عربي
Thursday 18th of April 2024
0
نفر 0

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند علي عليه السلام

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند علي عليه السلام

منفرائض الإسلام الكبری فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد ورد تشريع هذه الفريضة في الكتاب الكريم والسّنّة الشّريفة في عدة نصوص دلّة علی وجوب الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر علي جميع المسلمين بنحو الواجب الكفائي. (1)

كما وردت نصوص أخری كثيرة في الكتاب والسّنّة، منها ما يشتمل علي بيان الشّروط التي يتنجز بها وجوب هذه الفريضة علی المسلم. ومنها ما يضيء الجوانب السياسية والاجتماعية لهذه الفريضة، كما يوضح المبدأ الفكري الإسلامي العام الّذي ينبثق منه هذا التّشريع، دلّ علی وجوب هذه الفريضة من الكتاب الكريم قوله تعالی:

(وَلْْتَكُن مّنكُمْ أُمَّةُ ُ يَدْعُونَ إلَی الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاُؤلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).  (2)

فقد دلّت هذه الآية علی وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من وجهة دلالة لام الأمر في «ولتكن» علی الوجوب.

كما أنّ ظاهرها أنّ الواجب هنا كفائي لا عيني، لأن مفاد الأمر تعلّق بأنّ تكون في المسلمين أُمة تأمر وتنهی، لا بجميعهم علی نحو العينيّة الاستغراقيّة وعليه فإذا قامت جماعة منهم بهذا الواجب سقط الوجوب عن بقيّة المكلّفين كما هو الشّأن في الواجب الكفائي.

ولم يحدّد في القرآن والسّنّة عدد مخصوص لأفراد هذه الأمّة، فيراعي في عدد الأفراد القائمين بالواجب مقدار الوفاء بالحاجة.

وقد جعل الله تعالی في كتابه الكريم وعي هذه الفريضة، وأدائها حين يدعو وضع المجتمع إلی ذلك، من صفات المؤمنين الصّالحين، فقال تعالی:

(وَالْمُؤمِنُونَ وَالْمُؤمِنَتُ بَعْضُهُم أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقيِمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَوةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهَ إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمُ ُ).  (3)

فقد دلّت الآية المباركة علی تضامن المؤمنين بعضهم مع بعض في عمل الخير والبرّ والتقوی، وأنّهم جميعاً من جنود هذه الفريضة حين يدعوهم الواجب إليها.

وسياق الآية الكريمة دالّ علی وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، من حيث أنّ بقيّة ما ورد في الآية كلّه من

الواجبات المعلومة في الشريعة (الصّلاة، والزّكاة، وطاعة الله ورسوله)، (4) وإنْ لم تكن الدّلالة السّياقيّة من الدّلالات التي لها حجيّة في استظهار الأحكام الشّرعية.

كما ورد مدح المؤمنين والمؤمنات ـ كأفراد ـ في الآية الآنفة، فقد ورد في آية أخری مدح المسلمين كافّة ـ كأمة ومجتمع ـ من حيث وعيهم لهذه الفريضة وعملهم بها، وتلك هي قوله تعالی

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للِنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ). (5)

وقد مدح الله في كتابه الكريم المسلمين من أهل الكتاب، أتباع الأنبياء السّابقين قبل بعثة النّبيّ محمّد صلّي الله عليه وآله وسلّم بوعيهم لهذه الفريضة والعمل بها، ممّا يكشف عن إنّها فريضة عريقة في الإسلام منذ أقدم عصوره وصيغهِ، وأنّها قد كانت فريضة ثابتة في جميع مراحله التَّشريعيّة التي جاء بها أنبياء الله تعالی جيلاً بعد جيل. قال تعالي: (لَيْسُوا سَوَآءً مِّنْ أهْلِ الكِتَبِ أُمَّةُ ُ قَآئِمَةُ ُ يَتْلُونَ ءَايَتِ اللهِ ءَانَآء الَّيْلِ وَهُمْ يَسجُدُونَ (113) يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الأَخِر وَيَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَرِعُونَ فِي الخَيْرَتِ وَأ ُوْلَئِكَ مِنَ الصَّلِحِينَ). (6)

وقد كان إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدی هواجس المجتمع من شواغل أمير المؤمنين علي عليه السلام الدّائمة. وقد تناولها في خطبه وكلامه ـ كما تعكس لنا ذلك النّماذج التي اشتمل عليها نهج البلاغة ـ من زوايا كثيرة تناولها كقضيّة فكريّة لا بدّ أن توعی لتغني الشّخصية الواعية، وباعتبارها قضية تشريعية تدعو الأمّة والأفراد إلي العمل.

ومن هذين المنظورين عالجها بعدة أساليب.

لقد أعطاها منزلة عظيمة، تستحقها بلا شك، بين سائر الفرائض الشرعيّة، فجعلها إحدی شعب الجهاد الأربع «... والجهاد منها ـ من دعائم الإيمان ـ علیٰ أربع شعب علی الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين، فمَن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين ومَن نهي عن المنكر أرغم أنوف الكافرين ومن صدق في المواطن قضیٰ ما عليه ومن شنيء الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة» وجعل الإمام هذه الفريضة، في كلام له آخر تتقدم علی أعمال البر كلها، فقال:

«... وما أعمال البِرِّ كلها، والجهاد في سبيل الله عِند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاَّ كنفثة في بحر لُجَّيًّ...».

ومن السهل علينا أن نفهم الوجه في تقدّم هذه الفريضة علي غيرها إذا لا حظنا أنّ أعمال البرّ تأتي في الرّتبة بعد استقامة المجتمع وصلاحه المبدئي ـ الشّرعي والأخلاقي ـ وأنّ الجهاد لا يكون ناجعاً إلاّ إذا قام به جيش عقائدي، وهذه كلّها تتفرع من الوعي المجتمعي للشريعة والأخلاق، ومن الحد الأدني للالتزام المسلكي بهما.

في بعض كلماته بيّن الإمام جانباً من الأسباب الموجبة لهذ التّشريع، فقال:

«فرض الله... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء»

فعامّة النّاس الذين قد يقعون في إثم ترك الواجبات لأنّهم لا يعرفونها علی وجهها أو يجهلونها، يمكّنهم الأمر بالمعروف من التعلّم والتفقّه، بالإضافة إلی أولئك الّذين يقعون في إثم ترك الواجب وهم يعرفون الواجب والحرام حيث يردّهم الأمر بالمعروف إلی جادّة الصّواب والاستقامة، كما يرد إليه السّفهاء الّذين يتجاوزون في لهوهم وعبثهم حدود الله.

وللأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مراتب متدرجة من الأدنی إلی الأعلی، فهي فريضة مرنة تستجيب للحالات المتنوعة وللأوضاع المختلفة. فربّ إنسان تنفع في ردعه الكلمة، وربّ إنسان لا ينفع في شأنه إلاّ العنف.

ولكلّ حالة طريقة أمرها ونهيها الّتي يقدرها الآمر والنّهي العارف، ويتصرّف بقدرها فلا يتجاوزها إلی ما فوقها حيث لا تدعو الحاجة إليه، ولا ينحط بها إلي ما دونها بحيث لا يؤثّر ذلك في ردع السّفيه عن غيّه وحمله علی الاستقامة والصّلاح.

وثمّة حالات من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا بدّ فيها من القتال، وهذه حالات تحتاج أن يقود عملية الأمر والنهي فيها الحاكم العادل وفي هذه الحالات الخطيرة جداً لا يجوز لآحاد الناس أو جماعاتهم أن يقوموا به دون قيادة حاكم شرعي عادل !.

وإذا كانت مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتدرج صاعدة من الإنكار بالقلب إلي الإنكار باللّسان إلی الإنكار باليد، وللإنكار باللّسان درجات وللإنكار باليد درجات...

وإذا كانت الحالات العادية للأمر والنّهي تتفاوت في خطورتها وأهميتها بما يستدعي هذه المرتبة من الإنكار أو تلك...

فإنّ الحالات الكبری الّتي لا بدّ فيها من تدخل الحاكم العادل والأمّة كلّها قد تبلغ درجة من الخطورة لا بدّ فيها من الإنكار بالقلب واللّسان وأقصی حالات الإنكار باليد ـ أعني القتال.

وهذا هو ما كان يواجهه المجتمع الإسلامي في عهد الإمام عليه السلام، متمثلاً تارة في ناكثي البيعة الّذين خرجوا علی الشرعيّة واعتدوا علی مدينة البصرة، ولم تفلح دعوته لهم بالحسنی في عودتهم إلی الطاعة واضطروه إلی أن يخوض ضدّهم معركة الجمل في البصرة. أو المتمردين علی الشرعية في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان الّذي رفض جميع الصيغ السّياسيّة الّتي عرضها عليه الإمام ليعود من خلالها إلی الشرعية. أو المارقين الخوارج علی الشرعية والّذين رفضوا كلّ عروض السّلام الّتي قُدِّمت لهم، وأصروا علی الفتنة ومارسوا الإرهاب ضدّ الفلاحين والآمنين والأطفال والنّساء.

في هذه الحالات وأمثالها علی المسلم المستقيم أن يبرأ من الانحراف في قلبه وأن يدينه علناً بلسانه، وأن ينخرط في أيّ حركة يقودها الحاكم العادل لتقويم الانحراف بالقوة إذا اقتضی الأمر ذلك.

قال عليه السلام، فيما يبدو أنه تقسيم لمواقف النّاس الّذي كان يقودهم من المنكر المبدئي الخطير الّذي كان يهدّد المجتمع الإسلامي كلّه في استقراره، وتقدمه، ووحدة بنيه:

«فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير. ومنهم المنكر بلسانه وقلْبه والتَّارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومُضيّع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء».

ونلاحظ أن للإمام سمّي التّارك في هذه الحالة الخطيرة، لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر «ميّت الأحياء» ونفهم صدي هذا الوصف إذا لا حظنا أن إنساناً لا يستشعر الأخطار المحدقة بمجتمعه، ولا يستجيب لها أيّ استجابة، حتی أقل الاستجابات شأناً وأهونها تأثيراً، وأقلها مؤونةً وهي الإنكار بالقلب الّذي يقتضيه مقاطعة المنكر واعتزال أهله ـ إنّ إنساناً كهذا بمنزلة الجثة الّتي لا تستجيب لأيّ مثير لأنّها خالية من الحياة الّتي تشعر وتستجيب.

ويقول عبد الرحمان بن أبي ليلی الفقيه وهو ممن قاتل مع الإمام في صفّين، أنّ الإمام كان يقول لهم حين لقوا أهل الشّام:

«أيها المؤمنون. إنه من رأي عدواناً يعمل به، ومنكراً يُدعي إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبریء، ومَنْ أنكره بلسانه فقد أُجِرَ، وهو أفضل من صاحبه. ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظّالمين هي السفلي فذلك الّذي أصاب سبيل الهدی وقام علي الطريق، ونوَّرَ في قلبه اليقين».

ونلاحظ هنا أنّ الإمام وضع للإنكار بالسّيف ـ وهو أقصی مراتب الإنكار باليد ـ شرطاً، هو أن تكون الغاية منه إعلاء كلمة الله لا العصبيّة العائلية أو العنصريّة، ولا المصلحة الخاصة، والعاطفة الشّخصية. وهذا شرط في جميع أفعال الإنسان، وفي جميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إلاّ أنّ الإمام عليه السلام صرّح به في هذه المرتبة لخطورة الآثار المترتبة علی القيام بها من حيث أنّها قد تؤدّي إلی الجرح والقتل.

ويقدّر الإمام أنّ كثيراً من الناس يتخاذلون عن ممارسة هذا الواجب الكبير فلا يأمرون بالمعروف تاركه ولا ينهون عن المنكر فاعله بسبب ما يتوهمون من أداء ذلك إلی الإضرار بهم أن يعرضوا حياتهم للخطر، أو يعرضوا علاقاتهم الاجتماعية للاهتزاز والقلق، أو يعرضوا مصادر عيشهم للانقطاع... وما إلی ذلك من شؤون.

ولقد لحظ الشارع هذه المخاوف، فجعل من شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم ترتب ضرر معتدِّ به علی الأمر والناهي.

ولكنّ كثيراً من الناس لا يريدون أن يمسّهم أيّ أذی أو كدر. وهذا موقف ذاتي وأناني شديد الغلوّ لا يمكن القبول به من إنسان يفترض فيه أنه ملتزم بقضايا مجتمعه كما هو شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. فهو إنسان يستبدّ به القلق لأيّ انحراف يراه، ويدفعه قلقه وأخلاقه إلي أن يتصدّي للانحراف بالشّكل المناسب، وهو الذي قال فيه الإمام في النصّ السّابق «المستكمل لخصال الخير».

لقد نبّه الإمام ـ في موضعين من نهج البلاغة علی أنّ التّخاذل عن الأمر والنهي خشية التعرض للأذی ناشیء عن أوهام ينبغي أن يتجاوزها المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه، فلا يجعلها هاجسه الّذي يشلّه فيحول بينه وبين الحركة المباركة المثمرة، فقال الإمام فيما خاطب به أهل البصرة في إحدی خطبه، وقد كانوا بحاجة إلی هذا التَّوجيه، لما شهدته مدينتهم، وتورّط فيه كثير منهم في فتنة الجمل:

«وإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه، وإنهما لا يقرَّبان من أجلٍ، ولا ينقصان من رزق».

ونوجّه النظر إلی قوله عليه السلام أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خلقان من خلق الله عزّ وجلّ، فالله هو الآمر بكلّ معروف، والناهي عن كلّ منكر، وإذن فإنّ المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه الواعي للأخطار المحدقة به، يمتثل ـ حين يأمر وينهی ـ لله تعالی ويتبع سبيله الأقوم.

وقال الإمام في موقف آخر:

«وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يُقرّّبان من أجلٍ ولا ينقصان من رزق».

قلنا إنّ إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدی هو اجس المجتمع الّدائمة، وإحدی الطّاقات الفكرية الحيّة المحرّكة للمجتمع كان من شواغل الإمام الدّائمة.

وكان يحمله علی ذلك عاملان.

أحدهما إنّه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين، ومن أعظم واجباته شأناً أن يراقب أمّته ويعلّمها ما جهلت، ويعمّق وعيها مما علمت، ويجعل الشّريعة حيّة في ضمير الأمة وفي حياتها.

وثانيهما هو قضية الشّخصيّة في معاناته لمشاكل مجتمعه الدّاخلية والخارجية في قضايا السياسية والفكر.

فقد كان الإمام يواجه في مجتمعه حالة شاذة لا يمكن علاجها والتغلب عليها إلاّ بأن يجعل كلّ فرد بالغ في المجتمع ـ والنّخبة من المجتمع بوجه خاص ـ من قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في كلّ موقف تدعو الحاجة إليهما وخاصة في المواقف الخطيرة، قضية التزام شخصي واع وصارم.

لقد شكا الإمام كثيراً من النّخبة في مجتمعه، وأدان هذه النّخبة بأنّها نخبة فاسدة في الغالب لأنّها لم تلتزم بقضية شعبها ووطنها وإنّما تخلّت عن هذه القضية سعياً وراء آمال شخصية وغير أخلاقية...

أكثر من هذا لقد اتّهم الإمام هذه النخبة مراراً بأنّها خائنة. ومن مظاهر عدم التزامها بقضية شعبها أو خيانته هو تخليها الّذي لا مبرّر له عن ممارسة واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وإذ يئسٍ الإِمام من التأثير الفعّال في هذه النّخبة فقد توجّه بشكواه رأساً إلی عامة الشّعب محاولاً أنْ يحركه في اتجاه الالتزام العملي بقضيته العادلة، موجهاً وعيه نحو الأخطار المستقبلية، محذراً له من تطلّعات نخبته.

نجد هذه التّوجه نحو عامة الشعب مباشرة ظاهراً في الخطبة القاصعة التي تضمّنت ألواناً من التّحذير، النّابض بالغضب، من السقوط في حبائل النّخبة.

وكانت قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ـ فيما يبدو ـ والتراخي أو اللاّمبالاة الّتي تظهرها النّخبة نحو هذه القضية ـ إحدي أشدّ القضايا إلحاحاً علی ذهن الإمام وأكثرها خطورة في وعيه.

وكان أسلوب التّنظير بالتاريخ إحدي الوسائل الّتي استعملها الإمام في تحذيره لشعبه وفي تعليمه الفكري لهذه الفريضة.

لقد كانت شكواه وتحذيراته المترعة بالمرارة والألم نتيجة لمعاناته اليومية القاسية من مجتمعه بوجه عام ومن نخبة هذا المجتمع وبوجه خاص.

ولا بدّ أنّ هؤلاء وأولئك قد سمعوا من الإمام مراراً كثيرة مثل الشّكوی التّالية الّتي قالها في أثناء كلام له عن صفة من يتصدّي للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل:

«إلی الله أشكو من معشر يعيشون جُهَّالاً ويموتون ضلاَّلاً. ليس فيهم سلعة أبْوَر (7) من الكتاب إذا تُلی حق تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلی ثمناً من الكتاب إذا حُرِّف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر».

كان النّهج الّذي سار عليه الإمام في حكمه نهج الإسلام الذي يستجيب لحاجات عامّة الناس في الكرامة، والرّخاء، والحرّية.

وكان هذا النّهج يتعارض، بطبيعة الحال، مع مصلحة طبقة الأعيان وزعماء القبائل الّذين اعتادوا علی الاستمتاع بجملة من الامتيازات في العهد السّابق علی خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام.

وقد كان لهذه الطّبقة ذات الامتيازات أعظم الأثر في الحيلولة بشتّي اوساليب دون تسلّم الإمام للسّلطة في الفرص الّتي مرّت بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلّم، وبعد وفاة أبي بكر، وبعد وفاة عمر، ولكنَّه بعد وفاة عثمان تسلّم السلطة علی كراهية منه لها، وعلی كراهية من النّخبة له، فقد قبلت به مرغمة لأن الضغط الذي مارسته الأكثرية الساحقة من المسلمين في شتّی حواضر الإسلام شلّ قدرة النّخبة المالية وطبقة الأعيان علي التأثير في سير الأحداث، فتكيّفت مع الوضع الجديد الّذي وضع الإمام علياً ـ بعد انتظار طويل ـ علی رأس السّلطة الفعليّة في دولة الخلافة.

وقد كشفت الأحداث الّتي ولدت فيما بعد عن أنّ هذا التكيّف كان مرحليّاً، رجاء أن تحتال في المستقبل، بطريقة مالتأمين مصالحها وامتيازاتها.

وحين يئست طبقة الأعيان هذه من إمكان التأثير علی الإمام وتبدّدت أحلامهم في تغيير نهجه في الإدارة وسياسة المال وتصنيف الجماعات تغييراً ينسجم مع مصالحهم فيحفظ لها مراكزها القديمة، ويبوّئها مراكز جديدة ويمدّها بالمزيد مِن القوة والسّلطات علی القبائل والموالي من سكان المدن والأرياف... حين يئست هذه الطّبقة من كلّ هذا وانقطع أملها... طمع كثير من أفراد هذه الطّبقة بتطلّعاته إلی الشّام ومعاوية بن أبي سفيان، فقد رأوا في نهجه وأسلوبه في التعامل مع أمثالهم ما يتفق مع فهمهم ومصالحهم.. وتخاذل بعض أفرادها عن القيام بواجباتهم العسكرية في مواجهة النشاط العسكري المتزايد الّذي قام به الخارجون عن الشّرعية في الشّام، هذا النشاط الّذي اتّخذ في النّهاية طابع الغارات السريعة وحروب العصابات.

وكان تخاذلاً لا يمكن تبريره بجبنهم فشجاعتهم ليست موضع شك علی الإطلاق.

ولا يمكن تبريره بقلّتهم، فقد كانت الأمّة قادرة أن تزود حكومتها الشرعية بجيوش جرّارة وجنود أقوياء مدرّبين جعلت منهم طبيعتهم، وثقافتهم، وحروب الفتح التي خاضوها مدة سنوات طويلة من خير المقاتلين في العالم.

ولا يمكن تبريره بنقص في التّسليح وعدة الحرب وعتادها، فقد كانت معامل السّلاح نشطة لتأمين احتياطي ضخم من السّلاح لمجتمع كان لا يزال محارباً.

ولا يمكن تبريره بسوء الحالة الاقتصاديّة، فقد كان المال العام وفيراً بعد أن أصلحت الإدارة الماليّة في خلافة الإمام.

لم يكن إذن ثمة سبب للتَّخاذل سوی الموقف السّياسي غير المعلن الّذي صممت النّخبة من الأعيان وزعماء القبائل علی التّمسك به والتّصرّف في القضايا العامّة وفقاً له، إلی النّهاية، وذلك بهدف تفريح حكومة الإمام علي من قوة السّلطة، وجعلها عاجزة عن الحركة بسبب عدم توفر الوسائل الضّرورية لها، وهذا ما يؤدّي في النّهاية إلی انتصار التَّمرّد علی الشّرعية.

كان هذا الموقف السّياسي غير المعلن هو سبب التَّخاذل.

وقد كان هذا الموقف غير معلن، بل كان قادة هذه النّخبة يوحون بإخلاصهم وتفانيهم، لأنّ هذه النّخبة كانت تخاف، إذا أعلنت موقفها وكشفت عن نواياها وأهدافها البعيدة وأمانيها المخزية، من جمهور الأمّة أنْ يكشف لعبتها ضد آماله ومصالحه، فيدينها ويعاقبها.

وقد حفظ لنا الشريف في نهج البلاغة نصوصاً كثيرة يلوم فيها الإمام نخبة مجتمعه لوماً قاسياً مرّاً علی تراخيهم وتخاذلهم عن القيام بالتزاماتهم العسكرية في الدّفاع عن الشرعية، ولا شكّ أنّ الإمام في آخر عهده كان مضطرّاً للإكثار من هذه اللّوم والتقريع، كقوله في إحدی خطبه:

«ألاَ وإنّي قد دعوتكم إلی قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسرّاً وإعلاناً، وقلت لكم أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزِي قوم قط في عقر دارهم (8) إلاّ ذَلَّوا، فتواكلتم وتخاذلتم، (9) حتي شُنَّت (10) عليكم الغارات، ومُلكت عليكم الأوطان...

فيا عجباً! عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهمَّ، من اجتماع هؤلاء القوم علی باطلهم، وتفرقكم عن حقكم! فقبحاً لكم وترحاً (11) حين صرتم غرضاً يرمی يُغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون ويعصی الله وترضون».

«فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حَمّارَة القيظ أملهنا يسبَّخ عنا الحرُّ، (12) وإذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشتاء قلتم هذه صَبَّارة القُرَّ (13)... كل هذ فراراً من الحر والقر، فإذا كنت من الحر والقر تفرُّون، فأنتم والله من السيف أفرُّ».

«يا أشباه الرجال ولا رجال! حلومُ الأطفال، وعقول ربَّات الحجال14 لوددتُ أني لم أرَكم ولم أعرفكم معرفة ـ والله ـ جرَّت ندماً وإعقبت سدماً». (15)

«قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً (16) وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتَّی لقد قالت قريش إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا عِلم له بالحرب، لله أبوهم وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مِراساً وأقدمُ فيها مقاماً مني لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وهأنذا قد ذرَّفتُ (17) علی الستين! ولكن لا رأي لمن لا يطاع».

بهذه المرارة وبهذا الغضب، وبهذه السّخرية، وبهذا الاحتقار كان الإمام يواجه هذه النخبة الّتي تخاذلت عن القيام بواجبها، أو خانت قضية شعبها.

ويبدو أن هذه الطبقة ـ أو فريقاً منها ـ كانت تحول، ستراً لمواقفها التي عمل الإمام علی فضحها، أن تتظاهر في بعض الحالات بالغيرة والحميّة الدّينية، فتتخذ مواقف لفظية آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر دون أنْ تترجم ذلك إلی أفعال وممارسة عملية، شأنها في ذلك شأن الكثيرين ممّن يسترون خياناتهم وأنانيتهم، وحرصهم علی المتاع الدّنيوي بالمواقف الأخلاقية اللّفظية.

ولكنّ الإمام عليّاً كان يعرف هؤلاء، ومن السّهل معرفتهم في كلّ زمان، وكان يفضح هذه المواقف المنافية بقسوة، لأنها تضيف إلي جريمة الخيانة السّياسيّة رذيلة النّفاق والتّمويه علی بسطاء النّاس، فيقول مبصِّراً مجتمعه بفساد العلاقات الناشیء عن فساد النّخبة

«... وهل خُلقتم إلا في حُثالة (18) لا تلتقي إلا بذمهم الشفتان، استصغاراً لقدرهم، وذهاباً عن ذكرهم، فإنّا لله وإنا إليه راجعون».

«ظهر الفساد فلا منكر مغيَّر، ولا زاجر مزدجر. أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزَّ أوليائه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنته ولا تنال مرضاته إلاّ بطاعته».

«لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والنّاهين عن المنكر العاملين به».

وإذا كانت مصلحة الحكم المستبد الطبقي أو الفئوي تقضي بأن يصمت الشعب ولا يرتفع منه صوت اعتراض أو احتجاج، أو إدانة مهما أصابه من مظالم، ومهما حل بحقوقه من انتهاكات، فإن مصلحة الحكم الشّعبي الملتزم بالمصالح الحقيقية للناس العاديّين البسطاء هي علی العكس من ذلك... إنّ مصلحة هذا الحكم الّذي يستمد فاعليته وقوته من مجموع الشعب هي في أنْ يتكلّم الناس في الشّأن السّياسي مؤيدين أو منتقدين لحماية مصالحهم الحقيقيّة في مواجهة البني العليا في المجتمع التي تتبع سياسات مضادّة لمصالح مجموع الشعب علی المدی القريب أو البعيد، والّتي تعمل باستمرار لتكوين حالات اجتماعية، ومشاغل واهتمامات فكريّة تصرف فئات الشعب عن مصالحها الجوهرية (19) وتقعد بها عن مساعدة الحكم الشّعبي الّذي يمثل هذه المصالح ويعمل لتحقيقها، هذا إذا لم تفلح هذه البني العليا في أن تؤلّب بعض فئات الشّعب ـ نتيجة للتّضليل ـ ضد هذا الحكم.

وسكوت الشّعب في حالة النّشاط المعادي الّذي تقوم به البني العليا، أو عدم مبالاته، بترك السّاحة خالية أمام هذه القوي لتفسد علی الحكم الشّعبي سياساته المستقبليّة دون أن تخشی عقاباَ، لأنّ الحكم في هذه الحالة يقف في مواجهة تلك القوی وهو أعزل، وهذا يمنعها من التّغلب عليه أو من تجاوزه... وهذا ما كان يحدث في كثير من الحالات في عهد الإمام عليه السلام، وكان يثير غضبه علی النّخبة لفسادها، ويحمله علی كشف عيوبها أمام أعين النّاس.

لقد كان الإمام عليه السّلام حريصاً أشدّ الحرص علی أن يحرّك الجماهير ويدفع بها دوماً إلی أنْ تعبر عن رأیها، وتعلن عن مواقفها. وتعکس لنا النّصوص إدراﻙ الإمام العمیق لأهمیّة الکبری والحاسمة التي تبينّها هذه المسألة في عمله السّياسي، وذلك في مظهرين:

الأول كثرة المناسبات الّتي أثار فيها الإمام موضوع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتنّوع الأساليب الّتي شرحه بها. هذا أمر ملفت للنّظر بالنّسبة إلی حكم شرعي ثابت في القرآن الكريم والسّنّة النبوية ويعتبره الفقهاء من الأحكام القطعية الضّرورية، إنّ هذا الاهتمام المستمر علی مسألة الأمر والنّهي يكشف عن أنّ الإمام كان يواجه في المجتمع حالة غفلة عن الحكم الشرّعي بوجوب الأمر والنهي، وحالة تراخ عن القيام بهذه الفريضة الإسلامية علی وجهها، وهذه الغفلة وهذا التراخي حملاه علی أنّه يذكّر المسلمين بفريضة الأمر والنّهي ما استطاع.

الثّاني عنف الأسلوب الذي عبّر به الإمام عن أفكاره وعن معاناته حين كان يوجّه خطاباته إلي المسلمين في هذا الموقف أو ذاك مقرّعاً لائماً، أو مشجعاً حاثاً لهم علی أداء هذه الفريضة..

وهو ما يكشف عن أنّ الإمام يعاني من قلق عميق وغضب مكبوت نتيجة لما يراه في المجتمع من إهمال. وتراخ.

قد حثّ الإمام المسلمين علی الالتزام العملي بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في حياتهم العامّة وعلاقاتهم الاجتماعية والسّياسّة بأساليب متنوعة، ونظر إليها من زوايا متعدّدة.

ومن جملة الأساليب الّتي اتّبعها في تعليمه الفكري والسّياسي بالنّسبة إلی هذه الفريضة أسلوب التّنظير التّاريخي، فمن ذلك قوله في الخطبة القاصعة:

«وإنَّ عندكم الأمثال من بأس الله وقوراعه، وأيامّه ووقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه، وتهاوناً ببطشه، وياساً من بأسه، فإنَّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم، إلاَّ لِتَركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي».

نلاحظ أنّ الإمام عبّر هذا النّص، كما في نصوص أخری ـ عن إنكاره بشأن ما يراه في مجتمعه من تهاون وتراخ في امتثال فريضة الأمر والنّهي، بأسلوب شديد الوقع يتجاوز النصيحة الرّقيقة الهادئة إلی الإنذار الشّديد، والتّحذير من أهوال كبری مقبلة واستعان علی تصوير ذلك بالتذكير بما حلّ في القرن الماضي من اللعن نتيجة لإهماله هذه الفريضة أو تراخيه عن القيام بها.

واللّعن هنا ليس عقاباً روحياً وأخروياً فقط، إنّه هنا يأخذ معنی سياسيّاً، إنّ اللّعن هو البعد عن رحمة الله ورعايته، وهذا يعني أنّ الملعون يتعرّض للنّكبات السياسيّة واجتماعيّة الّتي تؤدي به في النهاية إلي الانحطاط والانهيار.

والظاهر أنّ الإمام يعني بالقرن الماضي الإسرائيليّين، فإنّ في كلامه هنا قبساً من الآية الكريمة:

(لُعِنَ الَّذينَ كَفَروُا مِن بَنِي إسراءيلَ عَلَیٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَي أبنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكانُوا يَعتَدُونَ«78» كَانُوا لاَ يَتَنَاهَونَ عَن مُنكَرِ فَعَلُوُه لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ). (20)

في النص التالي اتّبع الإمام أسلوب التّنظير بالتاريخ أيضاً في تعليمه الفكري لمجتمعه بشأن فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، معيداً إلی أذهان مستمعيه قصة ثمود القرآنية، والنّكبة المرعبة الّتي أبادتهم حين عصوا أمر الله تعالی إليهم في شأن ناقة نبيهم صالح عليه السّلام.

وليس من همنا هنا عرض الحادث التاريخي القرآني وإنّما نبغي الكشف عن استخدام الإمام للتاريخ في تعليمه الفكري.

والإمام في التنظير الوارد في النص التّالي يثير مسألة ذات أهمية بالغة في العمل السيّاسي، وهي أنّ حركة التاريخ تقودها دائماَ جماعة قليلة العدد من الناس تملك القدرة علی الحركة فتبادر إلی اتخاذ المواقف، في حين أن غيرها من الناس يكون في حالة سكون، فتكوّن بحركتها وقائع جديدة تحمل الناس علی قبولها، وتضع السّلطة أمام أمر واقع.

وحين تكون هذه الجماعة المتحركة القليلة العدد ملتزمة بقضايا مجتمعها، عاملة في سبيل مصلحته، فإنّ واجب المجتمع أن يساندها ويقدّم لها العون المعنوي والمادّي في جهادها.

أمّا حين تعمل هذه الجماعة ضد مصالح المجتمع العليا والحقيقة ـ رغم ما توشّي به عملها من ألوان خادعة ـ فإنّ علی المجتمع أن يتحرك ويقف في وجهها، ويلجم اندفاعها ذوداً عن مصالحه.

أمّا سكوت المجتمع وسكونه وسلبيته تجاه مواقف هذه الجماعة فإنّه جريمة يرتكبها في حق نفسه، لأن الكارثة حين تقع في النهاية نتيجة لأعمال الجماعة المتحركة لا تميّز بين المسبّبين لها وبين السّاكتين عنها. إنّها حين تقع تصيب بشرورها المجتمع كله، بل لعلّها، في قضايا السياسة والفكر، تصيب السّاكتين عنها أكثر مما تصيب المسببين لها، والّذين تكمن مصلحتهم في الانحراف والتزوير.

ومن هنا فإنّ ما اصطلح عليه في لغة السّياسة في هذه الأيام باسم الأكثرية الصامتة، هذه الأكثريّة التي لا تبدي فيما يجري أمامها وعليها ولا تعيد، وإنما تقبل ما يقوم به الآخرون مختارة أو مرغمة، راضية أو ساخطة،... هذه الأكثرية الصّامتة بموقفها هذا تقوم بدور الخاذل للحق أو المتواطيء علی الجريمة.

وذلك لأن الصّمت في هذه الحالات ليس علامة علی البراء والطّيبة، وإنّما هو علامة الجبن والغفلة والفرار من المسؤولية.

وهذه السّلبية الّتي هي في مستوی الجريمة لا تعفی من العقاب، والعقاب في هذه الحالة لا تقوم به السلطة وإنّما تقوم به القوانين الاجتماعية الّتي تصنع الكارثة، يقوم به القدر الّذي لا يميز بين السّاكن والمتحرك وإنّما يجرف الجميع، يقوم به الله تعالی الّذي يؤاخذ الجميع بذنوبهم المتحركين بذنب المعصية، والساكتين بذنب توفير أجواء الجريمة أمام المجرمين ليرتكبوا جرائمهم.

ولذا، فإنّ الأكثرية الصّامتة، من هذا المنظور، لا تضمّ أبرياء، وإنّما تضمّ متواطئين وجبناء، سبّبواء، بإيثارهم للسّلامة الشخصية العاجلة، كوارث عامّة مستقبليّة، وجبنهم الّذي يكشف عن أنانيتهم الرّخيصة والذلّيلة يكشف عن أنّهم ليسوا جيلاً صالحاً لأن يبني حياة مزدهرة.

إنّ الكوارث الاجتماعية، كالكوارث الطّبيعيّة، تجرف في طريقها، حين تقع النّبات النّافع والنّبات الضّار، ولا تميّز بينهما في الدّمار:

«... وإنَّه سيأتي عليكم من بعدي زمانٌ ليس فيه شيء من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب علی الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب يومئذ حملته، وتناساه حفظته فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيان، وصاحبان مصطحبان في طریق واحد لا یؤویهما مُؤْو.. فالکتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم لأنَّ الضلالة لا توافق الهدی وإن اجتمعا...».

وتصور الفقرة الأخيرة من هذا النّص أبلغ تصوير واقع الانفصال بين الأمة وبين قيادتها الفکريّة نتيجة لاغترابها الثقافي، وانفصالها ـ في مجال تكوين المفاهيم والتوجيه ـ عن أُصولها الفكرية.

وهذا الاغتراب الثّقافي ـ الحضاري النّاشیء عن هجر الأصول ـ وليس عن التفاعل مع الآخرين ـ يؤدّي إلی موقف في المنكر والمعروف خطير، فإنّ ثمّة مقياسَيْنِ للقيم والمثل الأخلاقية. أحدهما المقياس الموضوعي، والآخر المَقياس الذّاتي.

المقياس الموضوعي هو الّذي يجعل شريعة المجتمع وعقيدته منبعاً للقيم الأخلاقية ففي مجتمع إسلامي، مثلاً، يكون منبع القيم هو العقيدة والشّريعیة الإسلاميتان.

وكذلك الحال في مجتمع مسيحي مثلاً أو بوذي.

وهذا المقياس يقضي بأن يكون المجتمع ملتزماً بعقيدته وشريعته في مؤسساته ونظمه وعلاقاته بدرجة تجعله تعبيراً عن تلك العقيدة والشجريعة.

والمقياس الذّاتي هو الّذي يجعل منبع القيم الأخلاقية شخص الإنسان، فالإنسان في هذه الحالة هو الّذي يخترع أخلاقياته وقيمه الّتي تكيّف سولكه تجاه المجتمع وعلاقاته في داخل الجتمع، ويستبعد هذا المقياس أي مصدر للقيم خارج الذّات للقيم والأخلاقيّات.

قال عليه السّلام: «أيها الناس. إنما يجمع الناس الرضي والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضی».

وقد حذّر الإمام مجتمعه في إحدی استبصاراته نحو المستقبل من وضعيّة فکریّة وثقافية تؤدّي إلی هجر الأصول الثقافية والفكرية التي تكوّن روح المجتمع الإسلامي وتسمه بطابعه الخاص المميّز له عن سائر التجمعات الثقافية ـ الحضارية، وتعطيه دوره المميّز والخاص في حركة التاريخ العالمي وبناء الحضارة... وتؤدّي به ـ نتيجة لانبثاقه عن أصوله ـ إلی أن يكون نسخة من ثقافة أخری، ووحدة من وحدات حضارة أخری، وتغدو الأصول الثقافية التي ترجع كلّها إلی الكتاب والسّنّة مجرّد أشكال يتداولها النّاس دون أن يكون لها دور في تكوني المفاهيم، وبناء الشخصية، ورسم طريق العمل.

إنّ المسلمين أنفسهم، يومئذٍ، سينبذون الكتاب باعتباره مصدراً للمفاهيم الفكريّة، ويتّجهون نحو منابع غریبة عن ثقافتهم وحضارتهم، وعقيدتهم وشريعتهم، وتاريخهم، يستمدّون منها الغذاء العقلي والنفسي، والتوجيه السلوكي.

وننبّه هنا إلی أنّ الاغتراب الثقافي الناشيء عن هجر الأصول ـ وهو ما حذّر الإمام منه ـ غير الانفتاح الثّقافي ـ الحضاري الذي يتولّد من الطّموح إلی التفاعل مع الآخرين واكتشاف صيغهم الحضاريّة والتعرّف علی فتوحهم الفكريّة مع الحفاظ علی الأصول، والأمانة للذّات ومقوّماتها... فهذا الانفتاح أمر مطلوب مرغوب، وقدمارسه المسلمون وكانوا سادة فيه حين أنشأوا الحضارة الإسلامية العظيمة التي انفتحت علی كلّ الإنجازات الخيّرة في الحضارات الأخری، فاكتشفوها وكيّفوها وفقاً لقيم الإسلام، ومفاهيم الإسلام، وأخلاقيات الإسلام المستمدة من الكتاب والسّنّة والفقه.

وحينئذٍ يقع التعارض بين عقيدة المجتمع الرّسمية وشريعته، وبين أخلاقيّات وقيم أفراده وفئاته، ففي مجتمع إسلامي مثلاً، أو مسيحي أو بوذي، لا بدّ أن نكتشف ـ في حالة شيوع المقياس الذّاتي للقيم بين الأفرادا ـ أن التزام المجتمع بعقيدته وشريعته التزام شكلي يرافق الإلحاد العملي.

والأثر الذي بترتب علی التزام المقياس الموضوعي للقيم في المجتمع أو المقياس الذّاتي هام جداً.

أولاَ يؤدي اعتماد المقياس الموضوعي إلی نمو الفرد دون عُقد وتمزقات داخلية، لأنّه يوفّر حالة التّجانس والتّكامل بين محتوی الضّمير والعقل وبين التعبير السّلوكي في العلاقات مع المجتمع وفي داخله.

أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدي إلي خلاف ذلك، لأنّ اتباع المقياس الذّاتي يحدث للفرد تمزقات داخلية وعُقداً في نفسه، لأنّه يجعله دائماً في حالة تعارض وتجاذب بين إلزام العقيدة والشّريعة وبين رغبات الذات باعتبارها مصدراً للقيم، ويؤدي ذلك إلی انعكاسات ضارة لا تقتصر علی الأفراد، وإنما تتجاوزهم إلي المجتمع نفسه.

وثانياً إنّ المقياس الموضوعي بما يوفّره من تجانس في داخل الفرد بين أخلاقياته من جهة ومعتقده وشريعة من جهة أخری يؤدي إلی تلاحم واسع النطاق داخل المجتمع، ويكون لدی المجتمع نظرة واحدة إلی المشكلات، ويؤدي أيضاً إلی تكوين مواقف واحدة أو متقاربة بين الجماعات تجاه التحديات التي تواجه المجتمع.

أمّا اعتماد المقياس الذاتي فإنه يؤدي إلی العكس من ذلك. إنّه يؤدّي إلی تخلخل البنية الاجتماعية، وتعدّد الفئات ذات المنازع الفكريّة والسّياسيّة المختلفة، ويكوّن مناخاً ملائماً لتولّد المشاكل الاجتماعية وتعاظمها، لأن المقياس الذّاتي لدی الأفراد والجماعات شديد التنوّع والاختلاف.

وهذا التشرذم يؤدّي إمّا إلی العجز عن اتخاذ مواقف موحّدة علی الصّعيد القومي أو الوطني نتيجة لتعدّد الإرادات والميول، وأمّا علی الاستسلام للدّعاية السياسيّة التي يخطط لها وينفذها فريق من ذوي الأغراض والغايات الخاصة يخضع عقول الناس لمفاهيمه وقناعاته، ويحملها علی قبول اختيارات قد لا تنسجم مع المصالح الحقيقية للأمّة، وإنّما تنسجم مع مصالح هذا الفريق الذي يملك وسائل الدّعاية والإعلان والإعلام، وهذا هو ما يحدث في العصر الحديث، ويؤدّي إلی كوارث كبری علی الأصعدة الوطنية في بعض الحالات، وعلی الصعيد العالمي في بعض الحالات الأخری، حيث يعرّض سلام العالم كلّه أو سلام قارّة بكاملها لمطامح ومطامع حفنة صغيرة من الناس تكيّف عقول شعوب بكاملها، دافعة بها إلی اتخاذ مواقف سياسيّة تناقض مصالحها الوطنية، ومصالح جميع الشّعوب، وقضية فلسطين أكبر شاهد علی ما نقول.

لقد نبّه الإمام عليه السّلام إلی هذا الخطر، وحذّر منه مجتمعه، فقال:

 «فيا عجباً، وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفِرق علی اختلاف حججها في دينها. لا يقصُّون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصيِّ، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون (21) عن عيب. يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات. المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا. مفزعهم في المعضلات إلی أنفسهم وتعويلهم في المهمات علی آرائهم، كأن كل امريءٍ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يری بعری ثقات وأسباب محكمات».

وأخيراً، لقد بلغ من خطورة فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عند علي عليه السّلام أنّه جعلها إحدی وصاياه البارزة الهامة لابنَيِه الإمامين الحسن والحسين عليه السّلام وقد تكرّرت هذه الوصية مرتين. إحداهما لابنه الإمام الحسن في وصيته الجامعة التي كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفّين. والأخری في وصيته للإمامين الحسن والحسين في وصيته لهما وهو علی فراش الاستشهاد بعد أن ضربه ابن ملجم المرادي بالسيّف.

وقال عليه السّلام في الوصيّة الأولی: «وأمُرْ بالمعروف تكن من أهلِه، وانكر المنكر بيدك ولسانك وبائن (22) مَن فعله بجهدك وجاهد في الله حقّ جِهاده ولا تأخُذك في الله لومة لائم».

وقال عليه السّلام في الوصية الثّانية: «... أُُوصيكما وجميع ولدي وأَهلي ومن بلغه كتابي... وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فيولَّی عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم» (راجع القاصعة).

 

المصدر دائرة المعارف اللإسلامية الشيعية؛ السيد حسن الامینی ج 1، صص 315 ـ 324.

 

1. من جملة تقسيمات الواجب عند علماء أصول الفقه تقسيمه إلی واجب عيني وواجب كفائي. ويعتون بالواجب العيني ما يتعلق بكل مُكلف ولا يسقط عن أحد من المكلفين بفعل غيره. ويعنون بالواجب الكفائي ما يطلب فيه وجود الفعل من أي مكلف كان، فهو يجب علی المكلفين ولكن يكتفي بفعل بعضهم فيسقط عن الآخرين. نعم إذا تركه جميع المكلفين فالجميع مذنبون. وأمثلة الواجب الكفائي كثيرة في الشريعة منها تجهيز الميت والصلاة عليه، ومنها الحرف والصناعات والمهن التي يتوقف عليها انتظام شؤون حياة الناس ومنها الاجتهاد في الشريعة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2. سورة آل عمران (مديّنة ـ 3)، الآية 104.

3. سورة التوبة، الآية 71.

4. ربما يكون المراد عن طاعة الله ورسوله، بعد ذكر الأمر والنهي والصلاة والزكاة ـ الطاعة في الشأن السياسي، فلا يكون من ذكر العام بعد الخاص.

5. سورة آل عمران، الآية 110.

6. سورة آل عمران، الآیتان 113 و 114.

7. أبور ـ علی وزن أفعل ـ من البور، الفاسد، بار الشيء أي فسد، وبارت السلعة أي كسدت ولم تنفق، وهذا هو المراد هنا أن العمل الحق بالقرآن كاسد لا يقبله الناس ولا يتعاملون معه.

8. عُقر دارهم أصل دراهم، والعُقر الأصل، ومنه العقار للنخل، كأنه أصل الماء.

9. تواكلتم من وكلت الأمر إليك ووكلته لي، أي لم يتوله أحد منا، ولكن أحال به كل واحد علی الآخر.

10. شنت الغارات فرقت، أي نشبت الحروب الصغيرة في أماكن متعددة (حرب العصابات).

11. دعاء عليهم بالخزي والسوء القبح، والترح.

12. حمارّة القيّظ شدة حره. ويسبخ عنا الحر بمعنی يخف، ويلطف الهواء.

13. صبارة الشتاء بتشديد الراء ـ شدة برد الشتاء. وهذه هي الأعذار التي كانوا يبرون بها تخاذلهم ويلوذون بها دون كشف موقفهم السياسي الذي بيناه.

14. الحجال جمع حجلة، وهي بيت يزين بالستور، والثياب، والأسرة.

15. السدم الحزن والغيظ.

16. النغب جمع نغبة وهي الجرعة، والتهمام الهمم، أنفاساً جرعة بعد جرعة.

17. ذرفت زدت علی الستين.

18. الحثالة الرديء من كل شيء.

19. في المؤتمر الذي عقده الخليفة عثمان بن عفان، عند تعاظم موجة الاحتجاج والتذمر ـ وجمع الولاة والعمال والكبار لمعالجة الموقف المتفجر بالغضب والنقمة علیٰ سياسة الدولة ـ كان اقتراح عبد الله بن عامر، حاكم ولاية البصرة أن تحبس الجيوش حيث هي (تجمر) ولا يؤذن لها بالعودة ليشغل الجنود بمشاكل حياتهم اليومية عن النشاط السياسي ـ ومن المؤسف أن هذا الاقتراح هو الذي تم العمل به فأدي إلی الفتنة الكبری.

20. سورة المائدة، الآيتان 78 ـ 79.

21. ولا يعفون أي يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلی دليلٍ بين، أو شريعة واضحة. يثق كل منهم بخواطر نفسه، كأنه أخذ منها بالعروة الوثقی علی ما بها من جهل وقص.

22. باين أي باعد وجانب.


source : http://www.darolhadith.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الذكرى الثانية والتسعين لهدم قبور أئمة البقيع
أوصاف جهنم في القرآن الكريم
العُجب رؤية قرآنية
العقل بين بصائر الوحي والتصورات البشرية
ترتيب أحداث ووقائع ظهور الإمام المهدي المنتظر
التميميّون من أصحاب الحسين (عليه السّلام)
مذاهب اليهود
صيانة القرآن من التحريف‏
الشفاعة و من یخرج من النار
أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة

 
user comment