عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

نظرة على اعتقادات الإمام الخميني واهدافه وتطلعاته



الآن وحيث وصلنا في بحثنا هذا في استعراض المراحل التاريخية لحياة الإمام الخميني، إلى الايام الاخيرة من عمره البمارك، لا يفوتنا ان نلقي نظرة ولو سريعة على اهم ابعاد فكره واهدافه (قده).

بديهي ان تكوين صورة واضحة وكاملة عن مبادئ الإمام الخميني الاعتقادية واهدافه لا يتيسر بدون مطالعة مؤلفاته واحاديثه ودراسة سيرته الملية بدقة، الأمر الذي لا يتيسر في هذه العجالة.

الإمام الخميني شيعي المذهب، يعتقد بشدّة بوحدة الأمة الإسلامية (بغض النظر عن توجهاتهم المذهبية) في مقابل المستعمرين واعداء الإسلام. فالدعوة إلى الوحدة تمثل جانباً مهماً من بياناته وخطاباته، وهو لا يجوز أية حركة تؤدي إلى بث الفرقة في صفوف المسلمين وتمهد الطريق أمام المستعمرين لتحقيق هيمنتهم. لقد اوضح سماحته ـ من خلال اصدار الفتاوى المتميزة، وعبر دعمه لاعلان اسبوع الوحدة بين المسلمين الذي يقام في ذكرى ولادة النبي الأكرم واصدار البيانات المتواصلة ـ السبل العملية لتحقيق الوحدة بين الشيعة والسنّة. وقد اصرّ على مواجهة كل ما يؤدي إلى التفرقة والجدال بين الشيعة والسنّة طوال مدة زعامته.

كان سماحته يعتقد بأن الإيمان بالله الواحد، والاعتقاد برسالة خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلّم) والايمان بالقرآن المجيد، بصفته صحيفة الهداية الابدية، والاعتقاد بضرورات الدين وشعائره واحكامه كالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد، كلها مرتكزات عملية ثابتة لتقارب جميع المذاهب الإسلامية وتوحيد صفوفها في مقابل المشركين واعداء الدين.

ان النهضة الاصلاحية للإمام الخميني وبياناته لم تقصر على المجتمع الايراني وسائر المجتمعات الإسلامية. إذ أن سماحته كان يعتقد بأنّ الفطرة البشرية لجميع الناس إنما خلقت على اساس الالتفاف حول مبدأ التوحيد والخير والحقيقة والعدالة، ولو ان المعرفة البشرية العامة تنامت وتمت السيطرة على شيطان النفس الأمارة، وتم تضعيف شياطين الخارج، فإن آحاد المجتمع البشري سيتوجهون نحو الله والحياة في أجواء ملؤها العدالة والسلام.

على هذا الاساس دعا الإمام الخميني ـ في اغلب بياناته ـ المستضعفين والشعوب الاسيرة في بلدان العالم الثالث إلى الانتفاضة بوجه المستكبرين. وفي الايام الأولى من انتصار الثورة الإسلامية دعا بصراحة إلى فكرة اقامة حزب عالمي للمستضعفين، ودافع عن هذه الفكرة، كما ان أول المؤتمرات العالمية التي ضمت الحركات التحريرية اقيم في إيران لأول مرة خلال زعامة الإمام الخميني.

لقد أكد الإمام الخميني مراراً ان الثورة الإسلامية انما تعادي التطلعات السلطوية لقادة أميركا والغرب والاتحاد السوفيتي (السابق) لا شعوب تلك البلدان التي وقعت هي الاخرى ضحية الاستعمار الجديد.

كان شعار الإمام الخميني مقارعة الظالم والدفاع عن المظلوم، وكان يقول: "لا نظلم ولا نرضخ لظلم الآخرين".

ولعل من المناسب هنا ان ننقل الاسس الاعتقادية للإمام الخميني كما وردت على لسان سماحته وهو يجيب عن سؤال مراسل صحيفة التايمز البريطانية، يقول سماحته "ان اعتقادي واعتقاد المسلمين قاطبة يتلخص في المسائل التي أوردها القرآن الكريم، والتي أوضحها نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة الحق من بعده، وان اساس وأصل جميع تلك المعتقدات ـ والذي يعتبر اهم واسمى اعتقاداتنا ـ هو مبدأ التوحيد. واستناداً لهذا الاصل فإننا نعتقد بأنّ خالق العالم وجميع عوالم الوجود والانسان، هو الله تبارك وتعالى، والمطّلع على جميع الحقائق، والقادر على كل شيء، ومالك كل شيء. وهذا الاصل يعلمنا بأنّ على الانسان أن يسلّم فقط أمام ذات الله المقدسة، وأن لا يبدي الطاعة لأي انسان آخر إلا إذا كانت طاعته استمراراً لطاعة الله. على هذا الاساس فلا يحق لأيّ انسان ان يفرض على الآخرين الانصياع له. ومن هذا الاصل الاعتقادي، نتعلم مبدأ حرية الإنسان، وانه لا حق لاي انسان ان يسلب انساناً آخر أو مجتمعاً أو شعباً حقهم في الحرية، أو ان يضع لهم قانوناً ينظم سلوكهم وعلاقاتهم استناداً إلى مقدار وعيه ومعرفته القاصرين، أو استناداً إلى رغباته وميوله. وبالاستناد إلى هذا الاصل، فإننا نعتقد ايضاً بأنّ وضع القوانين لتطوير الحياة هو من اختصاص الباري جل وعلا، كما ان قوانين الوجود والخلق من اختصاصه هو تعالى، وان سعادة الانسان والمجتمعات وكمالها، تكمن فقط في طاعة القوانين الالهية التي تمّ ايصالها إلى البشر عن طريق الانبياء، وان الانحطاط والسقوط اللذين تعاني منهما البشرية انما هما بسبب مصادرة الحريات والاستسلام أمام بعض الافراد. ومن هنا فانه يتوجب على الانسان ان يثور على هذه القيود ويقارع الذين يدعونه للاستسلام والأسر؛ وان يسعى لتحرير نفسه ومجتمعه ليكون الجميع عبيداً لله ومن هذه الناحية تنطلق قوانيننا الاجتماعية ضد قوى الاستبداد والاستعمار. ومن هذا الاصل الاعتقادي (التوحيد) نستلهم المساواة بين جميع بني البشر أمام الله، فهو خالق الجميع، والجميع عباده. فالاصل هو تساوي البشر، وما يميز الفرد عن الآخر ـ كقاعدة ومعيار ـ انما هي التقوى والابتعاد عن الانحراف والخطأ ولذا ينبغي الوقوف بوجه كل ما يُراد به تخريب المساواة الاجتماعية وتحكيم الامتيازات المزيفة والفارغة على المجتمع".

يقول الإمام الخميني: "المعيار في الإسلام هو رضا الله لا رضا الاشخاص ونحن نقيس الاشخاص على الحق، لا الحق على الاشخاص. المعيار هو الحق والحقيقة".

كان الإمام الخميني يعتقد بأنّ الفطرة الانسانية مجبولة على حب الكمال المطلق المنحصر بالحق تعالى، وانه تعالى منشأ جميع الكمالات والقدرات. كان الإمام الخميني يذكّر انصاره دوماً بأن "العالم محضر الله، فلا تعصوا الله في محضره". "لا تخشوا احداً إلا الله، ولا تعقدوا الآمال على احد غير الله".

كان الإمام الخميني يرى بأن الهدف من بعثة الأنبياء هو هداية البشر إلى معرفة الله وتجسيد الكمال الانساني من القوة إلى الفعل، وازاحة الظلمات واصلاح المجتمعات واقامة القسط والعدالة. يقول سماحته: "ان بعثة الانبياء انما تهدف إلى انقاذ اخلاق الناس، ونفوسهم، وارواحهم، واجسامهم من الظلمات؛ وتبديد الظلمات واستبدالها بالنور" ويقول: "لا نور سوى الحق تعالى، وماعداه ظلمات".

الإمام الخميني يرى بأن الإسلام خاتم الاديان الإلهية وانه يمثل اسمى واشمل العقائد الهادية، يقول سماحته مؤكداً: "ان الإسلام يقف على قمة هرم الحضارة" و"ان النظام الحقوقي في الإسلام ارقى واكمل واشمل الانظمة الحقوقية".. "في الإسلام يوجد قانون واحد وهو القانوني الالهي".

ان سماحته يرى في الإسلام دين العبادة والسياسة. يقول سماحته: "كان الإسلام من واضعي اسس الحضارة الكبرى في العالم".

كان سماحته يوصي اتباعه بالقول: "اياكم والخلط بين القرآن المقدس والدين الإسلامي الذي يبعث على التحرر، وبين العقائد الخاطئة المنحرفة التي ابتدعها الفكر البشري". ويقول (قده): "إن مشكلة المسلمين الكبرى تكمن في تخلّيهم عن القرآن الكريم والانضواء تحت لواء الآخرين". ويقول: "ان التشيع ـ المذهب الثوري والامتداد الطبيعي للإسلام المحمدي الاصيل ـ كان دائماً ـ مثلما كان الشيعة ـ هدفاً لحملات المستبدين والمستعمرين الغادرة".

لقد اكد سماحته مراراً، حينما تحدث عن اهداف نهضته والباعث عليها، على القول: "ان اقصى ما نهدف اليه هو الإسلام".

فالإمام الخميني يرى الثورة الإسلامية شعاعاً من الثورة الحسينية الخالدة التي انطلقت في عاشوراء لانقاذ الدين من قبضة المجرمين الظالمين إذ يعتقد سماحته: "بأن الإسلام لم يأت لقوم دون غيرهم، ولا يفرّق بين الترك والفرس والعرب والعجم. والإسلام للجميع ولا قيمة أو امتياز في نظامه للجنس أو اللون أو لقبيلة أو اللغة".. "الجميع اخوة متكافئون، فالكرامة فقط وفقط في اطار التقوى، والتمايز انما يتم على اساس الاخلاق الفاضلة والاعمال الصالحة".

ينظر الإمام الخميني إلى الشهادة في سبيل الله عزاً ابدياً، وفخر الاولياء، ومفتاح السعادة، ورمز النصر. ويرى الاندفاع إلى الشهادة ناتجاً عن حب الله. ويقول عن قمية الشهادة وماهيتها: "ما أشدّ غفلة عباد الدنيا والجهلة، الذين يبحثون عن قيمة الشهادة ومعناها في صحائف الطبيعة، وينشدون وصفها في الاناشيد والملاحم والقصائد، ويستجدون فن التخيل وكتاب التعقل لاكتشافها والحال ان حلّ اللغز لا يتيسر إلا بالعشق".

بهذا المنطق كان سماحته يقول: "أقول لكم ايها الاخوة المؤمنون"، ان نموت على أيدي أميركا والاتحاد السوفيتي المجرمة ونلقى الله مخضبين بدمائنا مرفوعي الرأس، خير لنا من أن نعيش برفاه تحت لواء الجيش الاحمر الشرقي، والاسود الغربي".

كان الإمام الخميني فيلسوفاً إلهياً، وعارفاً ربانياً، وفقيهاً اصولياً، ومرجعاً للجماهير، وفي الوقت ذاته، زعيم الثورة الإسلامية ومؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران. كان سماحته مطلعاً على اسس الفلسفة الغربية، ومتقناً لاسس ومباحث المنطق والفلسفة الإسلامية، في اتجاهيها المشائي والاشراقي. وربما يمكن القول أنّ الفكر الفلسفي للإمام يميل ـ إلى حدٍّ ما ـ إلى الفلسفة الشهودية والاشراقية وبالاسلوب التوفيقي الذي اتبعه الحكيم المتأله المرحوم ملاّ صدرا، طبعاً مع وجود بعض الاختلاف والفارق.

درّس الإمام الخميني الفلسفة بمستوياتها العالية لمدة خمسة عشر عاماً. وقد عدّ سماحته الفلسفة بمنزلة السبل لمعرفة مرحلة ومرتبة من حقائق الوجود ووحدته ومراتبه، متأثرة بشدة بمشربه العرفاني.

كان عرفان الإمام الخميني يقوم على الآيات القرآنية واحاديث أئمة الدين وتعاليم أولياء الله، وفي اطار الشرع الإسلامي المطهر. كان سماحته يعارض بشدة التصوف السلبي الذي يروّج بأن الدين والعقيدة منحصران في الذكر والاوراد، ويدعو إلى الاعتزال والتخلي عن اداء المسؤوليات السياسية والاجتماعية. وكان سماحته يرى بأنّ معرفة النفس اساس لمعرفة الله، وان تهذيب نفوس البشر من الرذائل والمفاسد الاخلاقية والسعي في اكتساب الفضائل، شرط اساس لنيل معرفة الحق. كما ان بلوغ المعرفة الحقيقية والمقامات المعنوية السامية لا يتحقق إلا بطي الطريق التي طواها وعلّمنا اياها الانبياء العظام وحجج الله في الارض.

ولهذا كان الإمام الخميني لا يجوز الاساليب والرياضيات الخارجة عن اطار الشرع المنور والاحكام الالهية. كما إنّه يتنفر من القشرية والتظاهر بالقدسية والمراءاة بالعرفان.

كان الإمام الخميني يعتقد بأنه ينبغي الاستعانة في ساحة الجهاد الاكبر المحفوف بالمخاطر، والسير والسلوك، وفي وادي الاسفار الاربعة بالمرشدين الحقيقيين واصحاب الكشف والكرامة الواقعيين، لا الادعياء المحترفين المزيفين. كذلك ينبغي الارتباط بالولاية العظيمة التي تمثل سفينة النجاة. فكل ما يبلغه الانسان عن غير هذا الطريق هو ضلال في ضلال. وان نفس الإمام المهذّبة، وروحه المتسامية، وطيه الموفق للمراحل العملية للسير والسلوك المعنوي، بحد ذاته هو ابلغ شاهد على حقانية نهجه.

نال الإمام الخميني في هذا المسير مرتبة من المقامات المعنوية والادراك الشهودي، وكان فانياً في الله حتى انه كان يناله ما يناله من الاضطراب في مقابل ادعاء الحلاجين: "انا الحق"؛ ليس لأن السذج من الغرباء عن العرفان كانوا قد كفروهم، بل لأنهم كانوا يرون في الوجود غير الحق ايضاً، ويدعون "الآنيّة" ووجود الواسطة. في حين ان الإمام يرى الحق تعالى وحده هو النور، وكلّ ما عداه ظلمة؛ والظلمة تعني انعدام النور. والعدم لا يعد وجوداً، وان الوجود تجلي الحق ولا شيء سواه.

كان الإمام الخميني ـ إضافة إلى تعمقه في الفلسفة والعرفان والتفسير والاخلاق وعلم الكلام الإسلامي ـ مجتهداً بارزاً في الفقه والاصول، وقد درّس الفقه والاصول على اعلى المستويات اكثر من ثلاثين عاماً. ويوجد الآن فضلاً عن الكتب الفقهية والاصولية التي ألفّها سماحته، العشرات من تقريرات دروسه التي كتبها طلابه.

ومن السمات التي امتازت بها مدرسة الإمام الفقهية، هو أنه كان يؤمن بأصالة خاصة للفقه والاصول، وكان يتحاشى خلط الاستنتاجات الكلامية والفلسفية والعرفانية مع الاحكام الفقهية في مرحلة استنباط الاحكام.

كان سماحته يرى بأنّ حركية الفقه والاصول من مستلزمات الرؤية الاجتهادية، وان لعنصري الزمان والمكان دوراً حيوياً هاماً في الاجتهاد، وان عدم اخذهما بنظر الاعتبار يقود إلى العجز عن درك المسائل المستحدثة والحاجات المعاصرة ويحاول دون تقديم الاجوبة المناسبة لها. وفي الوقت نفسه كان سماحته يعتقد بأنّ حركية الفقه ليس بمعنى تزلزل اسلوب الاستنباط والاجتهاد المتعارف. ومن هنا كان سماحته يؤكد في توصياته إلى الحوزات العلمية على ضرورة اعتماد الفقه التقليدي، بمعنى حفظ اساليب ومناهج السلف الصالح في استنباط الاحكام، وكان يعتبر تخطيها آفة وخطراً عظيماً، يمهد السبيل لظهور البدع.

كان سماحته يرغب في اصلاح الحوزات العلمية وتطويرها في هذا الاطار، وكان سماحته يعد من الرواد في هذا المضمار. لقد مهد سماحته الطريق ـ من خلال اصداره للفتاوى الثورية ـ أمام المجتهدين لتغيير افق نظرتهم لتتسع للمسائل الحيوية والاساسية للمجتمع، واثبت ـ من خلال احيائه للابواب المنسيّة في الفقه ـ اهمية عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد.

يقول سماحته: "إنّ الحكومة بنظر المجتهد الحقيقي، هي تعبير عن الفلسفة العملية للفقه جميعاً في مختلف زوايا الحياة البشرية. الحكومة ترجمة عملية للفقه في تعامله مع جميع المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية. فالفقه نظرية واقعية وكاملة لادارة حياة الانسان من المهد إلى اللحد".

وعلى اساس هذه النظرة، طرح الإمام الخميني آراءه المتمثلة في "اقامة الحكومة الإسلامية على اساس ولاية الفقيه في زمن الغيبة" وجاهد من اجل تحقيقها سنوات طوال. ورغم ان نظرية ولاية الفقيه عموماً (بغضّ النظر عن اختلاف الآراء في حدود صلاحيات الولي الفقيه) تعتبر أمراً اتفقت عليه آراء فقهاء الشيعة، الا ان ابعادها لم تتعرض للبحث ولم تتح لها الفرصة للتحقيق العملي نتيجة عدم توفر الظروف المناسبة في الماضي. وعليه فان الإمام الخميني يعدّ أول فقيه نجح بعد قرون في تشكيل الحكومة الدينية المبنية على اساس قيادة المجتهد الجامع للشرائط، التي من جملتها: التهذيب وصيانة النفس، والتدبير، والقدرة على ادارة المجتمع، والشجاعة والعدالة والخبرة والاجتهاد في الاحكام الإلهيّة. يقول سماحته: "الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الالهي على الناس".

في عقيدة الإمام، إن الحكومة الإسلامية ـ بغض النظر عن التباين في الاهداف والغايات ـ تختلف عن الانظمة السياسية المعاصرة من حيث تشكيلاتها واركانها ايضاً. ففي نظرية الحكومة الإسلامية تجد "الاكثرية" مشروعيتها على اساس "الحق"؛ وتبعاً لذلك فإن وجوب اعمال الولاية منوط بتوافر شروطها ـ التي من جملتها قبول الرأي العام ـ الذي يتجلى بالانتخاب المباشر المتعارف أو عن طريق اختيار الخبراء ـ وهم منتخبو الشعب ـ.

وعلى هذا الاساس فإن من الطبيعي ان تكون العلاقة بين القائد والحكومة الإسلامية من جهة والجماهير من جهة أخرى، علاقة عميقة واعتقادية، ولهذا كانت الحكومة التي اقامها الإمام وقادها، من اكثر انواع الحكومات جماهيرية وشعبية. ففي هذه الحكومة ـ وخلافاً لجميع الانظمة السياسية الموجودة في العالم ـ لا تنتهي مسؤولية الجماهير بعد اداء دورها في تعيين القائد واجراء الانتخابات، بل ان حضورها في ميدان إدارة المجتمع الإسلامي والمساهمة في النظام الإسلامي يضمن لها بوصفه تكليفاً شرعياً. فمن وجهة نظر الإمام الخميني إن الحكومة الإسلامية انما تستند إلى العلاقة والثقة المتبادلة بين الجماهير والقائد الصالح، لذا يقول سماحته: "إذا مارس الفقيه نوعاً من الاستبداد في أمر ما، يسقط عنه مقام الولاية"، "ان القائد والقيادة ليست بالامور المهمة للفرد في حدِّ ذاتها في الاديان السماوية وفي الإسلام العظيم، حتى تدفع الانسان ـ لا سمح الله ـ إلى الغرور والعجب". من هذا المنطلق كان سماحته يقول: "أن ينعتوني بخادم الشعب افضل من ان ينادوني بالقائد، فالمسألة ليست مسألة قيادة، المهم هو الخدمة، لقد كلفنا الإسلام بالخدمة".. "اني اخ لأبناء الشعب الايراني، واعتبر نفسي خادماً وجندياً لهم".. "شيء واحد يحكم في الإسلام وهو القانون. في زمن النبي الأكرم ايضاً كان القانون هو الحاكم، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) منفذ القانون".

يقول الإمام الخميني مخاطباً الحكومات التي ترى الحكم لها وحدها وانها افضل من الجماهير: "الحكومات اقلية ينبغي ان تكون في خدمة شعوبها، وان هؤلاء لا يعون أنه ينبغي للحكومة ان تكون خادمة للشعب، لا حاكماً عليه".. "ان وعي الجماهير ومشاركتها في نشاطات حكومتها المنتخبة، وممارسة الاشراف عليها والانسجام معها، يعد بحد ذاته اكبر ضمانة لحفاظ الامن في المجتمع".

ان الفارق واضح بين هذه النظرية فيما يخص الحكومة والامن القومي والاجتماعي، والنظريات التي ترى ـ حتى في أكثر الانظمة السياسية ديمقراطيةً ـ بأنّ الدولة والحكومة لا تعرف المصداقية إلاّ من خلال "القوة" ووسائلها واساليبها. ومن هنا ترى ايضاً ان اهم ركن للأمن الاجتماعي انما يكمن في هذه القدرة. يقول الإمام الخميني: "ان أيّة قوة مهما عظمت معرضة للسقوط إذا ما حرمت الدعم الشعبي".

ان سقوط النظام الشيوعي ـ الذي كان يبدو قوياً ـ من جهة، واستقرار نظام الجمهورية الإسلامية في إيران وثباته ـ رغم عداء اعتى قوى العالم لها، ورغم دخولها في حرب دامت ثمانية اعوام ـ من جهة أخرى، يعدّ بحدّ ذاته انصع دليل واقوى شاهد على صحة نظرية الإمام الخميني.

بديهيّ أنّ نظرية الإمام الخميني بشأن الحكومة الإسلامية ودور وموقع الجماهير بشأن الحكومة الإسلامية ودور وموقع الجماهير فيها، لا ربط له بتاتاً بالقومية بالمصطلح الشائع في الثقافة السياسية للعالم. بل هي على النقيض منها تماماً.

فالقومية التي تظهر احياناً كايديولوجية، تنتهي ـ وبغض النظر عن عجزها على الصعيد العملي ـ إلى نظام يعادي القيم والمبادئ الإنسانية. ذلك لأن رؤية كهذه، إذا ما طرحت التصورات القومية لأي شعب كحقائق ينبغي الدفاع عنها، فهذا يعني أنه لا توجد حقائق وقيم قابتة، وستكون هناك من الحقائق والقيم بعدد الشعوب والحدود الجغرافية والسياسية المتغيرة، وان مصطلحات كالعدالة والسلام والحرية ستتعدد أيضاً بتعدد الشعوب، وتتغير وتتضاد بشكل مستمر. ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن يرى الشعب الذي يتمتع بقدر اكبر من القدرة ـ لمختلف الاسباب ـ أن من حقه المشروع التسلط على الشعوب الاكثر ضعفاً. ذلك أن القومية المتطرفة، لا تعتقد سوى بتفوق العصر أو اللون أو اللغة أو الموقع الجغرافي والتاريخي. أما الإمام الخميني ـ واستناداً للشواهد التاريخية ـ فقد كان يعتقد بأنّ ترويج (القومية) و(الشعوبية)، وتأسيس حركاتٍ داعية للقومية العربية والتركية والفارسية وامثالها في العالم الثالث وفي البلدان الإسلامية، انما نتج عن محاولات المستعمرين ومساعيهم لتجزئة البلدان وبث الفرقة والاختلاف بينهما، وفرض تسلطهم عليها.

يقول سماحته: "إن هدف القوى الكبرى وعملائها في البلدان الإسلامية، يتمثل في بثّ الفرقة بين المسلمين ـ الذين آخى الله بينهم وسمى المؤمنين منهم بالإخوة ـ وفصلهم عن بعضهم باسم الشعب التركي؛ الشعب الكردي؛ الشعب العربي؛ الشعب الفارسي، بل وايجاد العداوة بينهم. ومثل هذا يتناقض مع نهج الإسلام والقرآن الكريم تماماً". ولهذا حرص الإمام الخميني على القول: "ان نهضتنا إسلامية قبل ان تكون إيرانية".

يرى الإمام الخميني أنّ استقرار السلام الواقعي في العالم مع وجود القوى المتسلطة المستكبرة، والقبول بوجودها وتسلطها، ليس اكثر من خيال محض؛ يقول سماحته: "ان الامن والسلام العالميين منوطان بزوال المستكبرين، فمادام هؤلاء المتسلطون المتوحشون على هذه الارض، لن ينال المستضعفون ارثهم الذي وعدهم الله تعالى به". "انه يوم مبارك، ذلك اليوم الذي تزول فيه سلطة الناهبين الدوليين على شعبنا المظلوم وسائر الشعوب المستضعفة، وتتمكن الشعوب من استعادة حقها في تقرير مصيرها". "ربما تلحق اميركا هزيمة بنا، ولكنها لن تتمكن من دحر ثورتنا، لذا فإني واثق من انتصارنا، ان الحكومة الأميركية لا تدرك معنى الشهادة".

يقول الإمام الخميني عن ماهية ومنشأ الكيان الإسرائيلي الغاصب: "ان اميركا ـ الارهابية بالطبع ـ هي التي اضرمت النار في العالم بأسره. وان ربيبتها الصهيونية العالمية، هي التي ارتكبت ـ لتحقيق اهدافها ـ جرائم تأنف الاقلام والألسن عن كتابتها وذكرها". "ان اسرائيل غاصبة ومعتدية بنظر الإسلام والمسلمين، واستناداً إلى جميع الموازين الدولية". "انني اعتبر الاعتراف الرسمي باسرائيل فاجعة بالنسبة للمسلمين، وانفجاراً بالنسبة للدول الإسلامية".

لقد اعلن الإمام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية، آخر جمعة من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس، وطالب جميع المسلمين بتنظيم المظاهرات والاعلان عن تضامنهم مع المجاهدين الفلسطينيين في ذلك اليوم من كل عام، ما دامت القدس رازحة في قيود أعداء الإسلام.

يعتقد الإمام الخميني بأنّ الطريق الوحيد لتحرير القدس والقضاء التام على إسرائيل، يتمثل في الإيمان بالله واللجوء إلى الشهادة والجهاد المسلح.

يقول الإمام الخميني عن الشيوعية: "منذ بداية ظهور الشيوعية، كان ادعياؤها من اشد الحكومات استبداداً وتسلطاً في العالم". ويقول سماحته عن التقدم الغربي: "اننا نقبل التقدم الذي حققه الغرب، ولكننا نرفض الفساد الغربي الذي يئنّون هم انفسهم من آثاره المخربة". "التربية الغربية تجرد الإنسان من انسانيته". "اننا لا نعارض الحضارة، وانما نعارض الحضارة المستوردة". "اننا نريد حضارة تقوم على اساس العزّة والإنسانية".

لقد اكدَّ الإمام مراراً على الدور الاساسي للثقافة، وكان يقول: "الثقافة هي منطلق سعادة أي شعب أو تعاسته.. ان ما يبني الشعوب هو الثقافة الصحيحة". "إن الشعب الحيواني ليس هو الملاك، الملاك هو كرامة الإنسان". "مادام الإنسان يصر على مواصلة حياته تحت ظل السلاح، فليس بمقدوره ان يكون انساناً، ولن يتمكن من بلوغ الاهداف الإنسانية". "احرصوا من خلال البيان والقلم ان تضعوا الاسلحة جانباً. الميدان ميدان صراعٍ بالاقلام والعلوم والفكر".

يرى الإمام الخميني أنّ الفن المسخر لخدمة الاستعمار والاستغلال، و"الفن من اجل الفن"، امر سلبي يفتقد إلى أيّة قيمة، يقول سماحته: "الفن في العرفان الإسلامي تجلٍّ للعدالة والعزّة والانصاف، وتجسيد لمرارة الجوع التي يعاني منها المغضوب عليهم من قبل اصحاب القدرة والمال".

كان الإمام الخميني استاذاً نموذجياً في حقل التعليم والتربية سواء في المجال النظري أو العملي. لقد نجح باساليبه التربوية في دفع مجتمعه إلى الانسجام مع نهضة دينية كبرى، بعد ان كان قد جرّ بفعل جرائم العائلة البهلوية الخائنة وعملاء الفكر الغربي، نحو ثقافة وقيم منحطة، وروّض على اللاابالية وعدم الاكتراث.

نقلوا أنه خلال احداث الخامس من حزيران عام 1963، وفي تلك الظروف الاجتماعية المؤسفة واجواء الكبت، قال بعضهم لسماحته: بأي افراد وأي أمل تتطلع لاقامة حكومة العدل؟ فأشار سماحته إلى مهد ينام فيه طفل صغير والعجيب المدهش ان الدور الاساسي في احداث الثورة بعد خمسة عشر عاماً من تاريخ تلك الحادثة، قام به الطلاب والتلاميذ المسلمون الايرانيون!

كان الإمام يعتقد بأنّ مراقبة النفس والسعي الدؤوب في تهذيبها من الاهواء النفسانية والشيطانية في جميع مراحل الحياة يعدّ ضرورة لبلوغ الكمال الحقيقي، وكان يعتقد بأن التربية يجب أن تبدأ منذ الطفولة، حتى المراحل الثانوية منها يجب أن لا يتغيب عن نظر الأم. لذا كان يقول: "لا يوجد عمل اشرف من الامومة". "ان أول مدرسة للطفل هي حضن الام".

كان الإمام يقول لمربي المجتمع" "انتبهوا إلى ان المرحلة المدرسية اهم من المرحلة الجامعية، ذلك لأن النمو العقلي للاطفال انما يتشكل في تلك المرحلة". "ان المعلم مؤتمن على شيء يختلف عن كل الإمانات، انه مؤتمن على الإنسان". "ان جميع اشكال السعادة والشقاء انما تبعث من المدارس ومفتاح ذلك بايدي المعلمين".

يرى الإمام أن التعليم عمل الأنبياء، واهم مسؤولية تقع على عاتق المعلم ـ بغض النظر عن تقديمه العلوم المختلفة ـ هي هداية المجتمع نحو الله.

الإمام يسمي الانسان "عصارة جميع موجودات العالم"، ويقول: "الانسان اعجوبة، فمنه يمكن أن يصنع موجود إلهي ملكوتي أو موجود جهنمي شيطاني".

ويقول: "بتربية الإنسان يصلح العالم" كما انه يعتبر التربية والتزكية مقدمة على التعليم، ويرى بأنّ المتعلم إذا لم يقرن تعلمه بتزكية النفس فإنه يصبح ـ رغم سمو العلم ـ مثل الآلة في خدمة الاهداف الشيطانية. وكان يقول: "إذا دخل العلم قلباً قاسياً، أو عقلاً فاسداً من الناحية الاخلاقية، فإن ضرره أشد من الجهل".

ان احد اهم منجزات نهضة الإمام الخميني في إيران، تمثل في استعادة المرأة لدورها الفعال في المجال الاجتماعي. ويمكن القول بجرأة أن المرأة الايرانية لم تبلغ طوال التاريخ الايراني هذا المستوى من الوعي السياسي العام، ولم يكن لها مثل دورها الآن في تقرير مصير البلاد. ففي ذروة انتفاضة الشعب ضد النظام الشاهنشاهي، كانت المرأة تتقدم جنباً إلى جنب الرجل، بل وفي طليعته. وطوال الحرب العراقية المفروضة، قامت النساء المسلمات في إيران بدور لا نظير له في الحروب المعاصرة، وذلك من خلال تهيئة الامكانات لجبهات الحرب، وتشجيع اخوانهن وازواجهن على المشاركة في الدفاع عن الإسلام والثورة، بل حتى المشاركة المباشرة في توفير ما تحتاجه الخطوط الأمامية للجبهة.

والآن ايضاً، فإن المرأة في المجتمع الايراني تؤدي دورها جنباً إلى جنب الرجل في النشاطات الاجتماعية وفي حقل التربية والتعليم، والجامعات، والمجالات الصحية، وفي الدوائر الحكومية وسائر المجالات.

في حين ان النساء قبل انتصار الثورة الإسلامية ـ ونتيجة للمحيط الفاسد الموبوء الذي أوجده النظام الملكي البائد ـ كن مضطرات لالتزام المنزل، وكانت الكثير من الفتيات ـ خصوصاً في القرى ـ محرومات من نعمة التعليم. أما أولئك اللاتي كانت الفرص متاحة لهن في المدن الكبيرة لممارسة دورهن في النشاطات الاجتماعية، فقد انشغلن في مواجهة هجوم الثقافة المنحطة في ظروف غاية في التعقيد، للدفاع عن شرفهن وعفتهن، في حين اضطرت الاخريات الى ترك العمل والدراسة بسبب ذلك.

ان التحول الذي شهده المجتمع النسوي الايراني، مرهون وقبل كل شيء بنظرة الإمام الخميني الخاصة إلى شخصية ومنزلة المرأة ودفاعه عن حقوقها. يقول سماحته:

"ان للمرأة في النظام الإسلامي الحقوق نفسها التي للرجل، بما في ذلك حق الدراسة، وحق العمل، وحق التملك، وحق التصويت، وحق الترشيح".. "لا يوجد فرق بين الرجل والمرأة من ناحية  الحقوق البشرية، ذلك لأن كليهما انسان، وللمرأة الحق في تقرير مصيرها كالرجل تماماً". ويقول سماحته: "ان ما يعارضه الإسلام ويعدّها حراماً هو الفساد، سواء كان من قبل المرأة أو الرجل".. "اننا نريد المرأة أن تتسنم موقعها الإنساني السامي، لا ان تكون ملعبة.. الإسلام لا يريد للمرأة ان تكون شيئاً أو دمية بيد الرجال، الإسلام يريد حفظ شخصية المرأة ويهدف أن يخلق منها انساناً جادّاً".. "ان المرأة كالرجل حرة في اختيار مصيرها ونوع نشاطها".. "ان الحرية بالنمط الغربي ـ الذي يقود الى ضياع الشبان والفتية والفتيات ـ مرفوضة بنظر الإسلام والعقل".

أمّا على الصعيد الاقتصادي فقد كانت توصيات الإمام ومواقفه تؤكد بشكل عام على تطبيق العدالة ونمح الاولوية لحقوق المحرومين والمستضعفين في المجتمع. إذ ان سماحته كان ينعت خدمة المحرومين بأنها "اعظم العبادات" ويعتبر المحرومين أولياء نعمته ونعمته المجتمع، وان اكثر ما اوصى به الإمام مسؤولي النظام الإسلامي، هو الاهتمام بشؤون الفقراء وتجنب اخلاق المترفين، وكان سماحته يعتقد بأنّ الحكومة والمسؤولين خدام للشعب، ولا حق للخادم ان يطالب بامكانات تفوق مخدوميه. يقول سماحته: "ان شعرة من رأس أحد سكنة الاكواخ والاقبية ومنجبي الشهداء، اشرف واعزّ من جميع القصور وسكانها".. "ان من هم معنا إلى آخر الشوط هم اولئك الذين تذوقوا طعم الفقر والمحرومية والاستضعاف".. "في اليوم الذي تتوجه حكومتنا للاهتمام بالقصور الفخمة، علينا ان نقرأ الفاتحة على الحكومة والشعب معاً".

من سمات الإمام الخميني البارزة هي ان حديثه ينبع دوماً من اعتقاده الراسخ بما يقول وصدق ما يقول، وترجمته ما يقول. إذ كانت حياة الإمام نموذجاً في الزهد والقناعة والبساطة. ومثل هذا لا يقتصر على عهد مرجعيته وقيادته فقط وانما يمتد إلى عهد حكومته، فهو يرى ان على القائد أن يعيش حياة بسيطة كحياة ابسط الطبقات والمجتمع، بل حتى دون ذلك. وقد اصرّ طوال عمره المبارك على الحياة الزاهدة. ورغم ان ذكريات وخواطر كثيرة كتبت ونشرت عن هذا الجانب من حياة الإمام، وان ذكرها يتطلب كتاباً ضخماً إلا أنه ما زال الكثير من ابعاد زهده وبساطة حياته مجهولاً حتى الآن.

ولتوضيح بساطة حياة الإمام الخميني واعتقاده بضرورة الاحتياط الكامل في إنفاق بيت المال، يكفي ان نذكر ان المادة 142 من الدستور ـ التي اقترحت من قبل الإمام ـ تنص على ان ديوان القضاء العالي (المحكمة العليا في البلاد) مسؤول عن حصر وتشخيص ممتلكات القائد والمسؤولين الحكوميين الرفيعي المستوى قبل وبعد تصديهم للمسؤولية، لضبط أيّة زيادة تطرأ عليها دون حق. وقد بادر الإمام الخميني بتسجيل كافة ممتلكاته البسيطة في كشف رسمي بتاريخ 14/1/1981 وسلمها (لديوان القضاء العالي) ثم وبعد وفاته مباشرة، طالب نجله ـ من خلال رسالة نشرتها الصحف المحلية ـ السلطة القضائية، باعادة حصر وتشخيص ممتلكات الإمام مجدداً طبقاً للدستور.

وفي 2/7/1989 أعلنت نتيجة الحصر في بيان اصدره رئيس المحكمة العليا صرح فيه: بأن ممتلكات الإمام الخميني البسيطة لم تبق على حالها وحسب، بل انها نقصت عما كانت عليه، فقطعة الارض التي كان قد ورثها عن ابيه في خمين. وهبها في حياته إلى الفقراء في منطقته، فخرجت من ملكيته. وامواله غير المنقولة تتمثل في المنزل القديم الذي يمتلكه في قم، والذي كان منذ عام 1964 ـ عام بدء النهضة ـ في خدمة اهداف النهضة، ومركزاً لتجمع الطلبة والمراجعين من ابناء الشعب وما زال حتى الآن يفتقد صفة كونه مسكناً.

كما ذكر في الكشف المذكور ـ الذي تمّ تنظيمه عام 1981 واعلن عنه رسمياً بعد وفاته ـ بأن ممتلكات الإمام تشمل الآتي: عدداً من الكتب، بعض الوسائل الاولية المستعملة التي كانت في منزله وهي تخصّ زوجته، قطعتين من السجاد المستعمل (وقد أوصى باعطائها للفقراء بعد وفاته) كما اشير إلى عدم وجود اثاث شخصي، وعدم وجود اموال شخصية، وإن وجد مال فهو من الحقوق الشرعية التي يقدمها المسلمون إلى الإمام لانفاقها في مواردها الشرعية المعينة، ولا حق للورثة فيها.

وعليه فإن ما ورّثه هذا الرجل الذي عمّر ما يناهز التسعين عاماً، وعاش يتمتع باقصى درجات المحبوبية من قبل الناس ـ يشمل ما يلي: نظارات، قراضة اظافر، مشط، مسبحة، مصحف وسجاد صلاة وعمامة وثيابه الخاصة، ومجموعة كتب في مختلف العلوم الدينية.

ذلك كشف بممتلكات رجل لم يكن قائداً لبلدٍ نفطي غني يبلغ تعداد سكانه عشرات الملايين فحسب، بل انه كان حاكماً على قلوب الملايين من الناس، ممن وقفوا في صفوف طويلة ليتطوعوا للشهادة حينما اصدر اوامره بتشكيل قوات التعبئة للدفاع عن الإسلام. وهم انفسهم كتبوا الرسائل أو تجمعوا أمام المستشفى التي رقد فيها الإمام معلنين استعدادهم للتبرع بقلوبهم لسماحته.

ان سرّ كل هذه المحبوبية يجب ان يبحث عنه في ذلك الإيمان الحقيقي والزهد والصدق.

كان الإمام الخميني يعتقد بشدّة بأهمية البرمجة لجوانب حياته وبالنظم والانضباط. فهو يتوجه للعبادة وذكر الحق وقراءة القرآن والدعاء والمطالعة في ساعات محددة من الليل والنهار. كما ان ممارسة المشي والانشغال بالذكر والتفكر كانت جزءً من برنامجه اليومي. كان جدول اعماله حافلاً يفوق العديد من القادة السياسيين ـ رغم اقترابه من التسعين من العمر ـ ولم يكن يستغني عن الخدمة في سبيل الله تعالى، وخدمة المجتمع الإسلامي، وحل مشكلاته، حتى في اشدّ الحوادث تعقيداً. وعلاوة على ممارسته للمطالعة يومياً، كان يطلع على اهم الاخبار والتقارير والصحف والمجلات الرسمية للبلاد وعشرات الملفات الخبرية، ويستمع إلى اخبار الاذاعة والتلفزيون الايرانية، وإلى التحليلات والتقارير والاخبار التي تذيعها الاذاعات الاجنبية باللغة الفارسية ليلاً، وعلى مختلف ساعات الليل، ليكوّن صورة عن الاعلام المعادي للثورة، ويفكر في طرق مواجهته.

كذلك فإن ازدحام جدول اعماله اليومي وعقد الاجتماعات مع مسؤولي النظام الإسلامي، لم يحل ابداً دون ارتباطه بالجماهير البسطاء معين الثورة الإسلامية. وقد تمّ جمع ما يزيد على (3700) لقاء له مع الجماهير في كتاب سمي "محضر النور" وذلك في السنوات التي تلت انتصار الثورة الإسلامية فحسب، الأمر الذي يوضح عمق علاقة الإمام بجماهيره. لم يتخذ الإمام أيّ قرار يتعلق بمصير مجتمعه ما لم يطرحه بصدق مع ابناء الشعب. إذ كان يرى ان الجماهير تمثل اهم شريحة محترمة لمعرفة الحقائق.

وجه ذو ملامح وسيمة عطوفة وتعابير حازمة. نظرات مفعمة بالجاذبية فياضة بالمعنوية. حينما تجلس الجماهير في محضره تغرق دون اختيارها في جاذبية معنويته، فتنطلق الدموع من عيون اكثر الحاضرين لا ارادياً. ان للجماهير الايرانية الحق في دعائها الذي تعارفت عليه بعد انتصار الثورة من التضرع إلى الله بتحويل اعمارها إلى لحظات تضاف إلى عمر الإمام. فإذا كان العالم البعيد عن المعنويات قد غاب عنه ذلك، فان هؤلاء ـ وهم الذين نشأوا مع الإمام ـ يعرفون عملياً قدر اللحظات في عمر هذا العزيز، حيث أوقف حياته لله ولخدمة خلق الله.

ومع ان عالم الاستكبار ووسائل الاعلام الغربية قد ارتكبت ظلماً كبيراً بحق الإمام الخميني ـ وقبله بحق البشرية جمعاء ـ وشنت لسنوات حملة مكثفة من الاعلام المضلل للنيل من شخصية الإمام وثورته الإسلامية، وحتى انها مازالت تواصل نهجها هذا رغم مرور اعوام على رحيله، فان عشرات المحطات الاذاعية والتلفزيونية تبث اليوم برامجها المعادية للثورة ولاهداف الإمام باللغة الفارسية ليل نهار، ورغم ان امكانات هائلة قد وضعت في اميركا واوربا تحت تصرف الفئات المعادية للثورة بدءً من انصار الملكية وانتهاءً باليساريين ومجاهدي خلق (المنافقين)، ورغم انها سمحت ـ ولا تزال ـ سنوياً بنشر عشرات الكتب ومئات المقالات والمنشورات لقلب الحقائق المتعلقة بنهضة الإمام الخميني، إلاّ اننا واثقون تماماً ان شمس الحقيقة ستبدد سحب الخداع والتظليل.

لقد نجح العالم الغربي ـ الذي اقام وجوده منذ عدة قرون وإلى الآن على السعي في إحكام سلطته على سائر الشعوب واستغلالها، وخداع الرأي العام العالمي ـ في ادراك الخطر الحقيق الذي يهدده. وإلا فايّ حرٍّ اطلع على حياة الإمام الخميني وبياناته ثم لم يسلم قلبه طواعية للسير على نهجه، ولم ينتفض بوجه هذا النظام الحاكم على هذا العالم؟

حقاً لماذا يمنعون نشر ومطالعة وصية الإمام الخميني والكثير من آثاره وبياناته وخطاباته الاخرى في اغلب الدول العربية والإسلامية التي تعيش تحت سلطة الحكومات العميلة؟ ويعتبرونه جرماً يطاله القانون؟ ولماذا كل هذا الدأب والتنسيق على مستوى قادة العديد من الحكومات للسيطرة على تسرب مفاهيم وافكار الإمام الخميني؟ ألم يكن سماحته يدافع عن الحقائق والقيم التي عانت البشرية قروناً بسبب فقدانها؟

ان كل من تعرف على حياة الإمام الكريمة الطيبة، وسمع بندائه وعرف شخصيته، يثق تماماً ان المشعل الذي حمله سماحته لن يخبو رغم كل هذا الصخب المعادي واعاصير التشويه والتحريف للحقائق {والله متم نوره ولو كره الكافرون}.


source : http://alhikmeh.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ملامح عصر الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام )
ابتکار نظرية الصحابة
غزوة بدر الكبرى أسبابها وأهميتها
مناظرة أمير المؤمنين(ع) مع رجل من أهل الشام في ...
احتجاج الإمام علي(ع) بحديث الغدير
الاسرة والحقوق الزوجية
الملهوف على قَتلى الطفوف
نساء يأكلن من خبز النفايات لإشباع بطونهن ، في ...
بعث الإسلام مجدداً وتعميم نوره على العالم:
خروج الحسين: سؤال الحرية؟

 
user comment