عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

سؤال: لماذا يستخدم القرآن الكريم في بعض الآيات ضمير الجمع بالنسبة إلى الله تعالى ؟


الجواب: من الأسباب التي يُعبرّ القرآن لأجلها عن الله تعالى بضمير الجمع: الإشارة إلى عظمة الله تبارك وتعالى، من أجل إيصال المعنى المراد إلى المخاطَب كما ينبغي، وذلك من خلال التفاته إلى عظمة المتكلّم. من ذلك قوله تعالى إنّا نَحنُ نَزَّلْنا الذِّكرَ وإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ وهي آية كريمة تشتمل على تعبير مشحون بالإعجاز، وتتضمّن خمسة ضمائر جمع، تشير إلى أنّ الله تعالى نزّل القرآن وأنّه سيحفظه بحفظه، وهو تعبير يختلف في بلاغته وبيانه عن قول « إنّي نزّلتُ الذِكر وإنّي له لحافظ ».
ومن الأسباب الأخرى أنّ بعض الأمور التي تحصل بمشيئة الله عزّوجلّ وأمره، تحصل بواسطة الملائكة ـ وهم جنود الله تعالى الذين لا يُحصيهم ولا يعلم عدَدَهم إلاّ هو ـ وقد قال تعالى: وما يَعلم جُنودَ ربِّكَ إلاّ هو (20)، وهذه الملائكة المُدبِّرة والمقسِّمة تعمل كواسطة. ولذلك يُعبّر بضمير الجمع للدلالة على أنّ ذلك العمل قد حصل بالواسطة، أي بواسطة الملائكة التي تنفّذ أمر الله تعالى.
ونلاحظ ـ في المقابل ـ أنّ في القرآن الكريم آيات كريمة ورد فيها التعبير عن الله عزّوجلّ بضمير المفرد، كما في قوله تعالى يا موسى إنّني أنا الله ؛ لأنّ استعمال ضمير الجمع في مثل هذه الموارد يتنافى مع القصد، إذ القصد تثبيت توحيد الله تعالى.
سؤال: ما المقصود بـ « الملكوت الأعلى »، و « ملكوت السماوات » ؟
الجواب: وردت عدّة معانٍ للملكوت، منها « المُلْك »، و « العِزَّة » و « السُّلطان ». ويمكن أن يكون المراد بملكوت السماوات والأرض سلطنة السماوات والأرض ومالكيّتها، أو آيات الله العظمى في السماوات والأرض، وجنود الله الغيبيّة. ومن معاني ملكوت السماوات والأرض: آياتُ قدرةِ اللهُ عزّوجلّ في السماوات والأرض. والملكوت الأعلى كناية عن جوار رحمة الحقّ سبحانه.
سؤال: ألا تتنافى الآية الكريمة لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تقدّمَ مِن ذَنبِكَ وما تأخرّ (21) مع عصمة النبيّ صلّى الله عليه وآله ؟
الجواب: ذكر العلماء في شرح هذه الآية وتفسيرها أموراً عديدة، منها أنّ لام التعليل في « لِيَغفِرَ » لها دلالة على تعظيم الله تعالى نبيَّه الكريم. ومن الواضح الجليّ أنّ الفتح المبين لا يكون علّة لمغفرة الذنوب والمعاصي، وأنّ مَنْحَ النعمة والنصر لا يُزيل أثر الذنب وكُفران النِّعم. بل إعطاء النعمة والفتح والنصر للتقدير والجزاء وليس لمحو الذنب والمعصية.
وبالالتفات إلى هذا المعنى، فإنّ المراد بـ « الذنب » في الآية الكريمة هو الصعوبات والمشكلات التي اعترضت ـ وستعترض ـ دعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله في السابق وفي المستقبل، فبهذا الفتح المبين والنصر المؤزّر زالت آثار المشكلات وتذلّلت الصعوبات، وسيكون النبيّ صلّى الله عليه وآله ودعوته ودينه مَصونين محفوظين.
يشهد على هذا المعنى أنّ الذنب ـ كما في كلمات علماء اللغة ـ يُطلق على شيء له عاقبة سيّئة وخيمة.
والغفران والمغفرة هي الصون من سوء عاقبة العمل. والمغفرة في الآية الكريمة تعني صون النبيّ صلّى الله عليه وآله ودينه ودعوته من مكر الكفّار والمنافقين وأعداء الله تعالى وإحباط مؤامراتهم، وهذا المعنى يتناسب مع الفتح المبين.
وذكر الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان أنّ المراد: ليغفر لك اللهُ ما تقدّم من ذنب أمّتك وما تأخرّ بشفاعتك. وأراد بذكر التقدّم والتأخّر ما تقدّم زمانُه وما تأخّر... وحَسُنت إضافة ذنوب أمّته إليه صلّى الله عليه وآله للاتّصال والسبب بينه وبين أمتّه. ويؤيّد هذا الجواب ما رواه المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: سأله رجلٌ عن هذه الآية، فقال: واللهِ، ما كان له ذنب، ولكنّ الله سبحانه ضَمِن له أن يغفر ذنوبَ شيعة عليٍّ عليه السّلام ما تقدَّم من ذنبهم وما تأخّر (22).
سؤال: ما هو عالَمُ الذَّرّ ؟
الجواب: وَرَدت في القرآن الكريم عدّةُ آياتٍ فُسِّرت بعالم الدرّ، يدلّ ظاهرها على وجود نشأةٍ خاصّة للإنسان تَسبِق نشأتَه في هذه الدنيا.
ومن الآيات التي فُسرّت بعالم الذرّ، الآية الكريمة وإذْ أَخَذَ ربُّكَ مِن بَني آدمَ مِن ظُهُورِهِم ذَرِّيَّتَهم وأَشْهَدَهُم على أنفُسِهم: أَلَسْتُ بِربِّكم ؟ قالوا: بَلى شَهِذْنا؛ أَنْ تَقُولوا يومَ القيامةِ إنّا كُنّا عَن هذا غافِلينَ (23).
وقد وردت آراء متفاوتة في تفسير هذه الآية، حتّى أنّ البعض فسّرها بشهادة خلقة الإنسان على وجود الخالق، مثل شهادة كلِّ بِناء ومصنوع على بانيه وصانعه، أو بشهادةِ فطرة الإنسان على وجود الله تعالى، فتركوا ظاهر الآية وتمسّكوا بالقرينة العقليّة.
وحافَظَ البعض الآخر من العلماء على ظاهر الآية، وقالوا بوجود عالَمٍ ونشأةٍ سابقةٍ للإنسان، على الرغم من اختلاف هؤلاء الأعلام في بيان المطلب بلحاظِ عبارات الآية ومواقعها من الأعراب، ومن تحرّزهم عن إظهار وجهة نظر صريحة في تفاصيل تلك النشأة وحقيقتها.
وعلى أيّة حال، فإنّ الرأي السائد بين المحدّثين وطائفة من علماء التفسير هو إقرارهم بعالم الذَّرّ واعترافهم به.
ومن الآيات التي يمكن حملُها على معاني عالم الذرّ، الآيات الواردة في سورة البقرة، في قوله عزّ من قائل: وعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها ثمّ عَرضَهَمُ علَى الملائكةِ فقالَ أنبِؤني بأسماء هؤلاءِ إن كُنتُم صادقين * قالوا سُبحانَك لا عِلْمَ لنا إلاّ ما عَلَّمتنا إنّك أنتَ العَليمُ الحكيم * قال يا آدمُ أنبِئْهُم بأسمائِهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قالَ ألَمْ اقل لكم إنّي أعلمُ غَيْبَ السماواتِ والأرضِ وأعلمُ ما تُبْدُونَ وما كنتم تَكتُمونَ (24).
وفي هذه الآيات دلالة على وجود مُسَمَّيات لها أسماء علّمها اللهُ تعالى آدمَ عليه السّلام، ثمّ عَرَض تلك المسمّيات على الملائكة. وفي الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام أنّ تلك المسمّيات كانت أشباحَ رسول اللهِ صلّى الله عليه وآله والأئمّة الطاهرين عليهم السّلام (25).
ومن جملة الآيات قولُه تعالى وإذْ أخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبيِّينَ لَما آتَيتُكُم مِن كتابٍ وحِكمَةٍ ثمّ جاءكُم رسولٌ مُصدِّقٌ لِما مَعَكُم لَتُؤمِنُنَّ بهِ ولَتَنصُرُنَّهُ قالَ ءَأقْرَرتُم وأخَذتُم على ذلِكُم إصْري قالُوا أقْرَرْنا فاشهَدوا وأنا مَعَكُم مِن الشاهِدينَ (26). ويستفاد من هذه الآية أيضاً أن مسألة أخذ الميثاق على نبوّة خاتم الأنبياء محمّد صلّى الله عليه وآله جرى في جوّ خاصّ، على الرغم من أنّ تصوّر ذلك عسير علينا.
ومن جملتها قولُه تعالى: وإذْ أَخَذْنا مِن النَّبيِّينَ ميثاقَهُم ومِنكَ ومِن نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ابنِ مريمَ وأخَذْنا مِنهُم مِيثاقاً غَليظاً (27)، وهي ذات دلالة على أخذ الميثاق من الأنبياء عليهم السّلام. وهذه الآيات التي ذكرناها قد فُسّرت بعالم الذرّ وأَخْذ الميثاق.
وإضافة إلى هذه الآيات، هناك روايات تبلغ حدّ التواتر تدلّ على وجود عالم الذرّ وعالم الإشهاد وأخْذِ المِيثاق (28).
ويلزمنا أن نذكرّ أنّ المقصود بالتواتر الذي ذكرناه ليس التواتر اللفظي التفصيلي، بل التواتر اللفظي الإجمالي، حيث يحصل العلم ـ من خلال كثرة الروايات ـ بصدور أحدها؛ والتواتر المعنوي الذي يحصل العلم من خلاله بعالم الذرّ لجميع بني آدم.

* * *

سؤال: الإخوة في شبكة الإمام الرضا.. يُذكر عندكم، في أحاديثكم وبعض مصادركم، مصطلح « مصحف الإمام عليّ »، فهل لعليٍّ كرّم الله وجهه مصحفٌ غير هذا المصحف المتداوَل بيننا اليوم ؟ ولماذا هذا التميّز ؟!
الجواب: في كلامه مع الخوارج.. قال الإمام عليٌّ أمير المؤمنين عليه السّلام:
وإنّ الكتابَ لَمَعي، ما فارَقْتُه مُذْ صَحِبْتُه (29).
والكلمة المباركة هذه تشير إلى تاريخٍ في سيرة الإمام عليٍّ عليه السّلام لجمع القرآن الكريم في بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد وفاته، فالمؤرِّخون في تاريخ جمع القرآن يرون أنّه مرّ بثلاث مراحل:
الأولى ـ في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله، حيث جُمع كتابةً وحِفْظاً في الصدور، والقراطيس وألواح والرِّقاع والعُسُب ( جريد النَّخْل )، وفي اللِّخاف ( الأحجار الرقيقة ) وأكتاف الأباعر.
الثانية ـ في عهد أبي بكر، بانتساخه (30).
الثالثة ـ في عهد عثمان، حيث حَمَل الناسَ على قراءة واحدة، كتب منها عدّة مصاحف وأحرق الباقي ممّا كُتب (31).
من هذا يستفاد أنّه كان لبعض الصحابة مصاحفُ جمعوها واحتفظوا بها، سَحَب عثمان قسماً منها فأحرقها ـ كما يذكر السيوطيّ. وكذا كان للإمام عليِّ بن أبي طالب عليه السّلام مصحفٌ جمعه مِن بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد التحاقه صلّى الله عليه وآله بالرفيق الأعلى تبارك وتعالى.
• ذكر عليّ بن أحمد بن أبي بكر الهيتميّ في حديث عثمان بن أبي العاص، أنّ وَفْدَ ثَقيف جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، قال عثمان هذا: فدخلتُ على رسول الله صلّى الله عليه وآله فسألتُه مُصحفاً كان عنده، فأعطانيه (32).
• ويذكر المتّقي الهنديّ ( وهو الآخر من علماء أهل السنّة ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ترك مصحفاً في بيته خَلْفَ فراشه، مكتوباً في العُسُب والحرير والأكتاف، وقد أمَرَ صلّى الله عليه وآله عليّاً عليه السّلام بأخذه وجمعه.. (33)
ولعلّه هو الذي أشارتْ إليه فاطمة الزهراء صلوات الله عليها في خطبتها الأولى بعد رحيل أبيها المصطفى صلّى الله عليه وآله وعبّرت عنه بـ « الكتاب »، حيث قالت:
كتابُ اللهِ، بَيّنةٌ بصائرُه، منكشِفةٌ سرائرُه، مُنجليةٌ ظواهرُه، مغتبطةٌ اشياعُه، قائداً إلى الرضوانِ أتْباعَه، مُؤدٍّ إلى النجاة أستماعُه، فيه تُنالُ حُجَجُ الله المنوّرة، وعزائمه المُفسَّرة، ومحارمُه المُحذَّرة، وبيّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورُخَصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة... إلى أن تقول سلام الله عليها:
وأنّى تُؤفكون وكتابُ الله بين أظْهُرِكم ؟! أُمورُه ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجرُه لايحة، وأوامره واضحة.. (34)
والخطبة الشريفة هذه لم تكن إلاّ بعد أيّامٍ من وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان أمير المؤمنين عليٌّ عليه السّلام قد شمّر عن ذراعه لجمع القرآن الكريم بعد دفنه للنبيّ صلّى الله عليه وآله..
روى سلمان المحمّدي رضي الله عنه، أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام لمّا رأى غَدْرَ الصحابة وقلّةَ وفائهم، لَزِم بيتَه وأقبَلَ على القرآن يؤلّفُه ويجمعه، فلم يَخرُجْ مِن بيته حتّى جمعه، وكان ( أي مِن قَبْل ذلك ) في الصُّحُف والشِّظاظ ( نوع من الأخشاب ) والأسيار ( نوع من الجلود ) والرِّقاع ( قِطع الأوراق )، فلمّا جمَعَه كلَّه وكتَبَه بيده تنزيلَه وتأويله، والناسخَ منه والمنسوخ، بعث إليه أبو بكر أن آخْرُجْ فبايِعْ، فبعَثَ إليه أنّي مشغول؛ فقد آلَيتُ على نفسي يميناً ألاّ أرتديَ برداءٍ إلاّ للصلاة حتّى أؤلّف القرآنَ وأجمَعَه. فسكتوا عنه أيّاماً، فجمَعَه في ثوب واحد وختمه، ثمّ خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله، فنادى عليٌّ عليه السّلام بأعلى صوته:
أيُّها الناس، إنّي لم أزَلْ منذُ قُبِض رسول الله صلّى الله عليه وآله مشغولاً بغُسْله، ثمّ بالقرآن.. حتّى جمَعْتُه كلَّه في هذا الثوب الواحد، فلم يُنْزِل اللهُ على نبيّه صلّى الله عليه وآله آيةً من القرآن إلاّ وقد جمعتُها، وليست منه آيةٌ إلاّ وقد أقْرَأَنيها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وعلّمني تأويلها.
ثمّ قال عليٌّ عليه السّلام: لا تقولوا غداً: إنّا كنّا عن هذا غافلين.
ثمّ قال لهم: لا تقولوا يومَ القيامة أنّي لم أدْعُكُم إلى نصرتي، ولم أُذكِّرْكم بحقّي! ولم أدْعُكم إلى كتاب الله، مِن فاتحته إلى خاتمته.
فقال له عمر: ما أغنانا بما مَعَنا من القرآن عمّا تَدْعُونَنا إليه.
ثمّ دخل عليٌّ عليه السّلام بيته (35).
• وقال ابن شهرآشوب المازندرانيّ: ومِن عَجَب أمره في هذا الباب أنّه عليه السّلام لا شيءَ من العلوم إلاّ وأهلُه يجعلون عليّاً قُدوة، فصار قولُه قِبْلةً في الشريعة، فمنه سُمِع القرآن. قال الشيرازيّ في نزول القرآن، وأبو يوسف يعقوب في تفسيره عن ابن عبّاس في قوله تعالى: « لا تُحَرِّكْ به لسانَكَ لِتَعْجَلَ به » (36) كان النبيُّ يُحرِّك شفَتَيه عند الوحي ليحفَظَه، فقيل له ( أي بالوحي ): لا تُحرِّكْ به لسانَك، يعني بالقرآنِ لتَعْجَلَ به مِن قَبْلِ أن يُفرَغَ به مِن قراءته عليك. « إنّ عَلَينا جَمْعَه وقُرآنَه » (37) قال: ضَمِنَ اللهُ محمّداً صلّى الله عليه وآله أن يجمعَ القرآنَ بعدَ رسول الله صلّى الله عليه وآله عليُّ بن أبي طالب عليه السّلام.
قال ابن عبّاس: فجَمعَ اللهُ القرآنَ في قلب عليّ، وجمَعَه عليٌّ بعد موت رسول الله صلّى الله عليه وآله بستّة أشهر (38).
ومن هنا ينقل علماء أهل السنّة ومحدّثوهم أنّه كان للإمام عليّ عليه السّلام قرآن جمَعَه، كما أنّ بعض الصحابة جمعوا هم أيضاً مصاحف كانت عندهم، منهم: زيد وابن مسعود وأُبيّ بن كعب وأبو موسى الأشعريّ، وعائشة بنت أبي بكر، فقرأ أهل الكوفة على مصحف عبدالله بن مسعود، وأهلُ البصرة على مصحف أبي موسى، وأهل الشام على مصحف أُبيّ بن كعب، وأهل دمشق على مصحف المقداد (39).
ونحن نذهب إلى أنّ مصحف أمير المؤمنين عليه السّلام كان الأوثقَ في جمعه وترتيبه، وما حوى من المعاني وتأويل الآيات وذِكْر أسباب النزول. وغير ذلك، وكان قد جَمَع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله ابتداءً ـ كما يذكر الخوارزميّ في ( المناقب 49 ) ـ ، وهو القائل سلام الله عليه ـ كما في مصادر المسلمين سُنّةً وشيعة: واللهِ ما نَزَلَتْ آيةٌ إلاّ وقد عَلِمتُ فيما أُنزِلَتْ، وأين أُنزلت، وعلى مَن أُنزِلت، وإنّ ربّي وهَبَ لي قلباً عَقُولاً، ولساناً سَؤُولاً ( وفي رواية: لساناً طَلِقاً ) (40). بل قال سلام الله عليه كلمة لم يستطع احدٌ ادّعاءها؛ ثقةً منه بما وهبه الله تعالى، وهي: سَلُوني عن كتاب الله عزّوجلّ؛ فإنّه ليس مِن آيةٍ إلاّ وقد عَرَفْتُ أبِلَيلٍ أُنزِلتْ أم بنهار، أم في سهلٍ أم في جبل (41).
واتّفق الكلّ ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ على أنّ الإمام عليّاً عليه السّلام كان يَحفَظُ القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولم يكن غيرُه يَحفَظُه، ثمّ هو أوّل مَن جَمَعه (42). شهد له بجمعه عدّة من أصحاب السِّيرَ والتراجم والمؤرّخين والمحدّثين، منهم: أبو نعيم الإصبهانيّ في ( حِلية الأولياء 67:1 )، والسيّد أحمد شهاب الدين الشافعيّ في ( توضيح الدلائل في تصحيح الفضائل 418 )، وابن النديم في ( الفهرست 30 )، وابن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة 9:1 )، وابن حجر في ( الصواعق المحرقة 72 )، والشيخ المجلسيّ في ( بحار الأنوار 40:92 ـ 53، الباب 7 ما جاء في كيفيّة جمع القرآن )، السيوطيّ في ( الإتقان في علوم القرآن 57:1 ) وابن سعد في ( الطبقات الكبرى 101:2 )، وابن عبدالبَرّ في ( الاستيعاب ـ بهامش الإصابة 253:2 )، وابن جزّي في ( التسهيل إلى علوم التنزيل 4:1 ).. وغيرهم كثير.
والفَرْق بين مصحف الإمام عليٍّ عليه السّلام والمصاحفِ الأخرى التي اختلفَت حينَها فيما بينها.. أنّ الإمام سلام الله عليه رتّبه على ما نزل، كما اشتمل على شروحٍ وتفاسير لمواضع من الآيات، مع بيان أسباب النزول ومواقعه، وهو القائل:
ما نزلَتْ آيةٌ على رسول الله صلّى الله عليه وآله إلاّ أقْرأَنيها وأملاها عَلَيّ، فأكتُبها بخطّي. وعلَّمَني تأويلَها وتفسيرَها، وناسخَها ومنسوخها، ومُحكَمَها ومتشابِهَها. ودعا اللهَ لي أن يُعلّمَني فَهْمَها وحفظَها، فما نَسِيتُ آيةً مِن كتاب الله، وعِلْماً أمْلاه علَيّ، فكتَبْتُه منذ دعا لي ما دعا (43).
كما اشتمَلَ مصحف الإمام عليّ عليه السّلام جُملةً من علوم القرآن الكريم، إضافةً إلى تفسيرٍ للآيات وتأويلاتها، ومتشابهاتها ومحكماتها، وناسخها ومنسوخها (44).
ولَمّا لم يُؤخَذْ بمصاحف الصحابة كابن مسعود وأبيّ وزيد وعائشة، بل أُحرِقتْ، وجُمِع شيءٌ آخَر على طريقةٍ أخرى، احتفظ الإمام عليٌّ عليه السّلام بمصحفه كما احتفظ البعضُ الآخر بشيءٍ من مصاحفهم، وأورثَه أبناءه الأئمّة الهداة عليهم السّلام، فهم يتداولونه الواحد بعد الآخر، وقد سأل طلحةُ أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السّلام: إلى مَن تدفعُه، ومَن صاحبُه بعدك ؟ فأجابه عليه السّلام:
إلى الذي أمَرَني رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أن أدفعه إليه، وصيّي وأَولى الناس بعدي بالناس، اِبني الحسن، ثمّ يدفعه ابني الحسنُ إلى ابني الحسين، ثمّ يصير إلى واحدٍ بعد واحد مِن وُلْد الحسين.. حتّى يَرِد آخِرُهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله حوضَه، هُمْ مع القرآنِ لا يُفارقونه، والقرآن معهم لا يفارقُهم (45).
وقد تأسّف ابن سيرين؛ إذْ لم يعثر على مصحف الإمام عليّ عليه السّلام، قال: تطلّبت ذلك الكتابَ، وكتبتُ إلى المدينة فلم أقْدِرْ عليه. ولو أصبتُ ذلك الكتابَ كان فيه علم! (46). وذكر ابن النديم أنّ ذلك المصحف هو أوّل مصحف جُمع فيه القرآن، وكان عند آل جعفر، وفي قولٍ آخَر يتوارثه بنو الحسن (47).
وهو نسخة أخرى من القرآن الكريم على ترتيب آخر، وقد تضمّن تفسيراً وعلوماً أخرى، وليس هو قرآناً آخر.

* * *

سُؤال: مِن أين جاءتنا شبهة تحريف القرآن الكريم ؟
الجواب: أجمع المسلمون على أنّ القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كتاب الله الذي لم يأتهِ الباطلُ مِن يديه ولا مِن خلفه، تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميد، وقد حَفِظه الله جلّ وعلا في حفظه الخاصّ، فقال عزّ مِن قائل: إنّا نحنُ نَزّلْنا الذِّكْرَ وإنّا له لَحافِظُون ( سورة الحِجْر:9 ).
وقد وصَفَ القرآنَ الكريم ربيبُه أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السّلام فقال: « ثمّ أنزلَ عليهِ الكتابَ نوراً لا تُطفأُ مَصابيحُه، وسِراجاً لا يَخبو تَوقُّده، وبَحْراً لا يُدرَكُ قَعرُه، ومِنْهاجاً لا يُضِلّ نهجُه، وشُعاعاً لا يُظْلِم ضَوْؤُه، وفُرقاناً لا يُخمَدُ برهانُه، وتِبياناً لا تُهدَمُ أركانُه، وشِفاءً لا تُخشى أسقامُه، وعِزّاً لا تُهزَمُ أنصارُه، وحقّاً لا تُخذَلُ أعوانُه، فهوَ مَعدِنُ الإيمانِ وبُحبوحتُه، وينابيعُ العِلْم وبُحورُه، ورياضُ العدلِ وغُدْرانُه، وأَثافِيُّ الإسلامِ وبُنْيانُه،... جعَلَه اللهُ رِيّاً لعَطَشِ العلماء، وربيعاً لقلوبِ الفقهاء، ومَحاجَّ لِطُرقِ الصُّلحاء، ودواءً ليس بَعدَه داء، ونوراً ليس بَعدَه ظُلْمة، وحَبْلاً وثيقاً عُروتُه، ومَعْقِلاً مَنيعاً ذِرْوتُه، وعِزّاً لمَن تَولاّه، وسِلْماً لمَن دخَلَه، وهُدىً لمَنِ آئْتَمّ به، وعُذْراً لمَنِ آنْتَحَله، وبُرهاناً لمَن تكلّم به، وشاهداً لمَن خاصَمَ به... وعِلْماً لمَن وعى، وحديثاً لمَن روى، وحُكْماً لمَن قضى »( الخطبة 198 من نهج البلاغة ).
بعد هذه الخصائص العظيمة لكتاب الله تبارك وتعالى، أيَصحّ أن يُحرَّف حتى لا يُميَّزَ فيه حقٌّ من باطل، وخيرٌ من شرّ، وعدلٌ من ظلم، وهُدىً من ضلال ؟! وأمير المؤمنين عليه السّلام يصف القرآن الكريم بقوله: « وآعلموا أنّ القرآنَ هو الناصحُ الذي لا يَغُشّ، والهادي الذي لا يُضِلّ، والمحدِّثُ الذي لا يَكذِب... فاستَشْفُوه مِن أدوائِكم، وآستَعينوا به على لأْوائِكم؛ فإنّ فيه شفاءً مِن أكبر الداء: وهو ( أي الداء ): الكفرُ والنفاق، والغَيُّ والضَّلال »( الخطبة 176 من نهج البلاغة ).
فكتابٌ هذا شأنُه وتلك منزلته وذاك دَورُه في حياة الأمّة، أيُسمح للأيدي المحرّفة أن تشوّهَه ؟! كلاّ، وإنّما أُلقيت شبهةُ التحريف من أعداء القرآن، بل ومِن مُحرّفيه، الذين أرادوا أمرينِ خبيثين بإلقائهم هذه الشبهة الضالّة المضلّة:
الأُولى: أن يفقد المسلمون ثقتَهُم المطلقة بكتاب الله العزيز، فينصرفوا عنه بدعوى أنّه محرّف.
والثانية: أن يتراشق المسلمون فيما بينهم.. كلُّ فِرْقةٍ تتّهم الأخرى أنّها تذهب إلى تحريف القرآن الكريم، فيشبّ النزاع بينهم، والله تبارك وتعالى يقول: « ولا تَنازَعُوا فتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُم وآصبِرُوا، إنّ اللهَ مَعَ الصابرين »( سورة الأنفال:46).
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيّبين.

* * *

سؤال: متى تمّ تدوينُ القرآن الكريم ؟
الجواب: إنّ مجموع الظروف والخصائص الموضوعيّة التي عاشها النبيّ صلّى الله عليه وآله، تَدُلّ بشكلٍ واضحٍ على أنّ كتاب الله عزّوجلّ كان قد تمّ تدوينه في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإنّما قام أمير المؤمنين عليٌّ عليه السّلام فيما بعد بجمعه وترتيبه، هكذا روى: أبو نُعَيم الإصفهاني في ( حِلْية الأولياء )، والخطيب البغدادي في ( الأربعين ) بالإسناد عن السدّي، عن عبدخير، عن الإمام عليّ عليه السّلام أنّه قال:
لمّا قُبِض رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، أقسمَتُ أن لا أضَعَ ردايَ عن ظهري حتّى أجمعَ ما بينَ اللَّوحَين.. فما وَضَعتُ ردايَ حتّى جمعتُ القرآن( بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 52:92 / ح 18 ـ عن مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 40:2 ـ 41. ويراجع الباب السابع من ج 92 من البحار عنوان: ما جاء في كيفيّة جمع القرآن ص 40 ـ 60 / وفيه 46 حديثاً ).
وأمّا أدلّة تدوين القرآن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله فكثيرة. منها:
أوّلاً: يُعتبر القرآن الكريم دستوراً أساسيّاً للأمة الإسلاميّة، وعليه يقوم كيانها العقائديّ والتشريعيّ والاجتماعيّ، فكان لابدّ أن يُدَوّن ويُحَفظ، ليُرجَع إليه ويُعتمَد عليه باعتباره المنبعَ الأساس للحياة الإسلاميّة.
ثانياً: نشأت جماعةٌ كبيرة من المسلمين عُرِفوا بالحُفّاظ، دأبوا على حفظ القرآن الكريم في صدورهم واستظهارهم لنصّه بشكلٍ دقيق، شعوراً منهم بالأهميّة الفائقة التي تحتلّها آياته في جميع شؤون حياتهم.
ثالثاً: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله على بيّنةٍ بتاريخ الأديان، وكيف آلَتْ كتبُها إلى التحريف على يد الجهّال والمغرضين والمزوّرين؛ لذا حرص صلوات الله عليه وعلى آله أن يدوّن القرآن، الكريم؛ تحصيناً له من التلاعب والتغيير.
رابعاً: إنّ إمكانات التدوين كانت متوفّرة لدى النبيّ صلّى الله عليه وآله، وليس هنالك من يشكّ تاريخيّاً في تمكّن المسلمين مِن ذلك.
فهذه العناصر بمجموعها، تكوّن لدينا يقيناً بأنّ القرآن الكريم قد تمّ تدوينه في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ لأهميّته الذاتيّة، ولوجود الخطر عليه من الضياع أو التحريف، ثمّ تَوفّر أدوات التدوين والكتابة والمدوّنين فضلاً عن الحُفّاظ، ثمّ وجود الحرص مِن قِبل النبيّ صلّى الله عليه وآله وإخلاصه على حفظ القرآن وصيانته؛ فهو الدستور الأساس للأمّة إلى يوم القيامة، والمعجزة الدائمة الخالدة التي تُثبتُ صِدْقَ رسالة الإسلام وصِدْقَ نبوّةِ محمّد صلّى الله عليه وآله، فكان لابدّ من التدوين، والأخبار والروايات جاءت مِصدِّقةً ذلك وشاهدةً عليه.


source : http://www.imamreza.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

السؤال : ما الفرق بين الشيعة والسنّة ؟
السؤال: اسم الله الأعظم اسم يستودعه عند خاصّة ...
هل ورد هذا الحديث بما معناه ( أن الله تعالى ينزل ...
السؤال: كيف يمكن إقناع أحد المادّيين بوجود الله ...
السؤال : لماذا يعتبر المسلمون بأنّ الكلب نجس حين ...
السؤال : هل توجد رواية في كتب أهل السنّة تبيّن ...
السؤال : ما الأدلّة على عصمة أهل البيت (عليهم ...
امرأة تحكمت بتجارة مكة وكانت مكة تتحكم بتجارة ...
السؤال : سؤالي متعلّق بالحديث الوارد عن الإمام ...
السؤال : هذه شبهة وردت في إحدى مواقع الوهّابية في ...

 
user comment