عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

أمير المؤمنين والناكثين والقاسطين والمارقين

- الناكثون والقاسطون بحربهم أمير المؤمنين كفار ضلال ملعونون وأنهم بذلك في النار مخلدون
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 42، 43:

5- القول في محاربي أمير المؤمنين عليه السلام

واتفقت الإمامية والزيدية والخوارج على أن الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضلال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام، وأنهم بذلك في النار مخلدون.

وأجمعت المعتزلة سوى الغزال منهم وابن باب والمرجئة والحشوية من أصحاب الحديث على خلاف ذلك. فزعمت المعتزلة كافة إلا من سميناه وجماعة من المرجئة وطائفة من أصحاب الحديث أنهم فساق ليسوا بكفار، وقطعت المعتزلة من بينهم على أنهم لفسقهم في النار مخلدون. وقال باقي المرجئة وأصحاب الحديث: إنهم لا يستحقون اسم الكفر والفسوق. وقال بعض هذين الفريقين إنهم كانوا مجتهدين في حربهم أمير المؤمنين عليه السلام ولله بذلك مطيعين وعليه مأجورين. وقال البعض الآخر بل كانوا لله تعالى عاصين إلا أنهم ليسوا بفاسقين ولا يقطع على أنهم للعذاب مستحقون. وزعم واصل الغزال وعمرو بن عبيد بن باب من بين كافة المعتزلة أن طلحة والزبير وعائشة ومن كان في حيزهم من علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام ومحمد ومن كان في حيزهم كعمار بن ياسر وغيره من المهاجرين ووجوه الأنصار وبقايا أهل بيعة الرضوان كانوا في اختلافهم كالمتلاعنين وإن إحدى الطائفتين فساق ضلال مستحقون للخلود في النار إلا أنه لم يقم عليها دليل.

- الخوارج على أمير المؤمنين المارقون عن الدين كفار بخروجهم عليه وأنهم في النار بذلك مخلدون
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 43، 44:

واتفقت الإمامية والزيدية وجماعة من أصحاب الحديث على أن الخوارج على أمير المؤمنين عليه السلام المارقين عن الدين كفار بخروجهم عليه وأنهم في النار بذلك مخلدون.

وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، ومنعوا من إكفارهم واقتصروا في تسميتهم على التفسيق، وأوجبوا عليهم التخليد في الجحيم. وزعمت المرجئة وباقي أصحاب الحديث أنهم فساق يخاف عليهم العذاب ويرجى لهم العفو والثواب ودخول جنات النعيم.

- ترك أمير المؤمنين جهاد الأولين لعدم الأنصار وجاهد الناكثين والقاسطين والمارقين لوجود الأعوان وكان ذلك هو الصلاح الشامل على معلوم الله تعالى وشرائط حكمته في التدبيرات
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 46 :

فصل فأما قوله: فلم لا يجاهدهم أمير المؤمنين عليه السلام كما جاهد الناكثين والقاسطين والمارقين؟

فقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام فيما تظاهر عنه من الأخبار، فكان من الجواب حيث يقول: "أما والله، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة  ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها". فدل على أنه عليه السلام إنما ترك جهاد الأولين لعدم الأنصار، وجاهد الآخرين لوجود الأعوان، وكان ذلك هو الصلاح الشامل على معلوم الله تعالى وشرائط حكمته في التدبيرات.

- في كفر محاربي أمير المؤمنين من أهل البصرة والشام والنهروان
- الإسلام إنما هو الاستسلام والانقياد والله عز وجل قد أوجب على محاربي أمير المؤمنين مفارقة ما هم عليه بذلك من العصيان وألزمهم الاستسلام له والانقياد إلى ما يدعوهم إليه من الدخول في الطاعة وكف القتال
- محاربو أمير المؤمنين فارقوا طاعة الإمام العادل وأنكروها وردوا فرائض الله تعالى عليه وجحدوها واستحلوا دماء المؤمنين وسفكوها وعادوا أولياء الله المتقين في طاعته ووالوا أعداءه الفجرة الفاسقين في معصيته
- محاربو أمير المؤمنين إنما حاربوا الإمام واستحلوا دماء المؤمنين من أصحابه ومنعوه الزكاة وإنكروا حقوقه على وجه العناد
- حكم الكفار الذين يجهز على جرحاهم ويتبع مدبرهم ويغنم جميع أموالهم ويسبي نساءهم وذراريهم شيء يختص بمحاربي المشركين
- الأخبار الدالة على كفر محاربي أمير المؤمنين
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 117، 130:

فصل: قد كان بعض متكلمي المعتزلة رام الطعن في هذا الكلام، بأن قال: قد ثبت أن القوم الذين فرض الله تعالى قتالهم بدعوة من أخبر عنه كفار خارجون عن ملة الإسلام، بدلالة قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}.

وأهل البصرة والشام والنهروان فيما زعم لم يكونوا كفارا، بل كانوا من أهل ملة الإسلام إلا أنهم فسقوا عن الدين، وبغوا على الإمام، فقاتلهم بقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه}. وأكد ذلك عند نفسه بسيرة أمير المؤمنين عليه السلام فيهم، وبخبر رواه عنه عليه السلام، أنه سئل عنهم، فقال: "إخواننا بغوا علينا"  ولم يخرجهم عن حكم أهل الإسلام.

قال: فثبت بذلك أن الداعي إلى قتال من سماه الله تعالى ووصفه بالبأس الشديد إنما هو أبو بكر وعمر دون أمير المؤمنين عليه السلام.

فصل: فقلت له: ما أبين غفلتك، وأشد عماك! أنسيت قول أصحابك في المنزلة بين المنزلتين، وإجماعهم على من استحق التسمية بالفسق خارج بما به استحق ذلك عن الإيمان والإسلام، غير سائغ تسميته بأحد هذين الاسمين في الدين على التقييد والإطلاق، أم جهلت هذا من أصل الاعتزال، أم تجاهلت وارتكبت العناد؟!

أو لست تعلم أن المتعلق بإيجاب الإسلام على أهل البصرة والشام والنهروان لا يلزم بذلك إكفارهم، ولا يمنعه من نفي الكفر عنهم، بحسب ما نبهناك عليه من مقالة أصحابك في الأسماء والأحكام، فكيف ذهب عليك هذا الوجه من الكلام، وأنت تزعم أنك متحقق بعلم الحجاج؟! فاستحى لذلك وبانت فضيحته، بما كان يدافع به من الهذيان.

فصل: قال بعض المرجئة وكان حاضر الكلام: قد نجونا نحن من المناقضة التي وقع فيها أهل الاعتزال، لأنا لا نخرج أحدا من الإسلام إلا بكفر يضاد الإيمان، فيجب على هذا الأصل أن يكون الكلام بيننا في إكفار القوم على ما تذهبون إليه، وإلا لزمكم معنى الآي.

فقلت له: لسنا نحتاج إلى ما ظننت من نقل الكلام على الفرع، وإن كان مذهبك في الأسماء ما وصفت، لأن الإسلام عندنا وعندك إنما هو الاستسلام والانقياد، ولا خلاف بيننا أن الله عز وجل قد أوجب على محاربي أمير المؤمنين عليه السلام مفارقة ما هم عليه بذلك من العصيان، وألزمهم الاستسلام له والانقياد إلى ما يدعوهم إليه، من الدخول في الطاعة وكف القتال، فيكون قوله تعالى: {تقاتلونهم أو  يسلمون} خارجا على هذا المعنى الذي ذكرناه، وهو موافق لأصلك، وجار على أصل اللغة التي نزل بها القرآن. فلحق بالأول في الانقطاع ، ولم أحفظ منه إلا عبارات فارغة داخلة في باب الهذيان.

فصل: على أنه يقال للمعتزلة والمرجئة والحشوية جميعا: لم أنكرتم إكفار محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، وقد فارقوا طاعة الإمام العادل وأنكروها، وردوا فرائض الله تعالى عليه وجحدوها، واستحلوا دماء المؤمنين وسفكوها، وعادوا أولياء الله المتقين في طاعته، ووالوا أعداءه الفجرة الفاسقين في معصيته، وأنتم قد أكفرتم مانعي أبي بكر الزكاة، وقطعتم بخروجهم عن ملة الإسلام؟! ومن سميناه قد شاركهم في منع أمير المؤمنين عليه السلام الزكاة، وأضاف إليه من كبائر الذنوب ما عددناه، وهل فرقكم بين الجميع في أحكام الكفر والإيمان إلا عناد في الدين وعصبية للرجال.

فصل: فإن قالوا: مانعو الزكاة إنما منعوها على وجه العناد، ومحاربو أمير المؤمنين إنما حاربوه ومنعوه زكاتهم واستحلوا الدماء في خلافه على التأويل دون العناد، فلهذا افترق الأمران.

قيل لهم: انفصلوا ممن قلب القصة عليكم، فحكم على محاربي أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه، واستحلال دماء المؤمنين من أصحابه، ومنعه الزكاة وإنكار حقوقه بالعناد، وحكم على مانعي أبي بكر الزكاة بالشبهة والغلط في التأويل، وهذا أولى بالحق والصواب، لأن أهل اليمامة لم يجحدوا فرض الزكاة، وأنما أنكروا فرض حملها إلى أبي بكر، وقالوا: نحن نأخذها من أغنيائنا، ونضعها في فقرائنا، ولا نوجب على أنفسنا حملها إلى من لم يفترض له ذلك علينا بسنة ولا كتاب.

ولم نجد لمحاربي أمير المؤمنين عليه السلام حجة في خلافه واستحلال قتاله ولا شبهة أكثر من أنهم نكثوا بيعته فقد أعطوه إياها من أنفسهم بالاختيار، وادعوا بالعناد أنهم أجابوا إليها بالاضطرار، وقرفوه بقتل عثمان وهم يعلمون اعتزاله فتنة عثمان، وطالبوه بتسليم قتلته إليهم وليس لهم في الأرض سلطان، ولا يجوز تسليم القوم إليهم على الوجوه كلها والأسباب، ودعاه المارقون منهم إلى تحكيم الكتاب، فلما أجابهم إليه زعموا أنه قد كفر بإجابتهم إلى الحكم بالقرآن، وهذا ما لا يخفى العناد من جماعتهم فيه على أحد من ذوي الألباب.

فصل: فإن قالوا: فإذا كان محاربو أمير المؤمنين عليه السلام كفارا عندكم بحربه، مرتكبي العناد في خلافه، فما باله عليه السلام لم يسر فيهم بسيرة الكفار فيجهز على جرحاهم، ويتبع مدبرهم، ويغنم جميع أموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، وما أنكرتم أن يكون عدوله عن ذلك في حكمهم يمنع من صحة القول عليهم بالإكفار؟.

قيل لهم: إن الذي وصفتموه في حكم الكفار إنما هو شيء يختص بمحاربي المشركين، ولم يوجد في حكم الإجماع والسنة فيمن سواهم من سائر الكفار، فلا يجب أن يعدّى منهم إلى غيرهم بالقياس، ألا ترون أن أحكام الكافرين تختلف، فمنهم من يجب قتله على كل حال، ومنهم من يجب قتله بعد الإمهال، ومنهم الجزية ويحقن دمه بها ولا يستباح، ومنهم من لا يحل دمه ولا تؤخذ منه الجزية على حال، ومنهم من يحل نكاحه ومنهم من يحرم بالإجماع، فكيف يجب اتفاق الأحكام من الكافرين على ما أوجبتموه فيمن سميناه، إذا كانوا كفارا، وهي على ما بيناه في دين الإسلام من الاختلاف؟!.

فصل: ثم يقال لهم: خبرونا هل تجدون في السنة أو الكتاب أو الإجماع الحكم في طائفة من الفساق بقتل المقبلين منهم وترك المدبرين، وحظر الإجهاز على جرحى المقاتلين وغنيمة ما حوي عسكرهم دون ما سواه من أمتعتهم وأموالهم أجمعين؟ فإن ادعوا معرفة ذلك ووجوده طولبوا بتعيينه فيمن عدا البغاة من محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، فإنهم يعجزون عن ذلك، ولا يستطيعون إلى إثباته سبيلا.

وإن قالوا: إن ذلك، وإن كان غير موجود في طائفة من الفاسقين، فحكم أمير المؤمنين عليه السلام به في البغاة دليل على أنه في السنة أو الكتاب، وإن لم يعرف وجه التعيين.

قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون حكم أمير المؤمنين عليه السلام في البغاة ممن سميتموه دليلا على أنه حكم الله تعالى قي طائفة من الكافرين موجود في السنة والكتاب، وإن لم يعرف الجمهور الوجه في ذلك على التعيين، فلا يجب أن يخرج القوم من الكفر لتخصيصهم من الحكم بخلاف ما حكم الله تعالى به فيمن سواهم من الكافرين، كما لا يجب خروجهم من الفسق بتخصيصهم من الحكم بخلاف ما حكم الله تعالى به فيمن سواهم من الفاسقين، وهذا ما لا فصل فيه.

فصل: على أن أكثر المعتزلة يقطعون بكفر المشبهة والمجبرة، ولا يخرجونهم بكفرهم عن الملة، ويرون الصلاة على أمواتهم، ودفنهم في مقابر المسلمين، وموارثتهم، ومنهم من يرى مناكحتهم، ولا يلحقونهم بغيرهم من الكفار في أحكامهم المضادة لما وصفناه، ولا يلزمون أنفسهم مناقضة في ذلك. وأبو هاشم الجبائي خاصة يقطع بكفر من ترك الكفر وأقام على قبيح أو حسن يعتقد قبحه، ولا يجري عليه شيئا من أحكام الكافرين من قتل، أو أخذ جزية، أو منع من موارثة، أو دفن في مقابر المسلمين، أو صلاة عليه بعد أن يكون مظهر للشهادتين، والإقرار بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله على الإجمال، وهذا يمنعه فيمن تقدم ذكره من المعتزلة وأصحابهم من المطالبة في محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما سلف حكايته عن الخصوم، ولا يسوغ لهم الاعتماد بذكر الإسلام من الأذى.

فصل: فإن قالوا: كيف يصح لكم إكفار أهل البصرة والشام وقد سئل أمير المؤمنين عليه السلام عنهم، فقال: "إخواننا بغوا علينا"، ولم ينف عنهم الإيمان، ولا حكم عليهم بالشرك والإكفار؟!.

قيل لهم: هذا خبر شاذ، لم يأت به التواتر من الأخبار، ولا أجمع على صحته رواة الآثار، وقد قابله ما هو أشهر منه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، وأكثر نقلة، وأوضح طريقا في الإسناد، وهو أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة، والناس مصطفون للحرب، فقال له: علام نقاتل هؤلاء القوم يا أمير المؤمنين ونستحل دماءهم وهم يشهدون شهادتنا، ويصلون إلى قبلتنا؟ فتلا عليه السلام هذه الآية، رافعا بها صوته: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}. فقال الرجل حين سمع ذلك: كفار، ورب الكعبة. وكسر جفن سيفه ولم يزل يقاتل حتى قتل.

وتظاهر الخبر عنه عليه السلام أنه قال يوم البصرة: "والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

وجاء مثل ذلك عن عمار وحذيفة رحمة الله عليهما، وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، فالأمر في اجتماع أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام على إكفار عثمان والطالبين بدمه وأهل النهروان أظهر من أن يحتاج فيه إلى شرح وبيان، وعنه أخذت الخوارج مذهبها الموجود في أخلافها اليوم من الإكفار لعثمان بن عفان وأهل البصرة والشام، وإن كانت الشبهة دخلت عليهم في سيرته عليه السلام فيهم، وما استعمله من الأحكام حتى ناظره أسلافهم عند مفارقتهم له فحججهم بما قد تواترت به الأخبار...

دليل آخر: ويدل على ذلك أيضا ما تواترت به الأخبار من قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: "حربك يا علي  حربي، وسلمك سلمي". وقد ثبت أنه لم يرد بذلك الخبر عن كون حرب أمير المؤمنين عليه السلام حربه على الحقيقة، وإنما أراد التشبيه في الحكم دون ما عداه، وإلا كان الكلام لغوا ظاهر الفساد، وإذا كان حكم حربه عليه السلام كحكم حرب الرسول عليه السلام وجب إكفار محاربيه، كما يجب بالإجماع إكفار محاربي رسول الله صلى الله عليه وآله.

دليل آخر: وهو أيضا ما أجمع على نقله حملة الآثار من قول الرسول صلى الله عليه وآله: "من آذى عليا فقد آذاني، ومن آذاني، فقد آذى الله تعالى". ولا خلاف بين أهل الإسلام أن المؤذي للنبي صلى الله عليه وآله بالحرب والسب والقصد له بالأذى والتعمد لذلك كافر، خارج عن ملة الإسلام، فإذا ثبت ذلك وجب الحكم بإكفار محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما أوجبه النبي صلى الله عليه وآله من ذلك بما بيناه.

دليل آخر: وهو أيضا ما انتشرت به الأخبار، وتلقاه العلماء بالقبول عن رواة الآثار، من قول النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: "اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه". وقد ثبت أن من عادى الله تعالى وعصاه على وجه المعاداة فهو كافر خارج عن الإيمان، فإذا ثبت أن الله تعالى لا يعادي أولياءه وإنما يعادي أعداءه، وصح أنه تعالى معاد لمحاربي أمير المؤمنين عليه السلام لعداوتهم له، بما ذكرناه من حصول العلم بتدينهم بحربه عليه السلام بما ثبت به عداوة محاربي رسول الله صلى الله عليه وآله ويزول معه الارتياب، وجب إكفارهم على ما قدمناه.

فصل: على أنا لو سلمنا لهم الحديث في وصفهم بالإخوة له عليه السلام، لما منع من كفرهم، كما لم يمنع من بغيهم، ولم يضاد ضلالهم باتفاق مخالفينا، ولا فسقهم عن الدين واستحقاقهم اللعنة والاستخفاف والإهانة وسلب اسم الإيمان عنهم والإسلام، والقطع عليهم بالخلود في الجحيم. قال الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}، فأضافه إليهم بالإخوة وهو نبي الله وهم كفار بالله عز وجل. وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}. وقال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} ولم يناف ذلك كفرهم، ولا ضاد ظلالهم وشركهم، فأحرى أن لا يضاد تسمية أمير المؤمنين عليه السلام محاربيه بالإخوة مع كفرهم بحربه، وضلالهم عن الدين بخلافه، وهذا بين لا إشكال فيه.

فصل: ومما يدل على كفر محاربي أمير المؤمنين عليه السلام علمنا بإظهارهم التدين بحربه، والاستحلال لدمه ودماء المؤمنين من ولده وعترته وأصحابه، وقد ثبت أن استحلال دماء المؤمنين أعظم عند الله من استحلال جرعة خمر، لتعاظم المستحق عليه من العقاب بالاتفاق. وإذا كانت الأمة مجمعة على إكفار مستحل الخمر، وإن شهد الشهادتين وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فوجب القطع على كفر مستحل دماء المؤمنين، لأنه أكبر من ذلك وأعظم في العصيان بما ذكرناه، وإذا ثبت ذلك صح الحكم بإكفار محاربي أمير المؤمنين عليه السلام على ما وصفناه.

فصل: ثم يقال للمعتزلة ومن وافقهم في إنكار إمامة معاوية بن أبي سفيان وبني أمية من عقلاء أصحاب الحديث: ما الفرق بينكم فيما تأولتم به الآية، وأوجبتم به منها طاعة أبي بكر وعمر، وبين الحشوية فيما أوجبوا به منها طاعة معاوية وبني أمية وجعلوه حجة لهم على إمامتهم، وعموا بالمعني بها أبا بكر وعمر وعثمان ومن ذكرناه. وذلك أن أكثر فتوح الشام وبلاد المغرب والبحرين والروم وخراسان كانت على يد معاوية بن أبي سفيان وأمرائه كعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة ومعاوية بن حديج وغير من ذكرناه، ومن بعدهم على أيدي بني أمية وأمرائهم بلا اختلاف. فإن جروا على ذلك خرجوا عن أصولهم، وزعموا أن الله سبحانه أوجب طاعة الفاسقين، وأمر باتباع الظالمين، ونص على إمامة المجرمين، وإن امتنعوا منه لعلة من العلل مع ما وصفناه من قتالهم بعد النبي صلى الله عليه وآله لقوم كفار أولي بأس شديد منعوا من ذلك في الرجلين بمثلها، فلا يجدون فصلا مع ما يلحق مقالتهم من الخلل والتناقض بالتخصيص على التحكم دون الحجة والبيان، ومن الله نسأل التوفيق.

- قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ الآية نزلت في أهل البصرة
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 131، 137:

فصل: فإن قال : قد قطعتم عذري في الجواب عما تعلق به خصماؤكم من تأويل هذه الآية، وأزلتم بحمد الله ما اشتبه علي من مقالهم فيها، ولكن كيف يمكنكم تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

وقد علمتم أنه لم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا أبو بكر، فوجب أن يكون إماما وليا لله تعالى بما ضمنه التنزيل، وهذا ما لا نرى لكم عنه محيصا؟!.

قيل له: قد بينا فيما سلف وجه التأويل لهذه الآية، وذكرنا عن خيار الصحابة أنها نزلت في أهل البصرة، بما رويناه عن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وقد جاءت الأخبار بمثل ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام، ووردت بمعناه عن عبد الله بن مسعود، ودللنا أيضا على كفر محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما لا يخفى الصواب فيه على ذوي الإنصاف، وذلك موجب لردتهم عن الدين الذي دعا الله تعالى إليه العباد، فبطل صرف تأويلها عن هذا الوجه إلى ما سواه.

فصل: مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه المعني بالمدحة فيها، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه. وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه، وعرفها كافة عباده، بما يوجب لهم العلم بحقائقها، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لأمير المؤمنين عليه السلام دون المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد:

فأولها: وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله. وقد علم كل من سمع الأخبار اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الوصف من الرسول صلى الله عليه وآله، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"  فأعطاها عليا عليه السلام، ولم يرد خبر ولا جاء أثر بأنه صلى الله عليه وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من الأحوال، بل مجيء هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه السلام بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام، وإتباعه بوصف الكرار دون الفرار، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر، وألزمهما ذم الفرار.

وثانيها: وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين، حيث يقول جل اسمه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}. وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين، ونكايته في المشركين، وغلظته على الفاسقين، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين، ورأفته بالمؤمنين، ورحمته للصالحين. ولا يمكن أحدا ادعاؤه لأبي بكر إلا بالعصبية، أو الظن دون اليقين، لأنه لم يعرف له قتيل في الإسلام، ولا بارز قرنا، ولم ير له موقف عني فيه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله، ولا نازل بطلا، ولا سفك بيده لأحد المشركين دما، ولا كان له فيهم جريح، ولم يزل من قتالهم هاربا، ومن حربهم ناكلا، وكان على المؤمنين غليظا، ولم يكن بهم رحيما. ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليه السلام وما أدخله من الذل على ولدها، وما صنع بشيعتها، وما كان من شدته على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وعامله على الصدقات، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين. فثبت أنه كان من الأوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين.

ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية من الذكر الحكيم ينعت أمير المؤمنين عليه السلام، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالإنفراد بها من العالمين. فقال جل اسمه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}. فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام بدلالة متضمنها، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لأبي بكر على ما بيناه.

فصل: ويؤيد ذلك إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا بقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم من بعده، حيث جاءه سهيل بن عمرو في جماعة منهم، فقالوا: يا محمد، إن أرقاءنا لحقوا بك فأرددهم علينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لتنتهن -يا معشر قريش- أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله". فقال له بعض أصحابه: من هو -يا رسول الله- أبو بكر؟! فقال: "لا" فقال: فعمر؟! فقال: "لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة" وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله في الحجرة. وقوله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: "تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين". وقول الله عز وجل: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ}. وهي في قراءة عبد الله بن مسعود: "منهم بعلي منتقمون" وبذلك جاء التفسير عن علماء التأويل. وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ولم يجر لأبي بكر وعمر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ما ذكرناه، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين عليه السلام خاصة على ما بيناه.

وقد صح أنه المراد بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه، وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه.

فصل: على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من الأخبار على نحو ما ذكرناه آنفا، لم نجد في ذلك أكثر من الأخبار بوجود بدل من المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال.

ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له، وقال لهم: يا هؤلاء، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني، ويجاهد معي على الإخلاص في النصحية لي، ولا يخالف أمري. لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الأخبار بوجود من يجاهدهم أنفسهم على القطع، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون الوجوب لموضع الإشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه. وهذا هو نظير الآية فيما انطوت عليه، ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا، وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك، ورجع بالخيبة حسيرا، ومن الله نسأل التوفيق.

- أمير المؤمنين وولده وأهله من بني هاشم وأتباعه من المهاجرين والأنصار وغيرهم من المؤمنين لم يسلكوا فيما باشروه من الحرب وسعوا فيه من القتل واستباحة الدماء طريق المجرمين بل كان ظاهرهم في ذلك والمعلوم من حالهم قصدهم التدين والقربة إلى الله تعالى
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 19:

أما المتولون للقتال في هذه الفتنة فقد أنبأنا عملهم فيها عن اعتقادهم ودلت ظواهرهم في ذلك على بواطنهم فيه إذ العلم يحيط بأن أمير المؤمنين عليا عليه السلام وولده وأهله من بني هاشم وأتباعه من المهاجرين والأنصار وغيرهم من المؤمنين لم يسلكوا فيما باشروه من الحرب وسعوا فيه من القتل واستباحة الدماء طريق المجرمين، لذلك الطالبين به العاجل، والتاركين به ثواب الآجل، بل كان ظاهرهم في ذلك، والمعلوم من حالهم، وقصدهم التدين والقربة إلى الله تعالى بعملهم، والاجتهاد فيه وأن تركه والإعراض عنه موبق من الأعمال والتقصير فيه موجب لاستحقاق العقاب.

ألا ترى إلى ما اشتهر من قول أمير المؤمنين عليه السلام وقد سئل عن قتاله للقوم "لم أجد إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله". وقول عمار بن ياسر رحمه الله: "أيها الناس والله ما أسلموا ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر فلما وجدوا له أعوانا أظهروه" في أمثال هذين القولين من جماعة جلة من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام يطول بشرحها الكتاب فهم يلائم معاني كلامهم في ذلك ظواهر فعالهم.

والمعلوم من قصودهم وهذا ما لا مزيد فيه بين العلماء، وإنما يشتبه الأمر فيه على الجهلاء الذين لم يسمعوا الأخبار، ولا اعتبروا بتأمل الآثار.

- ظاهر عائشة وطلحة والزبير التدين بقتال أمير المؤمنين وأنصاره والقربة إلى الله سبحانه وتعالى في استفراغ الجهد فيه وإنهم كانوا يريدون على ما زعموا وجه الله والطلب بدم الخليفة المظلوم عندهم
- أمير المؤمنين كان  صريحا بالحكم على محاربيه في معركة الجمل ووسمهم بالغدر والنكث
- رسول الله أمر أمير المؤمنين بقتال محاربيه في معركة الجمل وفرض عليه جهادهم
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 19، 20:

وكذلك الأمر محيط بأن ظاهر عائشة وطلحة والزبير وكثير ممن كان في حيزهم التدين بقتال أمير المؤمنين عليه السلام وأنصاره والقربة إلى الله سبحانه وتعالى في استفراغ الجهد فيه، وإنهم كانوا يريدون على ما زعموا وجه الله والطلب بدم الخليفة المظلوم عندهم، المقتول بغير حق وإنهم لا يسعهم فيما أضمروه في اعتقادهم إلا الذي فعلوه، فوضح من ذلك أن كلا من الفريقين يصوب رأيه فيما فعل ويخطئ صاحبه فيما صنع ويشهد لنفسه بالنجاة ويشهد على صاحبه بالضلال والهلاك.

إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام صريح بالحكم على محاربيه ووسمهم بالغدر والنكث، وأخيرا أن النبي صلى الله عليه وآله أمره بقتالهم وفرض عليه جهادهم ولم يحفظ عن محاربيه فيه شيء ولا سمة له بمثل ذلك وإن كان المعلوم من رأيهم التخطئة له في القتال، والحكم عليه في بقائه على الأمر والامتناع من رده شورى بينهم وتسليمه قتلة عثمان إليهم بالزلل عن الحق الواجب عندهم والصواب.

- فيمن رأى القعود عن حرب الجمل والتبديع لمن تولاها
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 20:

وكان مذهب سعد بن مالك بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد ابن مسلمة الأنصاري، وأسامة بن زيد وأمثالهم ممن رأى القعود عن الحرب والتبديع لمن تولاها والحكم على أمير المؤمنين عليه السلام والحسن والحسين ومحمد بن علي عليهم السلام وجميع ولد أبي طالب وكافة أتباع أمير المؤمنين من بني هاشم والمهاجرين والأنصار والمتدينين بنصرته المتبعين له على رأيه في الجهاد، بالضلال والخطأ، في المقال والفعال، والتبديع لهم في ذلك على كل حال.

وكذلك كان مذهبهم في عائشة وطلحة والزبير ومن كان على رأيهم في قتال أمير المؤمنين عليه السلام وإنهم بذلك ضلال عن الحق عادلون عن الصواب، مبدعون في استحلال دماء أهل الإسلام، ولم يحفظ عنهم في الطائفتين ولا في إحديهما تسمية بالفسوق ولا إخراجهم بما تولوه من الحرب والقتال عن الإيمان.

- في اختلاف الفرق من المختصمين في معركة الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 21، 24:

اختلاف الفرق:

فصل: الخلاف بعد النبي الذي حكيناه عن السلف في الفتنة المذكورة قد تشعب وزاد على ما أثبتناه عمن سميناه في الخلاف، فقالت العالمة الحشوية المنتسبة إلى السنة على ما زعموا في ذلك أقاويل مشهورة وذهبوا مذاهب ظهرت عنهم مذكورة.

فمنهم طائفة اتبعت رأي سعد بن أبي وقاص وشركائه المعتزلة عن الفريقين ومذهبهم في إنكار القتال وحكموا بالخطأ على أمير المؤمنين والحسن والحسين ومحمد بن علي وابن عباس وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي أيوب الأنصاري وأبي الهيثم بن التيهان وعمار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة وأمثالهم من وجوه المهاجرين ونقباء الأنصار. وعلى عائشة وطلحة والزبير وجميع من اتبعهم في الحرب واستحل معهم القتال، وشهدوا عليهم جميعا فيما صنعوه بالزلل عن الصواب، ووقفوا فيهم مع ذلك ولم يقطعوا لهم بعقاب، ورجوا لهم الرحمة والغفران، وكان الرجاء لهم في ذلك أقوى عندهم من الخوف عليهم من العقاب.

وقالت فرقة منهم أخرى بتخطئة الجميع كما قالت الأولى منهم في ذلك وقطعوا على أن أمير المؤمنين والحسن والحسين وابن عباس وعمار بن ياسر وخزيمة ذي الشهادتين إن كانوا قد زلوا بالقتال وسفك الدماء فإنه مغفور لهم ذلك، لما قدموا من عظيم طاعتهم لله تعالى وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبتهم له، مواساتهم إياه. وكذلك قولهم في عائشة، وطلحة والزبير ومن شركهم في القتال ممن له صحبة وسالف جهاد.

وأما من سوى الصحابة بين الفريقين منهم بقتالهم واستحلالهم الدماء فمن أهل النار، وحكوا عن بعض مشيختهم وأئمتهم في الدين إنه كان يقول نجت القادة وهلك الأتباع، وفرقوا بين الصحابي في ذلك وغيره بحديث رووه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لبعض المسلمين ممن أدركه ولم يكن له صحبته وقد سامى رجلا من الصحابة: إياكم وأصحابي لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدى أحدهم ولا نصفه.

وقالت فرقة أخرى منهم لا ينبغي لأحد أن يخوض في ذكر الصحابة وما جرى بينهم من تنازع واختلاف وتباين وقتال ولا يتعرض بالنظر في ذلك ولا الفكر فيه ويعرض عنه جانبا، وأن استطاع أن لا يسمع شيئا من الأخبار الواردة به فيفعل، فإنه إن خالف هذه الوصاة وأصغى إلى الخبر باختلاف الصحابة أو تكلم بحرف واحد، وتبرع بالحكم عليهم بشيء يشين المسلم فقد أبدع في الدين، وخالف الشرع، وعدل عن قول النبي ولم يحذر مما حذره منه بقوله صلى الله عليه وآله إياكم وما سيجري بين الصحابة. وزعموا أن الرواية بذكر أخبار السقيفة، ومقتل عثمان والجمل وصفين بدعة، والتصنيف في ذلك ضلال، أو الاستماع إلى شيء من ذلك يكسب الآثام. وهذه فرقة مستضعفة من الحشوية يميل إلى قولها جمع كبير ممن شاهدناه من العامة ويدعوا إليه المتظاهرون بالورع والزهد، والصمت وطلب السلامة، وحفظ اللسان، وهم بذلك بعداء عن العلم وأهله، جهال أغمار.

وقالت فرقة من العامة تختص بمذاهب الحشوية غير أنها تتعاطى النظر، وتدعى المعرفة بالفقه وتزعم أنها من أهل الاعتبار، إن علي ابن أبي طالب عليه السلام ومن كان في حيزه من المهاجرين والأنصار وسائر الناس، وعائشة وطلحة والزبير وأتباعه جميعا معا كانوا على صواب فيما انتهوا إليه من التباين والاختلاف والحرب والقتال وسفك الدماء، وضرب الرقاب، فإن فرضهم الذي يعين عليهم من طريق الاجتهاد هو ذلك بعينه دون سواه، لم يخرجوا بشيء منه عن طاعة الله ولا دخلوا به في شيء منه إلا أنهم كانوا على الهدى والصواب، ولو قصروا عنه مع الاجتهاد المؤدي لهم إليه; لضلوا عن الحق، وخالفوا السبيل والرشاد.

وزعموا أن إنهم كانوا جميعا مع الحال التي انتهوا إليها من سفك الدماء; وقتل النفوس; والخروج عن الأموال والديار على أتم مصافاة ومودة وموالات، ومخالصة في الضماير والنيات; واستدلوا على ذلك وزعموا بأن قالوا وجدنا كل فريق من الفريقين متعلقا بحجة تعذره فيما أتاه وتوجب عليه العمل بما صنع، وذلك أن علي بن أبي طالب كان مذهبه تحريم قتل الجماعة بالواحد وإن اشتركوا في قتله معا وهو مذهب مشهور من مذاهب أصحاب الاجتهاد; ولم يثبت عنده أيضا إن المعروفين بقتل عثمان تولوا على ما ادعى عليهم من ذلك فلم يسعه تسليم القوم إلى من التمسهم منه ليقتلوهم بعثمان; ووجب عليه عليه السلام في اجتهاده الدفاع عنهم بكل حال، وكان مذهب عائشة وطلحة والزبير قود الجماعة بالواحد من الناس; وهو مذهب ابن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة وجماعة من التابعين; وبه دان جماعة من الفقهاء وأصحاب الاجتهاد، وثبت عندهم أن الجماعة يقتلون بالرجس الواحد وأن أمير المؤمنين لم يسلمهم ليقتلوهم بعثمان، وأن الناس تولوا قتله واشتركوا في دمه; وكان إماما مرضيا عندهم; قتل بغير حق; فلم يسعهم ترك المطالبة بدمه; والاستفادة من قاتله وبذل الجهد في ذلك; فاختلف الفريقان في ذلك لما ذكروه من الاجتهاد; وعمل كل فريق منهم على رأيه وكان بذلك مأجورا وعند الله مشكورا; وإن كانوا قد سفكوا فيه الدماء وبذلوا فيه الأموال.

وهذا مذهب جماعة قد شاهدتهم وكلمتهم وهم في وقتنا هذا خلق كثير وجم غفير. وممن كلمتهم فيه من مشيخة أصحاب المخلوق المعروف بأبي بكر التمار الملقب بدرزان وكان في وقته شيخ أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب أكبرهم سنا; وأشدهم تقدما في مجالس الكلام; ومنهم محارب الصيدياني المكنى بابن العلاء خليفة أبي السائبة في القضاء. ومنهم المعروف بالوشعي; ومن بعدهم المكنى بأبي عبد الله المعروف بابن مجاهد البصري الأشعري صاحب الباهلي تلميذ علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري ومنهم المعروف بأبي بكر بن الطيب المعروف بابن الباقلاني ومنهم أبو العباس بن الحسين بن أبي عمر القاضي وجميع من سميت ممن جاريته في هذا الباب من أصحاب المخلوق، وبعضهم كلابية وبعضهم أشعرية وإليه يذهب في وقتنا هذا جمهور أصحاب الشافعي ببغداد والبصرة وخوزستان وبلاد فارس وخراسان وغيرها من الأمصار; لا أعرف شافعيا له ذكر في قومه ويذهب إلى هذا المذهب ليبعد به عن قول الشيعة; وأهل الاعتزال.

- رأي شيوخ المعتزلة في المختصمين في معركة الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 24، 29:

رأي المعتزلة: واختلف في ذلك المعتزلة أيضا كاختلاف الحشوية; فقال إماماهم المقدمان وشيخاهم المعظمان اللذان هما أصلان للاعتزال، وافتتحا لمعتقديه فيه الكلام وهم فخر الجماعة منهم وجمالهم الذي لا يعدلوا عندهم سواه واصل بن عطاء الغزال; وعمرو بن عبيد بن باب المكاري إن أحد الفريقين ضال في البصرة مضل فاسق خارج من الإيمان والإسلام ملعون مستحق الخلود في النار، والفريق الآخر هاد مهدي، مصيب مستحق للثواب والخلود في الجنان غير أنهم زعموا أن لا دليل على تعيين الفريق الضال ولا برهان على المهدي ولا بينة نتوصل بها إلى تمييز أحدهما من الآخر في ذلك بحال من الأحوال.

وأنه لا يجوز أن يكون علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن والحسين ومحمد بن علي وعبد الله وقثم والفضل وعبيد الله بنو العباس وعبد الله ابن جعفر الطيار وعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيوب الأنصاري وأبو الهيثم بن التيهان وكافة شيعة علي عليه السلام وأتباعه من المهاجرين والأنصار وأهل بدر وبيعة الرضوان وأهل الدين المتحيزين إليه والمحققين بسمة الإسلام هم الفريق الضال، والفاسق الباغي الخارج عن الإيمان والإسلام والعدو لله والبريء من دينه الملعون المستحق للخلود في النار. وتكون عائشة وطلحة والزبير والحكم بن أبي العاص ومروان ابنه وعبد الله بن أبي سرح والوليد بن عقبة وعبد الله بن عامر بن كريز ابن عبد شمس ومن كان في حيزهم من أهل البصرة هم الفريق المهدي الموفق إلى الله المصيب في حربه المستحق للإعظام والإجلال والخلود في الجنان. قالا جميعا نعم ما ننكر ذلك ولا نؤمن به إذ لا دليل يمنع من الحكم به على ما ذكرناه بحل وكما أن قولنا ذلك في علي وأصحابه فكذلك هو في الفريق الآخر فإنا لسنا ننكر أنهم وأتباعهم على السوء ولسنا ننكر أن يكونوا هم الفريق الضال الملعون، العدو لله البريء من دينه، المستحق للخلود في النار، وأن يكون علي عليه السلام وأصحابه هم الفريق الهادي المهتدي الولي لله في سبيله; المستحق بقتاله عائشة وطلحة والزبير وقتل من قتل منهم الجنة وعظيم الثواب.

قالا ومنزلة الفريقين منزلة المتلاعنين فيهما فاسق لا يعلمه على التميز له والتعيين إلا الله عز وجل.

وهذه مقالة مشهورة عن هذين الرجلين قد سطرها الجاحظ عنهما في كتابه الموسوم (بفضيلة المعتزلة) وحكاها أصحاب المقالات عنهما ولم يختلف العلماء في صحتها عن الرجلين المذكورين وأنهما خرجا من الدنيا على التدين بها والاعتقاد لها بلا ارتياب.

وحكى ابن يحيى أن أبا الهذيل العلاف كان على هذا المذهب في أمير المؤمنين عليه السلام وعائشة وطلحة والزبير متبعا فيه إماميه المذكورين ولم يزل عليه إلى أن مات.

قال شيخ المعتزلة أيضا ومتكلميها في الفقه وأحكام الشريعة على أصولها الأصم المكنى بأبي بكر الملقب بحريال أنا أقف في كل فريق من الفريقين فلا أحكم له بهدى ولا ضلال ولا أقطع على أحدهما بشيء من ذلك في التفصيل ولا الإجمال ولكني أقول أن كان علي بن أبي طالب عليه السلام قصد بحرب عائشة وطلحة والزبير كف الفساد ومنع الفتنة في الأرض ودفعهم عن التغلب على الأمر والعدوان على العباد فإنه مصيب مأجور، وإن كان أراد بذلك الجبرية والاستبداد بالأمر بغير مشورة من العلماء بل ليتأمر على الناس بالقهر لهم على ذلك والأضرار فهو ضال مضل من أهل النار; قال وإنما قلت ذلك لخفاء الأمر لي فيه واستتار النيات في معناه واشتباه أسباب الباطل فيه باستتار الحق عند العقلاء. قال وكذلك قولي في الفريق الآخر، أقول إن عايشة وطلحة والزبير إن كانوا قصدوا بقتالهم علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه منعه من الاستبداد بالأمر من دون رضى العلماء به، وأرادوا الطلب بدم عثمان والاقتصاص له من ظالميه برد الأمر شورى ليختار المسلمون من يرون فهم بذلك هداة أبرار مستحقون للثواب وإن كانوا أرادوا بذلك الدنيا والعصبية والإفساد في الأمر وتولى الأمر بغير رضى العلماء فهم بذلك ضلال مستحقون اللعنة والخلود في النار.

غير أنه لا دليل لي على أعراضهم فيه ولا حجة تظهر في معناه من أعمالهم ولذلك وقف فيهم كما وقفت في علي وأصحابه كما بينت. وإن كان طلحة والزبير أحسن حالا من علي فيما أتاه.

وقال هشام القوطي وصاحبه عباد بن سليمان الصيمري، وهذان الرجلان من أئمة المعتزلة أيضا أن عليا وطلحة والزبير وعائشة في جماعة من أتباع الفريقين كانوا على حق وهدى وصواب وكان الباقون من أصحابهم على ضلال وبوار وذلك أن عائشة وطلحة والزبير إنما خرجوا إلى البصرة لينظروا في دم عثمان ويأخذوا بثاره من ظالميه وأرادوا بذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلبوا بوجه الله وخرج علي بن أبي طالب ليتفق معهم على الرأي والتدبير في مصالح الإسلام وأهله وكف السعي في الفتنة ومنع العامة مما ليس إليهم بل هو إلى وجوه العلماء وليقع التراضي بينهم على إنصاف واجتهاد في طلب الحق والاجتماع على الرأي فلما ترائى الجمعان تسرع غوغاؤهم إلى القتال فانتشبت الحرب بينهم على غير اختيار من القادة والرؤساء وخرج الأمر عن أيديهم في تلافي ذلك فكان من الاتباع الفتنة وسفك الدماء ما لم يؤثره علي وطلحة والزبير وعائشة ووجوه أصحابهم من الفضلاء فهلك بذلك الأتباع ونجا الرؤساء وهذا يشبه ما قدمنا حكايته عن بعض العامة من وجه يخالفه من وجه آخر يميز به الرجلان من الكافة ودفعا فيه علم الاضطرار وجحد المعروف كالعيان.

وقال باقي المعتزلة كبشر بن المعتمر وأبي موسى المراد وجعفر بن بشر والإسكافي والخياط والشحام وابن مجالد البلخي والجبائي فيمن اتبعهم من أهل الاعتزال وجماعة الشيعة من الإمامية والزيدية، إن أمير المؤمنين عليه السلام كان محقا في جميع حروبه مصيبا بقتال أهل البصرة والشام والنهروان مأجورا على ذلك مؤديا فرض الله تعالى عليه في الجهاد وإن كل من خرج عليه وحاربه في جميع المواطن ضلال عن الهدى مستحقون بحربه والخلاف عليه النار غير أن من سميناه من المعتزلة خاصة استثنوا عائشة وطلحة والزبير من الحكم باستحقاق العقاب وزعموا أنهم خرجوا من ذلك إلى استحقاق الثواب بالتوبة والندم على ما فرط منهم في القتال فحكموا بضد الظاهر من الفعال والمعلوم منهم من المقال وضعفوا في دعواهم عما هو صناعتهم من الحجاج وأظنهم اتقوا به من العامة وتقربوا بإظهاره إلى أمراء الزمان إذ لا شبهة تعترض أمثالهم من العلماء بالأخبار والنظار المتميزين بالكلام عن أهل التقليد في فساد هذا الاعتقاد وخالف من سميناه من المعتزلة في هذا الباب (الأصم) خاصة فإنه زعم أن معاوية كان إماما محقا لإجماع الأمة عليه فيما قال بعد قتل أمير المؤمنين علي عليه السلام مع تظاهره بالشك في إمامة أمير المؤمنين حسبما حكيناه فيما سلف قبل هذا المكان وكل من سميناه منهم سوى (الأصم) مع تصويبه عليا وتفسيق محاربيه ويقطع على معاوية وعمرو بن العاص في خلافهما أمير المؤمنين واستحلالهما حربه بالنار وإنهما خرجا من الدنيا على الفسق الموبق لصاحبه الموجب عليه دوام العقاب وأن جميع من مات على اعتقاد إمامة معاوية وتصويبه في قتال علي عليه السلام فهو عندهم ضال عن الهدى خارج عن الإسلام مستحق الخلود في النار وقد وافق من سميناه من المعتزلة وكافة الشيعة الخوارج في تخطئة معاوية وعمرو بن العاص وتضليلهما في قتال علي، وجماعة من المرجئة وأصحاب الحديث من المجبرة غير أن هذين الفريقين وقفا في عذابهما ولم يقطعا على دخولهما النار ورجوا لهما ولمحاربي علي وأصحابهما من غيرهم ممن ظاهره الإسلام العفو من الله وقولهم في الخوارج كذلك مع حكمهم عليهم بالضلال.

- رأي الخوارج في المختصمين في معركة الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 29:

رأي الخوارج: وقال الخوارج بأجمعهم أن عليا كان مصيبا في أهل البصرة أهل الشام وإنهم كانوا بقتاله ضلال كفار مستحقين الخلود في عذاب النار وادعوا مع ذلك أنه أخطأ بكفه عن قتال أهل الشام حين رفعوا المصاحف واحتالوا بذلك الكف عن قتاله وشهدوا على أنفسهم بالإثم لوفاقهم في ذلك الرأي وكفهم عن قتال البغاة إلا أنهم زعموا أنهم لما ندموا على ذلك وتابوا منه ودعوا إلى القتال خرجوا من عهدة الضلال ورجعوا إلى ما كانوا عليه من الإسلام والإيمان وأن عليا لما لم يجبهم إلى القتال وأقام على الموادعة لمعاوية وأهل الشام كان مرتدا بذلك عن الإسلام خارجا من الدين وشبهتهم في هذا الباب مضمحلة لا يلتبس فسادها على أهل الاعتبار وذلك أن عليا عليه السلام إنما كف عن قتال القوم لخذلان أصحابه في الحال، وتركهم النصرة له وكفهم عن القتال فاضطروه بذلك إلى الإجابة لما دعوه إليه من تحكيم الكتاب ولم يجز له قتالهم من بعد، لمكان العهد لهم في مدة الهدنة التي اضطر إليها وحظر الفساد، بنقض العهد في كل ملة وخاصة في ملة الإسلام.

- اجتمعت الشيعة على الحكم بكفر محاربي أمير المؤمنين ولكنهم لم يخرجوهم بذلك عن حكم ملة الإسلام إذ كان كفرهم من طريق التأويل كفر ملة ولم يكفروا كفر ردة عن الشرع
- محاربو أمير المؤمنين خارجون عن الإيمان مستحقون اللعنة والخلود في النار
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 29، 30:

رأي الشيعة: واجتمعت الشيعة على الحكم بكفر محاربي أمير المؤمنين ولكنهم لم يخرجوهم بذلك عن حكم ملة الإسلام إذ كان كفرهم من طريق التأويل كفر ملة ولم يكفروا كفر ردة عن الشرع مع إقامتهم على الجملة منه وإظهار الشهادتين والاعتصام بذلك عن كفر الردة المخرج عن الإسلام وإن كانوا بكفرهم خارجين عن الإيمان مستحقين اللعنة والخلود في النار حسبما قدمناه.

وكل من قطع على ضلال محاربي أمير المؤمنين عليه السلام من المعتزلة فهو يحكم عليهم بالفسق واستحقاق الخلود في النار ولا يطلق عليهم الكفر ولا يحكم عليهم بالإكفار.

والخوارج تكفر أهل البصرة وأهل الشام ويخرجونهم بكفرهم الذي اعتقدوه فيهم ووسموهم به عن ملة الإسلام ومنهم من يسمهم بالشرك ويزيد على حكمه فيهم بالإكفار.

فهذه جمل القول فيما اختلف فيه أهل القبلة، من أحكام الفتنة بالبصرة والمقتولين بها ممن ذكرناه وأحكام صفين والنهروان وقد تحريت القول بالمحفوظ عن أرباب المذاهب المشهور عنهم عند العلماء وإن كان بعضها قد انقرض معتقدوه، وحصل على فساد القول به الإجماع وبعضها له معتقد قيل لم ينقرضوا إلى هذا الزمان وليس ينعقد على فساده إجماع وإن كان في بطلانه أدلة واضحة لمن تأملها من ذوي الألباب وأنا بمشيئة الله وعونه أذكر طرفا من الاحتجاج على كل فريق منهم خالف الحق وأثبت من الأخبار الواردة في صواب أمير المؤمنين عليه السلام وحقه في حروبه وأحكامه، مختصرا يغني عن الإطالة بما يتيسر به الكلام وأشفع ذلك بما يتلوه ويتصل به من ذكر أسباب الفتنة بالبصرة على ما ضمنت في ذلك بأول الكتاب.

- أمير المؤمنين معصوم من الخطأ في الدين والزلل فيه مصيب في كل أقواله وأفعاله وحروبه ومخالفوه على خطأ وضلال ويستحقون بذلك العقاب
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 30، 32:

عصمة أمير المؤمنين عليه السلام: باب صواب أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه كلها وحقه في جميع أقواله وأفعاله والتوفيق للمقر بآرائه وبطلان قول من خالف ذلك من خصمائه وأعدائه:

فمن ذلك وضوح الحجة على عصمة أمير المؤمنين عليه السلام من الخطأ في الدين والزلل فيه والعصمة له من ذلك يتوصل إليها بضربين أحدهما الاعتبار والثاني الوثوق به من الأخبار، فأما طريق الاعتبار الموصول إلى عصمته عليه السلام فهو الدليل على إمامته وفرض طاعته على الأنام إذ الإمام لا بد أن يكون معصوما كعصمة الأنبياء بأدلة كثيرة قد أثبتناها في مواضع من كتبنا المعروفة في الإمامة الأجوبة عن المسائل الخاصة في هذا الباب.

فمن ذلك أن الأئمة قدوة في الدين وأن معنى الائتمام هو الاقتداء، وقد ثبت أن حقيقة الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به فيما فعل وقال من حيث كان حجة فيه دون الاتباع لقيام الأدلة على صواب ما فعل وقال بسوى ذلك من الأشياء، إذ لو كان الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به من جهة حجة سواه على ذلك كان كل وفاق لذي نحلة في قول أو فعل لا من جهة قوله وفعله بل لحجة سواه اقتداء به وائتماما وذلك باطل لوفاقنا الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الباطل والضلال في بعض أقوالهم وأفعالهم; من حيث قامت الأدلة على صواب ذلك فيهم لا من حيث ما رأوه وقالوه وفعلوه، وذلك باطل بلا ارتياب ولأن أحد أسباب الحاجة إلى الأئمة هو جواز الغلط على الرعية وارتفاع العصمة عنها لتكون من ورائها تسدد الغالط منها وتقومه عند الاعوجاج وتنبهه عند السهو منه والإغفال ويتولى إقامة الحد عليه فيما جناه، فلو لم تكن الأئمة معصومون كما أثبتناه لشاركت الرعية فيما له إليها وكانت تحتاج إلى الأئمة عليها ولا تستغني عن دعاة وساسة تكون من ورائها وذلك باطل بالإجماع.

على أن الأئمة أغنياء عن إمام وغير ما ذكرناه من الأدلة على عصمتهم كثيرة وهي موجودة في أماكنها من كتبنا على بيان الوجوه واستقصائها وأنها تثبت عصمة الأئمة عليهم السلام حسبما وصفناه وأجمعت الأمة على أنه لو كان بعد النبي صلى الله عليه وآله إمام على الفور تجب طاعته على الأنام وجب القطع على أنه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب دون غيره ممن ادعيت له الإمامة في تلك الحال للإجماع على أنه لم يكن لواحد ممن ذكروه العصمة التي أوجبناها بالنظر الصحيح لأئمة الإسلام وإجماعا الشيعة الإمامية على علي عليه السلام كان مخصوصا بها من بين الأنام إذ لو لم يكن الأمر كذلك لخرج الحق عن إجماع أهل الصلاة وفسد ما في العقول من وجوب العصمة لأئمة المسلمين بما ذكرناه وإذا تثبت عصمة علي عليه السلام من الخطأ ووجب مشاركته للرسول في معناه ومساواته فيها ثبت أنه كان مصيبا في كل ما فعل وقال ووجب القطع على خطأ مخالفيه وضلالهم في حيرة واستحقاقهم بذلك العقاب وهذا بين لمن تدبر والله الموفق للصواب.

- أخبار دالة على إمامة أمير المؤمنين بالنص وعصمته وصوابه في كل حروبه
- الإمامة تدل على العصمة والعصمة تقضي صواب أمير المؤمنين في حروبه كلها وأفعاله بأجمعها وأقواله بأسرها وخطأ مخالفيه وضلالهم عن هداه
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 33، 39:

حديث المنزلة: دليل آخر وهو أيضا ما أجمع عليه أهل القبلة ولم ينازع في صحة الخبر به من أهل العلم بالرواية والآثار من قول النبي صلى الله عليه وآله "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" فأوجب له بذلك جميع ما كان لهارون من موسى في المنازل إلا ما استثناه من النبوة وفي ذلك أن الله تعالى قد فرض طاعته على أمة محمد كما كان فرض طاعة هارون على أمة موسى وجعله إماما لهم كما كان هارون إماما لقوم موسى وإن هذه المنزلة واجبة له بعد مضي النبي كما كانت تجب لهارون لو بقي بعد أخيه موسى ولم يجز خروجه عنها بحال وفي ذلك ثبوت إمامة أمير المؤمنين، والإمامة تدل على عصمة صاحبها كما بيناه فيما سلف ووصفناه والعصمة تقضي فيمن وجبت له بالصواب بالأقوال والأفعال على أثبتناه فيما تقدم من الكلام وفي ذلك بيان صواب أمير المؤمنين في حروبه كلها وأفعاله بأجمعها وأقواله بأسرها وخطأ مخالفيه وضلالهم عن هداه.

ولأهل الخلاف من المعتزلة والحشوية والخوارج أسئلة قد أجبنا عنها في مواضعها من غير هذا الكتاب وأسقطنا شبهاتهم بدليل البرهان لم نوردها ههنا لغنانا عن ذلك بثبوتها فيما سواه وإنما اقتصرنا على ذكر هذه الأدلة ووجوهها وعدلنا عن إيراد ما في معناها والمتفرع عليه عن إثبات رسم الحجاج في صواب علي عليه السلام وفساد مذهب الناكثين فيه والإيماء إلى أصول ذلك ليقف عليه من نظر في كتابنا هذا ويعلم العمدة بما فيه ويستوفي معانيه فإن أحب ذلك يجده في مواضعه المختصة به لنا ولغيرنا من متكلمي عصابة الحق ولأن الغرض في هذا الكتاب ما لا يفتقر إلى هذه الأدلة من براهين إصابة علي عليه السلام في حروبه وخطأ مخالفيه ومحاربيه.

وإنا سنذكر فيما يلي هذا الفصل من الكلام وتوضيح الحجة فيه على أصول مخالفينا أيضا في طريق الإمامة وثبوتها عندهم من جهة الآراء إنكارهم ما نذهب إليه من قصور طريقها على النص كما قدمناه وبيناه عن الغرض فيه ووصفناه من الدليل على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان مصيبا في حروبه كلها وإن مخالفيه في ذلك على ضلال، وهو ما تظاهرت به الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله:

"حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي" وقوله:

"يا علي أنا حرب لمن حاربك وسلم لمن سالمك"

وهذان القولان مرويان من طريق العامة والخاصة، والمنتسبة من أصحاب الحديث إلى السنة المنتسبين منهم للشيعة، لم يعترض أحد من العلماء الطعن على سندهما ولا ادعى إنسان من أهل المعرفة بالآثار كذب روايتهما ومن كان هذا سبيله وجب تسليمه والعمل به، إذ لو كان باطلا لما خلت الأمة من عالم منها ينكره ويكذب روايته، ولا سلم من طعن فيه ولعرف سبب تخرصه وافتعاله وأقام دليل الله على بطلانه، وفي سلامة هذين الخبرين من جميع ما ذكرناه حجة واضحة على ثبوتهما حسبما بيناه.

ومن ذلك الرواية المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام:

"تقاتل يا علي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله".

وقوله لسهيل بن عمر ومن حضر معه لخطابه على رد من أسلم من مواليهم:

"لتنتهين يا معشر قريش ليبعث الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله" فقال له بعض أصحابه من هو يا رسول الله؟ هو فلان "قال لا" قال فلان؟ "قال لا ولكنه خاصف النعل في الحجرة" فنظروا فإذا به علي عليه السلام في الحجرة يخصف نعل النبي.

وقوله لعلي:

"تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين"

والقول في هذه الرواية كالأخبار التي تقدمت، قد سلمت من طاعن في سندها بحجة ومن قيام دليل على بطلان ثبوتها وسلم لروايتها الفريقان فدل على صحتها. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله:

"علي مع الحق والحق مع علي".

وقوله صلى الله عليه وآله:

"اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار"

وهذا أيضا خبر قد رواه محدثوا العامة وأثبتوه في الصحيح عندهم ولم يعترض أحدهم لتعليل سنده، ولا أقدم منهم مقدم على تكذيب ناقله وليس توجد حجة في العقل ولا السمع على فساده فوجب الاعتقاد بصحته وصوابه.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله:

"اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله"

وهذا في الرواية أشهر من أن يحتاج معه إلى جمع السند له وهو أيضا مسلم عند نقلة الأخبار. وقوله صلى الله عليه وآله:

"قاتل الله من قاتلك وعادى الله من عاداك"

والخبر بذلك مشهور وعند أهل الرواية معروف مذكور.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله:

"من آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله"

فحكم أن الأذى له أذى الله والأذى لله جل اسمه ضلال مخرج عن الإيمان. قال الله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}

وأمثال ما أثبتناه من هذه الأخبار في معانيها الدالة على صواب علي عليه السلام وخطأ مخالفيه كثيرة أن عملنا على إيراد جميعها طال به الكتاب وانتشر الخطاب، وفيما أثبتناه منه دليلا للحق منه كفاية في الغرض الذي نأمله إن شاء الله.

نظرة في النصوص:

(فصل وسؤال) فإن قال قائل إنكم إن كنتم قد اعتمدتم على هذه الأخبار في عصمة علي عليه السلام وهي آحاد ليست من المتواترة الذي يمنع على قائليه الافتعال فما الفضل بينكم وبين خصومكم فيما يتعلقون به من أمثالها عن النبي صلى الله عليه وآله في فضل فلان وفلان ومعاوية بن أبي سفيان؟.

الجواب: قيل له: الأخبار التي يتعلق بها أهل الخلاف في دعوى فضائل من سميت على ضربين: أحدهما لا تنكر صحته وإن خصومنا منفردين بنقله إذ ليس فينا مشارك لهم في شيء منه كما شاركنا الخصوم في نقل ما أثبتناه من فضائل علي عليه السلام إلا أنهم يغلطون في دعوى التفضيل لهم به على ما يتحيلون في معناه، والآخر مقطوع بفساده عندنا بأدلة واضحة لا تخفى على أهل الاعتبار وليست مما تساوي أخبارنا التي قدمناها لقطعنا على بطلان ما يقروا به من ذلك طعنا في رواتها واستدللنا على فسادها وأجمع مخالفونا على رواية ما رويناه مما قد بيناه وتسليمه وتخليدهم صحفهم كما ذكرناه وعدو لهم عن الطعن في شيء منه حسبما وصفناه وإن كان هذا سبيله ليس يكون الأمر فيه كذلك إلا لاعتقاد القوم وتسخيرهم لنقله والتسليم لرواته إذ كانت العادة جارية بأن كل شيء يتعلق به في حجاج مخالفيه ونصرة مذهبه والمنفرد به دون خصمه وكان في الإقرار به شبهة على صحة مقالته المباين لمقال مخالفيه، فإنه لا يخلو من دافع له وجاحد وطاعن فيما يروم به إبطاله إلا أن لا تلزم الحجة في صوابه وأن يكون ملطوفا له في اعتقاده، أو مسخرا للإقرار به حجة الله تعالى في صحته ودليلا على ثبوته وبرهانا منه على نصرته والمحتج به وتبديل للحق فيه بلطف من لطائفه وإذا كان الأمر في هذا الباب على ما بيناه وثبت تسليم الفريقين لأخبارنا مع اختلافهم في الاعتقاد على ما ذكرناه، وصح الاختلاف بيننا وبين خصومنا في الاحتجاج بالأخبار وبراهينها حسبما اعتمدنا سقط توهم المخالف لما يحيله من المساواة بين الأمرين.

إنكار الخوارج والأموية فضل علي:

فإن عارض الخوارج وقالوا هم يدفعون ما آتيتموه من الأخبار الدالة على عصمته وذكروا الأموية، وما يعرف من ضلالهم وظاهر أمرهم في جحد ما رويناه، قلنا حكمهم في جحد أخبارنا كحكمهم في جحد أخباركم سواء وإلا فما الفضل بين الأمرين، فإنه يقال لهم الفضل بيننا وبين من عارضتم به من الخوارج في دفع النقل ظاهر لذوي الاعتبار وذلك أن الخوارج ليسوا من أهل النقل والرواية ولا يعرفون حفظ الآثار ولا الاعتماد على الأخبار لإكفارهم الأمة جميعا واتهام كل فريق منهم فيما يروونه واعتمادهم لذلك على ظاهر القرآن وإنكارهم ما خرج عنه القرآن من جميع الفرائض والأحكام ومن كان هذا طريقة دينه وسبيله في اعتقاده ومذهبه في النقل والأخبار ولم يعتقد بخلافه فيها على حال.

فأما الأموية والعثمانية فسبب جحودهم لفضائل علي عليه السلام معروف وهو الحرص لدولتهم والعصبية لملوكهم وجبابرتهم وهم كالخوارج في سقوط الاعتراض بهم فيما طريقه النقل لبعدهم عن عمله وتأنيهم عن فهمه وإطراحهم للعمل به وقد انقرضوا مع ذلك بحمد الله ومنه حتى لم يبق منهم أحد ينسب إلى فضل علي ولا منهم من يذكر في جملة العلماء بخلافه في شيء من الأحكام فسقط الاعتراض بهم كسقوط الاعتراض بالمارقة فيما تعتمد فيه من الأخبار، مع أن الخوارج متى تعاطت الطعن في أخبارنا التي أثبتناها في الحجة على عصمة أمير المؤمنين عليه السلام فإنما يقطعوا بها بالطعن رواتها في دينها المخالف كما تدين به من إكفار علي عليه السلام وعثمان وطلحة والزبير وعائشة بنت أبي بكر ومن تولى واحدا منهم واعتقد أنه من الإسلام وذلك طعن يعم جميع نقلة الدين من الملة فسقط لذلك قدحهم في الأخبار، وليس كذلك طعوننا في نقل ما تفردت به الناصبة في الحديث لأنا لا نطعن في رواية إلا لكذبهم فيه وقيام الحجة على بطلان معانيه دون الطعن في عقايدهم وإن كانت عندنا فاسدة فوضح الفرق بيننا وبين من عارضنا في الخصومة برأيه في الأخبار على ما شرحناه.

- إذا ثبت بالإجماع إمامة أمير المؤمنين والبيعة له على الطوع والإيثار ثبت فرض طاعته وحرم على كل أحد من الخلق التعرض لخلافه ومعصيته ووضح الحق في الحكم على مخالفيه ومحاربيه بالضلال عن هدايته والقضاء بباطل مخالفة أمره وفسقهم بالخروج عن طاعته
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 42، 43:

وإذا ثبت بالإجماع من وجوه المسلمين وأفاضل المؤمنين والأنصار والمهاجرين على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام والبيعة له على الطوع والإيثار وكان العقد على الوجه الذي ثبت به إمامة الثلاثة قبله عند الخصوم بالاختيار وعلى أوكد منه بما ذكرناه في الرغبة إليه في ذلك والإجماع عليه ممن سميناه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان حسبما بيناه ثبت فرض طاعته وحرم على كل أحد من الخلق التعرض لخلافه ومعصيته ووضح الحق في الحكم على مخالفيه ومحاربيه بالضلال عن هدايته والقضاء بباطل مخالفة أمره وفسقهم بالخروج عن طاعته لما أوجب الله تعالى من طاعة أولياء أمره في محكم كتابه حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} فقرن طاعة الأئمة بطاعته ودل على أن المعصية لهم كمعصيته على حد سواء في حكمه وقضيته وأجمع أهل القبلة مع عن ذكرناه على فسق محاربي أئمة العدل وفجورهم بما يرتكبونه من حكم السمع والعقل.

وإذا لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام أحدث بعد البيعة العامة له ما يخرجه عن العدالة ولا كان قبلها على الظاهر بخيانة في الدين ولا خرج عن الإمامة كان المارق عن طاعته ضالا، فكيف إذا أضاف له بذلك حربا واستحلالا لدمه ودماء المسلمين معه ويبغي بذلك في الأرض فسادا يوجب عليه التنكيل بأنواع العقاب، المذكور في نص من قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ}. هذا بين أن لم يحجب الهوى ويبعد عن فهمه العمى والله نسأل التوفيق.

- في مناقشة الإجماع على بيعة أمير المؤمنين وتأخر سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأمثالهم عن الخروج مع أمير المؤمنين إلى البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 43، 49:

تأخر سعد وأسامة عن حرب البصرة: فصل وسؤال:

فإن قال قائل كيف تتم لكم دعوى الإجماع على بيعة أمير المؤمنين عليه السلام وقد علمتم أن الأخبار قد ثبتت بتخلف سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد; ومحمد بن مسلمة; ومظاهرتهم له بالخلاف فيما راقبه بالقتال.

الجواب: قيل له أما تأخر من سميت عن الخروج مع أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة فمشهور ورأيهم في القعود عن القتال معه ظاهر معروف وليس ذلك بمناف لبيعتهم له على الإيثار ولا مضاد للتسليم لإمامته على الاختيار والذي ادعى عليه الامتناع في البيعة وأشكل عليه الأمر فظن أنهم لو تأخروا عن نصرته كان ذلك منهم لامتناعهم عن بيعته، وليس الأمر كما توهموا إلا أنه قد يعرض للإنسان شاك فيما تيقن سلطانه في صوابه، ولا يرى لسلطان حمله على ما هو شاك فيه لضرب من الرأي يقتضيه الحال في صواب التدبير وقد يعتقد الإنسان أيضا صواب غيره في شيء يحمله الهوى على خلافه فيظهر فيما صار إليه من ذلك شبهة تعذره عند كثير من الناس فعاله وليس كل من اعتقد طاعة إمامه كان مضطرا إلى وفاقه بل قد يجمع الاعتقاد لحق الرئيس المقدم في الدين مع العصيان له في بعض أوامره ونواهيه ولولا أن ذلك كذلك لما عصى الله من يعرفه ولا خالف نبيه صلى الله عليه وآله ممن يؤمن به وليس هذا من مذاهب خصومك في الإمامة فتوضح عنه بما يكسر شبهة مدعيه على أن الأخبار قد وردت بإذعان القوم بالبيعة مع إقامتهم على ترك المساعدة والنصرة وما تضمنت ذكر أعذار لهم زعموها في ذلك وجاءت بما كان من أمير المؤمنين فيما أظهروه وإنكاره له بحسب ما اقتضته الحال في مثله من الخطأ فيما ارتكبوه.

فروى أبو مخنف لوط بمن يحيى الأزدي في كتابه الذي صنفه في حرب البصرة عن أصحابه، وروى غيره من أمثاله الرواة للسيرة عن سلفهم أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام لما هم بالمسير إلى البصرة بلغه عن سعد ابن أبي وقاص وابن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر تثاقلهم عنه فبعث إليهم فلما حضروا قال لهم قد بلغني عنكم هنات كرهتها وأنا لا أكرهكم على المسير معي على بيعتي: قالوا بلى، قال فما الذي يقعدكم عن صحبتي؟ فقال له سعد إني أكره الخروج في هذا الحرب فأصيب مؤمنا فإن أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر قاتلت معك. وقال له أسامة أنت أعز الخلق علي ولكني عاهدت الله أن لا أقاتل أهل لا إله إلا الله، وكان أسامة قد أهوى برمحه في عهد رسول الله إلى رجل في الحرب من المشركين فخافه الرجل فقال لا إله إلا الله فشجره بالرمح فقتله فبلغ النبي صلى الله عليه وآله خبره فقال يا أسامة أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا، فقال له ألا شفقت عن قتله فزعم أسامة أن النبي صلى الله عليه وآله أمره أن يقاتل بالسيف من قاتل المشركين فإذا قوتل به المسلمون ضرب بسفه الحجر فكسره.

وقال عبد الله بن عمر لست أعرف في هذه الحرب شيئا أسألك أن لا تحملني على ما لا أعرف، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام ليس كل مفتون معاتب ألستم على بيعتي قالوا بلى قال انصرفوا فسيغنيني الله عنكم فاعترفوا له عليه السلام بالبيعة وأقاموا في تأخرهم عند عذرا لم يقبله منهم وأخبر أنهم بتركهم الجهاد مفتنون ولم ير الإنكار عليهم في الحال بأكثر مما أبداه من ذكر المهم عن الصواب في خلافته والشهادة بفتنتهم بترك وفاقهم له.

ولأن الدلائل الظاهرة على حقه عليه السلام تغني عن محاججتهم بالكلام ومعرفته بباطن أمرهم الذي أظهروا خلافه في الاعتذار يسقط عن فرض التنبيه الذي يحتاج إليه أهل الرقدة عن البيان وقد قال الله عز وجل في تأكيد ما ذكرناه وحجة على ما وصفناه {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.

وقد ذكر بعض العلماء أن الأسباب في تأخر القوم عن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام بعد البيعة له معروفة وإن الذي أظهروه من الاعتذار في خلافه خداع منهم وتمويه وستر على أنفسهم ما استبطنوه منه خوفا من الفضيحة فيه، فقال أما سعد بن مالك فسبب قعوده عن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام الحسد له والطمع كان منه في مقامه الذي يرجوه فلما خاب من أمله حمله الحسد على خذلانه والمباينة له في الرأي قال والذي أفسد سعدا طمعه فيما ليس له بأهل وجرأة على مسامات أمير المؤمنين بإدخال عمر بن الخطاب إياه في الشورى وتأهيله إياه للخلافة وإيهامه لذلك أنه محل الإمامة فقدم عليه وأفسد حاله في الدنيا والدين حتى خرج منها صفرا مما كان يرتجيه.

وأما أسامة بن زيد فإن النبي صلى الله عليه وآله كان ولاه في مرضه الذي توفي فيه على أبي بكر وعمر وعثمان فلما مضى رسول الله سبيله انصرف القوم عن معسكره وخدعوه بتسميته مدة حياتهم له بالإمرة مع تقدمهم عليه في الخلافة وصانعوه بذلك مما خالفوه فيه من السمع له والسير معه والطاعة واغتر بخداعهم وقبل منهم مصانعتهم وكان يعلم أن أمير المؤمنين لا يسمح له بالخداع ولا يصانعه مصانعة القوم ويحذر من التسمية التي جعلوها له ولا يرفعه عن منزلته ويسير به سيرته في عبيده وموالي نعمته إذ كان ولائه له بالتعتق الذي كان من نزاعه النبي صلى الله عليه وآله لأبيه بعد استرقاقه فصار كذلك بعد النبي صلى الله عليه وآله غير أنه منه في الولاء فكره الانحطاط عن رتبته التي رتبها القوم فيه ولم يجد إلى التخلص من ذلك إلا بكفر النعمة والمباينة لسيده والخلاف لمولاه فحمل نفسه على ذلك لما ذكرناه.

وأما محمد بن مسلمة فإنه كان صديق عثمان بن عفان وخاصته وبطانته فحملته المعصية له على معاونة الطالبين بثاره وكره أن يتظاهر في الكون في حيز المحاربين فهم المباينين طريقهم ولم ير بمقتضى الحال معاونة أعدائهم ولا سمحت نفسه بذلك فأظهر من العذر بتأخره عن نصرة أمير المؤمنين بخلاف باطنه منه مما كره وسترا لقبيح سريرته.

وأما عبد الله بن عمر فإنه كان ضعيف العقل كثير الجهل ماقتا لأمير المؤمنين عليه السلام وراثة الخلف عن السلف ما يرثونه من المودة والعداوة وكان أمير المؤمنين عليه السلام مع ذلك قد شجاه بهدر دم أخيه عبيد الله لقتله الهرمزان وأجلاه عن المدينة وشرده في البلاد لا يأمن على نفسه من الظفر به فيسقط قودا فلم تسمح نفسه بطاعة أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله ولا أمكنه المقت من الانقياد له لنصرته وتجاهل ما أبداه من الحيرة في قتال البغاة والشك في لمسه ذلك وحجته.

روى هذا الكلام بعينه عن أمير المؤمنين في أسباب تأخر القوم عنه فإن صحت الرواية بذلك فهو أوكد بحجته وإن لم تثبت كفى في برهانه أن قائله ليس من أهل العلم له صحة فكر وصفاء فطنة.

على أنا لو سلمنا لخصومنا ما ادعوه من امتناع سعد وابن مسلمة وأسامة وابن عمر من بيعة أمير المؤمنين وكراهتهم لها باعتزالهم إياها وأضفنا إليهم في ذلك أمثالهم ممن ظاهر عليه بالعداوة كزيد بن ثابت وحسان بن ثابت ومروان بن الحكم بن أبي العاص وعبد الله بن الزبير وولد عثمان بن عفان وجماعة ممن كان معهم في الدار يوم الحصار بني أمية المعروفين بمقت بني هاشم وعداوتهم والمباينة لهم في الجاهلية والإسلام بالخلاف لما قدح فيما اعتمدنا من دليل إمامته عليه السلام الذي بينا القول فيه على مذاهب الخصوم من الحشوية والمرجئة والخوارج وأهل الاعتزال وقاعدتهم في ثبوت البيعة بالاختيار من أهل الرأي إذ كنا لم نعتمد في ذلك على إجماع كافة أهل الإسلام وإنما اعتمدنا ما ثبت به العقل على أمور القوم في بيعة أهل الفضل منهم والاجتهاد واستظهرنا في التأكيد لذلك بذكر إجماع المهاجرين الأولين وعيون الأنصار وفضلاء المسلمين ممن حوته المدينة يومئذ والتابعين بإحسان والخيرة الصالحين من أهل الحجاز والعراق ومصر وغيرها من البلاد والذين كانوا حاضرين بالمدينة يومئذ بأجمعهم سوى من يعتصم بخلافة الخصوم محصور عددهم لقلتهم رضوا بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام ورغبوا في تولي الأمر وسألوه ورأوا أن لا يستحق له سواه وتابعوه على الطوع منهم والإيثار وبذلوا نفوسهم من بعد البيعة معه في جهاد أعدائه واعتقدوا أن التأخر عن طاعته في قتال أعدائه ضلال موبق وفسق مخرج عن الإيمان والبيعة عند مخالفينا تتم ببعض من ذكرناه إذ كانوا خمسة نفر على قول فريق منهم أو أربعة على قول آخرين أو اثنين على مذهب فريق آخر بل تتم عند أكثرهم بواحد حسبما ذكرناه فكيف يحل مع ذلك بدليلنا الذي ذكرناه في إمامته عليه السلام خلاف النفر الذين تعلق بذكرهم في القعود عن القتال ممن تعلق أو بما ظهر بعد البيعة من خلاف مرتكبها. ومباينة معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص بعد الذي كان من مراسلتهما أمير المؤمنين عليه السلام بالبيعة والطاعة بشرط إقرارهما على ماولاهما عليه عثمان من الأعمال فلما أبى ذلك خوفا من الله تعالى ظاهروا عليه بالخلاف وإن خصومنا جهال أغمار لا معرفة لهم بوجوه النظر ولا علم لهم بالأخبار.

- في إبطال مذهب الخوارج وضلال أهل البصرة وتخطئة محاربي أمير المؤمنين أمير
- الجمل - الشيخ المفيد   ص 66، 67:

قال الشيخ المفيد أدام الله تأييده: وقد دللنا على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة النص عليه بها من رسول الله صلى الله عليه وآله وباختياره له من ذوي العقول والعلم والفضل والرأي على ما يذهب إليه المخالفون في ثبوت الإمامة وانعقادها، وأنبأنا عن عصمته عليه السلام بما سلف وشرحنا القول في طريقها وأوضحناه وذكرنا الأخبار الواردة من طريق الخاصة والعامة في وجوب حقه وبرهان صوابه وتحريم خلافه، وفي ذلك إبطال ما ذهب إليه كافة خصومنا على اختلافهم في تصويب محاربيه والوقوف في ذلك والشك فيه، وفي ما أصلناه من ذلك ورسمناه في معناه غني عن تكليف كلام في فساد مذهب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد على ما شرحناه عنهما في صدر هذا الكتاب من شبهات المذهب الرذل وإبطال مذهب الأصم وأتباعه ونقض شبهات الحوشية في تصويب الجماعة وإفساد ما ذهب إليه كل فريق منهم في تخطئتهم بأسرهم، وإقامة البرهان على صحة ما ذهب إليه الشيعة ومن شاركهم من قبائل المعتزلة والمرجئة والخوارج على أمير المؤمنين وضلال أهل البصرة وتخطئة محاربيه في هذين المقامين وضلالهم في ذلك عن طريق الرشاد، وفيما أثبتناه عن عصمته عليه السلام وحقه أيضا دليل مقنع في إبطال مذهب الخوارج المبدعة في إنكار التحكيم وترك القتال عند الموادعة حسب ما قدمناه ونحن نشفع ذلك بأسباب فتنة البصرة على ما بطن منها عن كثير من الناس وظهر منها للجمهور ونورد بعد هذا الباب الذي ذكرناه الأخبار الواردة بصورة الأمر في القتال وكيفية ما جرى فيه على ترتيب ذلك في مواضعه المقتضية لذكره فيها ونأتي به على الترتيب والنظام إن شاء الله تعالى.

- في نكث طلحة والزبير البيعة التي بذلاها لأمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 67، 68:

الناكثان: فصل: فإن ظاهر الفتنة بالبصرة فهو ما أحدثه طلحة والزبير من نكث البيعة التي بذلاها لأمير المؤمنين عليه السلام طوعا واختيارا وإيثارا وخروجهما عن المدينة إلى مكة على إظهار منهما ابتغاء العمرة فلما وصلاها اجتمعا مع عائشة وعمال عثمان الهاربين بأموال المسلمين إلى مكة طمعا فيما احتجبوه منها وخوفا من أمير المؤمنين عليه السلام واتفاق رأيهم على الطلب بدم عثمان والتعلق عليه في ذلك بانحياز قتلة عثمان وحاصريه وخاذليه من المهاجرين والأنصار وأهل مصر والعراق وكونهم جندا له وأنصارا واختصاصهم به في حربهم منه ومظاهرته لهم بالجميل وقوله فيهم الحسن من الكلام; وترك إنكار ما صنعوه بعثمان والإعراض عنهم في ذلك، والمصيب معهم في جنده إلى ما ذكرناه وشبهوا بذلك على الضعفاء واغتروا به السفهاء وأوهموهم بذلك لظلم عثمان والبراءة من شيء يستحق به ما صنع به القوم من إحصاره وخلعه والمنازعة إلى دمه فأجابهم إلى مرادهم من الفتنة ممن استغووه بما وصفناه وقصدوا البصرة لعلمهم أن جمهور أهلها من شيعة عثمان وأصحاب عامله وابن عمه كان بها وهو عبد الله بن كريز بن عامر وكان ذلك منهم ظاهرا وباطنا بخلافه كما تدل عليه الأخبار ويوضح عن صحة الحكم به الاعتبار.

ألا ترى أن طلحة والزبير وعائشة بإجماع العلماء بالسير والآثار هم الذين كانوا أوكد السبب لخلع عثمان وحصره وقتله وأن أمير المؤمنين عليه السلام لم يزل يدفعهم عن ذلك ويلطف في منعهم عنه ويبذل الجهد في إصلاح حاله مع المنكرين عليه، العائبين له; المحتجين عليه بأفعاله وأحداثه فمن أنكر ما ذكرناه أو شك في شيء مما وصفناه فهو بعيد عن علم الأخبار ناء عن معرفة السير والفتن والآثار ومكابر يحمل نفسه على جحد لا على اضطرار وهذا باب لا يحسن مكالمة الخصوم فيه إلا مع الإنصاف والاطلاع على ما جاءت به الأخبار ومخالطة العلماء من أهل الأخبار في الإسلام وأما من لا معرفة له بالروايات أو منقطع عنها إلى صناعة الكلام أو عامي له غفلة أو مترف مشغول باللذات فلا وجه لمجاراته في هذا الباب وأمثاله طرقه السمع والأخبار وسبيله ملاقاة الخاصة والعلماء والاستفادة مما عندهم من علمه على ما ذكرناه.

- في ندم طلحة والزبير من البيعة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 77، 79:

ندم طلحة والزبير من البيعة: فصل: قد قدمناه من القول فيما كان قد عمد عليه طلحة والزبير في خلاف أمير المؤمنين عليه السلام والمباينة له والتحيز عنه وهو لما كرها ولايته وأنكرا إمرته ولم يؤثرا من الناس بيعته لما كانا عليه من الطمع في الولاية للأمر دونه والتأمر على الناس بذلك وفاتهم منه ما أملاه وندما على إفراطهما فيما صنعاه مع التسخير لهما من الله تعالى في بذل بيعتهما له عليه السلام طوعا واختيارا سنح لهما الاعتلال في تسويغ خلافهما له بدعوى إكراهه لهما على البيعة فتعلقا بذلك وجعلاه حجة لهما في خلافه فظن به تمام الشبهة التي قصداها بعمد الأمر على الجهل فلما وضح لهما تهافت ما اعتمداه من ذلك بظهور اختيارهما لبيعته وإيثارهما لتقدمه عليهما والرضا بإمامته واشتهر ذلك عند الكافة من الخاصة والعامة وعلما أنه لا حجة لهما في دفع الظاهر بدعوى الباطن وأنه لو تم لهما التلبيس بدعوى الكراهة الباطنية لم تتم لهما حجة لأنه لا يسع أحد كراهة بيعة المحق ولا يسوغ لأحد خلاف المهاجرين والأنصار في الرضا بما يجتمعون عليه من الرضا بإمامة المرتضى عليه السلام في ظاهر الحال فكيف بمن يرضى برضاء الله له في الباطن والظاهر على كل حال ولأنهما لم يجدا شبهة يتعلقان بها في كراهة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام مع جمعه للفضل وتقدم الإيمان والذب عن الإسلام والجهاد في الدين والبلاء الحسن مع الرسول والعلم الظاهر الذي لا يختلف فيه اثنان من العلماء مع الزهد في الدنيا والورع عن محارم الله وحسن التدبير وصواب الرأي والرحم الماسة منه برسول الله صلى الله عليه وآلهوما كان سنه فيه من الأمور الدالة على استحقاقه التقدم على كافة الأنام من الأمة فلم يول عليه واليا قط ولا أنفذه في سرية إلا وهو أميرها وسيدها ورئيسها وقائدها وعظيمها وإنه لم يفسد أحد على عهد النبي أمرا إلا ندبه إليه فقوي تلافي فارطه به عليه السلام وكان الأمر إذا أعضل في شيء ناطه به وأنجزه وكفى به وأغناه ورفع إليه من بعده صلى الله عليه وآله من تقدمه في مقامه عند معضل الأمور فاستعلموا منه ما كان خافيا عليهم من أحكام الملة وصواب التدبير في مصالح الأمة فعلم طلحة والزبير أن التعلق في خلافه بكراهة البيعة شبهة داحضة لا يثبت لهما به حجة عند أحد من الفضلاء والعقلاء وإنه لو ثبت ما ادعياه من إكراههما على البيعة لكان أسوء لحالهما عند الأمة ولكان له عليه السلام في حكم الشريعة ذلك إذ للإمام القهر على طاعته والإكراه على الإجابة إلى ما يلزم للأمة كف الفتنة وشمول المصلحة فلما علم الرجلان ذلك ووضح لهما ما ذكرناه في معانيه ولم يكونا ممن يخيل عليهما فساد الدعوى لما ادعياه وقصورهما عن غرضهما فيه: عدلا إلى التظاهر بطلب دم عثمان وزعما أن الذي كان منهما قد بانا منه وادعيا إن التوبة لا تصلح أن تتم لهما إلا ببذل الجهد في طلب قاتليه والاقتصاص من ظالميه فاشتبه الأمر بما سارا إليه مما ذكرناه عنهما على المستضعفين واستغويا به كثيرا من العامة البعداء عن فقه الدين وسلكت عائشة في خلافها لأمير المؤمنين عليه السلام مسلكها في ذلك فتظاهرت به من الطلب بدم عثمان والاقتصاص من قاتله ومعلوم في شريعة المسلمين أن ذلك ليس لهما ولا إليهما وإنهما فيما تكلفاه منه على شبهة باطلة عند الناظرين لأنهما لم يكونا أولياء لدم عثمان ولا بينه وبينهما نسب يسوغهما للتخاصم في دمه.

- في حكم خروج عائشة المرأة وزوجة النبي
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 79، 81:

المرأة والحجاب: ولا إلى النساء أيضا الدخول في شيء من ذلك على وجه من الوجوه إذ ليس عليهن جهاد ولا لهن أمر ولا نهي في البلاد والعباد مع ما خص به الله أزواج النبي في الحكم المضاد ولما صنعته هذه المرأة وتبينت فيه بالخلاف فيه للدين وقص الله تعالى في محكم التنزيل حيث يقول جل اسمه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} وفرض عليهن سبحانه التحصن والتجلبب ولا يتعرفن إلى أحد فجاء بضد ذلك من التبرج وهتك الحجاب وإطراح الجلباب وإظهار الصورة وإبداء الشخص والتهتك بين العامة فيما لا عذر لها فيه مع ما ارتكبته من قتال ولي الله الذي فرض عليها إعظامه وإجلاله وأوجب عليها طاعته وحرم عليها معصيته وسفكت فيما صنعت دماء المؤمنين وأثارت الفتنة التي شانت بها المسلمين وأنى يواطئ ذلك ما أمرها الرسول به في الحديث المشهور دخل ابن أم كلثوم وهو أعمى على النبي صلى الله عليه وآله فقال لها قبل دخوله ادخلي الخباء يا عائشة فاستتري به من هذا الرجل فقالت يا رسول الله إنه أعمى ولن يراني فقال صلى الله عليه وآله إن لم يراك فإنك ترينه.

وقال سبحانه فيما أدب به أصحاب نبيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا}. فبين الله عز اسمه أن خطاب المؤمنين من أصحابه لأزواج نبيه يؤذيه وإن الانبساط لهن يشق عليه ويؤلمه وصانهن لصيانته واحتراسه فنهى أن يأنس بهن أحد أو يسألهن متاعا إلا من وراء حجاب ونهى عن اللبث في بيته بعد نيل الحاجة من طعامه وغير ذلك لئلا يطول مقامهم فيه فتأنس أزواجه بهم أو يأنسون بكلامهن، فكيف هذا يوافق لما فعلته المرأة من مخالطتها للقوم ومسافرتها معهم وإطالة النجوى لهم وكونها بمحمل من لا يحتشم في خطاب ولا كلام ولا أمر ونهي ويؤنس بها في كل حال وتصير بذلك كأمير العسكر وقائد الجيش الذي لا يتمكن من الاستخفاء عن أصحابه بحال وإن هذا لعجيب عند من فكر فيه، والحكم بالعصيان لله عز وجل والإطراح والاستخفاف بنواهيه غير مشكل على كل ذي عقل ومن اشتبه عليه ضلالها فهو يعد من الأموات هذا مع قول الله عز وجل: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وعند كل ذي لب عرف الشرع ودان بالإسلام إن أزواج عثمان وبناته وبنات عمه من بني أمية الذين هم أمس رحما من عائشة لو كلفن ما تكلفن للقتال وإن كن عاصيات خارجات عن شريف الإسلام فما ظنك بالبعيدة نسبا النائية عنه عقلا ومذهبا المقرفة على قتله الساعية في دمه الداعية إلى خلعه المانعة عن نصرته وما الذي أحدثه بعد إنكارها عليه مما يوجب رجوعها عما كانت عليه معتقدة فهل تراه أحدث عملا صالحا بعد قتله أو أحياه الله لها فسألها نصرته أم أوحى الله إليها من باطن أمره ما كان مستورا عنها، كلا. لكن الأمر فيما قصدته من حرب أمير المؤمنين عليه السلام وتظاهرت عليه به من عداوته كان أظهر من أن تخفيه بالعلل والأباطيل وقد أجمع أهل النقل عنها على ما ذكرناه في باطن الأمر وأوضحناه في وجوه الحجاج وبيناه.

- عائشة كانت تبغض عليا وتمقته
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 81، 85:

عائشة تبغض عليا: فصل: فمن ذلك ما رواه كافة العلماء عنها إنها كانت تقول: لم يزل بيني وبين علي من التباعد ما يكون بين بنت الإحماء، وقالت في خبرها عن قصة الذين رموها بصفوان بن المعطل وما كان منها في غزوة بني المصطلق وهجر رسول الله لها وإعراضه عنها واستشارته في أسامة بن  زيد قالت وكان عبدا صالحا مؤمنا وذكر له قذف القوم بصفوان فقال له أسامة لا تظن يا رسول الله إلا خيرا فإن المرأة مأمونة وصفوان عبد صالح ثم استشار عليا عليه السلام فقال له يا رسول الله النساء عليك كثيرة سل عن الخبر بريرة خادمتها وابحث عن سر خبرها منها فقال له رسول الله فتول أنت يا علي تقريرها فقطع لها علي عليه السلام خشبا من النخل وخلا بها يسألها ويتهددها ويرهبها لا جرم إني لا أحب عليا أبدا. فهذا تصريح منها ببغضها له ومقتها إياه ولم يكن منه ذلك عليه السلام إلا النصيحة لله ولرسوله واجتهاده في الرأي ونصحه وامتثاله لأمر النبي صلى الله عليه وآله ومسارعته لطاعته.

ومن ذلك ما رواه كافة العلماء من حديث عكرمة وابن عباس وإن عكرمة أخبره عن حديث حدثته عائشة في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله الذي توفى فيه حتى انتهت من ذلك إلى قولها فخرج رسول الله متوكئا على رجلين من أهل بيته أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر فقال عبد الله بن العباس لعكرمة فلم تسم لك الآخر قال لا والله ما سمته فقال أتدري من هو؟ قال لا، قال ذلك علي بن أبي طالب وما كانت والله أمنا تذكره بخير وهي تستطيع.

والرواية المشهورة عن ابن عباس حين أنفذه أمير المؤمنين عليه السلام إلى عائشة وهي بالبصرة نازلة في قصر ابن خلف يأمرها بالرحيل إلى وطنها والرجوع إلى بيتها والحديث مشهور مثبت في كتب (الجمل) وغيرها أن ابن عباس قال لها إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترتحلي إلى بيتك فقالت رحم الله أمير المؤمنين وإن تربدت له وجوه ورغمت له معاطس، هذا مع الأخبار التي لا ريب فيها ولا مرية في صحتها لاتفاق الرواة عليها أنها لما قتل أمير المؤمنين جاء الناعي فنعى أهل المدينة فلما سمعت عائشة بنعيه استبشرت وقالت متمثلة:

فإن يك ناعيا فلقد نعاه   لنا من ليس في فيه التراب

فقالت لها زينب بنت أبي سلمى ألعلي تقولين؟ فتضاحكت ثم قالت أنسى فإذا نسيت فذكروني ثم خرت ساجدة شكرا على ما بلغها من قتله ورفعت رأسها وهي تقول:

فألقت عصاها واستقر بها النوى   كما قر عينا بالإياب المسافر

هذا وقد روي عن مسروق أنه قال دخلت عليها فاستدعت غلاما باسم عبد الرحمن قالت عبدي قلت لها فكيف سميتيه عبد الرحمن قالت حبا لعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي.

والخبر مشهور أنه لما بعث إليها أمير المؤمنين بالبصرة أن ارتحلي عن هذه البلدة قالت لا أريتم مكاني هذا فقال لها أمير المؤمنين أم والله لترتحلين أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل يأخذنك بشفار حداد فقالت لرسوله ارتحل فبالله أحلف ما كان مكان أبغض إلي من مكان يكون هو فيه.

- غرض من حارب أمير المؤمنين في الجمل لم يكن لإقامة حق واجتهاد ورأي في إصابة طاعة وحوز مثوبة بل كان لضغائن بينه وبينهم لأسباب سالفة وآنفة أو طمع في عاجل أو حسد له وبغي عليه
- الجمل - الشيخ المفيد  ص85:

وأمثال هذا مما لو أثبتناه لطال به الكتاب ومما يؤكد ما ذكرناه من أن غرض القوم كان في مباينة أمير المؤمنين عليه السلام ومظاهرته بالخلاف وأنه لم يكن لإقامة حق واجتهاد ورأي في إصابة طاعة وحوز مثوبة بل كان لضغاين بينه وبينهم لأسباب سالفة وآنفة أو طمع في عاجل أو حسد له وبغي عليه.

- عائشة استبشرت بقتل عثمان
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 85، 90:

عائشة تفرح وتحزن: وإن حكم المرأة لما ذكرناه ظاهر لذوي الاعتبار، وما أجمع على نقله رواة الآثار، ونقلة السير والأخبار أنه لما قتل عثمان بن عفان خرج البغاة إلى الآفاق فلما وصل بعضهم إلى مكة سمعت بذلك عائشة فاستبشرت بقتله وقالت قتلته أعماله إنه أحرق كتاب الله وأمات سنة رسول الله فقتله الله ومن بايع الناس؟ فقال لها الناعي لم أبرح المدينة حتى أخذ طلحة بن عبد الله نعاجا لعثمان وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شك أن الناس قد بايعوه فقالت أي هذا الأصيبع وجدوك لها محسنا وبها كافيا ثم قالت شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي لأتوجه إلى منزلي فلما شدوا رحالها واستوت على مركبها سارت حتى بلغت (سرفا) موضع معروف بهذا الاسم لقيها إبراهيم بن عبيد بن أم كلاب فقالت ما الخبر؟ فقال قتل عثمان، قالت قتل نعثل؟ ثم قالت أخبرني عن قصته وكيف كان أمره؟ فقال لها أحاط الناس بالدار وبه ورأيت طلحة بن عبد الله قد غلب على الأمر واتخذ مفاتيح على بيوت الأموال والخزائن وتهيأ ليبايع له فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره وخرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر رحمه الله حتى أتوا عليا وهو في بيت سكن فيه فقالوا له بايعنا على الطاعة لك فتفكر ساعة فقال الأشتر يا علي أن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس.

قال وكان في الجماعة طلحة والزبير فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي كلام قبل ذلك فقال الأشتر لطلحة قم يا طلحة فبايع ثم قم يا زبير فبايع فما تنتظران فقاما فبايعا وأنا أرى أيديهما على يد علي يصفقانهما ببيعته ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر فتكلم بكلام لا أحفظه إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد فلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم ما جرى بعدي.

فقالت يا أخا بني بكر أنت رأيت طلحة بايع عليا؟ فقلت إي والله رأيته بايعه وما قلت إلا رأيت طلحة والزبير أول من بايعه فقالت إنا لله أكره والله الرجل وغصب علي بن أبي طالب أمرهم وقتل خليفة الله مظلوما ردوا بغالي ردوا بغالي فرجعت إلى مكة.

قال وسرت معها فجعلت تسألني في المسير وجعلت أخبرها ما كان فقالت لي هذا بعهدي وما كنت أظن أن الناس يعدلون عن طلحة مع بلائه يوم أحد قلت فإن كان بالبلاء فصاحبه الذي بويع ذو بلاء وعناء فقالت يا أخا بني بكر لا تسلك غير هذا فإذا دخلت مكة وسألك الناس ما رد أم المؤمنين فقل القيام بدم عثمان والطلب به.

وجاءها يعلى بن منبه فقال لها قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين على قتله فقالت برأت إلى الله ممن قتله. قال الآن; ثم قال لها اظهري البراءة ثانيا من قاتله فخرجت إلى المسجد فجعلت تتبرء ممن قتل عثمان.

وهذا الخبر يصرح مضمونه عما ذكرناه من أنها لم تزل مقيمة على رأيها في استحلالها دم عثمان حتى بلغها أن أمير المؤمنين قد بويع وبايعه طلحة والزبير فقلبت الأمر وأظهرت ضد الذي كانت عليه من الرأي وأنه لو تم الأمر لطلحة لأقامت ما كانت عليه وإن طلحة والزبير كانا في الأول على عثمان وإنما رجعا عنه لما فاتهما مما كانا يأملانه من ذلك ولم يرجعا عنه لما أظهراه من بعد الندم على قتل عثمان والدعاء إلى قتله ولا رجعا عنه استبصارا بضلالة ما كانا يأملانه في ذلك وإن الذي ادعته الحشوية لهم من اجتهاد الرأي باطل ومنحل وإن دعوى المعتزلة في الشبهة عليهما فيما صارا إليه من خلاف أمير المؤمنين عليه السلام ليس بصحيح. بل الحق في ذلك ما ذهبت إليه الشيعة في تعمدها خلافه وأسباب ذلك العداوة له والشنئان مع الطمع في الدنيا والسعي في عاجلها والميل للتأمر على الناس والتملك لأمرهم وبسط اليد عليهم وإن الرجلين خاصة لما أيسا من نيل ما طمعا فيه من الأمر فوجدا الأمة لا تعدل بأمير المؤمنين أحدا وعرفا رأي المهاجرين والأنصار فمن أرادا الحظوة عنده بالبدار إلى بيعته وظنا بذلك شركاه في أمره فلما استويا بالحال من بعد وصح لهما رأيه عليه السلام وتحققا أنهما لا يليان معه أمرا فامتحنا ذلك مع ما غلب في ظنهما مما ذكرناه بأن صارا إليه بعد استقرار الأمر ببيعة المهاجرين والأنصار وبني هاشم وكافة الناس إلا من شذ من بطانة عثمان وكانوا على خفاء لأشخاصهم مخافة على دمائهم من أهل الإيمان فصارا إلى أمير المؤمنين فطلب منه طلحة ولاية العراق وطلب منه الزبير ولاية الشام فأمسك علي عن إجابتهما في شيء من ذلك فانصرفا وهما ساخطان وقد عرفا ما كان غلب في ظنهما قبل من رأيه عليه السلام فتركاه يومين أو ثلاثة أيام ثم صارا إليه واستأذنا عليه فأذن لهما وكان في علية داره فصعدا إليه وجلسا عنده بين يديه وقالا يا أمير المؤمنين قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدة وقد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقا علينا فقال عليه السلام قد عرفتما مالي (بينبع) فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر فقالا لا حاجة لنا في مالك (بينبع) فقال لهما ما أصنع؟ فقالا له أعطنا من بيت المال شيئا لنا فيه كفاية فقال سبحان الله وأي يد لي في بيت المال وذلك للمسلمين وأنا خازنهم وأمين لهم فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت وأنى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم لكني أبدي لكما عذرا فقالا ما كنا بالذي نكلف ذلك ولو كلفناك لما أجابك المسلمون فقال لهما ما أصنع؟ قالا قد سمعنا ما عندك ثم نزلا من العلية وكان في أرض الدار خادمة لأمير المؤمنين سمعتهما يقولان والله ما بايعنا بقلوبنا وإن كنا بايعنا بألسنتنا فقال أمير المؤمنين عليه السلام {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فتركاه يومين آخرين وقد جائهما الخبر بإظهار عائشة بمكة ما أظهرته من كراهة أمره وكراهة من قتل عثمان والدعاء إلى نصره والطلب بدمه وأن عمال عثمان قد هربوا من الأمصار إلى مكة بما احتجبوه من أموال المسلمين ولخوفهم من أمير المؤمنين ومن معه من المهاجرين والأنصار وأن مروان بن الحكم بن عم عثمان ويعلى بن منبه خليفته وعامله كان باليمن وعبد الله بن عامر بن كريز ابن عمه وعامله على البصرة وقد اجتمعوا مع عائشة وهم يدبرون الأمر في الفتنة، فصار إلى أمير المؤمنين عليه السلام وتيمما وقت خلوته فلما دخلا عليه قالا يا أمير المؤمنين قد استأذناك للخروج في العمرة لأنا بعيدان العهد بها إئذن لنا فيها فقال والله ما تريدان العمرة ولكنكما تريدان الغدرة، وإنما تريدان البصرة فقالا اللهم غفرا ما نريد إلا العمرة فقال عليه السلام احلفا لي بالله العظيم إنكما لا تفسدان علي أمر المسلمين ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة فبذلا ألسنتهما بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك فلما خرجا من عنده لقيهما ابن عباس فقال لهما إذن لكما أمير المؤمنين؟ قالا نعم. فدخل على أمير المؤمنين فابتداه عليه السلام فقال يا ابن عباس أعندك الخبر قال قد رأيت طلحة والزبير فقال عليه السلام إنهما استأذناني في العمرة فأذنت لهما بعد أن استوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فسادا والله يا ابن عباس وإني أعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك وسيفسدان هذان الرجلان علي أمري ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري.

قال عبد الله بن عباس إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوما فلم أذنت لهما وهلا حبستهما وأوثقتهما بالحديد وكفيت المسلمين شرهما. فقال له صلى الله عليه وآله يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدأ وبالسيئة قبل الحسنة وأعاقب على الظنة والتهمة وأواخذ بالفعل قبل كونه، كلا والله لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل ولا ابتدأ بالفصل. يا ابن عباس إنني أذنت لهما وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما ولا يلقيان من الأمر مناهما وأن الله يأخذهما بظلمهما لي ونكثهما بيعتي وبغيهما علي.

وهذا الخبر والذي تقدم مع ما ذكرناه من وجودهما في أثر مصنفات أصحاب السيرة وقد أورده أبو مخنف لوط بن يحيى في كتابه الذي صنفه في حرب الجمل وجاء به الثقفي عن رجال الكوفيين، والشاميين، وغيرهم ولم يورد أحد من أصحاب الآثار نقيضه في معناه ولا ثبت ضده في فحواه، ومن تأمل ذلك علم أن القوم لم يكونوا فيما صنعوه على جميل طوية في الدين ولا للمسلمين، وإن الذي أظهروه من الطلب بدم عثمان إنما كان تشبيها وتلبيسا، على العامة والمستضعفين ولولا ما جعلوه من شعارهم بدعوى الانتصار بعثمان، والتظاهر بتظليم قاتليه وخاذليه والندم على ما فرط منهم فيه لما اختلف اثنان من العلماء وأتباعهم في صواب رأي المسلمين مما كان في عثمان وأنهم إنما اجتمعوا على خلعه وقتله باستحقاقه ذلك بالأحداث التي أحدثها في الدين ولكنهم ضلوا بما أظهروه وأفسدوا إفسادا عظيما بما أظهروه، ولم يثر المستضعفين في هذا الباب إلا لنأيهم عن معرفة الأخبار وتدبر الآثار واشتبه الأمر فيه على جماعة النظار بجهلهم بما أثبتناه في ذلك من الحديث، وبعدهم عن معرفة طرقه. ولعل جمهورهم لم يسمع بشيء منه فضلا عن تدبره وكل من ضل عن سبيل الحق إنما ضل بالتقليد، وحسن الظن بمن لا يحسب حسن الظن لله فيه واعتقاد فضل من قد خرج عنه بسوء الرأي، وطريق الإنصاف، فيما ذكرناه والنظر فيما وصفناه والتأمل لما أثبتناه من الأخبار فيه وشرحناه والرجوع إلى أهل السير وإلى اختلافهم في الآراء والمذهب وإلى كتبهم المصنفة في الفتن تعرف ذلك منهما ومن تدبر الأمر يجده على ما وصفناه والله ولي التوفيق.

- فتنة أصحاب البصرة في تدبيرهم فتنة الجمل والاجتماع منهم على العمل عليها وما جاءت به الأخبار المتضافرة في ذلك
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 119، 125:

فتنة الجمل: باب الخبر عند ابتداء فتنة أصحاب البصرة في تدبيرها والاجتماع منهم على العمل عليها وما جاءت به الأخبار المتظافرة في ذلك

قد أسلفنا القول في أسباب هذه الفتنة والدواعي إليها والأغراض التي كانت فيها وذكرنا من براهين الحق على ما أصلناه من المذهب الصحيح في ذلك وإبطال شبهات الضالين فيه ونحن نبدأ بشرح القصة في ابتداء أمر أصحاب الفتنة، وما عملوا عليه فيها وتجدد من رأيهم في تدبيرها حسبما جاءت به الأخبار المستفيضة بين العلماء بالسير والحوادث المشهورة.

فصل: لما تم أمر البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام واتفق على طاعته كافة بني هاشم ووجوه المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأيس طلحة والزبير مما كانا يرجوان به من قتل عثمان بن عفان من البيعة لأحدهما بالإمامة وتحققت عائشة بنت أبي بكر تمام الأمر لعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين واجتماع الناس عليه وعدو لهم عن طلحة والزبير وعلمت أنه لا مقام لهما بالمدينة بعد خيبتهما مما أملاه من الأمر وعرف عمال عثمان أن أمير المؤمنين لا يقرهم على ولاياتهم وأنهم إن ثبتوا في أماكنهم أو صاروا إليه طالبهم الخروج مما في أيديهم من أموال الله عز وجل وحذروا من عقابه على تورطهم في خيانة المسلمين وتكبرهم على المؤمنين واستحقاقهم بحقوق المتقين واجتبائهم الفجرة الفاسقين عمل كل فريق منهم على التحرز منه واحتال في الكيد له واجتهد في تفريق الناس عنه فسار القوم من كل مكان إلى مكة استعاذة بها وسكنوا إلى ذلك المكان وعائشة بها وطمعوا في تمام كيدهم لأمير المؤمنين للحيز إليها والتمويه على الناس بها وكانت عائشة يقدرها كثير من الناس لمكانها من النبي صلى الله عليه وآله وأنها من أمهات المؤمنين وابنة أبي بكر المعظم عند الجمهور وإن كل عدو لعلي بن أبي طالب عليه السلام يلتجأ إليها متى أظهرت المباينة له ودعت إلى حربه وإفساد أمره فلما تواترت الأخبار عليها وهي بمكة وتحيزها عن عثمان لقتل المسلمين له قبل أن تعرف ما كان من أمر المسلمين بعده عمدت على التوجه إلى المدينة راجية بتمام الأمر بعد عثمان لطلحة والزبير زوج أختها فلما صارت ببعض الطريق لقيت الناعي لعثمان فاستبشرت بنعيه له وما كان من أمر الناس في اجتماعهم على قتله ثم استخبرت عن الحال بعده فأخبرت أن البيعة تمت لأمير المؤمنين بعده وأن المهاجرين والتابعين لهم بإحسان وكافة أهل الإيمان اجتمعوا على تقديمه والرضاء به فساءها ذلك وأحزنها وأظهرت الندم على ما كان منها في التأليب على عثمان والكراهة لتمام الأمر لعلي بن أبي طالب فأسرعت راجعة إلى مكة فابتدأت بالحجر فتسترت فيه ونادى مناديها باجتماع الناس إليها فلما اجتمعوا تكلمت من وراء الستر تدعو إلى نصرة عثمان وتنعاه إلى الناس وتبكيه وتشهد أنه قتل مظلوما وجاءها عبد الله بن الحضرمي عامل عثمان على مكة فقال قرت عينك قتل عثمان وبلغت ما أردت من أمره فقالت سبحان الله أنا طلبت قتله إنما كنت عاتبة عليه من شيء أرضاني فيه قتل عثمان والله من عثمان بن عفان خيرا منه وأرضى عند الله وعند المسلمين والله ما زال قاتله -تعني أمير المؤمنين عليه السلام- مؤخرا منذ بعث محمد صلى الله عليه وآله وبعد أن توفي عدل عنه الناس إلى الخيرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ولا يرونه أهلا للأمر ولكنه رجل يحب الإمرة والله لا تجتمع عليه ولا على أحد من ولده إلى قيام الساعة.

ثم قالت: معاشر المسلمين إن عثمان قتل مظلوما ولقد قتل عثمان من إصبع عثمان خير منه وجعلت تحرض الناس على خلاف أمير المؤمنين وتحثهم على نقض عهده ولحق إلى مكة جماعة من منافقي قريش وصار إليها عمال عثمان الذين هربوا من أمير المؤمنين ولحق بها عبد الله بن عمر بن الخطاب وأخوه عبيد الله ومروان بن الحكم بن أبي العاص وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أمية وانحازوا إليها وجعلوها الملجأ لهم في ما دبروه من كيد أمير المؤمنين عليه السلام وجعل كل من ينحاز عن أمير المؤمنين حسدا له وبغضا أو شانئا له أو خوفا من استيفاء الحقوق عليه أو لإثارة فتنة أو أدغال في الملة ينضم إليها وهي على حالتها وسنتها تنعى إليهم عثمان وتبرء من قاتله وتشهد له بالعدم والإحسان وتخبر أنه قتل مظلوما وتحث الناس على فراق أمير المؤمنين والاجتماع على خلعه ولما عرف طلحة والزبير حالها وحال القوم عمدا على اللحاق بها والتعاضد على شقاق أمير المؤمنين فاستأذناه في العمرة على ما قدمناه وذكرنا الخبر في معناه وشرحناه وسارا إلى مكة خالعين الطاعة ومفارقين للجماعة فلما ورد إليهما فيمن تبعهما من أولادهما وخاصتهما وخالصتهما طافا في البيت طواف العمرة وسعيا بين الصفا والمروة وبعثا إلى عائشة عبد الله بن الزبير وقالا له امض إلى خالتك فاهد إليها السلام منا وقل لها إن طلحة والزبير يقرءاك السلام ويقولان لك إن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما وأن علي بن أبي طالب ابتز الناس أمرهم وغلبهم عليه بالسفهاء الذين تولوا قتل عثمان ونحن نخاف انتشار الأمر به فإن رأيت أن تسيري معنا لعل الله يرتق بك فتق هذه الأمة ويشعب بك صدعهم ويلم بك شعثهم ويصلح بك أمورهم فأتاها عبد الله فبلغها ما أرسلاه به فأظهرت الامتناع من إجابتها إلى الخروج عن مكة. وقالت يا بني لم أمر بالخروج لكني رجعت إلى مكة لأعلم الناس ما فعل بعثمان إمامهم وأنه أعطاهم التوبة فقتلوه تقيا نقيا بريا فيرون في ذلك رأيهم ويثيرون على من أبقرهم أمرهم وغصبهم أمرهم من غير مشورة من المسلمين ولا مؤامرة بتكبر وتجبر ويظن أن الناس يرون له حقا كما كانوا يرونه لغيره هيهات هيهات يظن ابن أبي طالب يكون في هذا الأمر كابن أبي قحافة لا والله ومن في الناس مثل ابن أبي قحافة تخضع إليه الرقاب ويلقى إليه المنقاد وليها والله ابن أبي قحافة وخرج منها كما دخل ثم وليها أخو بني عدي فسلك طريقه ثم مضيا فوليها ابن عفان فركبها رجل له سابقة ومصاهرة لرسول الله وأفعال مع النبي مذكورة لا يعمل أحد من الصحابة مثلما عمله في ذات الله وكان محبا لقومه فمال بعض الميل فاستتبناه فتاب ثم قتل فيحق للمسلمين أن يطلبوا بدمه فقال لها عبد الله فإذا كان هذا قولك في علي يا أمه ورأيك في قاتلي عثمان فما الذي يقعدك عن المساعدة على جهاد ابن أبي طالب وقد حضرك من المسلمين من فيه غنى وكفاية فيما تريدين فقالت يا بني أفكر فيما قلت وترجع إلي فرجع عبد الله إلى طلحة والزبير بالخبر. فقالا قد أجابت أمنا والحمد لله إلى ما نريد ثم قالا له باكرها في غد فذكرها أمر المسلمين واعلمها إنا قاصدان إليها لنجدد بها عهدا ونحكم معها عقدا فباكرها عبد الله وأعاد عليها بعض ما أسلفه من القول إليها فأجابته إلى الخروج ونادى مناديها أن أم المؤمنين تريد أن تخرج تطلب بدم عثمان فمن كان يريد أن يخرج فليتهيأ للخروج معها وصار إليها طلحة فلما أبصرت به قالت يا أبا محمد قتلت عثمان وبايعت عليا فقال يا أمه ما مثلي إلا كما قال الأول:

ندمت ندامة الكسعى لما  *  رأت عيناه ما صنعت يداه

وجاءها الزبير فسلم عليها فقالت له يا أبا عبد الله اشتركت في دم عثمان ثم بايعت لعلي وأنت والله أحق بالأمر منه فقال لها الزبير أما ما صنعت مع عثمان فقد ندمت منه وهربت إلى ربي من ذنبي من ذلك ولن أترك الطلب بدم عثمان والله ما بايعت عليا إلا مكرها التفت به السفهاء من أهل مصر والعراق واستلوا سيوفهم وأخافوا الناس حتى بايعوه وصار إلى مكة عبد الله ابن أبي ربيعة وكان عامل عثمان على صنعاء فدخلها وقد انكسر فخذه وكان سبب ذلك ما رواه الواقدي عن رجاله أنه لما اتصل بابن ربيعة حصر الناس لعثمان أقبل سريعا لنصرته فلقيه صفوان بن أمية وهو على فرس يجري وعبد الله بن أبي ربيعة على بغل فدنا منها الفرس فحادت فطرحت ابن أبي ربيعة وكسرت فخذه وعرف أن الناس قد قتلوا عثمان فصار إلى مكة بعد الظهر فوجد عائشة يومئذ بها تدعو إلى الخروج لطلب دم عثمان فأمر بسرير فوضع له سرير في المسجد ثم حمل ووضع عليه وقال للناس من خرج لطلب دم عثمان فعلى جهازه فجهز ناسا كثيرا ولم يستطع الخروج معهم لما كان برجله.

وروى عبد الله بن السائب قال رأيت عبد الله بن أبي ربيعة على سرير في المسجد يحرض الناس على الخروج في طلب دم عثمان ويحمل من جاء وكان يعلى بن منبه التميمي حليف بني نوفل عاملا لعثمان على الجند فوافى الحج ذلك العام فلما بلغه قول ابن أبي ربيعة خرج من داره وقال أيها الناس من خرج لطلب دم عثمان فعلي جهازه وكان قد صحب ابن أبي ربيعة مالا جزيلا فأنفقه في جهاز الناس إلى البصرة.

وروى الواقدي قال حدثني سالم بن عبد الله عن أبيه عن جده قال سمعت يعلى بن منبه يقول وهو مشتمل بصرة فيها عشرة آلاف دينار وهي عين مالي أقوي من طلب بدم عثمان فجعل يعطي الناس واشترى أربعمائة بعير وأناخها بالبطحاء وحمل عليها الرجال.

ولما اتصل بأمير المؤمنين عليه السلام خبر ابن أبي ربيعة وابن منبه وما بذلاه من المال في شقاقه والإفساد عليه قال والله إن ظفرت بابن منبه وابن أبي ربيعي لأجعلن أموالهما في سبيل الله، ثم قال بلغني إن ابن منبه بذل عشرة آلاف دينار في حربي من أين له عشرة آلاف دينار؟ سرقها من اليمن ثم جاء بها لئن وجدته لأخذته بما أقر به فلما كان يوم الجمل وانكشف الناس هرب يعلى بن منبه ولما رأت عائشة اجتماع من اجتمع بمكة إليها من مخالفة علي والمباينة له والطاعة لها في حربه تأهبت للخروج وكانت في كل يوم تقيم مناديها ينادي بالتأهب للخروج وكان المنادي ينادي فيقول من كان يريد المسير فليسر فإن أم المؤمنين سائرة إلى البصرة تطلب بدم عثمان بن عفان المظلوم.

وروى الواقدي عن أفلح بن سعيد عن يزيد بن زياد عن عبد الله ابن أبي رافع عن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله قالت كنت مقيمة بمكة تلك السنة حتى دخل المحرم فلم أر إلا رسول طلحة والزبير جاءني عنهما يقول إن أم المؤمنين عائشة تريد أن تخرج للطلب بدم عثمان فلو خرجت معها رجونا أن يصلح بكما فتق هذه الأمة فأرسلت إليهما والله ما بهذا أمرت ولا عائشة لقد أمرنا الله أن نقر في بيوتنا لا نخرج للحرب أو للقتال مع أن أولياء عثمان غيرنا والله لا يجوز لنا عفو ولا صلح ولا قصاص وما ذاك إلا لولد عثمان وأخرى نقاتل علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ذو البلاء والعناء وأولى الناس بهذا الأمر والله ما أنصفتما رسول الله في نسائه حيث تخرجوهن إلى العراق وتتركوا نساءكم في بيوتكم ثم أرسلت إلى عائشة فنهتها أشد النهي عن طلحة والزبير في الخروج لقتال علي عليه السلام وذكرتها أمورا تعرفها وقالت لها أنشدك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لك اتق الله واحذري أن تنبحك كلاب الحوأب فقالت نعم وردعتها بعض الردع ثم رجعت إلى رأيها في المسير.

- مؤامرة الناكثين على أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 125، 126:

مؤامرة الناكثين: فصل: فلما تحقق عزم القوم على المسير إلى البصرة وظهر تأهبهم لذلك اجتمع طلحة والزبير وعائشة وخواصهم من قومهم وبطانتهم وقالوا نحب أن نسرع النهضة إلى البصرة فإن بها شيعة عثمان وأنصاره وعامله عبد الله بن عامر وهو قريبه ونسيبه وقد عمل على استعداد الجنود من فارس وبلاد المشرق لمعونته على الطلب بدم عثمان وقد كاتبنا معاوية بن أبي سفيان أن ينفذ لنا الجند من الشام فإن أبطئنا عن الخروج خفنا أن يدهمنا علي عليه السلام بمكة أو في بعض الطريق فيمن يرى رأيه في عداوة عثمان خوفا من أن يفرق كلمتنا وإذا أسرعنا المسير إلى البصرة وأخرجنا عامله منها وقتلنا شيعته بها واستعنا بأمواله منها كنا على الثقة من الظفر بابن أبي طالب وإن أقام بالمدينة سيرنا إليه جنودا حتى نحصره فيخلع نفسه أو نقتله كما قتل عثمان وإن سار فهو كالئ ونحن جامون وهو على ظاهر البصرة ونحن بها متحصنون فلا يطول الزمان إلا بفل جموعه وإهلاك نفسه أو إراحة المسلمين من فتنته.

- أم سلمة حذرت عائشة من الخروج لقتال أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 126، 128:

أم سلمة تحذر عائشة: وبلغ أم سلمة اجتماع القوم وما خاضوا فيه فبكت حتى اخضل خمارها ثم أدنت ثيابها فلبستها ومشت إلى عائشة لتعظها وتصدها عن رأيها في مظاهرة أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة وتقعدها عن الخروج مع القوم فلما صارت إليها قالت إنك عدة رسول الله بين أمته وحجابك مضروب على حرمته وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبدنيه وأملك خفرك فلا تضحيها الله الله من وراء هذه الآية قد علم رسول الله مكانك لو أراد أن يعهد إليك لفعل بل نهاك عن الفرط في البلاء وإن عمود الدين لا يقام بالنساء إن انثلم ولا يشعب بهن إن انصدع فصدع النساء غض الأطراف وحف الأعطاف وقصر الوهادة وضم الذيول وما كنت قائلة لو أن رسول الله عارضك ببعض الفلاة ناصة قلوصا من منهل إلى آخر قد هتكت صداقته وتركت عهدته أن يغير الله بك لهواك على رسول الله أتدرين والله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحيت أن ألقى رسول  الله صلى الله عليه وآله هاتكة حجابا قد ستره علي اجعلي حصنك بيتك وقاعة البيت قبرك حتى تلقينه وأنت على ذلك أطوع ما تكوني له ما لزمتيه وانظري بنوع الدين ما حلت عنه. فقالت لها ما أعرفني بوعظك واقبلني لنصحك ولنعم المسير مسير فزعت إليه وأنا بين سائرة ومتأخرة فإن أقعد فمن غير جزع وإن أسير فإلى ما لا بد من الازدياد منه.

فلما رأت أم سلمة أن عائشة لا تمتنع عن الخروج عادت إلى مكانها وبعثت إلى رهط من المهاجر بن والأنصار قالت لهم لقد قتل عثمان بحضرتكم وكانا هذان الرجلان أعني طلحة والزبير يشيعان عليه كما رأيتم فلما قضى أمره بايعا عليا وقد خرجا الآن عليه زعما أنهما يطلبان بدم عثمان ويريدان أن يخرجا حبيسة رسول الله معهم وقد عهد إلى جميع نسائه عهدا واحدا أن يقرن في بيوتهن فإن كان مع عائشة عهد سوى ذلك تظهره وتخرجه إلينا نعرفه فاتقوا الله عباد الله فإنا نأمركم بتقوى الله والاعتصام بحبله والله ولي لنا ولكم.

فشق كثيرا على طلحة والزبير عند سماع هذا القول من أم سلمة ثم أنفذت أم سلمة إلى عائشة فقالت لها وقد وعظتك فلم تتعظي وقد كنت أعرف رأيك في عثمان وإنه لو طلب منك شربة ماء لمنعتيه ثم أنت اليوم تقولين إنه قتل مظلوما وتريدين أن تثيري لقتال أولى الناس بهذا الأمر قديما وحديثا فاتق الله حق تقاته ولا تعرضي لسخطه فأرسلت إليها عائشة أما ما كنت تعرفيه من رأيي في عثمان فقد كان ولا أجد مخرجا منه إلا الطلب بدمه وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس فإن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف حتى يقضي الله ما هو قاض فأنفذت إليها أم سلمة أما أنا فغير واعظة لك من بعد ولا مكلمة لك جهدي وطاقتي والله إني لخائفة عليك البوار ثم النار والله ليخيبن ظنك ولينصرن الله ابن أبي طالب على من بغى وستعرفين عاقبة ما أقول والسلام.

- مجاهدة أمير المؤمنين للناكثين في فتنة الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 128، 131:

علي يجاهد الناكثين: فصل: ولما اجتمع القوم على ما ذكرناه من شقاق أمير المؤمنين والتأهب للمسير إلى البصرة واتصل الخبر إليه وجاءه كتاب يخبره بخبر القوم دعا ابن عباس ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وسهل بن حنيف وأخبرهم بذلك وبما عليه القوم من المسير فقال محمد بن أبي بكر ما يريدون يا أمير المؤمنين؟ فتبسم عليه السلام وقال يطلبون بدم عثمان فقال محمد والله ما قتله غيرهم ثم قال علي أشيروا علي بما أسمع منكم القول فيه فقال عمار الرأي أن نسير إلى الكوفة فإن أهلها لنا شيعة وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة وقال ابن عباس الرأي عندي يا أمير المؤمنين أن نقدم رجالا إلى الكوفة فيبايعوا لك وتكتب إلى الأشعري أن يبايع لك ثم بعده المسير حتى نلحق بالكوفة فنعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة وتكتب إلى أم سلمة فتخرج معك فإنها لك قوة فقال أمير المؤمنين بل أنهض بنفسي ومن معي في اتباع الطريق وراء القوم فإن أدركتهم بالطريق أخذتهم وإن فاتوني كتبت إلى الكوفة واستمددت الجند من الأمصار وسرت إليهم.

وأما أم سلمة فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما رأى الرجلان إخراج عائشة فبينما هم في ذلك إذ دخل عليهم أسامة بن زيد وقال لأمير المؤمنين فداك أبي وأمي لا تسر وحدك وانطلق إلى ينبع وخلف على المدينة رجلا وأقم بمالك فإن العرب لهم جولة ثم يصيرون إليك.

فقال له ابن عباس إن هذا القول منك يا أسامة على غير غل في صدرك فقد أخطأت وجه الرأي منه ليس هذا برأي (بعير يكون والله كهيئة الضبع في مغارتها) فقال أسامة فما الرأي قال ما أشرت به إليه وما رأى أمير المؤمنين لنفسه.

ثم نادى أمير المؤمنين عليه السلام في الناس تجهزوا للسير فإن طلحة والزبير قد نكثا البيعة ونقضا العهد وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة وسفك دماء أهل القبلة ثم رفع يديه إلى السماء فقال اللهم إن هذين الرجلين قد بغيا علي ونكثا عهدي ونقضا عقدي وشاقاني بغير حق سومهما ذلك اللهم خذهما بظلمهما واظفرني بهما وانصرني عليهما ثم خرج في سبعمائة رجل من المهاجرين والأنصار واستخلف على المدينة تمام بن عباس وبعث قثم بن عباس إلى مكة. ولما رأى أمير المؤمنين المسير طالبا للقوم ركب جملا أحمر وراجزه يقول:

سيروا أبابيل وحثوا السيرا  *  كي تلحقوا طلحة والزبيرا

إذ جلبا شرا وعافا خيرا  *  يا رب أدخلهم غدا سعيرا

وسار مجدا في السير حتى بلغ (الربذة) فوجد القوم قد فاتوا فنزل بها قليلا ثم توجه نحو البصرة والمهاجرون والأنصار عن يمينه وشماله محدقون به مع من سمع بمسيرهم فأتبعهم حتى نزل (بذي قار) فأقام بها.

كتاب علي إلى أبي موسى الأشعري:

ثم دعا هاشم بن عتبة المرقال وكتب معه كتابا إلى أبي موسى الأشعري وكان بالكوفة من قبل عثمان أن يوصل الكتاب إليه ليستنفر الناس منها إلى الجهاد معه وكان مضمون الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم: من علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس: أما بعد فإني أرسلت إليك هاشم بن عتبة المرقال لتشخص معه من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي وأحدثوا في هذه الأمة الحدث العظيم فأشخص الناس إلي معه حين يقدم بالكتاب عليك فلا تحبسه فإني لم أقرك في المصر الذي أنت فيه إلا أن تكون من أعواني وأنصاري على هذا الأمر والسلام.

فقدم هاشم بالكتاب على أبي موسى الأشعري فأقرأه الكتاب وقال له ما ترى فقال له أبو السائب اتبع ما كتب به إليك فأبى أبو موسى ذلك وكسر الكتاب ومحاه وبعث إلى هاشم بن عتبة يخوفه ويتوعده بالسجن فقال السائب بن مالك فأتيت هاشما فأخبرته بأمر أبي موسى.

فكتب هاشم إلى أمير المؤمنين. أما بعد: يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على أمرء شاق عاق بعيد الرحم ظاهر الغل والشقاق وقد بعثت إليك بهذا الكتاب مع المحل ابن خليفة الطائي وهو من شيعتك وأنصارك وعنده علم ما قبلنا فاسأله عما بدا لك واكتب إلي برأيك أتبعه والسلام. فلما قدم الكتاب إلى علي عليه السلام وقرأه دعا الحسن ابنه وعمار بن ياسر وقيس بن سعد وبعثهم إلى أبي موسى وكتب معهم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد: يا ابن الحايك والله إني كنت لا أرى بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلا ولا جعل لك فيه نصيبا وقد بعثت لك الحسن وعمارا وقيسا فأخل لهم المصر وأهله واعتزل عملنا مذموما مدحورا فإن فعلت وإلا أمرتهم أن ينابذوك على سواء إن الله لا يحب الخائنين فإن أظهروا عليك قطعوك إربا إربا والسلام على من شكر النعم ورضي البيعة وعمل لله رجاء العاقبة.

- كتاب أمير المؤمنين لأهل الكوفة
- خطبة الإمام الحسن وعمار وقيس بأهل الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 131، 133:

كتاب علي إلى أهل الكوفة: فلما قدم الحسن وعمار وقيس الكوفة مستنفرين لأهلها وكان في كتابه معهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من علي بن أبي طالب إلى أهل الكوفة أما بعد فإني أخبركم من أمر عثمان حتى يكون أمره كالعيان لكم إن الناس طعنوا عليه فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه وأقل عتابه وكان طلحة والزبير أهون سيرهما إليه الوجيف وقد كان من عائشة فيه فلتة غضب فلما قتله الناس وبايعاني غير مستنكرين طائعين مختارين وكان طلحة والزبير أول من بايعني على ما بايعا به من كان قبلي ثم استأذناني في العمرة ولم يكونا يريدان العمرة فنقضا العهد وأذنا في الحرب وأخرجا عائشة من بيتها يتخذانها فتنة فسارا إلى البصرة واخترت السير إليهم معكم ولعمري إياي تجيبون إنما تجيبون الله ورسوله، والله ما قاتلتهم وفي نفسي شك وقد بعثت إليكم ولدي الحسن وعمارا وقيسا مستنفرين لكم فكونوا عند ظني بكم والسلام.

خطبة الحسن وعمار وقيس بالكوفة: ولما نزل الحسن عليه السلام وعمار وقيس الكوفة ومعهم كتاب أمير المؤمنين عليه السلام قام فيهم الحسن عليه السلام فقال: أيها الناس قد كان من أمير المؤمنين عليه السلام ما يكفيكم جملته وقد أتيناكم مستنفرين لكم لأنكم جبهة الأنصار وسنام العرب وقد نقضا طلحة والزبير بيعتهما وخرجا بعائشة وهي من النساء وضعف رأيهن كما قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} أما والله لئن لم تنصروه لينصرنه الله يتبعه من المهاجرين والأنصار وسائر الناس فانصروا ربكم ينصركم.

ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا أهل الكوفة إن كانت هانت عندكم الدنيا فقد انتهت إليكم أمورنا وأخبارنا أن قاتلي عثمان لا يعتذرون إلى الناس من قتله وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجيهم فيه وقد كان طلحة والزبير أول من طعن عليه وأول من أمر بقتله وسعى في دمه فلما قتل بايعا عليا طوعا واختيارا ثم نكثا على غير حدث كان منه وهذا ابن رسول الله وقد عرفتم إنه أنفذه إليكم يستنفركم وقد اصطفاكم على المهاجرين والأنصار.

ثم قام قيس بن سعد فقال: أيها الناس إن هذا الأمر لو استقبلنا به أهل الشورى لكان علي أحق الناس به لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وآله وكان قتال من أبى ذلك حلالا فكيف بالحجة على طلحة والزبير وقد بايعاه طوعا ثم خلعا حسدا وبغيا وقد جاءكم علي في المهاجرين والأنصار ثم أنشأ يقول:

رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا  *  عليا وأبناء الرسول محمد

وقلنا لهم أهلا وسهلا ومرحبا  *  نمد يدينا من هدى وتودد

فما للزبير الناقض العهد حرمة  *  ولا لأخيه طلحة فيه من يد

أتاكم سليل المصطفى ووصيه  *  وأنتم بحمد الله عارضة الندي

فمن قائم يرجى بخيل إلى الوغى  *  وضم العوالي والصفيح المهند

يسود من أدناه غير مدافع  *  وإن كان ما نقضيه غير مسود

فإن يك ما نهوى فذاك نريده  *  وإن نخط ما نهوى فغير تعمد

- خطبة أبي موسى الأشعري في أهل الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 134:

خطبة أبي موسى الأشعري: فلما فرغ القوم من كلامهم قام أبو موسى الأشعري فقال: أيها الناس إن تطيعوا الله باديا وتطيعوني ثانيا تكونوا جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المضطر ويأمن فيكم الخائف أن عليا إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير حواري رسول الله ومن معهم من المسلمين وأنا أعلم بهذه الفتن أنها إذا أقبلت شبهت وإن أدبرت أسفرت وإن هذه الفتنة نافذة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب وتشتبك أحيانا فلا ندري ما تأتي أشيموا سيوفكم وقصروا رماحكم وقطعوا أوتاركم والزموا البيوت خلوا قريشا إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم بالإمرة وترتق فتقها وتشعب صدعها فإن فعلت فلنفسها وإن أبت فعليها ما جنت سمها في أديمها استنصحوني ولا تستشفوني يسلم لكم دينكم ودنياكم ويشقى بهذه الفتنة من جناها.

- نهضة زيد وأصحابه في وجه أبي موسى الأشعري وحث أهل الكوفة على نصرة أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 134، 135:

نهضة زيد وأصحابه: فقام زيد بن صوحان وكانت يده قطعت يوم جلولاء ثم قال: يا أبا موسى تريد أن ترد الفرات عن أدراجه أنه لا يرجع من حيث بدا فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد ويلك {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}، ثم قال: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين وأطيعوا ابن سيد المرسلين وانفروا إليه أجمعون تصيبوا الحق وتظفروا بالرشد قد والله نصحتكم فاتبعوا رأيي ترشدون.

ثم قام عبد خير وقال لأبي موسى أخبرني يا أبا موسى هل كانا هذان الرجلان بايعا لعلي فيما بلغك وعرفت؟ قال نعم، قال فهل جاء علي عليه السلام بحدث يحل عقدة بيعته حتى ترد بيعته كما ردت بيعة عثمان؟ قال أبو موسى لا أعلم قال له عبد خير لا دريت نحن غير تاركيك حتى تدري حينئذ خبرني يا أبا موسى هل تعلم أحدا خارجا من هذه الفتنة التي تزعم أنها عمياء تحذر الناس منها؟ أما تعلم أنها أربع فرق: علي عليه السلام يظهر بالكوفة وطلحة والزبير بالبصرة ومعاوية بالشام وفرقة أخرى بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو.

فقال أبو موسى الفرقة القاعدة عن القتال خير الناس، فقال عبد خير غلبك عليك غشك يا أبا موسى  فقام رجل من بجيلة فقال شعرا:

وحاجك عبد خير يا بن قيس  *  فأنت اليوم كالشاة الربيض

فلا حقا أصبت ولا ضلالا  *  فأنت اليوم تهوى بالحضيض

أبا موسى نظرت برأي سوء  *  تؤول به إلى قلب مريض

وتهت فليس تفرق بين خير  *  ولا شر ولا سود وبيض

وتذكر فتنة شملت وفيها  *  سقطت وأنت ترزح بالجريض

- مالك الأشتر في الكوفة لحث الناس لنصرة أمير المؤمنين والوقوف بوجه أبي موسى الأشعري
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 136:

قال وبلغ أمير المؤمنين ما كان من أمر أبي موسى وتخذيله الناس عن نصرته فقام إليه مالك الأشتر رحمه الله فقال يا أمير المؤمنين إنك قد بعثت إلى الكوفة رجلا قبل هذين فلم أره أحكم شيئا وهذان أخلق من بعثت أن ينشب بهم الأمر على غير ما تحب ولست أدري ما يكون فإن رأيت جعلت فداك أن تبعثني في أثرهم فإن أهل الكوفة أحسن لي طاعة وإن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم فقال أمير المؤمنين عليه السلام الحق بهم على اسم الله فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة وقد اجتمع الناس بالمسجد الأعظم فأخذ لا يمر بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم وقال لهم اتبعوني إلى القصر فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس فاقتحم القصر وأبو موسى في المسجد الأعظم يخطب الناس ويثبطهم عن نصرة علي عليه السلام وهو يقول أيها الناس هذه فتنة عمياء تطأ خطامها النائم فيها خير من القاعد والقاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي والساعي فيها خير من الراكب إنها فتنة باقرة كداء البطن أتتكم من قبل مأمنكم تدع الحليم فيها حيران كابن أمس إنا معاشر أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أعلم بالفتنة أنها إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت أسفرت. وعمار والحسن وقيس يقولون له اعتزل عملنا لا أم لك وتنح عن منبرنا وأبو موسى يقول لعمار هذه يدي بما سمعت من رسول الله يقول ستكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من القائم. فقال له عمار إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لك خاصة ستكون فتنة أنت فيها يا أبا موسى قاعدا خير منك قائما.

الأشتر إلى القصر: فبينا هم في الكلام إذ دخل غلمان أبي موسى ينادون يا أبا موسى هذا الأشتر اخرج من المسجد ودخل عليه أصحاب الأشتر فقالوا له اخرج من المسجد يا ويلك أخرج الله روحك إنك والله لمن المنافقين فخرج أبو موسى وأنفذ إلى الأشتر أن أجلني هذه العشية قال قد أجلتك ولا تبت في القصر هذه الليلة واعتزل ناحية عنه ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فأتبعهم الأشتر بمن أخرجهم من القصر وقال لهم إني أجلته فكف الناس عنه ثم صعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر جده النبي صلى الله عليه وآله فصلى عليه ثم ذكر فضل أمير المؤمنين وإنه أحق بالأمر من غيره وأن من خالفه على ضلال.

ثم نزل فصعد عمار فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله ثم قال: أيها الناس إنا لما خشينا على هذا الدين أن يهدم جوانبه وأن يتعرى أديمه نظرنا لأنفسنا ولديننا فاخترنا عليا عليه السلام خليفة ورضيناه إماما فنعم الخليفة ونعم المؤدب مؤدب لا يؤدب وفقيه لا يعلم وصاحب بأس لا ينكر وذو سابقة في الإسلام ليس لأحد من الناس غيره وقد خالفه قوم من أصحابه حاسدون له وباغون عليه وقد توجهوا إلى البصرة فاخرجوا إليهم رحمكم الله فإنكم لو شاهدتموهم وحاججتموهم تبين لكم أنهم ظالمون.

خطبة الأشتر: ثم خرج الأشتر رحمه الله وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أصغوا لي بأسماعكم وافهموا لي بقلوبكم إن الله عز وجل قد أنعم عليكم بالإسلام نعمة لا تقدرون قدرها ولا تؤدون شكرها كنتم أعداء يأكل قويكم ضعيفكم وينتهب كثيركم قليلكم وتنتهك حرمات الله بينكم والسبيل مخوف والشرك عندكم كثير والأرحام عندكم مقطوعة وكل أهل دين لكم قاهرون فمن الله عليكم بمحمد صلى الله عليه وآله فجمع شمل هذه الفرقة وألف بينكم بعد العداوة وكثركم بعد أن كنتم قليلين ثم قبضه الله وحوله إليه فحوى بعده رجلان ثم ولي بعدهما رجل نبذ كتاب الله وراء ظهره وعمل في أحكام الله بهوى نفسه فسألناه أن يعتزل لنا نفسه فلم يفعل وأقام على أحداثه فاخترنا هلاكه على هلاك ديننا ودنيانا ولا يبعد الله إلا القوم الظالمين وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا وأعظمهم في الإسلام سهما ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأفقه الناس في الدين وأقرأهم للكتاب وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس وقد استنفركم فما تنتظرون؟ أسعيد أم الوليد؟ الذي شرب الخمر وصلى بكم على سكر وهو سكران منها واستباح ما حرمه الله فيكم أي هذين تريدون قبح الله من له هذا الرأي ألا فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم ولا يتخلف رجل له قوة فوالله ما يدري رجل منكم ما يضره وما ينفعه وإني لكم ناصح شفيق عليكم إن كنتم تعقلون أو تبصرون أصبحوا إن شاء الله غدا عادين مستعدين وهذا وجهي إلى ما هناك بالوفاء.

- خطبة حجر بن عدي في أهل الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 138، 139:

خطبة حجر بن عدي: ثم قام حجر بن عدي الكندي وقال: أيها الناس هذا الحسن بن أمير المؤمنين وهو من عرفتم أحد أبويه النبي صلى الله عليه وآله والآخر الإمام الرضي المأمون الوصي صلى الله عليهما الذين ليس لهم شبيه في الإسلام سيد شباب أهل الجنة وسيد سادات العرب أكملهم صلاحا وأفضلهم علما وعملا وهو رسول أبيه إليكم يدعوكم إلى الحق ويسألكم النصر السعيد من ودهم ونصرهم والشقي من تخلف عنهم بنفسه عن مواساتهم فانفروا معه رحمكم الله خفافا وثقالا واحتسبوا في ذلك الأجر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. فأجاب الناس بأجمعهم بالسمع والطاعة.

وقد ذكر الواقدي أن عليا أنفذ إلى أهل الكوفة رسلا وكتب إليهم كتابا عند خروجه من المدينة وقبل نزوله بذي قار.

وقال في حديث آخر رواه أنه أنفذ إلى القوم من الربذة حين فاته رد طلحة والزبير من الطريق ثم اتفق الواقدي وأبو مخنف وغيرهما من أصحاب السيرة على ما ذكرناه من إنفاذ الرسل وكتب الكتب من ذي قار إلى أهل الكوفة يستنفرهم للجهاد معه والاستعانة بهم على أعدائه الناكثين لعهده الخارجين لحربه، فكان مما رواه الواقدي أن قال حدثني عبيد الله بن الحرث بن الفضل عن أبيه قال لما عزم علي عليه السلام على المسير من المدينة لرد طلحة والزبير بعث محمد بن الحنفية ومحمد بن أبي بكر إلى الكوفة وكان عليها أبو موسى الأشعري فلما قدما عليه أساء القول لهما وأغلظ وقال: إن بيعة عثمان لفي رقبة صاحبكم وفي رقبتي ما خرجنا منها. ثم قام على المنبر وقال: أيها الناس إنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن أعلم منكم بهذه الفتنة فاحذروها إن عائشة كتبت إلي أن اكفني من قبلك وهذا علي بن أبي طالب قادم إليكم يريد أن يسفك بكم دماء المسلمين فكسروا نبلكم واقطعوا أوتاركم واضربوا الحجارة بسيوفكم.

فقال محمد بن الحنفية (رض) لمحمد بن أبي بكر يا أخي ما عند هذا خير ارجع بنا إلى أمير المؤمنين نخبره الخبر فلما رجعا إليه وأخبراه الحال وقد كان كتب معهما كتابا إلى أبي موسى الأشعري أن يبايع من قبله على السمع والطاعة وقال له في كتابه أخرج الناس عن حجزتك وارفع عنهم سوطك واجلس بالعراق فإن خففت فاقبل وإن ثقلت فاقعد فلما قرأ الكتاب قال أثقل ثم أثقل.

- كتاب أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 139، 140:

كتاب علي إلى أهل الكوفة: ولما بلغ علي ما قال وصنع غضب غضبا شديدا وبعث عمار بن ياسر والحسن عليه السلام وكتب معهم كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة من المؤمنين والمسلمين.

أما بعد: فإن دار الهجرة تقلعت بأهلها فانقلعوا منها، وجاشت جيشان المرجل، وكانت فاعلة يوم ما فعلت، وقد ركبت المرأة الجمل، ونبحتها كلاب الحوأب، وقامت الفتنة الباغية يقودها، يطلبون بدم هم سفكوه، وعرض هم شتموه; وحرمة انتهكوها، وأباحوا ما أباحوا، يعتذرون إلى الناس دون الله يحلفون لكم لترضون عنهم، فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين; اعلموا رحمكم الله أن الجهاد مفترض على العباد فقد جاءكم في داركم من يحثكم عليه، ويعرض عليكم رشدكم، والله يعلم أني لم أجد بدا من الدخول في هذا الأمر، ولو علمت أن أحدا أولى به مني لما تقدمت إليه وقد بايعني طلحة والزبير طائعين غير مكرهين ثم خرجا يطلبان بدم عثمان وهما اللذان فعلا بعثمان ما فعلا وعجبت لهما كيف أطاعا أبا بكر وعمر في البيعة وأبيا ذلك علي وهما يعلمان أني لست بدون واحد منهما مع أني قد عرضت عليهما قبل أن يبايعاني إذا أحبا بايعت لأحدهما فقالا لا ننفس على ذلك بل نبايعك ونقدمك علينا بحق فبايعا ثم نكثا والسلام.

- أمير المؤمنين في الطريق إلى البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 140، 141:

علي في الطريق: ولما سار عليه السلام من المدينة انتهى إلى فيد وكان قد عدل إلى جبال طي حتى سار معه عدي بن حاتم في ستمائة رجل من قومه فقال عليه السلام لابن عباس ما الرأي عندك في أهل الكوفة فقال له ابن عباس أنفذ عمارا فإنه رجل له سابقة في الإسلام وقد شهد بدرا فإنه إن تكلم هناك صرف الناس إليك وأنا أخرج معه وابعث معنا الحسن ابنك ففعل ذلك فخرجوا حتى قدموا على أبي موسى الأشعري فلما وصلوا الكوفة قال ابن عباس للحسن ولعمار إن أبا موسى عاق فإذا رفقنا به أدركنا حاجتنا منه فقالا افعل ما شئت.

فقال ابن عباس لأبي موسى أن عليا أرسلنا إليك لما يطرقه سرعتك إلى طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله ومصيرك إلى ما أحببنا أهل البيت وقد علمت فضله وسابقته في الإسلام ويقول لك إن تبايع له الناس ويقرك على عملك ويرضى عنك فانخدع أبو موسى وصعد المنبر فبايع لعلي ساعة من النهار ثم نزل.

- خطبة عمار بالكوفة
 - الجمل - الشيخ المفيد  ص 141، 142:

خطبة عمار بالكوفة: فقال عمار: الحمد لله حمدا كثيرا فإنه أهل على نعمته التي لا يحصيها ولا يقدر قدرها ولا يؤدى شكرها أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور الواضح والسلطان القاهر والأمين الناصح والحكيم الراجح رسول رب العالمين وقائد المؤمنين وخاتم النبيين بالصدق وصدق المرسلين وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.

ثم إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حفظه الله ونصره نصرا عزيزا وأبرم له أمرا رشيدا بعثني إليكم وابنه يأمركم بالنفر إليه فانظروا إليه واتقوا وأطيعوا الله والله لو علمت أن على وجه الأرض بشرا أعلم بكتاب الله وسنة نبيه منه ما استنفرتكم إليه ولا بايعته على الموت، يا معشر أهل الكوفة الله الله في الجهاد فو الله لئن صارت الأمور إلى غير علي عليه السلام لتصيرن إلى البلاء العظيم والله يعلم أني قد نصحت لكم وأمرتكم بما أخذت بيقيني وما أريد أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب أستغفر الله لي ولكم.

ثم نزل فصبر هنيئة ثم عاد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس هذا ابن عم رسول نبيكم قد بعثني إليكم استنصركم إلا أن طلحة والزبير قد سارا نحو البصرة وأخرجا عائشة معهما للفتنة ألا وإن الله قد ابتلاكم بحق أمكم وحق أبيكم وحق ربكم أولى وأعظم عليكم من حق أمكم وأبيكم ولكن الله قد ابتلاكم لينظر كيف تعملون فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا في سبيل الله وانفروا إلى خليفتكم وصهر نبيكم فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قد بايعوه بالمدينة وهي دار الهجرة ودار السلام أسأل الله أن يوفقكم.

- خطبة الإمام الحسن في الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 142:

ثم نزل فصعد الحسن بن علي عليهما السلام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر جده فصلى عليه وذكر فضل أبيه وسابقته وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه أولى بالأمر من غيره ثم قال معاشر الناس إن طلحة والزبير بايعا عليا طايعين غير مكرهين ثم نفرا ونكثا بيعتهما له فطوبى لمن خف في مجاهدة من جاهده فإن الجهاد معه كالجهاد مع النبي صلى الله عليه وآله.

- ما جرى بين ابن عباس وأبي موسى الأشعري
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 142، 143:

ثم نزل وكان أمير المؤمنين عليه السلام كتب مع ابن عباس كتابا إلى أبي موسى الأشعري وغلظ فيه فقال ابن عباس قلت في نفسي أقدم على رجل وهو أمير بمثل هذا الكتاب أن لا ينظر في كتابي ونظرت أن أشق كتاب أمير المؤمنين وكتبت من عندي كتابا عنه لأبي موسى: أما بعد فقد عرفت مودتك إيانا أهل البيت وانقطاعك إلينا وإنما فرغب إليك لما نعرف من حسن رأيك فينا فإذا أتاك كتابي فبايع لنا الناس والسلام.

فدفعه إليه فلما قرأه أبو موسى قال لي أنا الأمير أو أنت؟ قلت أنت الأمير فدعا الناس إلى بيعة علي فلما بايع قمت وصعدت المنبر فرام إنزالي منه فقلت أنت تنزلني عن المنبر؟ وأخذت بقائم سيفي فقلت اثبت مكانك والله لئن نزلت إليك هذبتك به فلم يبرح فبايعت الناس لعلي وخلعت أبا موسى في الحال واستعملت مكانه قرضة بن عبد الله الأنصاري ولم أبرح من الكوفة حتى سيرت لعلي عليه السلام في البر والبحر من أهلها سبعة آلاف رجل ولحقته بذي قار قال وقد سار معه من جبال طي وغيرها ألفا رجل ولما صار أهل الكوفة إلى ذي قار ولقوا عليا عليه السلام بها رحبوا به وقالوا الحمد لله الذي خصنا بمودتك وأكرمنا بنصرتك فجزاهم خيرا.

- خطبة أمير المؤمنين بذي قار
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 143، 144:

خطبة علي بذي قار: ثم قام وخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين وأعدلهم سنة وأفضلهم في الإسلام سهما وأجودهم في العرب مركبا ونصابا، حزبكم بيوتات العرب وفرسانهم ومواليهم، أنتم أشد العرب ودا للنبي; وإنما اخترتكم ثقة بعد الله لما بذلتم لي أنفسكم عند نقض طلحة والزبير بيعتي وعهدي، وخلافهما طاعتي وإقبالهما بعائشة لمخالفتي ومبارزتي وإخراجهما لها من بيتها، حتى أقدماها البصرة. وقد بلغني أن أهل البصرة فرقتان: فرقة الخير والفضل والدين قد اعتزلوا وكرهوا ما فعل طلحة والزبير! ثم سكت عليه السلام، فأجابه أهل الكوفة: نحن أنصارك وأعوانك على عدوك، ولو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير ورجوناه فرد عليهم خيرا.

خطبة أخرى بذي قار: ولما أراد عليه السلام المسير من ذي قار تكلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عز وجل بعث محمدا للناس كافة ورحمة للعالمين، فصدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه، فلما ألم به الصدع ورتق به الفتق وأمن به السبيل وحقن به الدماء وألف به بين ذوي الأحقاد والعداوة الواغرة في الصدور، والضغائن الكامنة في القلوب، قبضه الله عز وجل إليه حميدا وقد أدى الرسالة ونصح للأمة، فلما مضى صلى الله عليه وآله لسبيله دفعنا عن حقنا من دفعنا وولوا من ولوا سوانا ثم ولاها عثمان بن عفان فنال منكم ونلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني فقلتم بايعنا فقلت لكم لا أفعل; فقلتم بلى لا بد من ذلك، فقبضتم يدي فبسطتموها وتداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى لقد خفت إنكم قاتلي، أو بعضكم قاتل بعض; فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل، وقد علم الله سبحانه إني كنت كارها للحكومة بين أمة محمد، ولقد سمعته يقول! ما من وال يلي شيئا من أمر أمتي إلا أتى الله يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رؤوس الخلائق، ثم ينشر كتابه فإن كان عادلا نجا وإن كان جائرا هوى.

ثم اجتمع علي ملؤكم وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر في وجهيهما والنكث في عينيهما ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها وشخص معها أبناء الطلقاء فقدموا البصرة وهتكوا بها المسلمين وفعلوا المنكر، ويا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما علي وهما يعلمان إني لست دون أحدهما ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه فكتماه عني وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان والله ما أنكرا علي منكرا ولا جعلا بيني وبينهما نصفا وأن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب فيهما يا خيبة الداعي إلى ما ادعا وبماذا أجيب، والله إنهما لفي ظلالة صماء وجهالة عمياء وإن الشيطان قد دبر لهما حزبه واستجلب منهما خيله ورجاله ليعيد الجور إلى أوطانه ويرد الباطل إلى نصابه.

ثم رفع يديه وقال: اللهم إن طلحة والزبير قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي فاحلل ما عقدا وانكث ما أبرما ولا تغفر لهما أبدا وأرهما المساءة فيما عملا وأملا.

- خطبة مالك بن الأشتر في ذي قار
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 145:

فقام الأشتر رضي الله عنه فقال: خفض عليك يا أمير المؤمنين فو الله ما أمر طلحة والزبير علينا بمحيل لقد دخلا في هذا الأمر اختيارا ثم فارقانا على غير جور عملناه ولا حدث في الإسلام أحدثناه; ثم أقبلا يثيران الفتنة علينا تائهين جائرين ليس معهما حجة ترى ولا أثر يعرف لقد لبسا العار وتوجها لمحو الديار، فإن زعما أن عثمان قتل مظلوما فليستقد آل عثمان منهما فأشهد أنهما قتلاه وأشهد الله يا أمير المؤمنين لئن لم يدخلا فيما خرجا منه ولم يرجعا إلى طاعتك وما كانا عليه لنلحقهما بابن عفان.

- خطبة أبي التيهان وعدي بن حاتم وأبي زينب الأزدي في ذي قار
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 145:

أبو التيهان: وقام أبو الهيثم بن التيهان رحمه الله وقال يا أمير المؤمنين صبحهم الله بما يكرهون فإن أقبلوا قبلنا منهم وإن أدبروا لنجاهدنهم فلعمري ما قوم قتلوا النفس التي حرم الله قتلها وأخذوا الأموال وأخافوا أهل الإيمان بأهل أن يكف عنهم، فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام على عدي بن حاتم فقال له يا عدي أنت شاهد لنا وحاضر معنا وما نحن فيه.

عدي بن حاتم: فقال عدي شهدتك أو غبت عنك فأنا عندما أحببت هذه خيولنا معدة ورماحنا محددة وسيوفنا محمرة فإن رأيت أن نتقدم تقدمنا وإن رأيت أن نحجم أحجمنا نحن طوع لأمرك فأمر بما شئت نسارع إلى امتثال أمرك.

أبو زينب الأزدي: وقام أبو زينب الأزدي فقال والله إن كنا على الحق إنك لأهدانا سبيلا وأعظمنا في الخير نصيبا وإن كنا على الضلالة والعياذ بالله أن نكون عليه، لأنك أعظمنا وزرا وأثقلنا ظهرا وقد أردنا المسير إلى هؤلاء القوم وقطعنا منهم الولاية وأظهرنا منهم البراءة وظاهرناهم بالعداوة ونريد بذلك ما يعلمه الله عز وجل وأننا ننشدك الله الذي علمك ما لم نكن نعلم ألسنا على الحق وعدونا على الضلال فقال عليه السلام أشهد لئن خرجت لدينك ناصرا صحيح النية قد قطعت منهم الولاية وأظهرت منهم البراءة كما قلت أنك لفي رضوان الله فابشر يا أبا زينب فإنك والله على الحق فلا تشك فإنك إنما تقاتل الأحزاب فأنشأ أبو زينب يقول:

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي  *  فإن خير الناس أتباع علي

هذا أوان طاب سل المشرفي  *  وقودنا الخيل وهز السمهري

ولما استقر أمر أهل الكوفة على النهوض لأمير المؤمنين عليه السلام وخف بعضهم لذلك بادر ابن عباس ومن معه من الرسل فيمن اتبعهم من أهل الكوفة إلى ذي قار للالتحاق بأمير المؤمنين وأخباره بما عليه القوم من الجد والاجتهاد في طاعته وأنهم لاحقون به غير متأخرين عنه وإنما تقدمهم ليستعد للسفر وللحرب وقد كان استخلف قرضة بن كعب على الكوفة على ما قدمناه ويحث الناس على اللحاق به.

- ورود كتاب إلى أمير المؤمنين فيه ما صنعه القوم بعامله عثمان بن حنيف وما استحلوه من الدماء ونهب الأموال وقتل من قتلوه من شيعته وأنصاره وما أثاروه من الفتنة فيها
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 146، 147:

فورد على أمير المؤمنين كتابا قد كتب إليه من البصرة ما صنعه القوم بعامله عثمان بن حنيف رحمه الله وما استحلوه من الدماء ونهب الأموال وقتل من قتلوه من شيعته وأنصاره وما أثاروه من الفتنة فيها فوجده ابن عباس وقد أحزنه ذلك وغمه وأزعجه وأقلقه فأخبره بطاعة أهل الكوفة ووعده منهم بالنصرة فسر عند ذلك وأقام ينتظر أهل الكوفة والمدد الذي ينتصر بهم على عدوه.

- حديث أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين مع عائشة وطلحة والزبير
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 147، 149:

ابن حنيف مع الناكثين: فصل: وكان من حديث القوم فيما صنعوه بعثمان بن حنيف رضي الله عنه ومن ذكرناه معه على ما جاءت به الأخبار واتفق عليه نقلة السير والآثار.

روى الواقدي وأبو مخنف عن أصحابهما والمدايني وابن داب عن مشايخهما بالأسانيد التي اختصرنا القول بإسقاطها واعتمدنا فيها على ثبوتها في مصنفات القوم وكتبهم فقالوا إن عائشة وطلحة والزبير لما ساروا من مكة إلى البصرة أعدوا السير مع من اتبعهم من بني أمية وعمال عثمان وغيرهم من قريش حتى صاروا إلى البصرة فنزلوا حفر أبي موسى فبلغ عثمان بن حنيف وهو عامل البصرة يومئذ وخليفة أمير المؤمنين وكان عنده حكيم بن جبلة فقال له حكيم ما الذي بلغك فقال خبرت إن القوم قد نزلوا حفر أبي موسى فقال له حكيم ائذن لي أن أسير إليهم فإني رجل في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام فقال له عثمان توقف عن ذلك حتى أراسلهم فقال له حكيم إنا لله هلكت والله يا عثمان، فأعرض عنه وأرسل إلى عمران بن حصين وأبي الأسود الدؤلي فذكر لهما قدوم القوم البصرة وحلولهم حفر أبي موسى وسألهما المسير إليهم وخطابهم على ما قصدوا به وكفهم عن الفتنة فخرجا حتى دخلا على عائشة فقالا لها يا أم المؤمنين ما حملك على المسير؟ فقالت غضبت لكما من سوط عثمان وعصاه ولا أغضبت أن يقتل، فقالا لها وما أنت من سوط عثمان وعصاه وإنما أنت حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله وإنا نذكرك الله أن يهراق الدماء في سبيلك فقالت وهل من أحد يقاتلني! فقال لها أبو الأسود الدؤلي نعم والله قتالا أهونه شديد، ثم خرجا من عندها فدخلا على الزبير فقالا له يا أبا عبد الله ننشدك الله أن يهراق الدماء في سبيلك فقال لهما ارجعا من حيث جئتما أن لا تفسدا علينا فأيسا منه، وخرجا حتى دخلا على طلحة فقالا له ننشدك الله أن يهراق الدماء في سبيلك فقال لهما طلحة أيحب علي بن أبي طالب عليه السلام أنه إذا غلب على أمر المدينة أن الأمر له، وأنه لا أمر إلا أمره والله ليعلمن فانصرفا من حيث جئتما فانصرفا من عنده إلى عثمان ابن حنيف فأخبراه الخبر.

وروى ابن أبي سبرة عن عيسى بن عيسى عن الشعبي أن أبا الأسود الدؤلي وعمران لما دخلا على عائشة قالا لها ما الذي أقدمك هذا البلد؟ وأنت حبيسة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أمرك أن تقري في بيتك فقالت غضبت لكم من السوط والعصا، ولا أغضب لعثمان من السيف فقالا لها ننشدك الله أن يهراق الدماء في سبيلك وأن تحملي الناس بعضهم على بعض فقالت لهما إنما جئت لأصلح بين الناس وقالت لعمران بن الحصين ها أنت مبلغ عثمان بن حنيف رسالة فقال لا أبلغه عنك إلا خيرا فقال لها أبو الأسود أنا أبلغه عنك فهاتي، قالت له يا طليق ابن أبي عامر بلغني إنك تريد لقائي لتقاتلني، فقال لها أبو الأسود الدؤلي نعم والله لنقاتلنك، فقالت وأنت أيضا يبلغني عنك ما يبلغني قم فانصرف عني فخرجا من عندها إلى طلحة فقالا له يا أبا محمد ألم تجمع الناس إلى حرب ابن عم رسول الله؟ الذي فضله الله كذا وكذا وجعلا يعددان مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله وحقوقه فوقع طلحة بعلي وسبه ونال منه وقال إنه ليس أحد مثله أما والله ليعلمن غير ذلك، فخرجا من عنده وهما يقولان غضب هذا المدني، ثم دخلا على الزبير فكلماه مثل كلامهما لصاحبه فوقع أيضا في  علي عليه السلام وسبه، وقال لقوم كان بمحضرهم صبحوهم قبل أن يمسوكم فخرجا من عنده حتى صارا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه الخبر، فأذن عثمان للناس بالحرب.

- فرح حفصة بالتضييق على أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 149، 150:

فرح حفصة: فصل: ولما بلغ عائشة نزول أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار كتبت إلى حفصة بنت عمر: أما بعد فلما نزلنا البصرة ونزل علي بذي قار والله داق عنقه كدق البيضة على الصفا أنه بمنزلة الأشقر، إن تقدم نحر وإن تأخر عقر فلما وصل الكتاب إلى حفصة استبشرت بذلك ودعت صبيان بني تيم وعدي وأعطت جواريها دفوفا وأمرتهن أن يضربن بالدفوف ويقلن ما الخبر ما الخبر علي كالأشقر بذي قار إن تقدم نحر وإن تأخر عقر، فبلغ أم سلمة (رض) اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سب أمير المؤمنين والمسرة بالكتاب الوارد عليهن من عائشة فبكت وقالت أعطوني ثيابي حتى أخرج إليهن وأوقع بهم.

أم كلثوم مع حفصة: فقالت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام أنا أنوب عنك فإنني أعرف منك فلبست ثيابها وتنكرت وتخفرت واستصحبت جواريها متخفرات وجاءت حتى دخلت عليهن كأنها من النضارة فلما رأت إلى ما هن فيه من العبث والسفه كشفت نقابها وأبرزت لهن وجهها ثم قالت لحفصة إن تظاهرت أنت وأختك على أمير المؤمنين عليه السلام فقد تظاهرتما على أخيه رسول الله صلى الله عليه وآله من قبل فأنزل الله عز وجل فيكما ما أنزل والله من وراء حربكما وأظهرت حفصة خجلا وقالت إنهن فعلن هذا بجهل وفرقتهن في الحال.

- خطبة عائشة بالمربد وما جرى في البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 150، 151:

خطبة عائشة بالمربد: ولما بلغ عائشة رأي ابن حنيف في القتال ركبت الجمل وأحاط بها القوم وسارت حتى وقفت (بالمربد) واجتمع إليها الناس حتى امتلأ المربد بهم فقالت وهي على الجمل صه صه فسكت الناس واصغوا إليها فحمدت الله تعالى وقالت: أما بعد فإن عثمان بن عفان قد كان غير وبدل فلم يزل يغسله بالتوبة حتى صار كالذهب المصفى فعدوا عليه وقتلوه في داره وقتل ناس معه في داره ظلما وعدوانا ثم آثروا عليا فبايعوه من غير ملائمة من الناس ولا شورى ولا اختيار فابتز والله أمرهم وكان المبايعون له يقولون خذها إليك واحذرن أبا حسن إنا غضبنا لكم على عثمان من السوط فكيف لا نغضب لعثمان من الغضب أن الأمر لا يصح حتى يرد الأمر إلى ما صنع عمر من الشورى فلا يدخل فيه أحد سفك دم عثمان.

فقال بعض الناس صدقت وقال بعض الناس كذبت واضطربوا بالفعال وتركتهم وسارت حتى أتت (الدباغين) وقد تحيز الناس بعضهم مع طلحة والزبير وعائشة وبعضهم متمسك ببيعة أمير المؤمنين والرضا به فسارت من موضعها ومن معها واتبعها على رأيها طلحة والزبير ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير حتى أتوا دار الإمارة فسألوا عثمان بن حنيف الخروج عنها فأبى عليهم ذلك واجتمع إليه أنصاره وزمرة من أهل البصرة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى زالت الشمس وأصيب يومئذ من عبد القيس خاصة خمسمائة شيخ مخضوب من أصحاب عثمان ابن حنيف وشيعة أمير المؤمنين سوى من أصيب من ساير الناس وبلغ الحرب بينهم التزاحف إلى (مقبرة بني مازن) ثم خرجوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى (الزابوقة) وهي ساحة دار (الرزق) فاقتتلوا قتالا شديدا كثر فيه القتلى والجرحى من الفريقين ثم إنهم تداعوا إلى الصلح ودخل بينهم الناس لما رأوا من عظيم ما ابتلوا به فتصالحوا على أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والمسجد وبيت المال ولطلحة والزبير وعائشة ما شاؤوا من البصرة ولا يحاجوا حتى يقدم أمير المؤمنين عليه السلام فإن أحبوا عبد ذلك الدخول في طاعته وإن أحبوا أن يقاتلوا، وكتبوا بذلك كتابا بينهم وأوثقوا فيه العهود وأكدوها وأشهدوا الناس على ذلك ووضع السلاح وآمن عثمان بن حنيف على نفسه وتفرق الناس عنه.

- ما فعله طلحة والزبير بعثمان ابن حنيف
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 151، 152:

وطلب طلحة والزبير وأصحابهما عثمان حتى أتوا دار الإمارة وعثمان ابن حنيف غافل عنهم وعلى باب الدار السبابجة يحرسون بيوت الأموال وكانوا قوما من الزط ووضعوا فيهم السيف من أربع جوانبهم فقتلوا أربعين رجلا منهم صبرا، يتولى منهم ذلك الزبير خاصة، ثم هجموا على عثمان فأوثقوه رباطا وعمدوا إلى لحيته وكان شيخا كث اللحية فنتفوها حتى لم يبق منها شيء ولا شعرة واحدة وقال طلحة عذبوا الفاسق وانتفوا شعر حاجبيه وأشفار عينيه وأوثقوه بالحديد.

فلما أصبحوا اجتمع الناس إليهم وأذن مؤذن المسجد لصلاة الغداة فرام طلحة أن يتقدم للصلاة بهم فدفعه الزبير وأراد أن يصلي بهم فمنعه طلحة فما زالا يتدافعان حتى كادت الشمس أن تطلع فنادى أهل البصرة الله الله يا أصحاب رسول الله في الصلاة نخاف فوتها.

فقالت عائشة: مروا أن يصلي بالناس غيرهما فقال لهم يعلى بن منبه يصلي عبد الله بن الزبير يوما ومحمد بن طلحة يوما حتى يتفق الناس على أمير يرضونه فتقدم ابن الزبير وصلى بهم ذلك اليوم.

- انتصار حكيم بن جبلة العبدي وأخوه لعثمان بن حنيف واستشهادهما
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 152، 153:

وبلغ حكيم بن جبلة العبدي ما صنع القوم بعثمان بن حنيف وقتلهم السبابجة الصالحين خزان بيت مال المسلمين فنادى في قومه يا قوم انفروا إلى هؤلاء الضالين الظالمين الذين سفكوا الدم الحرام وفعلوا بالعبد الصالح واستحلوا ما حرم الله عز وجل فأجابه سبعمائة رجل من عبد قيس وأتوا المسجد واجتمع الناس إلى حكيم بن جبلة فقال للقوم أما ترون ما صنعوا بأخي عثمان بن حنيف ما صنعوا؟ لست بأخيه إن لم أنصره ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن طلحة والزبير لم يريدا بما عملا القربة منك وما أرادا إلا الدنيا اللهم اقتلهما بمن قتلا ولا تعطهما ما أملا ثم ركب فرسه وأخذ بيده الرمح واتبعه أصحابه وأقبل طلحة والزبير ومن معهما وهم في كثرة من الناس قد انضم إليهم الجمهور واقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت بينهم الجرحى والقتلى وبرز إلى حكيم بن جبلة رجل من القوم فضربه بالسيف فقطع رجله فتناولها حكيم بيده ورماه بها فصرعه.

ثم صار إلى حكيم أخوه المعروف بالأشرف فقال من أصابك؟ فأشار إلى الذي ضربه فأدركه الأشرف فخبطه بالسيف حتى قتله وتكاثر الناس عليه وعلى أخيه حتى قتلوهما وتفرق الناس.

- ما فعل عائشة وطلحة والزبير في بيت المال
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 153:

ورجع طلحة والزبير ونزلا دار الإمارة وغلبا على بيت المال فتقدمت عائشة وحملت مالا منه لتفرقه على أنصارها فدخل عليها طلحة والزبير في طائفة معهما واحتملا منه شيئا كثيرا فلما خرجا نصبا على أبوابه الأقفال ووكلا به من قبلهما قوما فأمرت عائشة بختمه فبرز لذلك طلحة ليختمه فمنعه الزبير وأراد أن يختمه الزبير دونه فتدافعا فبلغ عائشة ذلك فقالت يختمها عني ابن أختي عبد الله بن الزبير فختم يومئذ بثلاثة ختوم.

- إطلاق سراح عثمان بن حنيف ومجيئه إلى أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 153، 154:

ثم قال طلحة والزبير ما تأمرين في عثمان؟ فإنه لما به فقالت اقتلوه قتله الله وكانت عندها امرأة من أهل البصرة فقالت لها يا أماه أين يذهب بك أتأمرين بقتل عثمان بن حنيف وأخوه سهل على المدينة وله مكانة من الأوس والخزرج ما قد علمت والله لئن فعلت ذلك ليكونن له صولة بالمدينة يقتل فيها ذراري قريش فآب إلى عائشة رأيها وقالت لا تقتلوه ولكن احبسوه وضيقوا عليه حتى أرى رأيي فحبس أياما ثم بدا لهم في حبسه وخافوا من أخيه أن يحبس مشايخهم بالمدينة ويوقع بهم فتركوا حبسه.

مجيء ابن حنيف إلى علي: فخرج ابن حنيف حتى جاء إلى أمير المؤمنين وهو بذي قار فلما نظر إليه أمير المؤمنين وقد نكل به القوم بكى وقال يا عثمان بعثتك شيخا ملتحي فرددت أمردا لي اللهم إنك تعلم أنهم اجترأوا عليك واستحلوا حرماتك اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي وعجل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي ولما خرج عثمان بن حنيف من البصرة وعاد طلحة والزبير إلى بيت المال فتأملا إلى ما فيه من الذهب والفضة قالوا هذه الغنائم التي وعدنا الله بها وأخبرنا أنه يعجلها لنا.

- مقالة أمير المؤمنين عندما دخل بيت مال البصرة ورأى ما فيه من الذهب والفضة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 154:

علي في بيت المال: قال أبو الأسود الدؤلي وقد سمعت هذا منهما ورأيت عليا بعد ذلك وقد دخل بيت مال البصرة فلما رأى ما فيه قال يا صفراء بيضاء غري غيري، المال يعسوب الظلمة وأنا يعسوب المؤمنين فلا والله ما التفت إلى ما فيه ولا فكر فيما رآه منه وما وجدته عنده إلا كالتراب هو أنا فتعجبت من القوم ومنه عليه السلام فقلت أولئك ممن يريد الدنيا وهذا ممن يريد الآخرة وقويت بصيرتي فيه.

- طلحة والزبير وعائشة يستعدون لقتال أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 154، 155:

ولما استقر الأمر عند القوم بعد خروج عثمان بن حنيف وعلم طلحة والزبير وعائشة أن أمير المؤمنين بذي قار ينتظر الجموع وأنه لا يصبر على ما فعلوه بصاحبه والمسلمين أمرت عائشة الزبير أن يستنفر الناس إليه فخطبهم الزبير وأمرهم بالجد والاجتهاد وقال لهم إن عدوكم قد أظلكم والله لئن ظفر بكم لا ترك بكم عينا تطرف فانهضوا إليه حتى نكب عليه قبل أن تلحقه أنصاره وقال لهم امضوا فخذوا أعطيتكم فلما رجع إلى منزله قال له ابنه عبد الله أمرت الناس أن يأخذوا أعطيتهم ليتفرقوا بالمال قبل أن يأتي علي بن أبي طالب فتضعف بئس الرأي الذي رأيت فقال له الزبير اسكت ويلك ما كان غير الذي قلت فقال طلحة صدق عبد الله وما ينبغي أن يسلم هذا المال حتى يقرب منا علي فنضعه في موضعه فيمن يدفعه عنا فغضب الزبير وقال والله لو لم يبق إلا درهم واحد لأعطيته فلامته عائشة على ذلك ووافق رأيها برأي الرجلين فقال الزبير والله لتدعوني أو ألحق بمعاوية فقد بايع في الشام الناس فأمسكوا عنه.

- الزبير شاك متردد
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 155، 156:

الزبير شاك متردد: وروى داود بن أبي هند عن ابن عمرة مولى الزبير أن الزبير قال يومئذ لو كان لي ألف فارس إلى خمسمأة فارس ينهضون معي الساعة لأسير بهم إلى علي فإما أن آتي به بياتا أو أصحبه صباحا لعلي أقتله قبل أن يأتيه مدده فلم يخف معه أحد فاغتاظ لذلك وقال هذه والله الفتنة التي كنا نتحدث بها فقال له مولاه أبو عمرة رحمك الله يا أبا عبد الله تسميها فتنة ثم ترى القتال فيها فقال له ويحك إنا نبصره ولكن لا نصبر ثم قال بعد ذلك بيوم أو يومين والله ما كان أمر قط إلا علمت أين أضع قدمي فيه إلا هذا الأمر فإني لم أدر أنا فيه مقبل أم مدبر فقال له ابنه عبد الله والله ما بك هذا وإنا لنتعامى فلما يحملك على هذا القول إلا أنك أحسست برايات ابن أبي طالب قد أظلت وعلمت أن الموت الناقع تحتها فقال له اعزب ويحك فإنك لا علم لك بالأمور.

وروى الحرث بن الفضل عن أبي عبد الله الأغر أن الزبير بن العوام قال لابنه يومئذ ويلك لا تدعنا على حال أنت والله قطعت بيننا وقرت الفتنة بما بليت به من هذا المسير وما كنت متوليا من ولي هذا الأمر وأقام به والله لا يقوم أحد من الناس مقام عمر بن الخطاب فيهم فمن ذا يقوم مقام عمر بن الخطاب وإن سرنا بسيرة عثمان قتلنا فما أصنع بهذا المسير وضرب الناس بعضهم ببعض فقال له عبد الله ابنه أفتدع عليا يستولي على الأمر؟ وأنت تعلم أنه كان أحسن أهل الشورى عند عمر بن الخطاب ولقد أشار عمر وهو مطعون يقول لأصحابه أهل الشورى ويلكم أطعموا ابن أبي طالب فيها لا يفتق في الإسلام فتقا عظيما ومنوه حتى تجمعوا على رجل سواه.

- في ورود أهل الكوفة على أمير المؤمنين وبعض الوفود بذي قار
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 156، 157:

ولما صار عثمان بن حنيف إلى ذي قار وأقام بها مع أمير المؤمنين وهو مريض يعالج حتى ورد على أمير المؤمنين عليه السلام أهل الكوفة.

فصل: وروى الواقدي عن شيبان بن عبد الرحمن عن عامر بن كليب عن أبيه قال لما قتل عثمان ما لبثنا إلا قليلا حتى قدم طلحة والزبير البصرة ثم ما لبثنا بعد ذلك إلا يسيرا حتى أقبل علي بن أبي طالب بذي قار فقال شيخان من الحي اذهب بنا إلى هذا الرجل فلننظر ما يدعو إليه فلما أتينا (ذا قار) قدمنا على أذكى العرب فو الله لدخل على نسب قومي فجعلت أقول هو أعلم به مني وأطوع فيهم فقال من سيد بني راسب فقلت فلان قال فمن سيد بني قدامة قلت فلان لرجل آخر فقال أنت مبلغهما كتابين مني؟ قلت نعم قال أفلا تبايعاني؟ فبايعه الشيخان اللذان كانا معي وتوقفت عن بيعته فجعل رجال عنده قد أكل السجود وجوههم يقولون بايع بايع فقال عليه السلام دعوا الرجل فقلت إنما بعثني قومي رائدا وسأنهي إليهم ما رأيت فإن بايعوا بايعت وإن اعتزلوا اعتزلت فقال لي أرأيت لو أن قومك بعثوك رائدا فرأيت روضة وغديرا فقلت يا قومي النجعة النجعة فأبوا ما كنت بمستنجع بنفسك فأخذت بإصبع من أصابعه فقلت أبايع على أن أطيعك ما أطعت الله فإذا عصيته فلا طاعة لك علينا فقال نعم وطول صوته فضربت على يده، ثم التفت إلى محمد بن حاطب وكان من ناحية القوم فقال إذا انطلقت إلى قومك فأبلغهم كتبي وقولي فتحول إليه محمد حتى جلس بين يديه فقال إن قومي إذا أتيتهم يقولون ما يقول صاحبك في عثمان فسب عثمان الذين حوله فرأيت عليا قد كره ذلك حتى رشح جبينه وقال أيها القوم كفوا ما إياكم يسأل ولا عنكم سائل قال فلم أبرح عن العسكر حتى قدم على علي أهل الكوفة فجعلوا يقولون نرى إخواننا من أهل البصرة يقاتلوننا وجعلوا يضحكون ويعجبون ويقولون والله لو التقينا لتعاطينا الحق كأنهم يرون أنهم لا يقتلون وخرجت بكتاب علي عليه السلام فأتيت أحد الرجلين فقبل الكتاب وأجابه ودللت على الآخر وكان متواريا فلو أنهم قالوا له كليب ما أذن لي فدخلت عليه ودفعت الكتاب إليه وقلت هذا كتاب علي وأخبرته الخبر وقلت إني أخبرت عليا إنك سيد قومك فأبى أن يقبل الكتاب ولم يجبه إلى ما سأله وقال لا حاجة لي اليوم في السؤدد فوالله إني لبالبصرة ما رجعت إلى علي حتى نزل العسكر ورأيت الغر الذين مع علي عليه السلام وطلع القوم.

- إخبار أمير المؤمنين بعدد من يأتيه من الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 157، 158:

إخبار علي بعدد من يأتيه من الكوفة: وروى نصر بن عمرو بن سعد عن الأجلح عن زيد بن علي قال لما أبطأ على علي عليه السلام خبر أهل البصرة وكانوا في فلاة قال عبد الله بن عباس فأخبرت عليا بذلك فقال لي اسكت يا ابن عباس فو الله ليأتينا في هذين اليومين من الكوفة ستة آلاف وستمائة رجل وليغلبن أهل البصرة وليقتلن طلحة والزبير فو الله إنني استشرف الأخبار وأستقبلها حتى إذا أتى راكب فاستقبلته واستخبرته فأخبرني بالعدة التي سمعتها من علي عليه السلام لم تنقص برجل واحد.

وروى إسماعيل بن عبد الملك بن يحيى بن شبل عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام قال لما سار علي من ذي قار قاصدا البصرة حتى نزل الخريبة في اثني عشر ألف وعلى الميمنة عمار بن ياسر في ألف رجل وعلى الميسرة مالك الأشتر في ألف رجل ومعه في نفسه عشرة آلاف رجل وخرج إليه من البصرة ألفا رجل خرجت إليه ربيعة كلها إلا مالك بن مسمع منها وجاءته عبد القيس بأجمعها سوى رجل واحد تخلف عنها وجاءته بنو بكر يرأسهم شقيق بن ثور السدوسي ورأس عبد القيس عمر ابن جرموز العبدي وأتاه المهلب بن أبي صفرة فيمن تبعه من الأزد.

- موقف الأحنف بن قيس
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 158، 160:

موقف الأحنف: وبعث إليه الأحنف بن قيس يقول له إني مقيم على طاعتك في قومي فإن شئت حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد فبعث إليه أمير المؤمنين عليه السلام بل احبس وكف فجمع الأحنف قومه فقال يا بني سعد كفوا عن هذه الفتنة واقعدوا في بيوتكم فإن ظهر أهل البصرة فهم إخوانكم لم يهيجوكم وإن ظهر علي عليه السلام سلمتم؛ فكفوا وتركوا القتال، وأقبل هلال بن وكيع الحنظلي إلى الأحنف بن قيس حين بلغه ذلك فقال ما يقول سيدنا في هذا الأمر؟ فقال الأحنف إنما أكون سيدكم غدا إذا قلتم إنا وبقيت فقال هلال بل أنت سيدنا اليوم وشيخنا فقال الأحنف أنا شيخكم المعصى وأنت الشاب المطاع أقعد في بيتك ولا تخرج مع طلحة والزبير فأبى أن يرضى ثم دعا تميما كلهم فبايعوه إلا نفر منهم فبلغ طلحة والزبير ما فعله الأحنف فبعثا إليه يستميلانه ويرومان أن يدخل في طاعتهما فقال اختاروا مني إحدى ثلاث خصال إما أن أقيم في بيتي واكف نفسي ولا أكون معكما ولا عليكما وإما أن ألحق بعلي بن أبي طالب وإما أن أأتي إلى الأهواز فأقيم بها فقالا ننظر في ذلك ثم استشارا من حضرهما فقالوا لهما أما علي فعدوكم ولا حظ في أن يكون معه الأحنف وأما الأهواز أن أتاها يلحق به كل من لا يريد القتال معكما منهم ولكن يكون قريبا منكما فإن تحرك وطأتماه على صماخه فأمراه بالقعود فأتى (وادي السباع) وأقام به.

ولما قدم رسول الأحنف على علي عليه السلام بما بذله من كف قومه عنه قال رجل يا أمير المؤمنين من هذا؟ قال أدهى العرب وخيرهم لقومه فقال كذلك هو وإني لأمثل بينه وبين المغيرة بن شعبة لزم الطائف فأقام بها ينتظر على من تستقيم الأمة فقال الرجل إني لأحسب أن الأحنف لأسرع إلى ما تحب من المغيرة فقال علي عليه السلام أجل ما يبالي المغيرة أي لواء رفع لواء ضلالة أو هدى.

وروى الواقدي قال حدثني معمر بن راشد عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري قال أقبل أبو بكرة يريد أن يدخل مع طلحة والزبير في أمرهما فلما رأى عائشة تدبرهما رجع عنهما فقيل له مالك لم تدخل معهما فقال رأيت امرأة تلي أمرهم وقد سمعت رسول الله يقول وقد ذكر ملكة سبأ فقال لا أفلح قوم تدبرهم امرأة فكرهت الدخول معهم.

وروى عبد الله بن عطا عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال أعتزل أبي أن يدخل مع عائشة قال إني سمعت رسول الله يقول لا يفلح قوم تلي أمرهم امرأة.

- كتاب عائشة إلى المدينة واليمامة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 160، 162:

كتاب عائشة إلى المدينة واليمامة: فصل: وروى الواقدي عن رجاله قال لما أفرج القوم عن عثمان ابن حنيف رحمه الله لما خلفوه من أخيه سهل بن حنيف كتبت عائشة إلى أهل المدينة.

بسم الله الرحمن الرحيم من أم المؤمنين عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وابنة الصديق إلى أهل المدينة أما بعد فإن الله أظهر الحق ونصر طالبيه وقد قال الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}. فاتقوا الله عباد الله واسمعوا وأطيعوا واعتصموا بحبل الله جميعا وعروة الحق ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا فإن الله قد جمع كلمة أهل البصرة وأمروا عليهم الزبير بن العوام فهو أمير الجنود والكافة يجتمعون على السمع والطاعة له فإن اجتمعت كلمة المؤمنين على أمرائهم عن ملأ منهم وتشاور فإنا ندخل في صالح ما دخلوا فيه فإذا جاءكم كتابي هذا فاسمعوا وأطيعوا وأعينوا على ما سمعتم عليه من أمر الله.

وكتب عبيد بن كعب لخمس ليال من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وكتبت إلى أهل اليمامة وأهل تلك النواحي: أما بعد فإني أذكركم الله الذي أنعم عليكم وألزمكم بالإسلام فإن الله تعالى يقول: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فاعتصموا بحبل الله وكونوا مع كتابه فإن أمكم ناصحة لكم فيما تدعون إليه من الغضب له والجهاد لمن قتل خليفة له حرمة وابتز المسلمين أمرهم وقد أظهر الله عليه وأن ابن حنيف الضال المضل كان بالبصرة يدعو المسلمين إلى سبيل النار وإنا أقبلنا إليها ندعو المسلمين إلى كتاب الله وأن يضعوا بينهم القرآن فيكون ذلك رضى لهم وأجمع لأمرهم وكان ذلك لله على المسلمين فيه الطاعة فإما أن ندرك به حاجتنا أو نبلغ عذرا.

فلما دنونا البصرة وسمع بنا ابن حنيف جمع لنا الجموع وأمرهم أن يتلقونا بالسلاح فيقاتلونا ويطردونا وشهدوا علينا بالكفر وقالوا فينا المنكر فأكذبهم المسلمون وأنكروا عليهم وقالوا لعثمان بن حنيف ويحك إنما تابعنا زوج النبي وأم المؤمنين وأصحاب رسول الله وأئمة المسلمين فتمادى في غيه وأقام على أمره فلما رأى المسلمون أنه قد عصاهم ورد عليهم أمرهم غضبوا لله عز وجل ولأم المؤمنين ولم نشعر به حتى أطلبا في ثلاثة آلاف من جهلة العرب وسفائهم وضعهم دون المسجد بالسلاح فالتمسنا أن يبايعوا على الحق ولا يحولوا بيننا وبين المسجد فرد علينا ذلك كله.

حتى إذا كان يوم الجمعة وتفرق الناس بعد الصلاة عنه دخل طلحة والزبير ومعهما المسلمون وفتحوه عنوة وقدموا عبد الله بن الزبير للصلاة بالناس ودنا نخاف من عثمان وأصحابه أن يأتونا بغتة ليصيبوا منا غرة فلما رأى المسلمون أنهم لم يبرحوا تحرزوا لأنفسهم ولم يخرج ومن معه حتى هجموا علينا وأباحوا سدة بيتي ومعهم صناديد لهم ليسفكوا دمي فوجدوا نفرا على باب بيتي فردوهم عني وكان حولي نفر من القرشيين والأزديين فدفعوهم عني وقتل منهم من قتل وانهزموا فلم نتعرض لبقيتهم وخلينا ابن حنيف منا منا عليه وقد توجه إلى صاحبه وعرفناكم ذلك عباد الله لتكونوا على ما كنتم عليه من النية في نصرة دين الله والغضب لخليفته المظلوم.

وروى الواقدي عن عبد بن السلام بن حفص قال حدثني المنهال ابن سلم البصري قال لما بدى لطلحة والزبير في حبس عثمان بن حنيف وأشفقا من أخيه سهل بن حنيف على مخلفيهم في المدينة أطلقوه فتوجه إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو بذي قار.

- خطبة طلحة وكلام من جادله
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 162، 1654:

خطبة طلحة: فلما عرفا خروجه إليه قام طلحة في الناس خطيبا فنعى إليهم عثمان ابن عفان وذكر قاتليه وأكثر الذم لهم والشتم وعزا قتله إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وأنصاره وذكر أن عليا أكره الناس على البيعة له فقال فيما قال: يا معشر المسلمين أن الله قد منحكم بأم المؤمنين وقد عرفتم حقها ومكانتها من رسول الله صلى الله عليه وآله ومكان أبيها من الإسلام فهذه هي تشهد لنا إنا لم نكذبكم فيما خبرناكم به ولا غررناكم فيما دعوناكم إليه من قتال ابن أبي طالب وأصحابه الصادين عن الحق ولسنا نطلب خلافة ولا ملكا وإنا نحذركم أن تغلبوا على أمركم وتقصروا دون الحق وقد رجونا أن يكون عندكم عونا لنا على طاعة الله وصلاح الأمة فأنا أحق من عناه أمر المسلمين ومصلحتهم. وأن عليا لو عمل الجد في نصرة أمكم لاعتزل هذا الأمر حتى تختار الأمة لأنفسها من ترضاه.

فقال أهل البصرة مرحبا وأهلا وسهلا بأم المؤمنين والحمد الله الذي أكرمنا بها وأنتم عندنا رضى وثقة وأنفسنا مبذولة لكم ونحن نموت على طاعتكم ورضاكم.

ثم انصرفوا وساروا إلى عائشة فسلموا عليها وقالوا قد علمنا أن أمنا لم تخرج إلينا إلا لثقتها بنا وأنها تريد الإصلاح وحقن الدماء وإطفاء الفتن والألفة بين المسلمين وإنا ننتظر أمرها في ذلك فإن أبى عليها أحد فيه قاتلناه حتى يفئ إلى الحق.

وبلغ كلام طلحة مع أهل البصرة إلى عبد بن حكيم التميمي فصار إليه وقال له يا طلحة هذه كتبك وصلت إلينا بعيب عثمان بن عفان وخبرك عندنا بالتأليب عليه حتى قتل وبيعتك عليا في جماعة الناس ونكثك بيعته من غير حدث كان منه فيما بلغني عنك وفيما جئت بعد الذي عرفناه من رأيك في عثمان، فقال له طلحة أما عيبي لعثمان وتأليبي عليه فقد كان فلم نجد لنا من الخلاص منه سبيلا إلا التوبة فيما اقترفناه من الجرم له والأخذ بدمه فأما بيعتي له فإني أكرهت على ذلك وخشيت منه أن يؤلب علي إن امتنعت من بيعته ويغري بي فيمن أغراه بعثمان حتى قتله، فقال له عبد الله بن حكيم هذه معاذير يعلم الله باطن الأمر فيها وهو المستعان على ما نخاف من عاقبة أمرها.

خطبة أخرى له: وروى عبد الله بن عبيدة قال لما كان من كلام عبد الله بن حكيم ما كان قام طلحة فحمد الله وأثنى عليه وقال أن رسول الله صلى الله عليه وآله توفي وهو عنا راض وكنا مع أبي بكر حتى توفاه الله فمات وهو عنا راض ثم كان عمر بن الخطاب فسمعناه وأطعناه حتى قبض وهو عنا راض فأمرنا بالتشاور في أمر الخلافة من بعده واختار ستة نفر ورضيهم للأمر فاستقام أمرنا على رجل من الستة ولينا واجتمع رأينا عليه وهو عثمان وكان أهلا لذلك فبايعناه وسمعنا له وأطعناه فأحدث بعد ذلك إحداثا لم تكن على عهد أبي بكر وعمر فكرهها الناس منه ولم يكن لنا بد مما صنعناه.

وأخذ هذا الرجل الأمر دوننا من غير مشورتنا وتغلب عليه ونحن فيه وهو شرع سواء فأتى بنا إليه ونحن أكره الناس إليه واللح على أعناقنا فبايعناه كرها والذي نطلب منه أيها الناس الآن أن يدفع إلى ورثة عثمان قاتليه فإنه قتل مظلوما ويخلع هذا الأمر ويعتزله ليتشاور المسلمون فيمن يكون إماما كسنة عمر بن الخطاب فإذا استقام رأينا ورأى أهل الإسلام على رجل بايعناه.

فلما فرغ من كلامه قام عظيم من عظماء عبد القيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أنه قد كان وال هذا الأمر وقوامه المهاجرون والأنصار بالمدينة ولم يكن لأحد من أهل الأمصار أن ينقضوا ما أبرموا ولا يبرموا ما نقضوا فكانوا إذا رأوا رأيا كتبوا به إلى الأمصار فسمعوا لهم وأطاعوا وأن عائشة وطلحة والزبير كانوا أشد الناس على عثمان حتى قتل وبايع الناس عليا وبايعه في جملتهم طلحة والزبير فجاءنا نبأهما بيعتهما له فبايعناه فو الله لا نخلع خليفتنا ولا ننقض بيعتنا. فصاح عليه طلحة والزبير وأمرا بقرض لحيته فنتفوها حتى لم يبق منها شيء.

وقام رجل من بني جشم فقال: أيها الناس أنا فلان بن فلان فاعرفوني وإنما أنتسب لهم ليعلموا أن له عشيرة تمنعه فلا يعجل عليه من لا يوافقه كلامه قال أيها الناس أن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤكم يطلبون بدم عثمان فو الله ما نحن قتلنا عثمان وإن كانوا جاؤوكم خائفين فو الله ما جاؤوا إلا من حيث يأمن الطير فلا تغتروا بهم واسمعوا قولي وأطيعوا أمري وردوا هؤلاء القوم إلى مكانهم الذي منه أقبلوا وأقيموا على بيعتكم لإمامكم وأطيعوا لأميركم. فصاح عليه الناس من جوانب المسجد وقذفوه بالحصى.

ثم قام رجل آخر من متقدمي عبد القيس فقال: أيها الناس انصتوا حتى أتكلم فقال له عبد الله بن الزبير ويلك مالك وللكلام فقال ما لي وله أنا والله للكلام به وفيه ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه وقال: يا معاشر المهاجرين كنتم أول الناس إسلاما بعث الله محمدا نبيه بينكم فدعاكم فأسلمتم وأسلمنا لإسلامكم فكنتم فيه القادة ونحن لكم تبع ثم توفي رسول الله فبايعتم رجلا منكم لم تستأذنونا في ذلك فسلمنا لكم ثم أن ذلك الرجل توفي واستخلف عمر ابن الخطاب فو الله ما استشارنا في ذلك فما رضيتم به رضينا وسلمنا ثم أن عمر جعلها شورى في ستة نفر فاخترتم منهم واحدا فسلمنا لكم واتبعناكم ثم أن الرجل أحدث أحداثا أنكرتموها فحصرتموه وخلعتموه وقتلتموه وما استشرتمونا في ذلك ثم بايعتم علي بن أبي طالب وما استشرتمونا في بيعته فرضينا وسلمنا وكنا لكم تبعا فو الله ما ندري بماذا نقضتم عليه؟ هل أستأثر بمال؟ أو حكم بغير ما أنزل الله؟ أو أحدث منكرا؟ فحدثونا به نكن معكم فو الله ما نراكم إلا قد ظللتم بخلافكم له فقال له ابن الزبير ما أنت وذاك وأراد أهل البصرة أن يثبوا عليه فمنعتهم عشيرته.

- خطبة عائشة ومن جادلها
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 165، 167:

خطبة عائشة: فصل: وروى محمد بن عمر الواقدي عن موسى بن طلحة قال لقد شهدت عائشة يوم الجمل وقد سألها الناس عن عثمان فما رأيت أفصح منها لسانا ولا أربط منها جنانا فاستجلبت الناس بيديها ثم حمدت الله وأثنت عليه وقالت: أيها الناس إنا نقمنا على عثمان لخصال ثلاثة: إمارة بالغنى وضربه بالسوط ورفعه موضع الإمامة حتى إذا عتبنا منهن مصوه مص الماء بالصابون ثم عدوا عليه فاستحلت منه حرمات ثلاث حرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام وحرمة الخلافة والله لعثمان كان أتقاهم للرب وأوصلهم للرحم وأعفهم للفرج أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وروى إسرافيل بن يونس عن أبي إسحاق الهمداني قال جاء جليد ابن زهير الجشمي وعبد الله بن عامر التميمي فدخلا على عائشة فسلما عليها فقالت من هذان الرجلان؟ فقيل لها هذان زهير بن جليد صاحب خراسان وهذا عبد الله بن عامر التميمي فقالت هما معنا أم علينا؟ فقالا لا معك ولا عليك حتى يتبين لنا الأمر فقالت كفى بالاعتزال نصرة.

وروى عمر بن صباح قال اجتمع نفر من وجوه البصرة إلى طلحة والزبير فقالوا لهما فإن ولاة عثمان غيركما فدعوا ولاته يطالبون بدمه والله ما نراكما أنصفتما رسول الله صلى الله عليه وآله في حبيسته عرضتماها للرياح والشموس والقتال وقد أمرها الله أن تقر في بيتها وتركتما نساءكما في الأكنان والبيوت هلا جئتم بنسائكما معكما فقال لهم طلحة اغربوا عنا قبحكم الله.

وجاء عمرو بن حصين إلى عائشة فقال لها قد كان لك يا عائشة في أخواتك عبرة وفي أمثالك من أمهات المؤمنين أسوة أما سمعت الله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فلو اتبعت أمر الله كان خيرا لك فقالت له يا عمر قد كان ما كان فهل عندك عونا لنا وإلا فاحبس عنا لسانك، قال اعتزل عليا، قالت رضيت بذلك منك.

- رسل أمير المؤمنين ينصحون لأصحاب الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 167، 171:

النصيحة لأصحاب الجمل: فصل: ولما سار أمير المؤمنين عليه السلام من ذي قار قدم صعصعة بن صوحان بكتاب علي عليه السلام إلى طلحة والزبير وعائشة يعظم عليهم حرمة الإسلام ويخوفهم فيما صنعوه وقبيح ما ارتكبوه من قتل من قتلوا من المسلمين وما صنعوا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله عثمان بن حنيف رحمه الله وقتلهم المسلمين صبرا ووعظهم ودعاهم إلى الطاعة، قال صعصعة رحمه الله فقدمت عليهم فبدأت بطلحة وأعطيته الكتاب وأديت الرسالة فقال الآن حين عضت ابن أبي طالب الحرب ترفق لنا ثم جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة ثم جئت إلى عائشة فوجدتها أسرع الناس إلى الشر، فقالت نعم قد خرجت للطلب بدم عثمان والله لأفعلن وأفعلن فعدت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فلقيه قبل أن يدخل البصرة فقال ما وراءك يا صعصعة؟ قلت يا أمير المؤمنين رأيت قوما ما يريدون إلا قتالك فقال الله المستعان.

ثم دعا عبد الله بن عباس فقال انطلق إليهم فناشدهم وذكرهم العهد الذي لي في رقابهم قال ابن عباس جئتهم فبدأت بطلحة فذكرته العهد فقال لي يا ابن عباس والله لقد بايعت عليا واللح على رقبتي فقلت له أنا رأيتك بايعت طايعا أولم يقل لك على بيعتك له إن أحببت أبايعك فقلت لا بل نحن نبايعك؟ فقال طلحة إنما قال لي ذلك وقد بايعه قوم فلم أستطع خلافهم والله يا ابن عباس إن القوم الذين معه يغرونه وقد لقيناه فسيسلمونه أما عملت يا ابن عباس إني جئت إليه والزبير ولنا من الصحبة ما لنا مع رسول الله والقدم في الإسلام وقد أحاط به الناس قياما على رأسه بالسيف فقال لنا يهزل إن أحببتما بايعت لكما فلو قلنا نعم افتراه يفعل؟ وقد بايع الناس له فليخلع نفسه ويبايعنا لا والله ما كان يفعل وحتى أن يغري بنا من لا يرى لنا حرمة فبايعناه كارهين وقد جئنا نطلب بدم عثمان فقل لابن عمك إن كان يريد حقن الدماء وإصلاح أمر الأمة فليمكننا من قتلة عثمان فهم معه ويخلع نفسه ويرد الأمر ليكون شورى بين المسلمين فيولوا من شاؤوا فإنما علي عليه السلام رجل كأحدنا وإن أبى أعطيناه السيف فما له عندنا غير هذا.

قال ابن عباس يا أبا محمد لست تنصف ألم تعلم أنك حصرت عثمان حتى مكث عشرة أيام يشرب ماء بئره وتمنعه من شرب الماء حتى كلمك علي في أن تخلي الماء له وأنت تأبى ذلك ولما رأى أهل مصر فعلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه ثم بايع الناس رجلا له من السابقة والفضل والقرابة برسول الله صلى الله عليه وآله والبلاء العظيم ما لا يدفع وجئت أنت وصاحبك طائعين غير مكرهين حتى بايعتما ثم نكثتما فعجب والله إقرارك لأبي بكر وعمر وعثمان بالبيعة ووثوبك على ابن أبي طالب فو الله ما علي عليه السلام دون أحد منكم وأما قولك يمكنني من قتلة عثمان فما يخفي عليك من قتل عثمان وأما قولك إن أبى علي عليه السلام فالسيف فو الله إنك تعلم أن عليا لا يتخوف.

فقال طلحة إيها الآن دعنا من جدالك. قال فخرجت إلى علي وقد دخل البيوت بالبصرة فقال ما ورائك فأخبرته الخبر فقال اللهم افتح بيننا بالحق وأنت خير الفاتحين، ثم قال ارجع إلى عائشة واذكر لها خروجها من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وخوفها من الخلاف على الله عز وجل ونبذها عهد النبي صلى الله عليه وآله وقل لها إن هذه الأمور لا تصلحها النساء وإنك لم تؤمري بذلك فلم ترضى بالخروج عن أمر الله في تبرجك وبيتك الذي أمرك النبي بالمقام فيه حتى سرت إلى البصرة فقتلت المسلمين وعمدت إلى عمالي فأخرجتهم وفتحت بيت المال وأمرت بالتنكيل بالمسلمين وأبحت دماء الصالحين فارعي وراقبي الله عز وجل فقد تعلمين أنك كنت أشد الناس على عثمان فما عدا مما بدا.

قال ابن عباس فلما جئتها وأديت الرسالة إليها وقرأت كتاب علي عليه السلام عليها. قالت يا ابن عباس ابن عمك يرى أنه قد تملك البلاد لا والله ما بيده منها شيء إلا وبيدنا أكثر منه. فقلت يا أماه إن أمير المؤمنين عليه السلام له فضل وسابقة في الإسلام وعظم عناء. قالت ألا تذكر طلحة وعناءه يوم أحد قال فقلت لها والله ما نعلم أحدا أعظم عناء من علي عليه السلام. قالت أنت تقول هذا ومع علي أشياء كثيرة قلت الله الله في دماء المسلمين قالت وأي دم يكون المسلمين إلا أن يكون علي يقتل نفسه ومن معه قال ابن عباس فتبسمت فقالت مما تضحك يا ابن عباس؟. فقلت والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه قالت حسبنا الله ونعم الوكيل.

قال وقد كان أمير المؤمنين أوصاني أن ألقى الزبير وإن قدرت أن أكلمه وابنه ليس بحاضر فجئت مرة أو مرتين كل ذلك أجده عنده ثم جئت مرة أخرى فلم أجده عنده فدخلت عليه وأمر الزبير مولاه شرحسا أن يجلس على الباب ويحبس عنا الناس فجعلت أكلمه فقال عصيتم إن خولفتم والله لتعلمن عاقبة ابن عمك فعلمت أن الرجل مغضب فجعلت ألاينه فيلين مرة ويشتد أخرى. فلما سمع شرحسا ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير وكان عند طلحة فدعاه فأقبل سريعا حتى دخل علينا. فقال يا ابن عباس دع بنيات الطريق بيننا وبينكم عهد خليفة ودم خليفة وانفراد واحد واجتماع ثلاثة وأم مبرورة ومشاورة العامة. فأمسكت ساعة لا أكلمه ثم قلت لو أردت أن أقول لقلت فقال ابن الزبير ولم تؤخر ذلك؟ وقد لحم الأمر وبلغ السيل الزبى قال ابن عباس فقلت ما قولك عهد خليفة فإن عمر جعل الشورى إلى ستة نفر فجعل النفر أمرهم إلى رجل منهم يختار لهم منهم ويخرج نفسه منها فعرض الأمر على علي فحلف عثمان وأبى علي أن يحلف فبويع عثمان فهذا عهد خليفة وأما دم خليفة فدمه عند أبيك لا يخرج أبوك من خصلتين أما قتل وأما خذل وأما الانفراد واجتماع ثلاثة فإن الناس لما قتلوا عثمان فزعوا إلى علي فبايعوه طوعا وتركوا أباك وصاحبه ولم يرضوا بواحد منهما وأما قولك إن معكم أما مبرورة فإن هذه الأم أنتما أخرجتماها من بيتها وقد أمرها الله تعالى أن تقر فيه فأبيت أن تدعها وقد علمت أنت وأبوك أن النبي صلى الله عليه وآله حذرها من الخروج وقال لها يا حميرا إياك أن تنبحك كلاب الحوأب وكان منها ما قد رأيت وأما دعواك مشاورة العامة فكيف يشاور فيمن قد اجتمع عليه وأنت تعلم أن أباك وطلحة بايعا طائعين غير كارهين فقال ابن الزبير الباطل والله ما تقول يا ابن عباس وقد سئل عبد الرحمن بن عوف عن أصحاب الشورى فكان صاحبكم أخيبهم عنده وما أدخله عمر في الشورى إلا وهو يقرفه ولكنه خاف فتقه في الإسلام وأما قتل خليفة فصاحبك كتب إلى الآفاق حتى قدموا عليه ثم قتلوه وهو في داره بلسانه ويده وأنا معه في الدار أقاتل دونه حتى جرحت بضعة عشر جرحا وأما قولك إن عليا بايعه الناس طايعين فو الله ما بايعوه إلا كارهين والسيف على رقابهم غصبهم أمره فقال الزبير دع عنك ما ترى يا ابن عباس جئتنا لتوفينا فقال له ابن عباس أنتم طلبتم هذا والله ما عددناك قط إلا منا بنو هاشم لأنهم أخوالك ومحبتك لهم حتى إدراك ابنك هذا فقطع أرحامهم فقال الزبير دع عنك هذا.

- أمير المؤمنين ينظم الجيش
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 171:

علي ينظم الجيش: ولما عاد رسل أمير المؤمنين من طلحة والزبير وعائشة بإصرارهم على خلافه وإقامتهم على نكث بيعته والمباينة له والعمل على حربه واستحلال دماء شيعته وأنهم لا يتعظون بوعظ ولا ينتهون عن الفساد بوعيد كتب الكتائب ورتب العساكر واستعمل على مقدمته عبد الله بن عباس رحمه الله وعلى ساقته هند المرادي ثم الجملي وهو الذي قال فيه عمر بن الخطاب سيد أهل الكوفة اسمه اسم امرأة واستعمل على كافة الخيل عمار بن ياسر وعلى جميع الرجالة محمد بن أبي بكر وفرق الرايات من بعده فجعل على خيل مذحج خاصة هند الجملي وعلى رجالتها شريح ابن هاني الحارثي وعلى خيل همدان سعيد بن قيس وعلى رجالتها زياد ابن كعب بن مرة وعلى خيل كندة حجر بن عدي وعلى خيل بجيلة ورجالتها رفاعة بن شداد وعلى خيل قضاعة ورجالتها عدي بن حاتم وعلى خيل خزاعة وأفناء اليمن عبد الله بن زيد وعلى رجالتها عمرو بن الحمق الخزاعي وعلى خيل الأزد جندب بن زهير وعلى رجالتها أبا زينب الذي شهد على الوليد بن عقبة بشرب الخمر وكان سبب صرفه وأقام الحد عليه وعلى خيل بكر بن وائل عبد الله بن هاشم السدوسي وعلى رجالتها حسان بن مخدوع الذهلي وعلى خيل عبد القيس من أهل الكوفة زيد بن صوحان العبدي وعلى رجالتها الحرث بن مرة العبدي وعلى خيل بكر بن وائل من أهل البصرة سفيان بن ثور الدوسي وعلى رجالتها الحصين بن المنذر وهو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام يوم صفين:

لمن راية سوداء يخفق ظلها  *  إذا قيل قدمها حصين تقدما

وعلى المهازم خاصة جوهر بن جابر الخفر وعلى الذهلين خالد بن المعمر السدوسي وعلى خيل عبد القيس من أهل البصرة المنذر بن الجارود العبدي وعلى خيل أسد قبيصة بن جابر الأسدي وعلى رجالتها العكبر بن وائل الأسدي وهو الذي قتل محمد بن طلحة في ذلك اليوم وعلى خيول أهل الكوفة من بني تميم عمير بن عطارد وعلى رجالتها معقل بن قيس وهو الذي سبى بني ناجية وعلى خيل قيس غيلان من أهل الكوفة عبد الله بن الطفيل البكالي وعلى رجالتها قرة بن نوفل الأشجعي صاحب النخيلة وعلى خيل قريش وكنانة هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص المرقال وعلى رجالتها هاشم بن هاشم وعلى من صار إليه من تميم البصرة جارية بن قدامة السعدي وعلى رجالتها أعين بن ضبيعة فأحاط العسكر يومئذ من الفرسان المعروفين والرجالة المشهورين على ستة عشر ألف رجل.

ولما بلغ طلحة والزبير أن أمير المؤمنين عليه السلام كتب الكتائب ورتب العساكر وتيقنوا منه الجد وأيقنوا منه القصد والحرب عمدا على الاستعداد لها وكان أهل البصرة قد اختلفوا عليهما وقعد الأحنف في بني سعد وكانا يظنان أنه معهم فأخلف ظنهم وتأخر عنهما الأزد لقعود كعب بن شور القاضي عنهما وكان سيد الأزد وأهل اليمن بالبصرة فأنفذا إليه رسوليهما يسألانه النصرة لهما والقتال معهما فأبى عليهما وقال أنا أعتزل الفريقين فقالا لئن قعد عنا كعب خذلنا الأزد بأسرها ولا غنى لنا عنه فصارا إليه واستأذنا عليه فلم يأذن لهما وحجبهما فصارا إلى عائشة فخبراها خبره وسألاها أن تسير إليه فأبت وراسلته تدعوه إلى الحضور عندها فاستعفاها من ذلك.

فقال طلحة والزبير يا أم إن قعد عنا كعب قعدت عنا الأزد كلها وهي حي البصرة فاركبي إليه فإنك  إن فعلت لم يخالفك وانقاد لرأيك فركبت بغلا وأحاط بها نفر من أهل البصرة وصارت إلى كعب بن شور فاستأذنت عليه فأذن لها ورحب بها فقالت يا بني أرسلت إليك لتنصر الله عز وجل فما الذي أخرك عني؟ فقال يا أماه لا حاجة لي في خوض هذه الفتنة فقالت يا بني اخرج معي وخذ بخطام جملي فإني أرجو أن يقربك بي إلى الجنة واستعبرت باكية فرق لها كعب بن شور وأجابها وعلق المصحف في عنقه وخرج معها فلما خرج والمصحف في عنقه قال غلام من بني وهب وقد كان عرف امتناعه وتأنيه عن خوض هذه الفتنة يقول:

أيا كعب رأيك ذاك الجزيل  *  أمثل من رأيك الخاطل

أتاك الزبير يدير الأمور  *  وطلحة بالنقل الثاكل

ليستدرجاك بما زخرفا  *  وأمك تهوي إلى نازل

وقد كانت الأم معصومة  *  فأضحت فرائس للآكل

تخط بها الأرض مرحولها  *  ترد الجواب على السائل

فألفيتها بين حي السباع  *  وعرضتها للشجى الثاكل

بحرب علي وأصحابه  *  فقد أزم الدهر بالكاهل

فأبديت للقوم ما في الضميـر  *  وقلت لهم قولة الخاذل

فأحطاهما منك ما أملاه  *  وقد أخلفا أمل الآمل

وما لك في مصر من نسبة  *  وما لك في الحي من وائل

فلا تجزعن على هالك  *  من القوم حاف ومن ناعل

ولما نهض كعب بن شور مع عائشة في الأزد اجتمع رأي طلحة والزبير على تكتب الكتائب واستقر الأمر معهما على أن الزبير أمير العسكر خاصة ومديره وطلحة في القلب واللواء مع عبد الله بن حزام ابن خويلد وكعب بن شور مع الأزد وعلى خيل الميمنة مروان بن الحكم وعلى رجالة الميمنة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وعلى خيل الميسرة وهم بنو تميم وسائر قبائل قضاعة وهوازن هلال بن وكيع الدارمي وعلى رجالة الميسرة عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وقد ضم إليه الحباب يزيد وعلى خيل قيس غيلان مجاشع بن مسعود وعلى رجالتهم جابر بن النعمان الباهلي وعلى خيل الرباب عمرو بن ثيري وعلى رجالتهم خرشنة ابن عمرو العتبي وعلى من انحاز إليهم من ثقيف عبد الله بن عامر بن كريز وعلى أفناء أهل المدينة عبد الله بن خلف الخزاعي وعلى رجالة مذحج الربيع بن زياد الحارثي وعلى رجالة قضاعة عبد الله بن جابر الراسبي وعلى من انحاز إليهم من ربيعة مالك بن مسمع ولما تقرر أمر الكتائب في الفريقين فخرج كل فريق بقومه وقام خطباؤهم بالتحريض على القتال.

- خطبة ابن الزبير في معسكرهم
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 174، 175:

خطبة ابن الزبير: فقام عبد الله بن الزبير في معسكرهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إن هذا الرعث والوعث قتل عثمان بالمدينة ثم جاءكم ينشر أموركم بالبصرة وقد غضب الناس أنفسهم ألا تنصرون خليفتكم لمظلوم ألا تمنعون حريمكم المباح ألا تتقون الله في عطيتكم من أنفسكم أترضون أن يتوردكم أهل الكوفة في بلادكم اغضبوا فقد غوضبتم وقاتلوا فقد قوتلتم إن عليا لا يرى أن معه في هذا الأمر أحد سواه والله لئن ظفر بكم ليهلكن دينكم ودنياكم. وأكثر من نحو هذا القول وشبهه.

- خطبة الإمام الحسن في معسكر أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 175، 176:

خطبة الحسن: فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام وقال لولده الحسن عليه السلام قم يا بني فاخطب فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس قد بلغتنا مقالة ابن الزبير وقد كان والله يتجنى على عثمان الذنوب وقد ضيق عليه البلاد حتى قتل وإن طلحة راكز رايته على بيت ماله وهو حي وأما قوله إن عليا ابتز الناس أمرهم فإن أعظم حجة لأبيه زعم أنه بايعه بيده ولم يبايعه بقلبه فقد أقر بالبيعة وادعى الوليجة فليأتي على ما ادعاه ببرهان وأنى له ذلك وأما تعجبه من تورد أهل الكوفة على أهل البصرة فما عجبه من أهل حق توردوا على أهل باطل ولعمري والله ليعلمن أهل البصرة وميعاد ما بيننا وبينهم اليوم نحاكمهم إلى الله تعالى فيقضي الله الحق وهو خير الفاصلين.

فلما فرغ الحسن عليه السلام من كلامه قام رجل يقال له عمر بن محمود وأنشد شعرا يمدح الحسن.

- خطبة طلحة في معسكرهم أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 176، 177:

خطبة طلحة: قال فلما بلغ طلحة والزبير خطبة الحسن عليه السلام ومدح المادح له قام طلحة خطيبا في أصحابه وقال: يا أهل البصرة قد ساق الله إليكم خير ما ساقه إلى قوم قط: أمكم وحرمة نبيكم وحواري رسول الله وابن عمته ومن وقاه بيده، إن عليا غصب الناس أنفسهم بالحجاز وتهيأ للشام يريد سفك دماء المسلمين والتغلب على بلادهم فلما بلغه مسيرنا إليكم وقصدنا قصدكم وقد اجتمع معه منافقوا مضر وأنصار ربيعة ورجالة اليمن فإذا رأيتم القوم فاقصدوا قصدهم ولا ترعووا عنهم وتقولوا ابن عم رسول الله وهذه معكم زوجة الرسول وأحب الناس إليه وابنة الصديق الذي كان أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقام إلى طلحة رجل يقال له خيران بن عبد الله من أهل الحجاز كان قدم البصرة وهو غلام فقال: يا طلحة والله ما تركت جنبا صحيحا عليه بشتمك ربيعة ومضر واليمن وإن كان القول كما تقول فإنا لمثلهم وهم منا ونحن منهم وما يفرق بيننا وبينهم غيرك وغير صاحبك ولقد سبقت إلينا من علي عليه السلام بيعة ما ينبغي لنا أن ننقضها وإنا لنعلم حالكم اليوم وحالكم أمس. فهم القوم به فمنعهم بنو أسد فخرج منهم ولحق بمنزل ابن صهبان مستخفيا إشفاقا على دمه منهم.

وقام الأسود بن عوف لما سمع طلحة يشتم الأحياء من ربيعة ومضر واليمن فقال يا هذا إن الله لا يفرق بيننا وبين مضر وإن أهل الكوفة منا كمن شهد الأخ إلى الأخ وإنما خلفنا القوم في هوان فاعفنا مما ترى. ثم خرج فلحق بعمان ولم يشهد الجمل ولا صفين.

- خطبة أمير المؤمنين في عسكره
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 177، 178:

خطبة أمير المؤمنين: وبلغ أمير المؤمنين عليه السلام لغط القوم واجتماعهم على حربه. فقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: أيها الناس إن طلحة والزبير قدما البصرة وقد اجتمع أهلها على طاعة الله وبيعتي فدعواهم إلى معصية الله تعالى وخلافي فمن أطاعهما منهم فتنوه ومن عصاهما قتلوه وقد كان من قتلهما حكيم بن جبلة ما بلغكم وقتلهم السبابجة وفعلهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عليكم وقد كشفوا الآن القناع وأذنوا بالحرب وقام طلحة بالشتم والقدح في أديانكم وقد أرعد وصاحبه وأبرقا وهذان امرءان معهما الفشل ولسنا نريد منكم أن تلقوهم ليظنوا ما في نفوسكم عليهم ولا ترون ما في أنفسكم لنا ولسنا نرعد حتى نوقع ولا نسيل حتى نمطر وقد خرجوا من هدى إلى ضلال ودعوناكم إلى الرضا ودعونا إلى السخط فحل لنا ولكم ردهم إلى الحق والقتال وحل لهم بقصاصهم القتل وقد والله مشوا إليكم ضرارا وأذاقوكم أمس من الجمر فإذا لقيتم القوم غذا فاعذروني الدعاء وأحسنوا في التقية واستعينوا بالله واصبروا إن الله مع الصابرين.

فقام إليه حكيم بن مناف حتى وقف بين يديه وقال:

أبا حسن أيقضت من كان نائما  *  وما كل من يدعى إلى الحق يسمع

وما كل من يعطى الرضا يقبل الرضا  *  وما كان من أعطيته الحق يقنع

وأنت امرء أعطيت من كل وجهة  *  محاسنها والله يعطي ويمنع

وما منك بالأمر المؤلم غلطة  *  وما فيك للمرء المخالف مطمع

وإن رجالا بايعوك وخالفوا  *  هداك وأجروا في الضلال فضيعوا

لاهل لتجريد الصوارم فيهم  *  وسمر العوالي والقنا تتزعع

فإني لأرجو أن تدور عليهم  *  رحى الموت حتى يسكنوا ويصرعوا

وطلحة فيها والزبير قرينه  *  وليس لما لا يدفع الله مدفع

فإن يمضيا فالحرب أضيق حلقة  *  وإن يرجعا عن تلك فالسلم أوسع

وما بايعوه كارهين لبيعة  *  وما بسطت منهم إلى الكره إصبع

ولا بطيا عنها فراقا ولا بدا   *  لهم أحد بعد الذين تجمعوا

على نقضها ممن له شد عقدها  *  فقصراهما منه أصابع أربع

خروج بأم المؤمنين وغدرهم   *  وعيب على من كان في القلب أشجع

وذكرهم قتل ابن عفان خدعة  *  وهم قتلوه والمخادع يخدع

فعود علي نبعة هاشمية  *  وعودهما فيما هما فيه (خروع)

- حرب الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 178، 209:

أحداث الحرب:...

- أمير المؤمنين يكلم القتلى
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 209:

الوصي يكلم القتلى: فصل: لما انجلت الحرب بالبصرة وقتل طلحة والزبير وحملت عايشة إلى قصر بني خلف ركب أمير المؤمنين عليه السلام وتبعه أصحابه وعمار بن ياسر رحمه الله يمشي مع ركابه حتى خرج إلى القتلى يطوف عليهم فمر بعبد الله بن خلف الخزاعي وعليه ثياب حسان مشهرة فقال الناس هذا والله رأس الناس فقال عليه السلام ليس برأس الناس ولكنه شريف منيع النفس ثم مر بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقال هذا يعسوب القوم ورأسهم كما ترونه ثم جعل يستعرض القتلى رجلا رجلا فلما رأى أشراف قريش صرعى في جملة القتلى قال جدعت أنفي أما والله إن كان مصرعكم لبغيضا إلي ولقد تقدمت إليكم وحذرتكم عض السيوف وكنتم أحداثا لا علم لكم بما ترون ولكن الحين ومصارع السوء نعوذ بالله من سوء المصرع ثم سار حتى وقف على كعب بن شور وهو مجدل بين القتلى وفي عنقه المصحف فقال نحو المصحف وضعوه في مواضع الطهارة ثم قال اجلسوا لي كعبا فأجلس ورأيته ينخفض إلى الأرض فقال يا كعب بن شور قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا ثم قال اضجعوا كعبا فتجاوزه فمر فرأى طلحة صريعا فقال اجلسوا طلحة فأجلس وقال يا طلحة بن عبد الله قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا ثم قال اضجعوه فوقف رجل من القراء أمامه وقال يا أمير المؤمنين ما كلامك هذه إلهام قد صديت لا تسمع لك كلاما ولا ترد جوابا فقال عليه السلام إنهما ليسمعان كلامي كما سمع أصحاب القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله ولو أذن لهم في الجواب لرأيت عجبا ومر بعبد الله بن المقداد بن عمر وهو في الصرعى فقال رحم الله أباك إنما كان رأيه فينا أحسن من رأيك فقال عمار الحمد لله الذي أوقعه وجعل خده الأسفل إنا والله يا أمير المؤمنين لا نبالي عمن عند من الحق من ولد ووالد فقال عليه السلام رحمك الله يا عمار وجزاك عن الحق خيرا ومر بعبد الله بن ربيعة بن رواح وهو في القتلى فقال هذا البائس ما كان أخرجه نصر عثمان والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن ومر بمعبد بن زهير بن أمية فقال لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام والله ما كان فيها بذي مخبره ولقد أخبرني من أدركه أنه يلوذ خوفا من السيف حتى قتل البائس ضياعا ومر بمسلم بن قرضة فقال البر أخرج هذا ولقد سألني أن أكلم عثمان في شيء يدعيه عليه بمكة فلم أزل به حتى أعطاه وقال لي لولا أنت ما أعطيته إن هذا ما علمت بئس العشيرة ثم جاء لحينه ينصر عثمان ثم مر بعبد الله بن عمير ابن زهير قال هذا أيضا ممن وضع في قتلانا يطلب بزعمه دم عثمان ولقد كتب إلي كتبا آذى عثمان فيها فأعطاه شيئا فرضي عنه ومر بعبد الله ابن حكيم بن حزام فقال هذا خالف أباه في الخروج علي وإن أباه حيث لم ينصرنا بايع وجلس في بيته ما ألوم أحدا إذا كف عنا وعن غيرنا ولكن الملوم الذي يقاتلنا ومر بعبد الله بن المغيرة بن الأخنس فقال أما هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار فخرج غضبا لمقتل أبيه وهو غلام لا علم له بعواقب الأمور ومر بعبد الله بن الأخنس بن شريق فقال أما هذا فإني أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف وإنه لهارب يعدو من السيف فنهيت عنه فلم يسمع نهيي حتى قتل وكان هذا ممن مقت علي وإنه من فتيان قريش الأغمار لا علم لهم بالحرب خدعوا واستنزلوا فلما وقعوا ألحجوا فقتلوا.

- أمير المؤمنين يأمر بدفن قتلاه في حرب الجمل في ثيابهم ويقول إنهم يحشرون على الشهادة وإني لشاهد لهم بالوفاء
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 211:

الشهيد يحاج بدمه: ثم أمر عليه السلام مناديه فنادى: من أحب أن يواري قتيله فليواره وقال عليه السلام واروا قتلانا في ثيابهم التي قتلوا فيها فإنهم يحشرون على الشهادة وإني لشاهد لهم بالوفاء.

- كتاب أمير المؤمنين بعد حرب الجمل إلى المدينة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 211، 213:

كتب علي إلى المدينة والكوفة: ثم رجع إلى خيمته واستدعى عبد الله بن رافع وقال اكتب إلى أهل المدينة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي بن أبي طالب. سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو فإن الله بمنه وفضله وحسن بلائه عندي وعندكم حكم عدل وقد قال سبحانه في كتابه وقوله الحق: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}. وإني مخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة ومن سار إليهم من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ونكثهما علي ما قد علمتم من بيعتي وهما طايعان غير مكرهين فخرجت من عندكم بمن خرجت ممن سارع إلى بيعتي وإلى الحق حتى نزلت (ذا قار) فنفر معي من نفر من أهل الكوفة وقدم طلحة والزبير البصرة وصنعا بعاملي عثمان بن حنيف ما صنعا فقدمت إليهم الرسل وأعذرت كل الأعذار ثم نزلت ظهر البصرة فأعذرت بالدعاء وقدمت الحجة وأقلت العثرة والزلة واستعتبتهما ومن معهما ممن نكث بيعتي ونقض عهدي فأبوا إلا قتالي وقتال من معي والتمادي في الغي فلم أجد بدا في مناصفتهم بالجهاد فقتل الله من قتل منهم ناكثا وولى من ولى منهم وأغمدت السيوف عنهم وأخذت بالعفو فيهم وأجريت الحق والسنة في حكمهم واخترت لهم عاملا واستعملته عليهم وهو عبد الله بن عباس وإني سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى.

وكتب عبد الله بن أبي رافع في جمادي الأولى سنة ست وثلاثين من الهجرة وكتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أم هاني بنت أبي طالب: سلام عليك أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا التقينا مع البغاة والظلمة في البصرة فأعطانا الله تعالى النصر عليهم بحوله وقوته وأعطاهم سنة الظالمين فقتل كل من طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عتاب وجمع لا يحصى وقتل منا بنو مخدوع وابنا صوحان وعليا وهندا وثمامة فيمن يعد من المسلمين رحمهم الله والسلام.

- كتاب أمير المؤمنين بعد حرب الجمل إلى الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 213:

وكتب إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم من علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة. سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله حكم عدل {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} وإني أخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة ومن سار إليه من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير بعد نكثهما صفقة إيمانهما فنهضت من المدينة حين انتهى إلي خبرهم وما صنعوه بعاملي عثمان بن حنيف حتى قدمت ذا قار فبعثت إليكم ابني الحسن وعمارا وقيسا فاستنفروكم لحق الله وحق رسوله وحقنا فأجابني إخوانكم سراعا حتى قدموا علي بهم وبالمسارعة إلى طاعة الله حتى نزلت ظهر البصرة فأعذرت بالدعاء وأقمت الحجة وأقلت العثرة والزلة من أهل الردة من قريش وغيرهم واستعتبتهم عن نكثهم بيعتي وعهد الله لي عليهم فأبوا إلا قتالي وقتال من معي والتمادي في البغي فناهضتهم بالجهاد وقتل من قتل منهم وولى إلى مصرهم من ولى فسألوني ما دعوتهم إليه من كف القتال فقبلت منهم وغمدت السيوف عنهم وأخذت بالعفو فيهم وأجريت الحق والسنة بينهم واستعملت عبد الله بن عباس على البصرة وأنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى وقد بعثت إليكم زجر بن قيس الجعفي لتسألونه يخبركم عنا وعنهم وردهم الحق علينا وردهم الله وهم كارهون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكتب عبد الله بن أبي رافع في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين.

- خطبة أمير المؤمنين بعد معركة الجمل في البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 214:

خطبة علي عليه السلام: ولما كتب أمير المؤمنين عليه السلام بالفتح قام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وآله ثم قال: أما بعد فإن الله غفور رحيم عزيز ذو انتقام جعل عفوه ومغفرته لأهل طاعته وجعل عذابه وعقابه لمن عصاه وخالف أمره وابتدع في دينه ما ليس منه وبرحمته نال الصالحون وقد أمكنني الله منكم يا أهل البصرة وأسلمكم بأعمالكم فإياكم أن تعودوا إلى مثلها فإنكم أول من شرع القتال والشقاق وترك الحق والإنصاف.

- أمير المؤمنين لم يؤثر لنفسه من بيت مال البصرة شيئا ويقسمها بين أصحابه بالسوية
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 214:

زهد علي عليه السلام: ثم نزل عليه السلام واستدعى جماعة من أصحابه فمشوا معه حتى دخلوا بيت المال وأرسل إلى القراء فدعاهم ودعا الخزان وأمرهم بفتح الأبواب التي داخلها المال فلما رأى كثرة ما فيها فقال هذا جناي ثم قسم المال بين أصحابه فأصاب كل منهم ستة آلاف درهم وكان أصحابه اثني عشر ألف وأخذ كأحدهم فبينا هي بحالها إذ أتاه آت فقال يا أمير المؤمنين إن اسمي سقط من كتابك وقد رأيت من البلاء ما رأيت فدفع سهمه إلى ذلك الرجل.

وروى الثوري عن داوود بن أبي هند عن أبي حرز الأسود قال لقد رأيت بالبصرة طلحة والزبير قد أرسلا إلى أناس من أهل البصرة أنا فيهم فدخلنا بيت المال معهما فلما رأيا ما فيه من أموال قالا هذا ما وعدنا الله ورسوله ثم تليا هذه الآية: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} إلى آخر الآية وقالا نحن أحق بهذا المال من كل أحد ولما كان من القوم ما كان دعانا علي بن أبي طالب عليه السلام فدخلنا معه بيت المال فلما رأى ما فيه ضرب إحدى يديه على الأخرى وقال غري غيري وقسمه بين أصحابه بالسوية حتى لم يبق إلا خمسمأة درهم عزلها لنفسه فجاءه رجل فقال إن اسمي سقط من كتابك فقال عليه السلام ردوها عليه ثم قال الحمد لله الذي لم يصل إلي من هذا المال شيئا ووفره على المسلمين.

- خطبة أمير المؤمنين بعد قسمة أموال بيت مال البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 215:

خطبة بعد القسمة: روى الواقدي أن أمير المؤمنين عليه السلام لما فرغ من قسمة المال قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إني أحمد الله على نعمة قتل طلحة والزبير وهربت عائشة وأيم الله لو كانت عايشة طلبت حقا وهانت باطلا لكان لها في بيتها مأوى وما فرض الله عليها الجهاد وإن أول خطأها في نفسها وما كانت والله على القوم أشأم من ناقة الصخرة وما ازداد عدوكم بما صنع الله إلا حقدا وما زادهم الشيطان إلا طغيانا ولقد جاؤوا مبطلين وأدبروا ظالمين إن إخوانكم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا يرجون مغفرة الله وإننا لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل ويجمعنا الله وإياهم يوم الفصل وأستغفر الله لي ولكم.

- كتاب من أمير المؤمنين بعد معركة الجمل إلى أهل الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 215، 216:

كتاب إلى أهل الكوفة: وفي رواية عمر بن سعد عن يزيد بن الصلت عن عامر الأسدي قال إن عليا كتب بعد فتح البصرة مع عمر بن سلمة الأرحبي إلى أهل الكوفة من عبد الله علي بن أبي طالب إلى قرضة بن كعب ومن قبله من المسلمين سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا المفرقين لجماعتنا الباغين علينا من أمتنا فحاججناهم إلى الله فنصرنا الله عليهم وقتل طلحة والزبير وقد تقدمت إليهما بالنذر وأشهدت عليهما صلحاء الأمة ومكنتهما في البيعة فما أطاعا المرشدين ولا أجابا الناصحين ولاذ أهل البغي بعائشة فقتل حولها جم لا يحصى عددهم إلا الله ثم ضرب الله وجه بقيتهم فأدبروا فما كانت ناقة الحجر بأشأم منها على أهل ذلك المصر مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها لربها ونبيها من الحرب واغترار من اغتر بها وما صنعته من التفرقة بين المؤمنين وسفك دماء المسلمين لا بينة ولا معذرة ولا حجة لها فلما هزمهم الله أمرت أن لا يقتل مدبرا ولا يجهز على جريح ولا يهتك ستر ولا يدخل دار إلا بإذن أهلها وقد آمنت الناس واستشهد منا رجال صالحون ضاعف الله لهم الحسنات ورفع درجاتهم وأثابهم ثواب الصابرين وجزاهم من أهل مصر عن أهل بيت نبيهم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته فقد سمعتم وأطعتم ودعيتم فأجبتم فنعم الإخوان والأعوان على الحق أنتم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب عبد الله بن أبي رافع في رجب سنة ست وثلاثين.

- سيرة أمير المؤمنين بعد حرب الجمل في أهل البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 216:

سيرته في أهل البصرة: روى مطر بن خليفة عن منذر الثوري قال لما انهزم الناس يوم الجمل أمر أمير المؤمنين عليه السلام مناديا ينادي أن لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا وقسم ما حواه العسكر من السلاح والكراع.

وروى سفيان بن سعد قال قال عمار لأمير المؤمنين عليه السلام ما ترى في سبى الذرية قال ما أرى عليهم من سبيل إنما قاتلنا من قاتلنا ولما قسم ما حواه العسكر قال له بعض القراء من أصحاب أقسم من ذراريهم لنا وأموالهم وإلا فما الذي أحل دماءهم ولم يحل أموالهم فقال عليه السلام هذه الذرية لا سبيل عليها وهم في دار هجرة وإنما قتلنا من حاربنا وبغى علينا وأما أموالهم فهي ميراث لمستحقيها من أرحامهم فقال عمار رحمه الله لا نتبع مدبرهم ولا نجهز على جريحهم فقال عليه السلام لا لأني آمنتهم.

وروى سعد بن جشم عن خارجة عن مصعب عن أبيه قال شهدنا مع أمير المؤمنين عليه السلام الجمل فلما ظفرنا بهم خرجنا في طلب الطعام فجعلنا نمر بالذهب والفضة فلا نتعرض له وإذا وجدنا الطعام أصبنا منه قال وقسم علي عليه السلام ما وجده في العسكر من طيب بين نسائنا وقال عليه السلام مروا نساء هؤلاء المقتولين من أهل البصرة أن يعتدن منهم ولنقسم أموالهم في أهليهم فهي ميراث لهم على فريضة من الله قال وكان إذا أتى بأسير منهم فإن كان قاتل قتله وإن لم تقم عليه بينة بالقتل أطلقه ولما قسم ما حواه العسكر أمر بفرس فيه كادت أن تباع فقام إليه رجل قال يا أمير المؤمنين هذه الفرس لي كانت وإنما أعرتها لفلان ولم أعلم أنه يخرج عليها فسأله البينة على ذلك فأقام البينة إنها عارية فردها وقسم ما سوى ذلك.

- خطبة أمير المؤمنين في أهل البصرة
- أمير المؤمنين يعفو عن أهل البصرة بعدما ظهر عليهم
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 217، 218:

ذمه أهل البصرة: وروى نصر بن عمر بن سعد عن أبي خالد عن عبد الله بن عاصم عن محمد بن بشير الهمداني عن الحرث بن سريع قال لما ظهر أمير المؤمنين عليه السلام على أهل البصرة وقسم ما حواه العسكر قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله وقال: أيها الناس أن الله عز وجل ذو رحمة واسعة ومغفرة دائمة لأهل طاعته وقضى أن نقمته وعقابه على أهل معصيته يا أهل البصرة يا أهل المؤتفكة؟ ويا جند المرأة؟ وأتباع البهيمة، رغا فرجفتم، وعقر فانهزمتم، أحلامكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وأنتم فسقة مراق، أرضكم قريبة من الماء; بعيدة من السماء، خفت عقولكم، وسفهت أحلامكم، شهرتم سيوفكم علينا، وسفكتم دماءكم، وخالفتم إمامكم، فأنتم أكلة الآكل، وفريسة الظافر، والنار لكم مدخر، والعار لكم مفخر، يا أهل البصرة: نكثتم بيعتي، وظاهرتم علي ذوي عداوتي، فما ظنكم يا أهل البصرة الآن؟.

فقام إليه رجل منهم فقال نظن خيرا يا أمير المؤمنين ونرى أنك ظفرت وقدرت فإن عاقبت فقد أجرمنا وإن عفوت فالعفو أحب إلى رب العالمين.

فقال عليه السلام قد عفوت عنكم فإياكم والفتنة فإنكم أول من نكث البيعة وشق عصا الأمة فارجعوا عن الحوبة وأخلصوا فيما بينكم وبين الله بالتوبة ولما فرغ عليه السلام من الخطبة وكلامه لأهل البصرة ركب بغلته واجتمع إليه جماعة من شرطة الخميس وطوايف.

- أمير المؤمنين يبين أسباب بغض عائشة له
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 218، 220:

أسباب بغض عائشة: عن عمر بن أبان قال لما ظهر أمير المؤمنين على أهل البصرة جاءه رجال منهم فقالوا يا أمير المؤمنين ما السبب الذي دعا عائشة إلى المظاهرة عليك حتى بلغت من خلافك وشقاقك ما بلغت؟ وهي امرأة من النساء لم يكتب عليها القتال ولا فرض عليها الجهاد ولا أرخص لها في الخروج من بيتها ولا التبرج بين الرجال وليست مما تولته في شيء على حال، فقال عليه السلام سأذكر أشياء حقدتها علي ليس في واحد منها ذنب إليها ولكنها تجرمت بها علي.

أحدها: تفضيل رسول الله لي على أبيها وتقديمه إياي في مواطن الخير عليه فكانت تضطغن ذلك ويصعب عليها وتعرفه منه فتتبع رأيه فيه.

وثانيها: لما آخى بين أصحابه آخى بين أبيها وبين عمر بن الخطاب واختصني بإخوته فغلظ ذلك عليها وحدتي لسعدي منه.

وثالثها: أوصى صلوات الله عليه بسد أبواب كانت في المسجد لجميع أصحابه إلا بابي فلما سد باب أبيها وصاحبه وترك بابي مفتوحا في المسجد تكلم في ذلك بعض أهله فقال صلوات الله عليه ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي بل الله عز وجل سد أبوابكم وفتح بابه فغضب لذلك أبو بكر وعظم عليه وتكلم في أهله بشيء سمعته منه ابنته فاضطغنته علي.

وكان رسول الله أعطى أباها الراية يوم خيبر وأمره أن لا يرجع حتى يفتح أو يقتل فلم يلبث لذلك وانهزم فأعطاها في الغد عمر بن الخطاب وأمره بمثل ما أمر صاحبه فانهزم ولم يلبث فساء رسول الله ذلك وقال لهم ظاهرا معلنا: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده فأعطاني الراية فصبرت حتى فتح الله على يدي فغم ذلك أباها وأحزنه فاضطغنه علي وما لي إليه ذنب في ذلك فحقدت لحقد أبيها.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله أباها ليؤدي سورة براءة وأمره أن ينبذ العهد للمشركين فمضى حتى انحرف فأوحى الله إلى نبيه أن يرده ويأخذ الآيات فيسلمها إلي فعرف أباها بإذن الله عز وجل وكان فيما أوحى الله عز وجل إليه لا يؤدي عنك إلا رجل منك وكنت من رسول الله وكان مني فاضطغن لذلك علي أيضا واتبعته عائشة في رأيه.

وكانت عائشة تمقت خديجة بنت خويلد وتشنئها شنآن الضرائر وكانت تعرف مكانها من رسول الله صلى الله عليه وآله فيثقل ذلك عليها وتعدى مقتها إلى ابنتها فاطمة فتمقتني وتمقت فاطمة وخديجة وهذا معروف في الضرائر. ولقد دخلت على رسول الله ذات يوم قبل أن يضرب الحجاب على أزواجه وكانت عائشة بقرب رسول الله فلما رآني رحب وقال ادن مني يا علي ولم يزل يدنيني حتى أجلسني بينه وبينها فغلظ ذلك عليها فأقبلت إلي وقالت بسوء رأي النساء وتسرعهن إلى الخطاب ما وجدت لاستك يا علي موضعا غير موضع فخذي فزبرها النبي صلى الله عليه وآله وقال لها ألعلي تقولين هذا إنه والله أول من آمن بي وصدقني وأول الخلق وردا علي الحوض وهو أحق الناس عهدا إلي لا يبغضه أحد إلا أكبه الله على منخره في النار فازدادت بذلك غيضا علي.

ولما رميت بما رميت اشتد ذلك على النبي فاستشارني في أمرها فقلت له يا رسول الله سل جاريتها بريرة واستبرء الحال منها فإن وجدت عليها شيئا فخل سبيلها فالنساء كثيرة فأمرني أن أتولى مسألة بريرة واستبرء الحال منها ففعلت ذلك فحقدت علي والله ما أردت بها سوء لكني نصحت لله ولرسوله. وأمثال ما ذكرت فإن شئتم فاسألوها ما الذي نقمت علي حتى خرجت مع الناكثين لبيعتي وسفك دماء شيعتي والتظاهر بين المسلمين بعداوتي إلا البغي والشقاق والمقت لي بغير سبب يوجب ذلك في الدين والله المستعان.

فقال القوم القول والله ما قلت يا أمير المؤمنين ولقد كشفت الغمة ولقد نشهد إنك أولى بالله ورسوله ممن عاداك فقال الحجاج بن عزمة الأنصاري في أبيات يتصل بما ذكرناه ويغني ما أثبتناه من هذه الجملة منها عن إيرادها.

- جملة من بايع أمير المؤمنين من فتيان قريش بعد حرب الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 220:

قال الواقدي ولما فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من أهل الجمل جاءه قوم من فتيان قريش يسألونه الأمان وأن يقبل منهم البيعة فاستشفعوا إليه بعبد الله بن العباس فشفعه وأمر لهم في الدخول عليه فلما مثلوا بين يديه قال لهم ويلكم يا معشر قريش علام تقاتلونني على أن حكمت فيكم بغير عدل أو قسمت بينكم بغير سوية أو استأثرت عليكم أو لبعدي عن رسول الله أو لقلة بلاء مني في الإسلام، فقالوا يا أمير المؤمنين نحن إخوة يوسف فاعف عنا واستغفر لنا فنظر إلى أحدهم فقال له من أنت؟ قال أنا مساحق بن مخرمة معترف بالزلة مقر بالخطيئة تائب من ذنبي فقال عليه السلام قد صفحت عنكم وأيم الله إن فيكم من لا أبالي بايعني بكفه أو بأسته ولئن بايعني لينكثن.

وتقدم إليه مروان بن الحكم وهو متكئ على رجل فقال له ما بك؟ هل بك جراحة؟ قال نعم يا أمير المؤمنين وما أراني إلا لما بي فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام وقال لا والله ما أنت لما بك وستلقى هذه الأمة منك ومن ولدك يوما أحمرا وبايعه وانصرف، وتقدم إليه عبد الرحمن بن الحرث بن هشام فلما نظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام قال والله لئن كنت أنت وأهل بيتك لأهل دعة وإن كان فيكم غنى ولكن أعف عنكم ولقد ثقل علي حيث رأيتكم في القوم وأحببت أن تكون الواقعة بغيركم فقال له عبد الرحمن فقد صار ذلك إلى ما لا يجب ثم بايعه وانصرف.

- أمير المؤمنين ينفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة وأنفذ معها أربعين امرأة ألبسهن العمائم والقلانس وقلدهن السيوف وأمرهن أن يحفظنها ويكن عن يمينها وشمالها ومن ورائها
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 221:

مسير عائشة إلى المدينة: ولما عزم أمير المؤمنين عليه السلام على المسير إلى الكوفة أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة فتهيأت لذلك وأنفذ معها أربعين امرأة ألبسهن العمائم والقلانس وقلدهن السيوف وأمرهن أن يحفظنها ويكن عن يمينها وشمالها ومن ورائها فجعلت عائشة تقول في الطريق اللهم افعل بعلي بن أبي طالب وافعل بعث معي الرجال ولم يحفظ بي حرمة رسول الله فلما قدمن المدينة معها ألقين العمائم والسيوف ودخلن معها فلما رأتهن ندمت على ما فرطت بذم أمير المؤمنين عليه السلام وسبه وقالت جزى الله ابن أبي طالب خيرا فلقد حفظ في حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله.

- مروان بن الحكم بعد حرب الجمل يعترف بذنبه ويبايع أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 222:

اعتراف مروان بالظلم: وروى أبو مخنف عن العدي عن أبي هشام عن البريد عن عبد الله ابن المخارق عن هاشم بن مساحق القرشي قال حدثنا أبي إنه لما انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم فقال بعضهم لبعض والله لقد ظلمنا هذا الرجل يعنون أمير المؤمنين عليه السلام ونكثنا بيعته من غير حدث والله لقد ظهر علينا فما رأينا قط أكرم سيرة منه ولا أحسن عفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله تعالوا حتى ندخل عليه ونعتذر إليه فيما صنعناه قال فصرنا إلى بابه فاستأذناه فأذن لنا فلما مثلنا بين يديه جعل متكلمنا يتكلم فقال عليه السلام انصتوا أكفكم إنما أنا بشر مثلكم فإن قلت حقا فصدقوني وإن قلت باطلا فردوا علي أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده؟ قلنا اللهم نعم قال فعدلتم عني وبايعتم أبا بكر فأمسكت ولم أحب أن أشق عصا المسلمين وأفرق بين جماعاتهم ثم إن أبا بكر جعلها لعمر من بعده فكففت ولم أهج الناس وقد علمت إني كنت أولى الناس بالله وبرسوله وبمقامه فصبرت حتى قتل وجعلني سادس ستة فكففت ولم أحب أن أفرق بين المسلمين ثم بايعتم عثمان فطغيتم عليه وقتلتموه وأنا جالس في بيتي وأتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر وفيتم لهما ولم تفوا لي وما الذي منعكم من نكث بيعتهما ودعاكم إلى نكث بيعتي، فقلنا له كن يا أمير المؤمنين كالعبد الصالح يوسف إذ قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين: فقال عليه السلام لا تثريب عليكم اليوم وإن فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث بأسته; يعني مروان بن الحكم.

- أبو ثابت مولى أبي ذر يخير نفسه
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 222، 223:

وروى المسعودي عن هاشم بن الوليد عن ابن سعيد التميمي عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال شهدت مع أمير المؤمنين عليه السلام الجمل فلما رأيت عائشة واقفة بين الصفين ومعها طلحة والزبير قلت أم المؤمنين وزوجة الرسول وحواري الرسول وصاحبيه بأحد فدخلني ما يدخل الناس من الشك حتى كان عند صلاة الظهر كشف الله ذلك عن قلبي وقلت علي أمير المؤمنين وأخو سيد المرسلين وأولهم إسلاما لم يكن بالذي يقدم على شبهة فقاتلت معه قتالا شديدا فلما انقضى الحرب أتيت المدينة فسرت إلى بيت أم سلمة فاستأذنت عليها فقيل من هذا فقلت سائل فقالت اطعموا السائل فقلت إني والله لم أسأل طعاما ولكني مولى أبي ذر رجعت أسأل عن ديني فقالت مرحبا بك فقصصت عليها فقالت أين كنت حين طارت القلوب مطايرها فقلت إني بينما أحس ذلك إذ كشف الله عن قلبي فقاتلت مع أمير المؤمنين عليه السلام حتى فرغ فقالت أحسنت إني سمعت رسول الله يقول إن عليا مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقا حتى يردا الحوض.

- عدد قتلى الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 223:

فصل: وقد اختلفت الروايات في عدد القتلى بالبصرة فقد جاء في بعضها أنهم خمسة وعشرون ألفا. وروى عن عبد الله بن الزبير رواية شاذة أنهم خمسة عشر ألف قتيل ويوشك أن يكون ابن الزبير أثبت ولكن القول في ذلك باطل لبعده عن جميع ما قاله أهل العلم فأما الأخبار عن عدد من قطعت يده يومئذ ورجله ثم قتل بعد ذلك فهي مشهورة إنهم كانوا نحو من أربعة عشر ألف رجل.

- أمير المؤمنين يولي ابن عباس على البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 223، 224:

ابن عباس والي البصرة: فصل: ومما رواه الواقدي عن رجاله قال لما أراد أمير المؤمنين الخروج من البصرة استخلف عليها عبد الله بن العباس ووصاه وكان في وصيته له أن قال: يا ابن عباس عليك بتقوى الله والعدل بمن وليت عليه وأن تبسط للناس وجهك وتوسع عليهم مجلسك وتسعهم بحلمك وإياك والغضب فإنه طيرة الشيطان وإياك والهوى فإنه يصدك عن سبيل الله واعلم أن ما قربك من الله فهو مباعدك من النار وما باعدك من الله فمقربك من النار واذكر الله كثيرا ولا تكن من الغافلين وروى أبو مخنف لوط بن يحيى قال لما استعمل أمير المؤمنين عبد الله بن العباس على البصرة خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: معاشر الناس قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع الله ورسوله فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فاعلموا أني أعزله عنكم فإني أرجو أن أجده عفيفا تقيا ورعا وإني لم أوله عليكم إلا وأنا أظن ذلك به غفر الله لنا ولكم. فأقام عبد الله بالبصرة حتى عمد أمير المؤمنين عليه السلام إلى التوجه إلى الشام فاستخلف عليها زياد بن أبيه وضم إليه أبا الأسود الدؤلي ولحق بأمير المؤمنين حتى سار إلى صفين.

- أمير المؤمنين يترك البصرة متوجها إلى الكوفة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 224، 225:

وروى أبو مخنف لوط بن يحيى عن رجاله لما أراد أمير المؤمنين عليه السلام التوجه إلى الكوفة قام في أهل البصرة فقال ما تنقمون علي يا أهل البصرة؟ وأشار إلى قميصه وردائه فقال والله إنهما لمن غزل أهلي ما تنقمون مني يا أهل البصرة وأشار إلى صرة في يده فيها نفقته فقال والله ما هي إلا من غلتي بالمدينة فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين ثم خرج وشيعه الناس إلى خارج البصرة وتبعه الأحنف بن قيس إلى الكوفة.

ولما خرج وصار على غلوة استقبل الكوفة بوجهه وهو راكب بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وقال الحمد لله الذي أخرجني من أخبث البلاد وأخشنها ترابا وأسرعها خرابا وأقربها من الماء وأبعدها من السماء بها مغيض الماء وبها تسعة أعشار الشر وهي مسكن الجن الخارج منها برحمة والداخل إليها بذنب أما إنها لا تذهب الدنيا حتى يجيء إليها كل فاجر ويخرج منها كل مؤمن وحتى يكون مسجدها كأنه جؤجؤ سفينة.

- القول بتوبة من دعا إلى حرب أمير المؤمنين في الجمل باطل فقد مضوا مصرين على أعمالهم غير نادمين عليها ولا تائبين منها وإنهم كانوا يتظاهرون إلى الله بالقربة والتدين بعداوتهم لأمير المؤمنين والبغض والتضليل والتبديع له ولأولاده ولشيعته وأنصاره والبراءة إلى الله من جميعهم
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 225:

فهذه جملة من أخبار البصرة وسبب فتنتها ومقالات أصحاب الآراء في حكم الفتنة بها قد أوردناها على سبيل الاختصار وأثبتنا ما أثبتنا من الأخبار عن رجال العامة دون الخاصة ولم نثبت في ذلك ما روته الشيعة في إنكاره وكان الغرض فيما أوردناه في هذا الكتاب من تفصيل ذكر فتنة البصرة وما جرى فيها من القتال والفعال والإبانة عن عناد القوم لأمير المؤمنين عليه السلام والقصد لحربه وسفك دمه من غير شبهة في أمره ولا عذر فيما صاروا إليه من خلافه ولنوضح فيما تضمنته الأخبار في بطلان مقال من ادعى للقوم التوبة من فرطهم الضلال لحرب أمير المؤمنين عليه السلام وفساد مذهب من ذهب إلى ذلك من المعتزلة والمرجئة والحشوية.

ويدل على ما أثبتناه منه أن القوم مضوا مصرين على أعمالهم غير نادمين عليها ولا تائبين منها وإنهم كانوا يتظاهرون إلى الله بالقربة والتدين بعداوتهم لأمير المؤمنين عليه السلام والبغض والتضليل والتبديع له ولأولاده ولشيعته وأنصاره والبراءة إلى الله من جميعهم، وإن أمير المؤمنين عليه السلام يرى عليهم بمثل ذلك ويرى القربة إلى الله بجهادهم وقتالهم حتى مضى لسبيله وأنا مثبت بعد الذي قدمت أخبارا قد سلم لصحتها أهل العقل والنقل على خلافهم في الآراء والمذاهب تؤكد ما ذكرت في هذا الكتاب ويشهد بصحة ما ذكرت وإن كنت قد جمعتها في موضوع آخر من كتبي وإنما أوردتها في هذا الكتاب لملائمتها لمعناه وتأييده لما تضمنته من فوائده وفحواه وبالله أستعين...

- ما يدل على عدم توبة من دعا إلى حرب أمير المؤمنين في الجمل وبغضهم لأمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 226، 234:

فمن ذلك ما حدثنا به أبو بكر محمد بن عمر الجعابي قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة عن أبي الحسن علي بن الحسين ابن فضال بإسناده في كتابه المعروف (بالمبنى) وهو أشهر أن يدل عليه العلماء عن أبان بن عثمان عن الأجلح عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس قال لما رمى أهل الإفك عائشة استشار رسول الله صلى الله عليه وآله عليا فيها فقال يا رسول الله النساء كثيرة سل الخادمة فسألوا بريرة فقالت ما علمت إلا خيرا فبلغ ذلك عائشة فقالت لا أحب عليا بعد هذا أبدا وكانت تقول لا أحب عليا أبدا أليس هو الذي خلا وصاحبه بجاريتي يسألانه عني وهذا حديث صحيح الإسناد واضح الطريق وهو يتضمن التصريح منها ببغض أمير المؤمنين عليه السلام بنصيحته لرسول الله صلى الله عليه وآله واجتهاده في طاعته ومشورته من غير أن يكون ظلمها بذلك واعتدى عليها فيه إذ لو كان ذلك كذلك وحاشاه عليه السلام لما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله مقالته ولا قبل مشورته ولا انتهى فيه إلى رأيه ولما صار بعد ذلك إلى الإصغاء إليه والاعتماد في ذلك عليه فدل على صوابه وضلال من مقته لأجله وعاداه فيه.

ومن ذلك ما رواه محمد بن مهران قال حدثنا محمد بن علي بن خلف قال حدثنا محمد بن كثير عن إسماعيل بن زياد البزاز عن أبي إدريس عن رافع مولى عائشة قال كنت غلاما أخدمها وكنت إذا كان رسول الله عندها أكون قريبا منها فبينما رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم عندها إذ جاء جاء فدق الباب فخرجت إليه فإذا جارية معها إناء مغطى فرجعت إلى عائشة وأخبرتها فقالت ادخلها فدخلت فوضعته بين يدي عائشة ووضعته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فأكل منه فقال يا ليت أمير المؤمنين وسيد المرسلين وإمام المتقين يأكل معي فقالت عائشة ومن ذلك؟ فجاء جاء فدق الباب فخرجت إليه فإذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام فرجعت إليه فقلت هذا علي بالباب فقال ادخله فلما دخل قال له أهلا لقد تمنيتك حتى لو أبطيت لسألت الله أن يأتيني بك اجلس فكل معي فجلس معه ورأيت النبي صلى الله عليه وآله ينظر إليه ويقول قاتل الله من يقاتلك وعادى الله من عاداك فقالت عائشة من يقاتله ويعاديه فقال لها أنت ومن معك. وهذا الحديث يدل على عداوتها له من حيث استفهمته عما تعلمه على وجه الإنكار ودعائه في آخر القول على من يقاتله ويعاديه لعلمه بما يكون منها من القتال أيضا ودعائه على من عاداه ليبين فضيلته وما هي عليه من البغض والشنآن له ويزيل الشبهة عن الأمة في حقه وصوابه وباطل عدوه في خلافه له وعناده.

ومن ذلك ما رواه غير واحد عن الأرقم بن شرحبيل عن عبد الله بن العباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفى فيه ابعثوا إلى علي وادعوه فقالت عائشة لو بعثت إلى أبي بكر وقالت حفصة لو بعثت إلى عمر فبعثنا إلى أبي بكر وعمر فلما حضرا فتح النبي عينيه فرأهما فقال انصرفا فإن تكن لي حاجة بعثت إليكما.

وروى إسحاق عن عكرمة عن عبد الله بن العباس قال أغمي على النبي صلى الله عليه وآله ثم أفاق فقال ادعوا لي أخي فأمرت عائشة أن يدعوا أبا بكر فدخل فلما رآه رسول الله أعرض عنه فقالت أم سلمة ادعوا له عليا فإنه أخوه وحبيبه فدعوه فجاء حتى جلس بين يديه فلما رآه أدناه وناجاه طويلا وهذا الحديث مع استقامته وكثرة رواته وظهوره في الخاصة والعامة يدل على عداوتها له وحسدها عليه.

ومن ذلك ما احتج عليه أهل النقل من شهادتها لأبي بكر في صواب منعه فاطمة فدكا ومقابلتها في تلك الشهادة أمير المؤمنين عليه السلام فيما ذهب إليه من استحقاقها ومظاهرة أبي بكر على منع فاطمة من ميراث أبيها ولم يشركها في ذلك إحدى الأزواج.

ومن ذلك ما رواه إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن عائشة قالت استشعر رسول الله من المرض في بيت ميمونة فدعى نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهل بيته أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر يخطان قدماه الأرض عاصبا رأسه حتى دخل بيتي قال عبد الله فحدثت عنها عبد الله بن العباس فقال هل تدري من الرجل؟ قال ذلك علي بن أبي طالب وما كانت أمنا تذكره بخير وهي تستطيع.

ومن ذلك أن عائشة كانت تذم عثمان وولاته وكانت تقول كل قول بغضا منه وترفع قميص رسول الله فتقول هذا قميص رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان أحكامه ولما جاء الناعي إلى مكة فنعاه بكى لقتله قوم من أهل ظنه فأمرت مناديا ينادي: ما بكاؤكم على نعثل أراد أن يطفئ نور الله فأطفأه الله تعالى وأن يضيع سنة رسوله فقتله ثم أرجف بمكة أن طلحة قد بويع له فركبت مبادرة بغلتها وتوجهت نحو المدينة وهي مسرورة حتى انتهت إلى (سرف) فاستقبلها عبد بن أبي سلمة فقالت له ما عندك من الخبر قال قتل عثمان قالت فمن ذا ولوه قال بايعوا عليا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت والله لوددت أن هذه تطبق على هذه إن تمت لصاحبك فقال لها عبد بن أبي سلمة: ولم؟ فو الله ما على هذه الغبراء نسمة أكرم منه على الله فلماذا تكرهين قوله فقالت إنا عبنا على عثمان في أمور سميناها له ولمناه عليها فتاب منها واستغفر الله فقبل منه المسلمون ولم يجدوا من ذلك بدا فوثب عليه صاحبك فقتله والله لإصبع من أصابع عثمان خير منه وقد مضى كما يمضي الرخيص ثم رجعت إلى مكة تنعى عثمان وتقول هذه المقالة للناس.

فهل يصح رحمكم الله عند أحد من العقلاء دخول الشبهة من بغضها أو يرتاب مكلف في إعنادها لأمير المؤمنين عليه السلام على ما ذكرناه.

ومن ذلك ما رواه نوح بن رواح عن أبي إسحاق قال حدثني المنهال عن جماعة من أصحابنا أن طلحة لما قدم مكة جاء إلى عائشة فلما رأته قالت يا أبا محمد قتلت عثمان وبايعت عليا فقال لها يا أماه مثلي كما قال الشاعر:

ندمت ندامة الكسعي لما  *  رأت عيناي ما صنعت يداه

أو لا ترى أنها تبدي له العداوة في كل حال وتظهر العناد له بكل مقال. ومن ذلك كتبها إلى الآفاق تؤلب عليه وتخذل الناس عنه من غير شبهة تعرض في الديانة لفعل كان منه، كتبت إلى زيد بن صوحان على ما اجتمعت عليه نقلة الأخبار: بسم الله الرحمن الرحيم من عائشة ابنة أبي بكر أم المؤمنين زوجة النبي إلى ابنها المخلص زيد بن صوحان أما بعد إذا جاءك كتابي هذا فأقم في بيتك وخذل الناس عن علي حتى يأتيك أمري وليبلغني عنك ما أقر به فإنك من أوثق أهلي عندي والسلام.

فكتب إليها زيد بن صوحان: بسم الله الرحمن الرحيم من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر أما بعد فإن الله أمرك بأمر وأمرنا بأمر، أمرك أن تقري في بيتك وأمرنا بالجهاد فأتاني كتابك بضد ما أمر الله به وذلك خلاف الحق والسلام.

ومن ذلك ما تظاهرت به الأخبار وثبتت به الآثار في الكتب المصنفة في حرب البصرة وغيرها من كتاب عايشة إلى حفصة ما رواه عن الأصم عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال لما نزل علي عليه السلام ذا قار كتبت إلى حفصة الذي قدمنا ذكره.

وروى بشر بن الربيع عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال ذكر النبي خروج بعض نسائه وعنده عائشة وعلي حاضر فضحكت عائشة والتفت إلى علي وقال إذا رأيت من أمرها شيئا فارفق بها.

وروى عصام بن قدامة البجلي عن ابن عباس قال قال رسول الله لعائشة وعنده نساءه ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وشمالها خلق كثير كلهم في النار وينجو بعد ما كادت.

وروى أبو بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال المسعودي في حديثه قال رسول الله يا علي إذا أدركتها فاضربها واضرب أصحابها.

وروى علي بن مسهر هشام عن ابن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وآله يا عائشة إني رأيتك في المنام مرتين أرى جملا يحملك في سدفة من حرير فأكشفتها فإذا هي أنت.

أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهاها وقد بين ما يكون منها على علم منه في مصيرها وعاقبة أمرها ثم نهاها عن ذلك وزجرها ودعا عليها لأجله وتوعدها صلى الله عليه وآله فأقدمت على خلافه مستبصرة بعداوته وارتكبت نهيه معاندة له في أمره وصارت إلى ما زجرها عنه مع الذكر له والعلم به من غير شبهة في معاندته، على أن كتاب الله المقدم في الحجة على ما تعمده من أثر وخبر وسنة وقد أوضح ببرهانه على إقدام المرأة على الخلاف له من غير شبهة وقتاله وقتال أوليائه لغير حجة بقوله تعالى لها ولجميع نساء النبي: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} فخرجت من بيتها مخالفة لأمر الله وتبرجت بين الملأ والعساكر في الحروب تبرج الجاهلية الأولى وأباحت دماء المؤمنين وأفسدت الشرع على المسلمين وأوقعت في الدين الشبهات على المستضعفين.

ومن ذلك ما رواه أبو داود الطبري عن عبد الله بن شريك عن عامر عن عبد الله بن عامر قال سمعت عبد الله بن بديل الخزاعي يقول لعائشة أنشدك الله ألم نسمعك تقولين سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول علي مع الحق والحق مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض قالت بلى فقال لها إذا كان ذلك مم هذا قالت دعوني والله لوددت أنهم تفانوا جميعا، فدل ذلك على أنه لم يعترضها شبهة في قتاله وأنها في خلاف الله ورسوله والأخبار في هذا المعنى كثيرة إن أخذنا في إيرادها طال بها الكتاب.

فأما ما جاء في عناد طلحة والزبير لأمير المؤمنين وإقدامهما على حرب عثمان طمعا في نيل الأمر من بعده بغير شبهة في ذلك وأنهما كانا متوليين لقتل عثمان فلما بايع الناس لأمير المؤمنين عليه السلام وفاتها ما كانا يأملانه من التأمر على الناس عمدا إلى حربه ورمياه بما صنعاه بعثمان وعاندا في ذلك وكابرا ودفعا به المعلوم.

وروى موسى بن مطير عن الأعمش عن مسروق قال دخلنا المدينة فبدأنا بطلحة فخرج مشتملا بقطيفة حمراء فذكرنا له أمر عثمان وهم القوم به فقال لقد كاد سفهاؤكم أن يغلبوا عقلائكم ثم قال أجئتم معكم بحطب ألا فخذوا هاتين الحزمتين فاذهبوا بها إلى بابه فأحرقوه بالنار فخرجنا من عنده وأتينا الزبير فقال مثل قوله فخرجنا حتى أتينا عليا عند أحجار الزيت فذكرنا أمره فقال استتيبوا الرجل ولا تعجلوا فإن رجع عما هو عليه وإلا فانظروا.

وروى محمد بن إسحاق عن أبي جعفر الأسدي عن أبيه عن عبد الله ابن جعفر قال كنت مع عثمان وهو محصور فلما عرف أنه مقتول بعثني وعبد الرحمان بن أزهر إلى علي عليه السلام وقد استولى طلحة على الأمر وقال انطلقا وقولا له إنك أولى بالأمر من ابن الحضرمية فلا يغلبنك على أمر ابن عمك.

وروى الفضل بن دكين عن عمران الخزاعي عن ميسرة بن جرير قال كنت عند الزبير بأحجار الزيت وهو آخذ بيدي فأتاه رجل وقال يا أبا عبد الله إن أهل الدار قد حيل بينهم وبين الماء فقال ادبروا: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} فهذه الأخبار وأمثالها قد جاءت بما فعل طلحة والزبير بعثمان وما أباحاه من دمه وإن أمير المؤمنين كان معتزلا لذلك عن عثمان دافعا عنه بحسب الإمكان ثم جاءا بعد ذلك يطلبان بدم عثمان ويدعيان عليه أنه تولى قتله ويقر فإنه بما ادعياه ويعملان في قتل أهل الإيمان وإثارة الفتنة في الإسلام وهلاك العباد والبلاد.

وروى إبراهيم بن عمر عن أبيه عن بشير عن نوح بن دراج أن عليا قال لهما والله ما للعمرة تريدان وقد بلغني أمركما وأمر صاحبتكما فحلفا بالله ما يريدان إلا العمرة.

وروى الحسن بن المبارك عن بكر بن عيسى أن عليا عليه السلام أخذ عليهما العهد والميثاق أعظم ما أخذه على أحد من خلقه أن لا يخالفا ولا ينكثا ولا يتوجها وجها غير العمرة حتى يرجعا إليه فأعطياه ذلك من أنفسهما ثم أذن لهما فخرجا.

وروت أم راشد مولاة أم هاني أن طلحة والزبير دخلا على علي فاستأذناه في العمرة فلما وليا من عنده سمعتهما يقولان ما بايعا بقلوبنا وإنما بايعنا يأيدينا فأخبرت عليا بمقالتهما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ثم قام عليه السلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الله لما قبض نبيه قلنا نحن أهل بيته وعصبته وورثته وأولياؤه وأحق خلق الله به لا ينازعنا في سلطانه أحد فبينما نقول ذلك إذ نفر المنافقون فانتزعوا سلطان نبينا منا وولوه غيرنا وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين أن يعودوا إلى الكفر لغيرنا ذلك ما استطعنا وقد وليتمونا أيها الناس أمركم وبايعني طلحة والزبير فيمن بايعني منكم ثم نهضا إلى البصرة ليفرقا جماعتكم ويلقيا ما بينكم الفتنة اللهم فخدهما بغشهما لهذه الأمة وسوء بطرهما.

وفي رواية أخرى في غير هذا الكتاب خطبته هكذا: أما بعد فإنه لما قبض الله رسوله قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس لا ينازعنا في سلطانه أحد ولا يطمع في حقنا طامع إذا انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا فصارت الإمرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف ويتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك وخشنت الصدور وجزعت النفوس وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعودوا إلى الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه فولى الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي فبايعتموني على شنئان مني لأمركم وفراسة تصدقني عما في قلوب كثير منكم وبايعني هذان الرجلان في أول من بايعني تعلمون ذلك وقد نكثا وغدرا ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم إلى آخر ما في المتن قال وقد كان في منع الحسن عليه السلام أن يدفن مع جده فيما لا خلاف فيه بين العلماء فيما حاورت به القوم إذ قالت ما لكم ولي تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب وكانت مؤذية له في أسباب لا حاجة لنا بذكرها ومن الله نسأل التوفيق لما يرضيه والعمل بما يقرب منه ونستهديه إلى سبيل الرشاد إنه ولي الإجابة قريب مجيب والحمد لله حمد العارفين بفضل العوارف وصلاته وسلامه على سيدنا محمد المصطفى من الخلق المبعوث بالحق هلال الدين ونور المتقين وسيد الأولين والآخرين وآله الطاهرين.

- في بني تميم
 - الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 87 :

فصل: قال الشيخ أدام الله عزه: حضرت يوما مجلسا فجرى فيه كلام في رذالة بني تيم بن مرة وسقوط أقدارهم فقال شيخ من الشيعة: قد ذكر أبو عيسى الوراق فيما يدل على ذلك قول الشاعر:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم  *  ولا يستأذنون وهم شهود

وإنك لو رأيت عبيد تيم  *  وتيما قلت أيهما العبـيد

فذكر الشاعر أن الرائي لهم لا يفرق بين عبيدهم وساداتهم من الضعة وسقوط القدر، فانتدب له أبو العباس هبة الله المنجم فقال له: يا شيخ ما أعرفك بأشعار العرب، هذا في تيم بن مرة، أو في تيم الرباب، وجعل يتضاحك بالرجل ويتماجن عليه يقول له: سبيلك إلى أن تؤلف دواوين العرب فان بصرك بها حسن.

فقال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له: قد جعلت هذا الباب رأس مالك، ولو أنصفت في الخطاب لأنصفت في الاحتجاج وإن أخذنا معك في إثبات هذا الشعر تعلق البرهان فيه بالرجال والكتب والمصنفات، واندفع المجلس ومضى الوقت ولكن بيننا وبينك كتب السير وكل من اطلع على حديث الجمل وحرب البصرة، فهل ريب في شعر عمير بن الأهلب الضبي وهو يجود بنفسه بالبصرة وقد قتل بين يدي الجمل وهو يقول:

لقد أوردتنا حومة الموت أمنا  *  فلم ننصرف إلا ونحن رواء

نصرنا قريشا ضلة من حلومنا  *  ونصرتنا أهل الحجاز عناء

لقد كان عن نصر ابن ضبة أمة  *  وشيعتها مندوحة وغناء

نصرنا بني تيم بن مرة شقوة  *  وهل تيم إلا أعبد وإماء

وهو قول رجل من أنصار عائشة، ومن سفك دمه في ولايتها يقول هذا القول في قبيلتها بلا ارتياب بين أهل السير، ولم يك بالذي يقوله في تلك الحال إلا وهو معروف عند الرجال غير مشكوك فيه عند أحد من العارفين بقبائل العرب من سائر الناس فاخذ في الضجيج ولم يأت بشيء.

- طلحة والزبير لم يتوبا عن نكثهما وخروجها على أمير المؤمنين ولم يظهر منها ندم على ذلك
- في قول رسول الله في ابن جرموز قاتل الزبير: بشر قاتل ابن صفية بالنار
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 141، 149:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه: في توبة طلحة والزبير على ما تدعيه المعتزلة من ذلك، قال الشيخ أدام الله عزه: أما طلحة فقتل بين الصفين وهو مصمم على الحرب، وهذه حال ظاهرها الإقامة على الفسق، ومن ادعى باطنا غيرها فقد ادعى علم غيب لا يجب قبوله منه إلا ببرهان ولا برهان على ذلك، مع أن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه مر به وهو قتيل فقال لأصحابه: أجلسوا طلحة فأجلسوه فقال: هل وجدت ما وعدك ربك حقا فقد وجدت ما وعدني ربي حقا، ثم قال: أضجعوا طلحة وقال في موضع آخر وقد مر به: لقد كان لك برسول الله صحبة لكن الشيطان دخل منخريك فأوردك النار. وكتب عليه السلام إلى عماله في الآفاق بالفتح وكان فيه: "إن الله تعالى قتل طلحة والزبير على بغيهما وشقاقهما ونكثهما وهزم جمعهما ورد عائشة خاسرة" في كلام طويل، ولو كان الرجل تائبا لما قال هذا القول فيه أمير المؤمنين عليه السلام، مع أنا إن جوزنا توبة طلحة مع الحال التي وصفناها ووجب علينا الشك في أمره والانتقال عن ظاهر حاله، وجب أن يشك في كل فاسق وكافر ظهر لنا ضلاله ولم يظهر منه ندمه بل كان على ظاهر الضلال إلى وقت خروجه من الدنيا، وهذا فاسد. وقد استقصيت القول في هذا الباب في كتابي المعروف بالمسالة الكافية.

وأما الزبير فقتل وهو منهزم من غير إظهار ندم ولا إقلاع ولا توبة، ولو كان انصرافه للندم والتوبة لكان يصير إلى أمير المؤمنين عليه السلام ويكون مصير إلى حيزه ويظهر نصرته ومعونته كما جرد في حربه وعداوته، ولو جاز أن يقطع على توبته ويجب علينا ولايته مع ما وصفناه، لوجب على المسلمين أن يقطعوا على توبة كل منهزم عن الرسول صلى الله عليه وآله وإن لم يصيروا إلى حيزه ولا أظهروا الإقرار بنبوته، وقد تعلق القوم في باب الزبير بقولين رويا عن أمير المؤمنين عليه السلام أما أحدهما: فإنهم ذكروا أن الزبير رجع عن الحرب بعد أن ذكره أمير المؤمنين عليه السلام كلام رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له عبد الله ابنه: يا أبت تتركنا في مثل هذا المقام وتنصرف عنا في مثل هذه الحال. فقال له: يا بني إن عليا ذكرني أمرا أنسانيه الدهر، فقال له عبد الله: لا ولكنك فررت من سيف ابن أبى طالب، فقالوا: فرجع الزبير عند ذلك كارا على أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام فقال أمير المؤمنين: أفرجوا للشيخ فانه محرج.

قالوا: فلما شهد له أمير المؤمنين عليه السلام بذلك وكف أصحابه عن قتله دل على ندمه وتوبته.

والقول الآخر زعموا أن ابن جرموز لما جاء برأس الزبير وبسيفه إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار. قالوا: فلو لم يكن الزبير تائبا لما كان قاتله ضالا من أهل النار ولو لم يكن من أهل الجنة لما كان قاتله من أهل النار.

قال الشيخ أدام الله عزه: فيقال لهم: إن كان رجوع الزبير عند إذكار أمير المؤمنين عليه السلام توبة توجب مدحه فالإنصاف يوجب أن رجوعه عند تحريض ابنه له نقض للتوبة وإصرار يوجب ذمه، بل رجوعه إلى القتال على الوجه الذي روي أسوأ الحالة لأنه يدل على عناده بارتفاع الشبهة عنه في فسقه به وضلاله، ولأنه ترك الديانة للحمية والعصبية والأنفة ومحبة الرياسة، وهذا بخلاف ما ظننتموه.

أما قول أمير المؤمنين عليه السلام: "أفرجوا للشيخ فانه محرج" فانه متى صح كان على الاستهزاء والذم لأنه لا يجوز أن يأمر عليه السلام أصحابه بالتمكين لعدوه من حربه ولا يجيز لهم تسويغه إظهار خلافه، ولأن الحرج لا يدعو إلى الفسق ولا يبعث على خلاف الحق، مع أن الذي كان من ابن الزبير غير محرج لأهل الإيمان إلى إظهار الضلال ولا ملجئ لأحد من الخلق إلى ارتكاب المعاصي والطغيان، فعلم أن قول أمير المؤمنين عليه السلام متى صح عنه صلوات الله عليه وسلامه خرج مخرج قوله سبحانه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وقوله تعالى: {انظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}، وقوله سبحانه: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} ونظائر ذلك من آي القران.

وأما ترك أمير المؤمنين عليه السلام الأمر لأصحابه بقتل الزبير وقتاله فذلك من تفضله ومنه عليه، وهو كقول رسول الله صلى الله عليه وآله في المن على أهل مكة وأمانهم فليس في العفو عن الجاني، وترك التعجيل لعقوبته دلالة على الرضا بفعاله، بل هو دليل التفضل والصفح للتألف والاستصلاح.

وأما تعلقهم بما رووا عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله لابن جرموز حين جاء برأس الزبير، بشر قاتل ابن صفية بالنار، وأن ذلك يوجب للزبير الجنة ويدل على أنه من أهل الإيمان فأول ما في هذا الباب أنه ليس كل من وجب عليه النار بقتل نفس دل على أن النفس من أهل الجنة لان قتل المعاهد يوجب النار وإن كان المقتول في النار وقتل الغيلة يوجب النار وإن كان المقتول في النار، وقتل الكافر لشفاء الغيظ دون الديانة أو للرياء والسمعة أو للقربة إلى المخلوقين أو للعبث أو لجعله علامة لفجور أو لقتل مؤمن كل ذلك يوجب لفاعله النار وإن كان المقتول في النار، وكذلك قتل الكافر الكافر يوجب النار وإن كان الكافر من أهل النار.

على أن قصة ابن جرموز في قتل الزبير والمعنى الذي وجب له به النار معروف عند من سمع الأخبار غير مختلف فيه بين نقلة السير والآثار، وذلك أن ابن جرموز كان يوم الجمل مع عائشة في نفر من بني سعد فقتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام جماعة فلما رأى الدائرة على أصحاب الجمل لحق بالأحنف بن قيس وهو بالجلحاء على فرسخين من البصرة معتزلا للقتال، فجاء رجل إلى الأحنف فأسر إليه أن الزبير بوادي السباع متوجها إلى المدينة مستخفيا من الناس، فقال الأحنف رافعا صوته: ما عسيت أن أصنع بالزبير إن كان بوادي السباع. وقد جاء فقتل الناس بعضهم ببعض وفتنهم ثم انطلق سالما إلى المدينة.

فعلم القوم انه إنما رفع صوته ليعلمهم بذلك وأنه يعجبه قتله، فقام ابن جرموز ومعه رجلان من بني عوف بن سعد أحدهما فضالة بن حابس والآخر جميع بن عمير فركبوا خيولهم فأدركوه وقد توجه منطلقا ركض فرسه فسبقهم إليه عمرو بن جرموز فحذره (فحدقه ن خ) الزبير وجعل يتحذر منه فقال له عمرو: لا بأس عليك فإنما أنا منطلق في طريقي ومصاحبك، فآمنه الزبير عند ذلك واطمان إليه فاغتفله حتى إذا شغل عنه طعنه بالرمح فقتله ثم نزل فاحتز رأسه فأتى به الأحنف ثم انحدر به إلى أمير المؤمنين عليه السلام متقربا به إليه صلوات الله عليه يريد الخروج بذلك عما صنع في قتاله وقتل أصحابه، ولم يك قتله له تدينا ولا على بصيرة من أمره وكان ذلك معلوما لأمير المؤمنين عليه السلام بما أنبأه به الرسول صلى الله عليه وآله فلأجل ذلك خبر بأنه من أهل النار. مع أنه قد استحق النار بأمانه وقتله له بعد الأمان ثم باغتياله أيضا. مع أن ابن جرموز خرج على أمير المؤمنين عليه السلام مع الخوارج وكان لآخذا برايتهم فقتله الله على يد أمير المؤمنين عليه السلام وأورده بقتله إياه النار فكان الخبر الذي رووه خبرا عن عاقبته لئلا يلتبس أمره بقتل الزبير فيظن أن ذلك عاصم له عن استحقاق العقاب.

وقد أطبق أهل النقل على مثل القول الذي روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في ابن حرموز عند مجيئه برأس الزبير عن النبي عليه السلام في رجل من الأنصار قتل جماعة من المشركين في يوم احد وأبلى بلاء حسنا فبشره رسول الله صلى الله عليه وآله بالنار فرووا أن رجلا من الأنصار كان يقال له قزمان قاتل في يوم أحد قتالا شديدا حتى قتل ستة نفر من المشركين أو سبعة فأثبته الجراح فاحتمل إلى بيته وجاء المسلمون إلى رسول صلى الله عليه وآله فأخبروه بخبره، وذكروه عنده بحسن معونته  وزكوة ومدحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنه من أهل النار فأتى النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك فقيل له: يا رسول الله إن قزمان قد استشهد فقال صلى الله عليه وآله يفعل الله ما يشاء ثم أتى فقيل: يا رسول الله إنه قتل نفسه، فقال: اشهدوا أني رسول الله.

وذكروا أنه لما احتمل وبه الجراح نزل في دور بني ظفر فقال له المسلمون: أبشر فقد أبليت اليوم، فقال: بم تبشروني فو الله ما قاتلت إلا على أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به ألم الجراح جاء إلى كنانته فاخذ منها مشقصا فقتل نفسه.

فإذا كان الأمر على ما شرحناه وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد قطع بالنار على رجل جاهد في الظاهر لمعونة الإسلام وقتل جماعة من المشركين ثم شهد عليه بالعقاب عند إخبار المسلمين له ببلائه وعظم نكايته في الكفار وحسن معونته لما علم من عاقبة أمره ومآله إلى الفعل الذي يستحق به النار مخافة أن يشتبه أمره على أهل الإسلام فيعتقدوا فيه الإيمان مع قتله نفسه بما سلف له من الجهاد أو يشكوا في استحقاقه العقاب، لم ينكر أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام بشر ابن جرموز بالنار عند مجيئه برأس الزبير لعاقبة أمره والعلم منه بضميره الذي يستحق به العقاب وما سبق له من العلم فيه بحصوله على الخارجية في العقد، وقتاله الذي كان منه يوم النهروان مخافة أن يشتبه أمره فيما يصير إليه على أحد من أهل الإيمان كما وصفناه وبيناه.

ولا يدل ذلك منه عليه السلام على استحقاق الزبير الجنان ولا على توبته من الضلال ولا على عدم استحقاقه النار كما لم يدل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله على استحقاق من قتل قزمان من الكفار الجنان ولا على توبتهم من الشرك وانتقالهم إلى الإسلام، ولا على عدم استحقاقهم العقاب، وهذا بين لمن تدبره.

ووجه آخر وهو أن بعض الشيعة قال إن ابن جرموز إنما استحق النار لخلافه على الإمام العادل عليه السلام في قتل الزبير بن العوام وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام نادى يوم البصرة ألا لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولكم ما حوى عسكرهم من الكراع والسلاح، فخالفه ابن جرموز واتبع الزبير فكان في ذلك مخالفا للإمام وعاصيا له في أفعاله فاستحق النار لما ارتكبه من ضلاله ولم يجب بذلك أن يكون الزبير من أهل الجنة لأنه لا تعلق لاستحقاته الثواب باستحقاق هذا المخالف لأمامه العقاب، وهذا وجه لا باس بالتعلق به بل هو واضح معتمد.

سؤال: قال الشيخ أدام الله عزه: فان قال قائل ما أنكرتم أن يكون إخبار النبي صلى الله عليه وآله باستحقاق قاتل الزبير النار يدل على استحقاق الزبير الجنان ويوجب أن قاتله إنما استحق النار من أجل أن المقتول من أهل الجنة لا لشيء من الأسباب التي ذكرتموها وإلا فمتى ما كان الأمر على ما ادعيتموه دون ما ذكرناه، بطل معنى قول النبي صلى الله عليه وآله لأنه قد نبه باستحقاق القاتل النار على استحقاق المقتول الجنة بذكر المقتول والحكم على قاتله بالنار الجواب.

قيل له: إن لذكر النبي صلى الله عليه وآله الزبير وقتله عند البشارة لقاتله بالنار وجها غير الذي ظننته وهو أنه لما كان الزبير رأس الفتنة وأمير أهل الضلالة وقائد أهل النكث والجهالة كان القتل له يوجب على الظاهر لقاتله أعظم المنازل وأجل المراتب وأكبر الثواب والمدائح كما يجب لقاتل النبي صلى الله عليه وآله أو الصديق التقي أو إمام المسلمين البر الوفي عظيم العقاب، وكان المعلوم من حال هذا القاتل ضد ما يقتضيه الظاهر، أراد رسول الله صلى الله عليه وآله الإبانة عن حاله والكشف عن باطنه وماله لئلا يلتبس أمره على ما قدمناه فيما سلف وليزيل الشبهة فيما يجب من الاعتقاد فيه على ظاهر الحال.

وهذا يجري مجرى من علم الله سبحانه أنه يقتل عبدا مسلما تقيا برا عدلا وفيا على غير التعمد، ومع حسن الطوية وسلامة النية والإخلاص لله تعالى في الطاعة، فذكر النبي صلى الله عليه وآله أن هذا القاتل من أهل الجنة فقال: إن فلانا يعني الإمام سيقتل وإن قاتله من أهل الجنة ليكشف بذلك عن حاله ويمنع الاعتقاد فيه ما يوجبه ظاهر فعله من القتل الذي تلبس بالتعمد. وإنما بشره بالجنة مع وصفه بقتل رجل من أهل الجنة ليدل على أن قتله له لم يقع على الوجه الذي به يستحق العقاب وليزيل الشبهة من أمره ويصرف الناس عن اعتقاد موجب ظاهره. وهذا كقول نبي قال لأمته: ألا ترون أن فلانا الصائم نهاره القائم ليله المتصدق بماله، إعلموا أنه من أهل النار ليدلهم بذلك على مآله ويكشف لهم عن باطنه ولتزول الشبهة عنهم في أمره بحسن ظاهره، أو قال في رجل مرتكب لكبائر الذنوب، اعلموا أن فلانا الشارب للخمور القاتل للنفوس المرتكب للفجور من أهل الجنة، فذلك سائغ جائز يدل على مال الرجل ويكشف عن عاقبته ويمنع من الاعتقاد لما يجب بظاهره على أغلب الأمور ومدار هذا الباب هو أن كل من فعل فعلا أوجب ظاهره فيه حكما لأجل الفعل وكان الباطن عند الله سبحانه وتعالى يخالف الظاهر وأراد الإبانة عن حاله وإزالة الشبهة في أمره، حكم عليه بخلاف حكم الظاهر وعلقه بذكر الفعل الذي يوجب على الظاهر ضد ما حكم به لأجل الباطن ليزيل الشبهة بذكر ذلك، ويدل على ما كان ملتبسا بالفعل بعينه.

ولولا أن النبي صلى الله عليه وآله ذكر قاتل الزبير وخبر عنه بالنار عند ذكر قتله لوجب أن يعتقد في قاتله منزلة أجل الصالحين، ومن فقأ عين الفتنة واجتث أصل الضلالة حتى يجب له من الحكم أن ينزل في أعلى منازل المثابين، من حيث كان الزبير أعظم أهل الفتنة عقابا لكونه إمام القوم وداعيهم إلى الفتنة، ولما يجب من تعاظم الثواب لقاتل من يتعاظم له العقاب، ولما يجب لمزيل الفتنة من الثواب الموفي على ما يستحقه مثيرها من العقاب.

ولما علم الله سبحانه من حال ابن جرموز ما ذكرناه، أعلم نبيه عليه السلام ذلك ليدل أمته عليه فدلهم بالذكر الذي حكيناه، وهذا واضح لمن تأمله وأحسن النظر فيه والمنة لله جل وعلا.


source : http://aqaedalshia.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الخروج من القبر
سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 1
فكرنا السياسي إسلامي أم سلطوي ؟
علماء السنة يجيزون لعن يزيد بن معاوية
الإمامة عند الشيعة
مفهوم الحقيقي للبقاء والفناء ها إلا الرأس
الامامة والامام في كتاب الله والحديث النبوي
معنى فطرة الله
الأرزاق و الأسعار
هویة التشیع العرقیة

 
user comment