عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

في رحاب العدالة العلويّة (4)

ثالثاً: إنصاف الناس من نفسه
بل إلطافه الناسَ من نفسه الطيبة الشريفة.. فعاش في أفقر الفَقر وأزهد الزهد، ليُواسيَ أشدَّ الناس حرماناً، فارتدى القميصَ المرقوع، وبالَغَ في رقع مِدرَعَته حتّى قال: « واللهِ لَقَد رَقَعْتُ مِدْرعتي هذه حتَّى آستَحْيَيتُ مِن راقعها! » ( نهج البلاغة: الخطبة 160 ). وكان يخرج إلى السوق، فيبيع سيفه أحياناً ليشتري بثمنِه إزاراً، هذا وهو الخليفة الحاكم الذي تُجبى إليه الأموال مِن أقاليم الدولة الإسلاميّة فتُوضَع تحت تصرّفه.
لكنّه صلواتُ الله عليه يومَ رآى فقيراً قد انخرق كُمُّ ثوبه، عَمَد الإمام سلام الله عليه إلى كُمّ قميصه فخلَعَه وأعطاه إلى ذلك الفقير. ويوم انخرق ثوبه رقَعَه بجِلدٍ، ثمّ بِليف، وكان يأتَدِمُ بِخَلٍّ أو ملح، يعتبرهما إدامَين طعامينِ كاملَين يشفع أحدَهما بخبز أو بكِسرةٍ من خبز الشعير، وربّما، بل قلّما تناول بعضَ نباتِ الأرض، ولَربّما تناول شيئاً مِن ألبان الإبل، أمّا اللّحمُ فلا يأكل منه إلاّ نادراً.
يقول سُوَيد بن غفلة: دخلتُ على عليٍّ عليه السلام يوماً وليس في داره سوى حصيرٍ رَثّ، وهو جالس عليه، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، أنت مَلِكُ المسلمين والحاكمُ عليهم وعلى بيت المال، وتأتيك الوفود، وليس في بيتك سوى هذا الحصير ؟! فقال عليه السلام: « يا سُوَيد، إنّ اللَّبيبَ لا يَتأثَّث في دار النُّقلة، وأمامَنا دارُ المُقامة، وقد نَقَلْنا إليها مَتاعَنا ونحن منقلبون إليها عن قريب » ( تذكرة خواصّ الأُمّة لسبط ابن الجوزيّ:68 ).
ورآه عَدِيُّ بن حاتِمٍ يوماً وبين يديه ـ سلام الله عليه ـ شَنّة ( قربة صغيرة ) فيها قَراح ( أي ماء خالص )، وكسراتٌ مِن خبزِ شعير، وملح، فقال له: إنّي لا أرى لك ـ يا أمير المؤمنين ـ لتظَلّ نهارَك طاوياً مجاهداً، وبالليل ساهراً مكابداً، ثمّ يكون هذا فطورَك!
فقال عليه السلام يُجيبه:

عَلِّلِ النَّفْسَ بالقُنـوعِ وإلاّ طَلَبَتْ مِنكَ فوقَ ما يَكفيها

( مناقب آل أبي طالب 368:1 ـ عنه: بحار الأنوار 325:40 / ح 7 ).
ومن راحته واستراحته إلى راحة الناس وأمانهم.. رُويَ أنّه عليه لاسلام عاد يوماً إلى بيته ليستريح، وكان الوقت ساعةَ ظَهيرة وقَيض صيف، وإذا بامرأةٍ قائمةٍ تقول له: إنّ زوجي ظَلَمني وأخافني، وتَعدّى علَيّ، وحَلَف لَيضرِبُني! فقال لها: « يا أمَةَ الله، حتّى يَبردَ النهار، ثمّ أذهبُ معكِ إن شاء الله »، فقالت: يشتدّ غضبُه وحَرَدُه عَلَيّ!
فطأطأ عليه السلام رأسَه، ثمّ رفعه وهو يقول: « لا والله، أو يُؤخَذ للمظلوم حقُّه غيرَ مُتَعْتَع، أين مَنزلُكِ ؟ »، فمضى إلى باب زوجها فوقف وقال: السلام عليكم. فخرج شابٌّ ولم يكن يعرف الإمام، فقال عليه السلام له: « يا عبدَالله، إتّقِ الله؛ فإنّك أخَفْتَها وأخرجتَها! » فقال الفتى: وما أنتَ وذاك ؟! واللهِ لأُحرِقَنَّها لكلامِك! فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: « آمُرُك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، وتستقبلُني بالمنكر وتُنكر المعروف! ».
قال الراوي: فأقبل الناسُ من الطُّرق يقولون: سلامٌ عليكم يا أميرَ المؤمنين. فسقط الرجل في يديه وقال: يا أمير المؤمنين، أقِلْني عثرتي، فَوَ اللهِ لأكوننّ لها أرضاً تَطأُني. فالتفتَ عليه السلام إلى المرأة وقال لها: « يا أمةَ الله، ادخُلي منزلَكِ ولا تُلجِئي زوجَك إلى مِثلِ هذا وشِبهِه ». ( بحار الأنوار 57:41 / ح 7 ـ عن: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 311:1، راوياً عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام ).
وعن الأصبغ بن نُباتة قال: قال عليٌّ عليه السلام لأهل البصرة: « دخلتُ بلادَكُم بأشَمالي هذه، ورحلتي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجتُ مِن بلادِكم بغير ما دخلتُ فإنّني مِن الخائنين! ».
وفي روايةٍ: قال عليه السلام: « يا أهل البصرة، ما تَنقِمون منّي ؟! إنّ هذا ( وأشار إلى قميصه ) لَمِن غَزْل أهلي » ( مناقب آل أبي طالب 367:1 ـ عنه: بحار الأنوار 325:40 / ح 7 ).
وهكذا شارك أمير المؤمنين عليه السلام رعيّتَه مشاركتين: مشاركةً وجدانيّةً أخلاقيّة، بالاهتمام بأمورهم ومواساتهم في أحوالهم، ومشاركة حسّيّةً بأن عاش ـ حقيقةً وواقعاً ـ فَقرَهم وحرمانهم، فكان أن كتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ عامله على البصرة: « ألا وإنّ لكلِّ مأمومٍ إماماً يَقتدي به ويستضيء بنورِ عِلمِه، ألا وإنّ إمامَكم قد اكتفى مِن دُنياه بِطِمْرَيه، ومِن طُعْمِه بِقُرصَيه. ألا وإنّكم لا تَقْدِرون على ذلك، ولكنْ أعينُوني بِوَرَعٍ واجتهاد، وعِفّةٍ وسَداد. فَوَ اللهِ ما كَنَزْتُ مِن دنياكُم تِبرْاً، ولا ادّخرتُ مِن غنائمها وَفْراً، ولا أعدَدْتُ لِبالي ثوبي طِمراً، ولا حُزْتُ مِن أرضها شِبراً... ولو شِئتُ لاهتَدَيتُ الطريقَ إلى مُصَطفّى هذا العسل، ولُبابِ هذا القَمْح، ونسائجِ هذا القَزّ. ولكنْ هيهاتَ أن يَغلِبَني هواي، ويَقودَني جَشَعي إلى تَخَيُّرِ الأطعمة ـ ولعلّ بالحِجازِ أو اليمامةِ مَن لا طمَعَ له في القُرص، ولا عَهْدَ له بالشِّبَع ـ أو أبيتَ مِبْطاناً وحَولي بُطونٌ غَرثى وأكبادٌ حَرّى، أو أكونَ كما قال القائل:

وحَسْبُك داءً أن تَبِيتَ بِبِطْنةٍ وحَولَك أكبادٌ تَحِنُّ إلى القِدِّ!

أأقنَعُ مِن نَفْسي بأن يُقال: هذا أميرُ المؤمنين، ولا أُشارِكُهم في مكاره الدهر، أو أكونَ أُسوةً لهم في جُشوبة العيش ؟! » ( نهج البلاغة: الكتاب 45 ).
ومن هنا تعلّق الناس به، واستعذبوا أيّام حكومته، وتمنَّوه يبقى بينهم يقيم لهم العدل، ويدفع عنهم الظلمَ والجور، وصَدق الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: « مَن أنصَفَ الناسَ مِن نفسه رُضِيَ به حكماً لغيره » ( الكافي 146:2 / ح 12 ـ باب الإنصاف والعدل ).
ويومَ شكا العلاء بن زياد الحارثي أخاه عاصمَ بن زياد قائلاً لأمير المؤمنين عليه السلام: لَبِس العباءة وتَخلّى عن الدنيا، فقال عليه السلام: عَلَيَّ به. فلمّا جاء قال عليه السلام له: « يا عُدَيَّ نفسِه! لقد استهامَ بك الخبيث! أما رَحِمتَ أهلَك ووَلَدَكَ! أتَرى اللهَ أحَلَّ لك الطيّباتِ وهو يكره أن تأخُذَها ؟! أنت أهوَنُ على الله مِن ذلك! ».
قال عاصم: يا أميرَ المؤمنين، هذا أنت في خشونة مَلبسِك، وجُشوبة مأكلِك. فأجابه عليه السلام قائلاً: « وَيْحَك! إنّي لستُ كأنت، إنّ الله تعالى فَرَضَ على أئمّةِ العدل أن يُقَدِّروا أنفسَهم بِضَعَفةِ الناس؛ كي لا يَتبيَّغَ بالفقيرِ فَقرُه » ( نهج البلاغة: الخطبة 209، يَتبيّغ: يهيج به الألم فيُهلكه ).
وقدّم الفقراءَ والمحرومين على نفسه، وأنصَفَهم، بل ألطَفَهم من نفسه الشريفة المباركة، قال الإمام الباقر عليه السلام: « إنّ عليّاً ( عليه السلام ) أتى البزّازين فقال لرجل: بِعْني ثوبَين، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، عندي حاجتُك. فلمّا عَرَفه مضى عنه، فوقف على غلامٍ فأخَذَ ثوبَينِ أحدُهما بثلاثة دراهم والآخَرُ بدرهمين، فقال: يا قنبر، خُذِ الذي بثلاثة، فقال: أنت أولى به، تصعد المنبرَ وتخطب الناس، فقال: وأنت شابٌّ ولك شَرَةُ الشباب، وأنا أستَحْيي من ربّي أن أتفضّلَ عليك، سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: ألْبِسُوهم مِمّا تَلبسون، وأطعمُوهم ممّا تأكلون.
فلمّا لَبِس عليٌّ عليه السلام القميص، مَدّ كُمَّ القميص فأمر بقطعه واتّخاذه قلانسَ للفقراء، فقال الغلام ( أي البائع ): هَلُمَّ أكُفَّه، قال: دَعْهُ كما هُو؛ فإنّ الأمر أسرَعُ من ذلك. فجاء أبو الغلام وقال: إنّ ابني لم يعرفك، وهذانِ درهمانِ ربحهما، فقال عليه السلام: ما كنتُ لأفعل، قد ماكَسَني وما كَسْتُه، واتّفقنا على رِضى ».
وفسَحَ أمير المؤمنين عليه السلام للناس المجالَ أمام القضاء، أن يعبّروا عن رأيهم وأمرهم، وأن يطالبوا بحقوقهم، وينهضوا بشخصيّتهم، دون رهبةٍ أو انكسار.. فيومَ وجَدَ عليه السلام درعَه عند مسيحيّ، أقبل به إلى شُر َيح القاضي ليخاصمَه عنده، هذا وهو عليه السلام يومذاك حاكم وخليفة المسلمين، فلمّا مَثُل والمسيحيّ أمام القاضي قال عليه السلام: إنّها درعي، ولم أبِعْ ولم أهَب. فسأل شريحُ القاضي الرجلَ المسيحيّ: ما تقول فيما يقول أميرُ المؤمنين ؟ قال النصرانيّ: ما الدِّرعُ إلاّ درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.
وهنا التفت القاضي شريح إلى الإمام عليٍّ عليه السلام يسأله: هل مِن بيّنةٍ على أنّ هذه الدرعَ لك ؟ فضَحِك أمير المؤمنين سلام الله عليه وقال: أصابَ شُرَيح، ما لي بيّنة. فقضى شُرَيحٌ بالدرع للرجل النصراني، فأخذها ومشى.. إلاّ أنه لم يَخْطُ إلاّ خطواتٍ حتّى عاد يقول: أمّا أنا فأشهدُ أنّه هذه أخلاقُ الأنبياء، أميرُ المؤمنين يُدينُني إلى قاضٍ يقضي عليه ؟! ثمّ قال معترفاً: الدرع ـ واللهِ ـ درعُك يا أمير المؤمنين، وقد كنتُ كاذباً فيما ادّعَيتُ.
بعدها أسلم رضوان الله عليه، وقاتَلَ إلى جانب الإمام سلام الله عليه، وذلك في معركة النهروان.
وهكذا يُعلّم الإمامُ الناسَ الشجاعةَ في الحقّ، والشجاعةَ في الاعتراف بالحقّ، واتّباعَ الضوابط الشرعية والموازين الإسلاميّة والحدود الإلهيّة في الحُكم والقضاء، دون الالتفات إلى منصب المدّعي أو إلى حال المُدّعى عليه، مُنبِّهاً إلى وجوب الفصل بين السلطة القضائيّة والسلطة التنفيذية.
وفيما كتبه الإمام أمير المؤمنين صلَواتُ الله عليه إلى واليه على مصر مالك الأشتر من عهدٍ شريف، كان دستوراً كاملاً في إجراء العدالة الإلهيّة على الناس، وقد اشتمل على: بيان الأحكام الشرعيّة، ومُراعاة الجوانب الإنسانيّة، وملاحظة الشؤون الأخلاقيّة، وإحكام الضوابط الاجتماعيّة.. ويكفي أن يُذكر في تأكيده عليه السلام على ذلك أنّه عزل أبا الأسود الدُّؤليّ عن ولاية الكوفة، لا لشيءٍ سوى لأنّه رفع صوتَه على أحد الخصمَين المحتكمين عنده في المرافعة!
هكذا كانت مواقفه العادلة الرحيمة سلام الله عليه، وهو إلى ذلك يُرضي ويُنبّه وينصح ويُرشد، ويقول لحكّام الدنيا على مسمع الدهر والأجيال: « إنّ أفضل قُرّة عينِ الوُلاة استقامةُ العدل في البلاد، وظهورُ مودّة الرعيّة » ( نهج البلاغة: الكتاب 53 )، ويقول أيضاً: « إنّ الوالي إذا اختَلفَ هواه، منَعَه ذلك كثيراً من العدل، فَلْيكُنْ أمرُ الناس عندك في الحقّ سواءً؛ فإنّه ليس في الجَورِ عِوَضٌ من العدل » ( نهج البلاغة: الكتاب 59 ).
فالعدل عند أمير المؤمنين عليه السلام: عِلمٌ وتقوى، وإيمانٌ وخشيةٌ من الله تعالى، وأخلاقٌ ورحمة، وتمسّكٌ بالحقّ ونبذٌ للباطل، وثباتٌ على الخير والإنصاف.. فسلامٌ عليك يا أمير المؤمنين.


source : http://www.imamreza.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

من معاجز الإمام الهادي عليه السّلام
مخالفة عائشة للرسول (ص) من كتب السنة
الوقفة الثانية سند هذا الحديث
الشعائر بنظرة رسالية دموع زين العابدين وحزن زينب
في رحاب العدالة العلويّة (1)
مختصر من حياة الشهيد المظلوم أبي عبد الله الحسين ...
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
كيف تعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع الناس
روى البخاري في صحيحه (كتاب الأحكام) قول الله ...
ولاية علي شرط الايمان

 
user comment