يدل على ان المراد منها هي الثنوية؛ وذلك لأن الحيرة كانت الى جوار بلاد فارس وتحت سلطتها، وكانت الديانات في فارس ثنوية وقد انتشرت هناك؛ أي في الحيرة وما جاورها.
عبادة الكواكب
في العصر الجاهلي كان جماعة من أهالي جزيرة العرب ـ كما هو الحال بالنسبة الى المناطق الاخرى ـ يعبدون الاجرام السماوية كالشمس والقمر وبعض الكواكب الاخرى، وكانوا يتوهّمون ان لها قوّة خارقة، فكانت خزاعة وحمير تعبدان الشعرى وهو كوكب ثابت ومضيء. وممن كان يعبد الشعرى أيضاً ابو كبشة أحد أجداد النبي’ من جهة امّه . وبعض طيء عبدوا الثريّا . وكانت عبادة الأفلاك والكواكب شائعة الى حد كبير بحيث ظهر انعكاسها في آداب العرب واساطيرهم وخرافاتهم . وعامّة الوثنيين كانوا يعظّمون الشمس والقمر وان لم يعبدهما غير الصابئين .
وقد ذمَّ القرآن الكريم عبادة الاجرام السماوية ونهى عنها، مؤكّداً ان هذه الاجرام والكواكب من صنع الله خالق الكون، وهي مسخّرة لأمره وارادته وخاضعة بين يديه. وانطلاقاً من ذلك ينبغي ان تكون دليلاً للانسان الى ربّه (وليس إلهاً له)؛ وذلك لأنها تمثّل دلالات على علم الله وقدرته، فقال تعالى في وصفها:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
{وَمِنْ آيَاتِه اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .
{ألم ينبّأ بما في صحف موسى وابراهيم الذي وفّى... وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} .
وتدل هذه الآيات على ان عبادة هذه الاجرام والكواكب كانت شائعة في عصر بعثة الرسول محمد’.
عبادة الجن والملائكة
وفضلاً عن أتباع الديانات التي ذكرناها، كان قسم من أهالي جزيرة العرب يعبدون الجن والملائكة، فكان عبد الله بن الزبعرى أحد زعماء مكة يقول: >سَلوا محمداً: أكُلُّ ما يُعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم؟!<.
وكانت بنو مليح ـ من خزاعة ـ يعبدون الجن . وقيل ان اول من عبد الجن جماعة من أهالي اليمن، ومن بعدهم قبيلة بني حنيفة، ثم انتشر ذلك تدريجياً بين العرب .
وقال بعض المفسّرين بأن هناك من كانوا يقولون بأنَّ الله قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة . وقد ذمَّ الباري تعالى في كتابه الكريم عبادة الجن والملائكة وكل التصوّرات والمعتقدات المغلوطة بشأنها، وذلك في قوله تعالى:
{وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} .
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} .
ومن الواضح ان هذا السؤال لا يحمل طابعاً استفهامياً ولا يرمي الى كشف مجهول، فالله تعالى عالم بكل شيء.
وانما الغاية من هذا السؤال هي بيان الحقائق على لسان الملائكة لكي يكون في ذلك خزي وعار على من يعبدونها.
ويتضح من جواب الملائكة انها لا ترضى ان تُعبد من قبل جماعة من الناس، لكن الجن كانوا يرضون ذلك.
وعلى اية حال فانّ عبادة هذين النوعين من الكائنات التي لا تُرى بالعين غير بعيد الشبه عن المذاهب الثنوية؛ وذلك لأن المذاهب الثنوية تعتبر الجن مصدر الشر والظلام، والملائكة مصدر النور والرحمة والبركة. كان بعض العرب اذا أمسى الرجل منهم بقفر قال: >اعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه<، اعتقاداً منهم بأنهم اذا قالوا هذا الكلام فسيحميهم كبير الجن من شر سفهاء الجن. ويؤيد هذا المعنى ما ورد في القرآن الكريم:
{أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} .
نشوء مدينة مكّة
يعود تاريخ مدينة مكّة الى عهد النبي ابراهيم الذي جاء بزوجته هاجر وطفله الرضيع اسماعيل من ارض الشام وأسكنهما في وادٍ غير ذي زرع ، وبعد ظهور ماء زمزم بارادة الله لأجلهما  نزلت هناك قبيلة جُرهم ، وهي من قبائل الجنوب، وقد نزحت بسبب الجفاف وتوجهت الى الشمال. وبعدما بلغ اسماعيل وصار رجلاً تزوّج امرأة من جرهم . وقد أُمر ابراهيم من قبل الله تعالى أن يبني الكعبة بمساعدة ابنه اسماعيل . وبعد بناء الكعبة تكوّن اساس مدينة مكّة وتكاثرت ذرية اسماعيل في مكّة بمرور الزمان.
بقايا ديانة ابراهيم (الحنيفية)
كان عدنان الجد الأعلى للعرب العدنانيين (عرب مكّة) والجد العشرين للنبي محمد’ من ذرية اسماعيل . وكان العدنانيون الذين سكنوا الحجاز ونجد وتهامة، وهم من ذرية اسماعيل،  يتبعون شريعة ابراهيم، وقد قال اليعقوبي عنهم ما يلي:
كانت قريش وعامة ولد (معد) بن عدنان على بعض دين ابراهيم يحجّون البيت ويقيمون المناسك ويقرون الضيف ويعظّمون الاشهر الحرم وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم ويعاقبون على الجرائم .
وكان بقايا تعاليم وسنن ابراهيم رائجة بينهم الى حين ظهور الإسلام، كالاعتقاد بالله وتحريم الامّهات والبنات. وكان في ايديهم الحج والتلبية والغسل من الجنابة  والختان وتكفين ودفن الموتى . وكانوا يداومون على الكلمات العشر المتعلّقة بنظافة البدن وازالة الشعر الزائد وما شابه ذلك . وكانوا يحرّمون الأشهر الحرم. وكان ذلك مما تمسّكوا به من ملّة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام .
وانّما سمّوا الحرب التي كانت تقع في الأشهر الحرم بحرب الفجّار ويقولون قد فجرنا . ويُفهم من كل هذا ان شرعة التوحيد كانت ذات قدم عريق بين العرب هناك. وأما عبادة الأصنام فقد تغلغلت في تلك الربوع لاحقاً وصارت سبباً لانحرافهم عن شريعة التوحيد.
ظهور عبادة الأصنام بين العرب
يُستدل من الوثائق والشواهد ان هناك سببين لظهور عبادة الأصنام بين العرب، وهما:
أ ـ ان شخصاً يدعى عمرو بن لُحَي ـ وهو ابو خزاعة ـ وكان له في عصره نفوذ في مكّة وكانت له حجابة البيت ، كان قد سافر الى الشام وشاهد هناك جماعة من العمالقة  يعبدون الأصنام، فسألهم: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم ان يعطوه منها، فأعطوه >هبل<فقدم بها مكّة، ونصبها حول الكعبة ودعا الناس الى عبادتها .
وبالاضافة الى ذلك فقد نصب صنمي >اساف<و>نائلة<الى جانب الكعبة ودعا الناس الى عبادتهما . وهكذا فقد وضع اللبنات الاولى لعبادة الأصنام. ومما نقل عن رسول الله’ انه قال:
>رأيت عمرو بن لحي في النار وهو اول من غير دين اسماعيل ونصب الاوثان<.
ب ـ ان اسماعيل بن ابراهيم صلى الله تعالى عليهما وسلم لما سكن مكّة وولد له بها اولاد كثير حتى ملأوا مكة ونفوا من كان فيها من العماليق فضاقت عليهم مكّة ووقعت بينهم الحروب والعداوات واخرج بعضهم بعضاً فتفسّحوا في البلاد والتماس المعاش. وكان الذي سلخ بهم الى عبادة الاوثان والحجارة انه كان لا يظعن من مكة ظاعن الا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، فحيثما حلّوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها وحُباً، ثم سلخ ذلك بهم الى ان عبدوا ما استحبّوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين ابراهيم واسماعيل غيره؛ فعبدوا الاوثان .
وكان هاذان العاملان منطلقاً لانتشار عبادة الأصنام في هذه المنطقة، وكان هناك الى جانبهما عوامل اخرى طبعاً مثل الجهل، والنـزعة الحسيّة البشرية (وهي ميل الانسان الى ان يكون الهه محسوساً وملموساً) .
وقد كانت الاختلافات القبلية والتنافس في ما بين القبائل (حيث كانت كل قبيلة تطمح الى ان يكون لها صنم مستقل)، وما كان يتصف به رؤساء القبائل من ميل الى الرئاسة (حيث يرغبون في ان يبقى الناس في حالة من الجهل لكي ينقادوا لهم بسهولة)، يُضاف الى ذلك التقليد الأعمى للاسلاف وهو ما ساعد على انتشار هذه الظاهرة (أي ظاهرة عبادة الأصنام). وهكذا ظهرت على مر الزمن انماط شتّى من عبادة الأصنام وما يتفرّع عنها من تقاليد الدعاء، والنذر، والازلام، وطلب العون منها . وكثرت الأصنام حتى كان لأهل دار من مكّة صنم يعبدونه؛ فاذا اراد احدهم السفر كان آخر ما يصنع في منـزله انه يتمسّح به . ولما فتح رسول الله’ مكّة وجد حول البيت ثلاثمائة وستّين صنماً .
هل كان عبدة الاصنام يؤمنون بالله؟
لم يكن عبدة الاصنام ينكرون وجود الله، اذ نقل القرآن عنهم انهم كانوا يعتقدون بان الله هو خالق السماوات والارض والعالم . ولكنهم وقعوا في خطئين عظيمين كانا هُما سبب ضلالهم:
1ـ خطأهم في معرفة الله وصفاته؛ اذ كانوا يحملون صورة مغلوطة وغامضة عنه؛ والدليل على ذلك هو انهم كانوا يعتقدون بأن لله زوجة وابناء؛ وكانوا يظنون ان الملائكة بنات الله؛ أي انهم كانوا يتصورون ان لله ـ كما للانسان ولبقية المخلوقات ـ جسماً ومادة وله اولاد وبنين. وقد ذم الباري تعالى هذه المعتقدات المغلوطة في آيات عديدة، منها قوله تعالى:
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} .
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى} .
{قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} .
{وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} .
وقد ذم الله تعالى المشركين في عدّة آيات لما نسبوه الى الله تعالى من الاناث التي كانوا يتصوّرون بأنها أمراً سلبياً ودونياً، فيما يعتبرون الذكور من نصيبهم هم:
{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} .
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} .
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} .
{أَمِِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} .
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
ويُستفاد من أحد التفاسير بأن المراد من نسبة الجن الى الله هو قول الكفار بأن الله قد تزوج الجن، والملائكة بنات الله من الجن .
2ـ وصفهم الاصنام بالآلهة الصغيرة وانها عبارة عن واسطة بينهم وبين الله، وان عبادتها تقربهم الى الله وتكون مدعاة لنيل رضاه، بينما العبادة لله وحده وليس لأحد سواه.
وعلى صعيد آخر لم يكونوا يعتبرون الأصنام هي الخالقة لهذا الكون ولكنهم كانوا في الوقت ذاته يرون لها نوعاً من مقام الربوبية والهيمنة، ويعتقدون بأن لها تأثيرها في تدبير شؤون الكون وتقرير مصير البشر، ولذلك فقد كانوا يلتجئون اليها طلباً لعونها في حل مشاكلهم ورفع العناء عنهم. بينما يقول الإسلام بأنَّ خالق عالم الوجود هو الله، ومثلما هو خالق الكون فان تدبير شؤون الكون بيده أيضاً . (وهذا ما يُسمّى بتوحيده في الافعال) بينما الأصنام اشياء جامدة لا روح فيها ولا ارادة لها ولا ادراك. وقد صور القرآن أوهامهم في هذا المجال وذمّها ودحضها على النحو التالي: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ  َيحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} .
{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} .
{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} .
ولهذا السبب فقد اطلق القرآن الكريم تسمية المشركين على عبدة الاوثان الذين جعلوا الأصنام شركاء لله في العبادة، وفي تدبير امور الكون.
الوضع الديني المضطرب
وعلى أيّة حال فعند ظهور الإسلام كانت عبادة الاصنام بما فيها من تقاليد وشعائر واسعة، قد مسخت الحنيفية، وكان المشركون يعيشون وضعاً دينياً مضطرباً، فقد كانوا من جهة متمسّكين بالأصنام وعبادة الأصنام وشعائرها وتقاليدها، وكانوا يؤدّون بقايا دين ابراهيم كالحج والعمرة والذبح على نحو ناقص ومحرّف وتشوبه الخرافات ومظاهر الشرك. فهم مثلاً كانوا يعظمون الكعبة ولكنهم في الوقت ذاته بنوا معابد اخرى واخذوا يطوفون حولها مثل طوافهم حول الكعبة، وكانوا يقدمون لها النذور والهدايا ويذبحون الى جانبها القرابين . وما كانت صلواتهم بجوار الكعبة سوى الصفير والتصفيق . وكانت قريش تذكر اسماء آلهتها من الأصنام عند احرام الحج والتلبية . وهكذا فقد مزجوا بالشرك الحج الإبراهيمي الذي يتضمن أسمى مظاهر التوحيد.
ولم يكن أحد اشد اعظاماً لصنم مناة من الأوس والخزرج، فانهم كانوا يحجّون فيقفون مع الناس المواقف كلّها ولا يحلقون رؤوسهم؛ فاذا نفروا أتوه فحلقوا رؤوسهم عنده ، واقاموا عنده .
وكان المشركون يطوفون (رجالاً ونساءً) حول الكعبة عراة احياناً . ومن الطبيعي ان مثل هذا المشهد يثير الاشمئزاز في النفوس.
كانت قريش تلطّخ الأصنام التي حول الكعبة بالمسك والعنبر، وكانوا اذا دخلوا خرّوا سجّداً ولا ينحنون ثم يستديرون بحيالهم ثم يُلبّون .
وقد كانوا يعظّمون الأشهر الحرم ولكنهم رغم ذلك كانوا يُنسئون؛ أي يبدلون الاشهر الحرم ظاهرياً لكي يبيحوا لأنفسهم الحرب والقتال فيها .
التحول الأساسي في ظل ظهور الإسلام
ومع ظهور الإسلام وانتشاره حصل تغيير جذري وعميق في جميع شؤون حياة أهالي الحجاز، وشهدت حياتهم ثورة شاملة امتد تأثيرها تدريجياً الى جميع ارجاء جزيرة العرب.
وأدت الحرب التي شنّها رسول الله’ بلا هوادة ضد عبادة الأصنام، الى اجتثاث هذه الظاهرة التي كانت سبباً في كل المآسي والمصائب التي عاشها الناس آنذاك. فقضى بذلك على عبادة الأصنام واستبدلها بنظام التوحيد. وقضى أيضاً على النظام القبلي والقومي وعلى العادات والتقاليد المغلوطة. فكافح التعصب القومي وأحلَّ محلّه اتباع الحق والعدل. وحوّل ظاهرة الانتقام والنهب والحروب القبلية التي كانت تُشن بين الإخوة الى سلام ومحبّة، وجعل المسلمين إخوة في ما بينهم. وأنقذ المرأة من الاغلال والمآسي وجعل لها شخصية اجتماعية وانسانية رفيعة. وحول المجتمع الجاهلي الى أمة واعية.
لقد حوّل رسول الله’ النظام القبلي الى نظام الأُمّة والامامة، ووحد القبائل العربية المشتتة تحت لواء الامة الواحدة. وانتشلهم من قيود الحياة القبلية الضيّقة الى فكرة الحكومة العالمية. وفي ظل الإسلام اكتسب العرب ـ الذين كانوا حتى الأمس القريب يشعرون بالضعف امام امبراطوريتي الفرس والروم ـ قوّة وعظمة زعزعت اركان الحكم في هاتين الامبراطوريّتين. وهذه الحقيقة على درجة عالية من الوضوح بحيث اعترف بها حتى غير المسلمين من العلماء المنصفين. نسوق في ما يلي على سبيل المثال آراء ثلاثة منهم (ممن لا يحتمل منهم التأييد المتعصب للاسلام):
قال الفرنسي غوستاف لوبون:
وجمع محمد قبل وفاته كلمة العرب، وخلق منهم امة واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد. فكان ذلك  آيته الكبرى. ومما لا ريب فيه ان محمداً أصاب في بلاد العرب نتائج لم تُصِب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الاسلام ومنها اليهودية والنصرانية. ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيماً... وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ. ونحن نعد دينه الذي دعا الناس إلى الاعتقاد به من جزيل النعم على الشعوب التي اعتنقته .
وقال الانجليزي توماس كارليل:
لقد هدى اللهُ العربَ بالاسلام واخرجهم من الظلمات إلى النور، واحيى به اولئك القوم الذين كانوا يعيشون حالة من الخمود في تلك الارض الميتة. بينما كان العرب منذ بدء الخليقة ليس اكثر من جماعة تجوب الصحارى ولا يُكاد يُعرف لهم اسم، بل كانوا قوماً فقراء يعيشون في مجاهيل البادية، لا يُسمع لهم صوت ولا تُحس لهم حركة. وعندما بعث الله فيهم نبياً بنور الوحي والرسالة لهدايتهم، تحولت المجهولية والخمول إلى شهرة، والحيرة والضياع إلى وعي، والانحطاط إلى رفعة، والعجز إلى قدرة، والشرارة إلى بارقة، وشع نوره في كل مكان، وغمر ضياؤه كل موطن. واتصل شعاع هدايته من شمال العالم إلى جنوبه وامتد من شرق الارض إلى غربها بحيث لم يمض قرن على ظهور الاسلام حتى كان قدم الحكومة الاسلامية في الهند وقدمها الآخر في الاندلس .
وكتب ويل ديورانت ما يلي:
لم يكن أحد في ذلك الوقت يحلم انه لن يمضي قرن من الزمان حتى يكون اولئك البدو قد فتحوا نصف أملاك الدولة البيزنطية في آسيا، وجميع بلاد الفرس، ومصر، ومعظم شمال افريقية، وساروا في طريقهم إلى اسبانيا. والحق ان ذلك الحادث الجلل الذي تمخّضت عنه جزيرة العرب، والذي أعقبه استيلاؤها على نصف عالم البحر المتوسّط ونشر دينها الجديد في ربوعه، لهو اعجب الظواهر الاجتماعية في العصور الوسطى .
تطور ومكانة مدينة مكة
ذكرنا سابقاً بأن معظم أهالي شبه جزيرة العرب كانوا في العصر الجاهلي بدواً يجوبون الصحاري. ولم تكن ظاهرة الحضر او السكن في المدن شائعة بينهم يومذاك. وأما المناطق التي كانت تُسمّى مدناً فكانت في الواقع مدناً صغيرة لم يكن يقطنها كثير من السكّان. وقال مؤرخون معاصرون بأن مجموع سكان الحضر يومذاك كان يبلغ سدس مجموع السكان . وقال آخرون بأنهم كانوا يشكلون ما مجموعه سبعة عشر بالمائة من مجموع السكان . وليس هناك اسس واضحة لهذه الحسابات والأرقام، ولكن من المسلم به ان نسبتهم كانت ضئيلة بالمقارنة مع سكان المدن. وكانت مدينة مكة التي تقع في جنوب الحجاز (تبعد ما يقارب 83 كيلو متراً من البحر الاحمر) أهم مدينة في تلك المنطقة. وكانت هذه المدينة قد اتسعت قبل عدّة عقود من ظهور الإسلام واجتذبت اليها اعداداً من السكان. وكان هناك سببان لاتساع مكّة، هما:
أ ‌ـ الموقع التجاري
تقع مدينة مكّة في ارض جرداء قاحلة وقليلة الماء، ولم تكن تتوفر فيها متطلبات الزراعة أو غيرها من النشاطات الانتاجية الاخرى، وكان أهاليها منذ القدم مضطرين الى تأمين مستلزمات حياتهم عن طريق التجارة، ولكن تجارتهم كانت محدودة لا تعدو مدينة مكة . وكان التجار الاعاجم يتقدمون بسلعهم الى مكّة فيشتريها منهم تجار مكّة، ثم يتبايعون بينهم ويبيعون من حولهم من العرب .
أو ربّما كانوا يشاركون في الاسواق الموسمية التي كانت تُقام في شبه جزيرة العرب، الى ان خرج هاشم ـ الجد الثاني للنبي محمد ـ الى الشام فأخذ من قيصر ملك الروم عهداً لقريش ليتجروا في بلاده .
وبالاضافة الى ذلك فقد اتفق مع القبائل التي تقع على مسير الشام على عدم التعرّض للقوافل التجارية لأهالي مكة ، وألّفهم على ان تحمل قريش بضائعهم ولا كراء على أهل الطريق .
وعقد عبد شمس، ونوفل، وعبد المطّلب، عهوداً مشابهة مع النجاشي ملك الحبشة، وكسرى ملك فارس ، وملك اليمن على التوالي .
وبعد توفير الأمان لتلك الطرق أوجد هاشم خطاً للقوافل التجارية بين اليمن والشام  وكانت حلقة الوصل بينها مكّة التي تقع في وسط الطريق الموصل بين هذين المركزين التجاريين . وهكذا بدأت قريش تجارتها مع الخارج . وابتداءً من ذلك التاريخ أخذ تجار مكّة يشاركون في الاسواق الموسمية التي كانت تقام يومذاك، مثل سوق عكاظ، وذي المجاز، والمجَنَة. وكانوا يتاجرون في الشتاء الى اليمن والحبشة، وفي الصيف الى الشام وغزّة. وأهم ما كانوا يتاجرون به في هذه الاسفار الطيب والبخور الذي يكثر في الجنوب، اضافة الى المنسوجات الحريرية والجلود وغيرها مما كان يصل من الهند والصين والمناطق الاخرى الى اليمن، ويُحمل من هناك عن طريق البر الى مكّة في طول جزيرة العرب من حضرموت محاذياً للبحر الأحمر . وتنقل من هناك الى غزة وبيت المقدس ودمشق والموانئ الواقعة على سواحل البحر الابيض المتوسط. وتحمل من اسواق الشام القمح والمصنوعات وزيت الزيتون والخشب. وعبروا البحر الاحمر الى الحبشة عن طريق ميناء جدّة (الذي يبعد ما يقارب ثمانين كيلو متراً عن مكة) لنقل البضائع المحلية الى مواطن اخرى .
أدى فتح هذا الطريق التجاري الى تحويل مكّة الى مركز تجاري يدر على أهله أرباحاً طائلة، واحدث تغييراً هائلاً في نمط حياة هذه المدينة. وقد وصف الباري تعالى في كتابه الكريم هذه الاسفار والرحلات التجارية بأنّها من موجبات ثراء ابناء قريش:
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} .

ب ‌ـ وجود الكعبة
كان وجود الكعبة في مكّة سبباً آخر من أسباب اتساع هذه المدينة وازدهار اقتصادها؛ وذلك لأن العرب كانوا يفدون على هذه المدينة مرّتين في كل عام لاداء مناسك الحج. وكانت قبيلة قريش هي التي تتولى ادارة جميع الشؤون المتعلّقة بالكعبة وتوفير متطلبات الحجاج كتوفير الماء والطعام. وعلى صعيد آخر كانت تجري على هامش مناسك الحج معاملات تجارية بين الحجاج وتجار مكّة . وقد ساعد هذان العاملان على نمو هذه المدينة وازدهار اقتصادها.
وكانت حرمة وقدسية بيت الله سبباً في استتباب الأمن في تلك الربوع، وكان لهذا العامل تأثيره الواضح في ازدهار التجارة في مكّة. وهذا ما بيّنه الله عز وجل بقوله:
{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ َأكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
فبعد ان اسكن ابراهيم× زوجته وابنه الى جانب الكعبة دعا ربّه بما يلي:
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} .
{رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ َأهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} .
تجارة وسدانة قريش
أدى ازدهار التجارة ووجود الكعبة إلى اتساع مدينة مكة وازدياد أهميّتها، وقد أدّى هذان العاملان ايضاً الى زيادة نفوذ وقوّة قريش وذلك لانها كانت تتحكم بعصب الاقتصاد من جهة، وتسيطر على الشؤون الدينية فيها من جهة اخرى:
1ـ حصلت قريش تدريجياً ـ عن طريق التجارة ـ على ثروات هائلة، وظهر اثرياء كبار في مكة كانت ارقام ثرواتهم تفوق الخيال. فقد بلغ سهم احدهم في أحد القوافل التجارية ما يربو على ثلاثين ألف دينار . وكان لأشراف قريش بساتين ومصايف  في منطقة معروفة بجمال طبيعتها واعتدال جوّها وهي منطقة الطائف التي توصف بأنها جزء من بلاد الشام بسبب لطافة هوائها . وكانت للعباس بن عبد المطلب ارض بالطائف وكان الزبيب يُحمل منها فينبذ في السقاية للحاج ، وكان من كبار أصحاب الربا في مكّة . ولما مات عبد المطلب لفّوه في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب . (وهذا ما يكشف عن مدى ثروة ورثته) وقيل ان ابنته ـ هند ـ اعتقت اربعين عبداً في يوم واحد .
وكان للوليد بن المغيرة ـ شيخ قبيلة بني مخزوم ـ من الثروة والابناء ما كانت تتداوله الألسُن . ولكن ذمّه القرآن لاحقاً بسبب ما كان يتصف به من الغرور والتكبّر . وكان عبد الله بن جدعان التيمي على درجة خيالية من الثراء والجود والكرم .
وكان الشعراء يمدحونه لنيل صلته ، حتى ان أحد الشعراء شبّهه بقيصر
ملك الروم . ومما يذكر عنه انه حمل ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير . وبذل من ماله مائة درع، ومائة رمح، ومائة سيف . وكان بائعاً للعبيد والجواري  ويشرب الماء في آينة ذهب . وعندما توجّه الرسول’ الى حنين بعد فتح مكّة، اخذ من صفوان بن امية ـ وهو كافر ـ مائة درع عارية مؤدّاة .
2ـ وعلى صعيد آخر كانت قريش قد انتزعت منذ عهد قُصي ـ الجد الرابع لرسول الله’ ـ حجابة الكعبة من قبيلة خزاعة . وقُسمت مختلف الشؤون المتعلّقة بالحج والزيارة والطواف كسقاية ورفادة الحاج وسدانة الكعبة وعمارتها وخدمتها بين رؤساء بطون قريش، وهكذا فقد جعلت لنفسها منـزلة دينية بين عامّة العرب.
والى جانب ذلك كانت لهم الشؤون الاجتماعية الاخرى التي كانت تتطلبها الحياة يومذاك، مثل اللواء والمشورة والاشناق والقبة والاعنّة والمغرم، وكانت لهم السفارة؛ وذلك انهم كانت اذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا منهم سفيراً .
سلطة ونفوذ قريش
كانت قريش ذات يوم قبيلة صغيرة وفقيرة ولا تحظى بنفوذ أو اعتبار في موطن سكناها وهو جنوب الحجاز، ولكنها تحوّلت تدريجياً بفضل ثروتها الاقتصادية وسلطتها الدينية إلى قبيلة قوية ومشهورة وذات سمعة طيّبة بين العرب. وصارت تعد ذاتها افضل من القبائل الاخرى من حيث الشرف والأهمية والاعتبار. وعلى حد تعبير احد المؤرخين المعاصرين ان قريشاً كان لها من المزايا والخصائص بين قبائل الحجاز مثلما كانت مكانة اللاويين بين اليهود والقساوسة بين المسيحيين .
ولما أهلك الله ابرهة الحبشي صاحب الفيل وسلّط عليه الطير الأبابيل عظمت جميع العرب قريشاً التي كانت تتولى حجابة الكعبة . واستغلت قريش تلك الحادثة وجيّرتها لصالحها وقالت: نحن اهل الله، وجيران الله، وولاة البيت الحرام وسكّان حرمه . وبذلك رسّخوا مكانتهم الدينية وابتدعوا عند ذاك احداثاً في دينهم اداروها بينهم، واتجهوا نتيجة لغرور السلطة نحو الفساد والاستحواذ على مقاليد الامور استئثاراً . حتى انهم ابتدعوا في ذلك اموراً لم تكن وفرضوها على القبائل الاخرى؛ فكانت قريش ـ مثلاً ـ تتزوج من نساء القبائل الاخرى بلا قيد أو شرط، ولكنها كانت اذا انكحت عربياً امرأة منهم اشترطوا عليه ان كل من ولدت له فهو على بدعتهم في أداء مناسك الحج والطواف . وكان يُعشر (تُفرض ضريبة) من دخل مكة سوى أهلها ، ويُسمون ذلك حق قريش . وجعلوا مناسك الحج في يدهم، والزموا الحجاج باتباع ما وضعوه لهم، وبقيت افاضة الحجاج من منى ورمي الجمرات، بيد قريش .
وشرعوا للحجاج ان يطوفوا طواف الافاضة بالبيت عُراة او في ثوبي أحمسي، واذا طاف في ثوبيه لم يحل له ان يلبسهما . (لكي يضطروا الى شراء الثياب من قريش)، ولا ينبغي لهؤلاء الحجاج ان يأكلوا من طعام جاءوا به معهم في الحل، ولا يأكلون في الحرم إلا من طعام أهل الحرم . (فيضطرون الى شراء الطعام من اسواق قريش!).
وفي السنة التاسعة للهجرة حينما أرسل النبي’ علياً× الى مكة لاعلان البراءة من المشركين، كان احد البنود التي نص عليها الاعلان الذي قرأه علي× ضمن مراسيم عامّة، منع طواف الحجاج عراة .
تكمن أهمية الاطلاع على سلطة ونفوذ قريش في مكّة في اننا نستطيع من خلال ذلك ادراك مدى حجم المشاكل التي واجهها رسول الله’ ومدى قوّة العدو الذي كان يقف في مواجهته خاصة في عهد الدعوة في مكّة، حيث كان يخوض صراعاً مريراً مع قريش في مهد قوّتها وسلطانها من غير ان يتوفر لديه العدّة والعدد الكافي من الانصار لخوض تلك المواجهة.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

افتتح البخاري صحيحه بالطعن في النبي صلى الله ...
فاطمة بنت أسد عليها السّلام
في رحاب نهج البلاغة (الإمام علي عليه السلام ...
المأساة والتأسي
محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ...
الموالي و اعدادهم من قبل الائمة ـ عليهم السلام .
المقال الذي سبب أزمة فى مصر
مناظرة الشيخ المفيد مع أبي القاسم الداركي في حكم ...
الليلة الوحيدة في التأريخ
الحكومة البويهية والتشيع .

 
user comment