عربي
Wednesday 24th of April 2024
0
نفر 0

الإمام الخميني ومواصلة النضال (1971 ـ 1977م)



في اواخر عام 1971م تصاعدت وتيرة الخلافات بين نظام البعث العراقي ونظام الشاه الأمر الذي اسفر عن ترحيل الآلاف من الايرانيين المقيمين في العراق إلى بلدهم. وبهذا الشأن ابرق الإمام الخميني إلى الحكومة العراقية وندد بشدة بعملية التهجير تلك، واعلن عن عزمه على مغادرة العراق استنكاراً لممارسات الحكومة العراقية. غير ان النظام الحاكم في بغداد منع الإمام من الخروج تخوفاً من النتائج التي قد تترتب على خروجه.

من جانب آخر وتزامناً مع زيادة انتاج النفط وارتفاع اسعاره في سنة 1971م وما بعد، احس الشاه بقدرة اكبر، فضاعف من وحشيته في قمع واضطهاد المعارضين، وخاض سباقاً جنونياً في شراء التجهيزات العسكرية والسلع والبضائع الاستهلاكية الاميركية، وسرّع من ايجاد القواعد العسكرية الأميركية والعديدة داخل البلاد، وزاد من مستوى العلاقات التجارية والعسكرية مع اسرائيل، وحمّل الشعب الايراني نفقات هائلة لإقامة الاحتفالات الاسطورية في ذكرى مرور الفين وخمسمائة عام على نشوء الملكية في ايران والتي كان يحضرها العديد من قادة ورؤساء دول العالم. وقد جعل الشاه من هذه الاحتفالات استعراضاً للقدرة والثبات اللذين يتمتع بهما النظام الملكي.

وقد ندد الإمام الخميني ـ وعبر بيانات عديدة ـ بهذه الاحتفالات المفروضة على الشعب، وكشف النقاب عن تخلف البلاد والحقائق المرّة التي حكمت المجتمع الايراني.

وخلال الحرب العربية الاسرائيلية الرابعة، وبينما كان الملك يمثل الحامي المقتدر لاسرائيل، طالب الإمام الخميني ـ عبر بيان اصدره في تشرين الثاني 1973م ـ الشعب الايراني بالوقوف في وجه اعتداءات الكيان الصهيوني، كما افتى في هذا البيان ايضاً بوجوب دعم الشعوب الإسلامية للمجاهدين الفلسطينيين مادياً ومعنوياً، وذلك عبر التبرع بالدم وارسال الاسلحة والذخائر والمواد الغذائية إلى المجاهدين المسلمين. كما أكدّ سماحته في بيان آخر على ان: "الأمة الإسلامية لن ترى يوماً سعيداً ما لم تجتث جرثومة الفساد هذه (اسرائيل) من جذورها، وان ايران لن تشم نسيم الحرية مادامت مبتلاة بهذه العائلة (البهلوية) الفاسدة".

وفي اواسط شهر آذار 1974م، تجلت ديكتاتورية الملك في ذروتها، حينما اعلن عن تشكيل حزب البلاد "رستاخيز" (ويعني البعث!) واعتمد سياسة الحزب الواحد. فقد اعلن عبر حديث تلفزيوني بأن على جميع ابناء الشعب الايراني ان ينتسبوا إلى الحزب، وعلى المعارضين ان يحصلوا على جوازات سفر ويغادرون البلاد باسرع وقت.

وعلى الفور اصدر الإمام الخميني فتواه التي جاء فيها: "نظراً لمخالفة هذا الحزب للإسلام ومصالح الشعب الايراني المسلم، يحرم على جميع ابناء الشعب الانتماء إليه، وان الانتماء اليه يعدّ أعانة للظالم ومشاركة في القضاء على المسلمين، كما ان معارضته تعدّ من ابرز مصاديق النهي عن المنكر".

كانت فتوى الإمام الخميني وبعض علماء الإسلام فاعلة ومؤثرة. ورغم الاعلام المكثف الذي كرسه النظام للحث على تقوية الحزب، إلا ان النظام اعلن عن هزيمته رسمياً بحلّه الحزب بعد عدّة سنوات.

كتب الإمام الخميني في جانب آخر من بيانه هذا يقول: "وانا في غربتي هذه، يعصرني الألم والحسرة على الوضع المؤسف الذي يعيشه الشعب الايراني، وكم هو جميل ان اكون في هذه الظروف الحساسة بين أبناء الشعب، اساهم معهم في هذا الجهاد المقدس من اجل انقاذ الإسلام وإيران".

وفي عام 1975 وفي ذكرى انتفاضة حزيران، شهدت الفيضية مجدداً قيام الطلاب الثوريين وانطلقت صرخات "يعيش الخميني"، "الموت لسلالة البهلوي" لترن في أرجاء المدرسة على مدى يومين. ولما كانت الحركات والمنظمات الفدائية قد تلاشت، وكانت الشخصيات الدينية والسياسية المجاهدة ترزح في سجون النظام، فقد مثلت هذه الحركة الثورية صدمة للملك والسافاك، فانطلقت قوات الشرطة لمحاصرة المدرسة الفيضية ثم انهالت على طلبة العلوم الدينية بالضرب والشتم بصورة وحشية وألقت القبض على جميع المعترضين واقتادتهم إلى السجون.

وفي بيان اصدره الإمام الخميني بهذه المناسبة، اعرب عن تفاؤله لهذا الحادث قائلاً: "رغم كل المصائب فإنّ صحوة الشعب تبعث على الأمل. ان نهوض الجامعيين في مختلف انحاء إيران ـ طبقاً لاعتراف الملك نفسه ـ والعلماء الاعلام وطلاب المدارس ومختلف فئات الشعب، رغم كل الضغوط والتجبر، مقدمة لنيل الحرية والانعتاق من قيد الاستعمار".

وفي كلمة بعثها إلى المؤتمر السنوي للاتحادات الإسلامية للجامعيين الدارسين في أميركا وكندا، وفي 24 ايلول 1975م، كتب سماحته: "ان نقطة الأمل المضيئة التي اراها في اواخر عمري، هي هذا الوعي والصحوة التي يتحلى بها الجيل الشباب. ونهضة المثقفين التي تتنامى بشكل سريع والتي ستحقق أهدافها ـ باذن الله تعالى ـ في قطع ايادي الاجانب وبسط العدالة الإسلامية".

امعاناً في سياساته بمحاربة الدين، غيّر الملك في آذار عام 1975 بكل وقاحة، التاريخ الرسمي المعتمد في البلاد، من التاريخ الهجري إلى التاريخ الملكي لملوك الهخامنشة. وفي ردّ حاسم افتى الإمام الخميني بحرمة استخدام التاريخ الملكي.

وكما استقبلت الجماهير فتوى الإمام في تحريم الانتماء إلى حزب (رستاخيز)، حظيت فتواه في تحريم استخدام التاريخ الملكي الموهوم باستقبال جماهير كبير، وفضحت الحادثتان النظام الملكي، مما دفعتاه إلى التراجع عنه عام 1987 وإلغاء استخدام التاريخ الملكي.

من جانب آخر، انهت اتفاقية الجزائر عام 1975م التي وقعت بين الشاه وصدام حسين (نائب رئيس الجمهورية العراقية آنذاك) الخلافات بين البلدين بشكل مؤقت، فقد رأت أميركا ان المنازعات والمناوشات بين بغداد وطهران وقتئذ أمر يعرض الاستقرار في المنطقة وفي الخليج الفارسي إلى الخطر. لذا فقد تمّ عقد تلك الاتفاقية بشكل رسمي بتدخل الرئيس الجزائري والرئيس المصري انور السادات الصديق الحميم لشاه ايران.

أدت اجواء التآلف بين حكام بغداد وطهران إلى مضاعفة العراقيل أمام مسير جهاد الإمام الخميني، غير ان هذه الموانع لم تتمكن من ثنيه عن مواصلة جهاده الذي ابتدأه.

وفي تلك الايام بعث السفير الايراني في العراق تقريراً وجهه إلى قادة النظام الملكي يقول فيه: "ان آية الله الخميني، لم يكف عن ممارسة نشطاته في العراق، فهو ناشط جداً في العمل على مواجهة النظام، يرجى اصدار أوامركم في هذا الخصوص لتحديد موقفنا تجاهه".

وفي معرض جوابه على هذا التقرير كتب الملك ـ بغضب ـ: "لقد قلت مراراً لابد من خنق هذا الصوت" غافلاً عن ان التقدير الالهي اراد مصيراً آخراً لرسالة الإمام الخميني {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره}.

في عام 1976 وصل الديمقراطيون الى البيت الابيض الأميركي، وضاعت سدىً المساهمات المالية التي قدمها شاه ايران إلى الجمهوريين، وكان كارتر قد انتصر من خلال شعارات حقوق الانسان، والحد من تصدير الاسلحة إلى الخارج. وواضح أنّ هذه الشعارات انما رفعت لاجل الحدّ من المشاعر العدائية تجاه أميركا التي كانت تسود البلدان الاخرى كايران مثلاً، والتعتيم على الازمة الاقتصادية التي كانت تعصف بأميركا، وزيادة الضغط على الاتحاد السوفيتي (السابق) للحصول على امتيازات اكثر في مفاوضات الحدّ من الاسلحة النووية التي كانت جارية آنذاك بين الطرفين.

بعد اتضاح سياسات الديمقراطيين في أميركا، قام الملك بالاعلان عن سياسة الجو السياسي المفتوح! واقدم على اجراء تغييرات وتبديلات في بيادقه.

وتشير الوثائق التي نشرت بعد احتلال وكر التجسس الأميركي (السفارة الأميركية في طهران) بان السياسة الأميركية فيما يخصّ إيران ـ التي كانت تضع اطارها العام وزارة الخارجية الأميركية ووكالة المخابرات الأميركية CIA، وكانت تبلغ للسفارة في طهران ـ لم تتغير، فأميركا تدعم الملك ونظامه بالكامل، وان الديمقراطيين ايضاً يرون ـ كما هو الحال في السابق ـ بأن الملك يمثل عنصراً اساسياً لحفظ المصالح الأميركية في منطقة الخليج الفارسي، لذا استثنيت إيران من قانون حظر تصدير الاسلحة.

وقد اوضح سفر كارتر وزوجته إلى طهران والحديث الذي أدلى به والتصريحات التي اعلن من خلالها عن الدعم المطلق الذي يوفره البيت الابيض للملك، بأنّ الجو السياسي المفتوح انما كان حركة مسرحية عابرة.

 

بلوغ الثورة الإسلامية ذروتها عام 1977 ونهضة الجماهير

تمكن الإمام الخميني ـ الذي كان يتابع التحولات والاحداث الجارية في إيران والعالم بدقة متناهية ـ من اغتنام الفرصة التي اتيحت له محققاً الاستفادة القصوى منها. فقد اعلن في بيان اصدره في آب 1977: "نظراً للاوضاع الداخلية والخارجية، وانتشار انباء الجرائم التي يرتكبها النظام الحاكم في المحافل الدولية والصحافة الاجنبية، فإن الفرصة مواتية الآن للتجمعات العلمية الثقافية والوطنيين والجامعيين الدارسين في الخارج والداخل، والاتحادات الإسلاميّة اينما كانت، للمبادرة بالانتفاضة ـ دون خوف ـ واغتنام هذه الفرصة".

وجاء في جانب آخر من البيان ذاته: "ان التجاوز على حقوق مئات الملايين من المسلمين، وتحكيم حفنة من الاوباش على مقدراتهم، واتاحة الفرصة للنظام الايراني غير الشرعي، وللكيان الاسرائيلي الخاوي ليغتصبا حقوق المسلمين ويصادرا الحريات، ويتعاملا مع الناس معاملة وحشية، كلها جرائم ستثبت في سجل الرؤساء الأميركيين".

تحولت شهادة آية الله السيد مصطفى الخميني في شهر تشرين الاول 1977م والمراسم التأبينية المهيبة التي اقيمت له في إيران، إلى نقطة انطلاقِ لتحرك الحوزات العلمية مجدداً، ونهضة المجتمع الايراني المتدين. وقد عبر الإمام الخميني عن تلك الحادثة بـ"الألطاف الإلهية الخفية" ـ الأمر الذي أثار الدهشة والاعجاب. وقد حاول النظام الملكي حينها الانتقام من الإمام بنشر مقالة موهنة في صحيفة اطلاعات. غير ان السحر انقلب على الساحر، اذ فجرت المقالة انتفاضة التاسع من كانون الثاني عام 1978م التي استشهد فيها جمع من الطلاب الثوريين. ومرة اخرى اشعلت قم فتيل النهضة، وما هي إلاّ فترة وجيزة ـ وفي ظروف اختلفت تماماً عن الظروف التي انطلقت فيها انتفاضة حزيران 1963 ـ حتى تضافرت وتكاتفت حركة الجماهير في مختلف انحاء البلاد. حيث ادت إقامة مراسم العزاء المتتالية في اليوم الثالث والسابع والاربعين من سقوط الشهداء، إلى سريان لهيب الثورة إلى مدن البلاد الاخرى كتبريز ويزد وجهرم وشيراز واصفهان وطهران. وطوال هذه الفترة كانت البيانات المتواصلة الصدور من الإمام الخميني، واشرطه تسجيل احاديثه وخطاباته ـ والتي كان يدعو فيها الجماهير إلى الثبات ومواصلة النهضة حتى القضاء على النظام الملكي وتشكيل الحكومة الإسلامية ـ تستنسخ وتكثر على ايدي مؤيديه وانصاره ويتم توزيعها في جميع انحاء البلاد.

ومع كل الجرائم الوحشية التي ارتكبها النظام الملكي، لم يتمكن من اخماد لهيب الثورة المستعرة. وكانت احابيله ودسائسه السياسية ومناوراته العسكرية تبوء بالفشل دون أن يكون لها دور في تهدئة الغضب الجماهيري، بفعل بيانات الإمام التي كانت تكشف الخفايا وترشد الجماهير إلى اتخاذ الخطوات اللازمة في مسيرة تحركهم.

ولمّا لم ينفع تنصيب احد التكنوقراطيين المتغربين (جمشيد آموزكار) رئيساً للوزراء بدلاً عن (هويدا) ـ الذي عمل في خدمة الملك ثلاثة عشر عاماً ـ في ايجاد حل للمعضلة التي تعصب بالنظام، استبدل الملك آموزكار بأحد اعضاء المحافل الماسونية الاستعمارية في ايران، فجاء (جعفر شريف إمامي) رافعاً شعار "حكومة المصالحة الوطنية". إلاّ أن دسائسه ومساعيه في التفاوض مع شريعتمداري ـ الذي لمع نجمه مجدداً باعتباره احد القادة الدينيين، وحرص النظام على تأييده ودعمه ـ لم تتمكن من ايقاف التحرك الجماهيري.

وفي عهد حكومته (شريف إمامي) ـ الثامن من ايلول ـ ارتكبت المذبحة الجماعية الوحشية بحق الجماهير العزل في ميدان جالة (الشهداء حالياً) بطهران. واعلنت إثر ذلك الاحكام العرفية في كل من طهران واحدى عشرة محافظة من محافظات البلاد الكبرى لأجل غير مسمى.

غير أنّ الجماهير لم تعبأ بالاحكام العرفية، مستلهمة شجاعتها من بيانات الإمام الخميني، واستمرت التظاهرات ليل نهار، دون انقطاع، بل كانت في اتساع مستمر. إذ كانت نداءات (الله اكبر)، (الموت للشاه)، (يعيش الخميني) تسمع على مدار الساعة ويرافقها احياناً ازيز الرصاص الذي كان ينطلق من كل جهة.

لقد قاد الإمام الخميني نهضته منذ البدء مستلهماً قوله تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ومرجّخاً الثورة الثقافية والتحول الاجتماعي بواسطة الجماهير، على الثورة السياسية، وكان سماحته يعتقد في تلك الظروف التي كانت تمر بها ايران بعدم جدوى النضال من خلال الاحزاب أو البرلمانات، وكذا بعدم جدوى الكفاح المسلح إذا ما جرّد من مشاركة الجماهير، ودعمهم. وكان يرى التعبئة العسكرية والجهاد العام المسلح آخر السبل المتبقية إذا ما فكرت أميركا بالانقلاب العسكري.

كانت المساجد والمراكز الدينية بمثابة المعاقل الاساسية للثورة الإسلامية والمنطلق لتحرك الجماهير وتجمعاتها. وكانت الشعارات التي ترددها الجماهير مزيجاً من التعاليم الدينية وارشادات الإمام الخميني. وخلال عامي 1977م 1978م، وعندما بلغت الثورة الإسلامية ذروتها عادت الاحزاب والفئات السياسية للظهور من جديد وباعداد كبيرة جداً، وقاعدة ضئيلة لا تذكر، مما جعلها تعيش في جدبٍ حرمها امكانية التأثير في مجرى الاحداث تماماً فاضطرها إلى مجاراة الحركة الجماهيرية الواسعة.

ويومها نشطت الحركات والفصائل الجهادية المسلحة، التي تمّ تشكيلها بوحي من الاهداف الإسلامية واعتقادات راسخة بنهج الإمام الخميني، فكانت نشاطاتها تعبّر عن نهج جهادي مستقل، بل تمثل حركة حماية ودعم لثورة الشعب العارمة.

وكان من الاساليب الموفقة التي اتبعها الإمام الخميني في الجهاد ضد نظام الشاه، دعوته الجماهير إلى الاضطرابات العامة وتوسيع مدارها. فقد شملت الاضرابات في الاشهر الاخيرة من الثورة مختلف اركان النظام من وزارات ودوائر ومراكز عسكرية حتى امتد الأمر إلى عمال وموظفي شركة النفط الوطنية والبنوك ومراكز الدولة الحساسة، الأمر الذي وجّه الضربة القاضية إلى جسد النظام.

 

انتقال الإمام الخميني من العراق إلى باريس

اتفق الطرفان في الاجتماع الذي عقد بين وزيري خارجية العراق وإيران في نيويورك على اخراج الإمام الخميني من العراق.

وفي الرابع من ايلول 1978م حوصر منزل الإمام الخميني في النجف من قبل قوات أمن النظام العراقي، مما فجر غضب المسلمين في إيران والعراق وسائر البلدان. ففي لقائه الإمام أبلغه رئيس دائرة الأمن العراقية بأنّ شرط إقامته في العراق، الكف عن نشاطه الجهادي وعدم التدخل بالسياسة. وقد ردّ الإمام بحزم على هذا الاقتراح منوّهاً إلى احساسه بالمسؤولية قبال الأمة الإسلامية، الأمر الذي يمنعه من السكوت أو عقد أيّ نوع من المصالحة.

في الرابع من تشرين الأول من العام نفسه، غادر الإمام الخميني النجف الأشرف متوجهاً إلى الكويت، غير أنّ الكويت امتنعت عن استقباله بايعاز من النظام الايراني. عندها اقترح البعض السفر إلى سوريا أو لبنان، غير ان الإمام الخميني ـ وبعد التشاور مع نجله حجة الإسلام الحاج السيد احمد الخميني ـ قرر السفر إلى باريس. وفي السادس من تشرين الاول عام 1978م وصل الإمام الخميني إلى باريس. وبعد يومين من وصوله انتقل إلى منزل احد الايرانيين المقيمين في نوفل لوشاتو (ضواحي باريس).

بعدها قام موظفو قصر الاليزيه بابلاغ الإمام الخميني بوجهة نظر الرئيس الفرنسي (جيسكار ديستان) المتمثلة بضرورة اجتناب الإمام الخميني لاي نشاط سياسي. وقد ردّ سماحته بحزم بأن هذا يتنافى ومزاعم الديمقراطية، وانه إذا اضطر للسفر من مطار إلى مطار ومن بلد إلى بلد فإنه لن يكف عن جهاده لتحقيقي اهدافه.

كتب الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان في مذكراته بأنه كان حينها قد اصدر الأمر باخراج الإمام الخميني من فرنسا، لكنه عدل عن قراره في آخر لحظة عندما حذره ممثلو النظام الايراني والسياسيون الذين كانوا يعيشون اقصى حالات القلق والاضطراب، من مغبة وقوع ردّ فعل جماهيري يستحيل السيطرة عليه، وانهم غير مسؤولين حينها عما سيقع في إيران وفي أوربا.

وخلال مدة اقامة الإمام في (نوفل لوشاتو) التي دامت اربعة اشهر، تحولت تلك المدينة الصغيرة إلى اهم مركز خبري في العالم، وعرض الإمام الخميني من خلال اللقاءات الصحفية المتعددة التي اجريت معه مختلف وجهات نظره حول الحكومة الإسلامية واهداف نهضته المستقبلية أمام العالم اجمع، وبذلك تعرف الكثيرون على فكر الإمام وثورته، ومن هنا إبتدأت قيادته لاصعب المراحل في النهضة الإسلامية الايرانية.

لم تستطع حكومة (شريف إمامي) الصمود اكثر من شهرين، وبعد سقوطها كلّف الشاه (ازهاري) بتشكيل حكومة عسكرية. فازدادت وتيرة المذابح، الا انها لم تستطع السيطرة على الجماهير. فطالب الشاه ـ بعد ان اصيب بالانهيار ـ السفيرين الأميركي والبريطاني بحل للازمة. الا انّ أيّاً من مقترحاتهما لم تجد نفعاً.

وفي يومي تاسوعاء وعاشوراء انطلقت المظاهرات المليونية في طهران وسائر المدن الاخرى، والتي اشتهرت فيما بعد باسم (الاستفتاء غير الرسمي من قبل الجماهير ضد سلطة الملك).

تم اقتراح شابور بختيار، احد قادة الجبهة الوطنية، وآخر بيدق من البيادق الأميركية، على الشاه لتعيينه رئيساً للوزراء. ففي اجتماعهم الرباعي في (غوادلوب) اتفق قادة الدول الصناعية على دعم وزارة بختيار.

وبعد ذلك وصل الجنرال هايزر (معاون قيادة حلف الناتو) إلى طهران في مهمة سرية استغرقت شهرين، وقد كشف النقاب في اعترافاته فيما بعد عن أن مهمته كانت تتمثل في توفير دعم وحماية العسكريين لبختيار وتوفير الامن لوزاراته، وافشال الاضطرابات، واخيراً الاعداد لانقلاب عسكري لاعادة الملك إلى السلطة بشكل مشابه لما تمّ في انقلاب 19 آب 1935م. غير ان بيانات الإمام الخميني التي اكدت وجوب مواصلة الجهاد احبطت جميع مخططات النظام.

في مطلع عام 1979 شكل الإمام الخميني مجلس قيادة الثورة. كذلك فإن الملك ايضاً وبعد تشكيل مجلس الوصاية على العرش وحصول وزراة بختيار على ثقة اعضاء المجلس فرّ من البلاد في 16 كانون الاول 1978. وانتشر الخبر في طهران وسائر انحاء إيران وخرجت الجماهير إلى الشوارع تحتفل وتعبر عن فرحها.

من جانب آخر لم تستطع اجتماعات هايزر المتواصلة بالمستشارين العسكريين الأميركان وقادة الجيش الشاهنشاهي، من مساعدة بختيار في التغلب على الاضرابات وانهاء الثورة الشعبية.

 

عودة الإمام بعد 14 عاماً من النفي

شاع في أواخر شهر كانون الاول خبر عزم الإمام الخميني على العودة إلى إيران. وكان كل من يسمع بالخبر تفيض عيناه بدموع الشوق. لقد عانت الجماهير اربعة عشر عاماً من الانتظار. بيد أن الجماهير والمحبين كانوا في قلق واضطراب على حياة الإمام الخميني ذلك ان الحكومة العسكرية العميلة للملك مازالت في سدة الحكم. لذلك فقد اوصى اصدقاء الإمام بتأخير السفر قليلاً لتوفير الظروف المناسبة لحمايته.

من جانب آخر فإنّ عودة الإمام إلى إيران في تلك الظروف ولقائه بالجماهير المليونية الثائرة كان يعني ـ من وجهة نظر أميركا ـ النهاية الحتمية للنظام الملكي. لذا فقد اتخذت خطوات عديدة، بدء من التهديد بتفجير الطائرة التي تقل الإمام، وانتهاءً بالقيام بانقلاب عسكري، كل ذلك لدفع الإمام إلى تأخير سفره. حتى أن الرئيس الفرنسي وقتئذ قام بدور الوساطة، لكنّ الإمام كان قد اتخذ قراره النهائي واعلن عبر بيانات اصدرها للشعب الايراني بانه يرغب ان يكون مع شعبه في هذه الايام المصيرية الحاسمة.

اقدمت حكومة بختيار ـ بالتنسيق مع الجنرال هايزر ـ على اغلاق المطارات بوجه الرحلات الخارجية.. وقد توجهت الملايين من مختلف انحاء البلاد، لتشارك في التظاهرات التي انطلقت في طهران مطالبة بفتح المطار. كما اجتمع جمع من العلماء والشخصيات السياسية في مسجد جامعة طهران واعلنوا عن اعتصامهم هناك حتى تفتح مدارج المطار، ولم تتمكن حكومة بختيار من الصمود اكثر من عدّة ايام ثم رضخت لمطالب الجماهير.

اخيراً وفي مطلع شهر شباط عام 1979م وصل الإمام الخميني إلى إيران بعد اربعة عشر عاماً من فراق الوطن. وقد كان استقبال الجماهير لقائدها عظيماً ومنقطع النظير إلى درجة لم تستطع حتى الشبكات الاعلامية الغربية من انكاره، إذ قدرت وسائل الاعلام الغربية عدد المستقبلين بين (4 ـ 6) ملايين شخص.

وما ان وصل الإمام حتى توجهت الجموع من مطار طهران إلى مقبرة "جنة الزهراء" حيث مزار الشهداء، لتصغي لحديث قائدها التاريخي. في ذلك الحديث اعلن الإمام قائلاً: "سوف اقوم بدعم من هذا الشعب، بتشكيل الحكومة".

وفي بداية الأمر، اعتبر بختيار بأنّ الإمام يمزح! وما هي إلا ايام قلائل حتى أعلن الإمام الخميني في الخامس من شباط 1979 عن تعيين (مهدي بازركان) رئيساً للحكومة الموقتة، بعد ترشيحه من قبل مجلس الثورة.

وفي قرار التعيين طالب الإمام الخميني المهندس بازركان بتشكيل وزارته دون الأخذ بنظر الاعتبار العلاقات الحزبية، وذلك لاعداد التمهيدات اللازمة لاجراء استفتاءٍ شعبي ثم إجراء الانتخابات، مطالباً الجماهير الايرانية التعبير عن رأيها من خلال الانتخابات المزمع اجراؤها. فبادرت الجماهير للانطلاق في مظاهرات حاشدة عمت البلاد بأسرها للاعلان عن دعمها وتأييدها لقرار الإمام الخميني.

اما الاحزاب والفصائل السياسية الاخرى ـ والتي كان قادتها ومسؤولوها واعضاؤها القليلون يخرجون من سجنهم ومعتقلاتهم ببركة نهضة الجماهير وعلى عدة مراحل، وفيما كان الشعب يقف على اعتاب النصر ـ راحت تتطلع إلى الحصول على المكاسب والمطالبة بسهم اوفر لها في ارث الثورة. ومنذ تلك الأيام ابتدأ الاصطفاف بوجه الثورة الإسلامية بصفوف امتلأت بعملاء النظام البائد وازلام السافاك والشيوعيين ومجاهدي خلق (المنافقين).

 

سقوط النظام الملكي وانتصار الثورة الإسلامية يوم الله 11 شباط

بايع منتسبو القوة الجوية، في الثامن من شباط 1979، الإمام الخميني في محل اقامته بالمدرسة العلوية في طهران، واصبح الجيش الملكي على حافة السقوط الكامل. وقبل ذلك كان العديد من الجنود والمراتب من المؤمنين قد تركوا المعسكرات التزاماً بفتوى الإمام والتحقوا بصفوف الجماهير.

في التاسع من شباط قام منتسبو القوى الجوية بالتمرد في اهم قاعدة لهم في طهران. وبادرت قوات الحرس الملكي للقضاء على التمرد، فهبت الجماهير لدعم القوات الثورية في القاعدة. وفي العاشر من شباط كان معظم مراكز الشرطة ومؤسسات الدولة قد سقطت الوحدة تلو الأخرى بأيدي الجماهير. وفي بيان عسكري له اعلن القائد العسكري لمدينة طهران عن تمديد ساعات منع التجوال إلى الساعة الرابعة بعد الظهر. وتزامناً مع ذلك عقد بختيار اجتماعاً طارئاً لمجلس أمن الدولة واصدر أوامره بالقيام بالانقلاب العسكري الذي اعد له سلفاً بالتنسيق مع الجنرال هايزر. من جانب آخر اصدر الإمام الخميني بياناً دعا فيه ابناء طهران ـ وبدافع احباط المؤامرة المبيّتة ـ للنزول إلى الشوارع والغاء قرار منع التجوال بشكل عملي. فاندفعت الجماهير شيباً وشباناً ونساءً واطفالاً إلى الشوارع، وشرعت باعداد الخنادق. وما ان خرجت الدبابات والقوات العسكرية المكلفة بتنفيذ الانقلاب من معسكراتها حتى سيطرت الجماهير عليها ومنعتها من مواصلة مسيرها. ففشل الانقلاب منذ ساعاته الاولى، وبذلك سقط آخر معاقل النظام الملكي. وفي صباح الحادي عشر من شباط اشرقت شمس انتصار نهضة الإمام الخميني والثورة الإسلامية، لتعلن نهاية عهد حاكمية الملوك الظالمين في ايران.

 

تشكيل الحكومة الإسلامية واصطفاف الدول الاستعمارية لمعاداتها

لم يكن تحقق وعود الإمام الخميني وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، حادثة داخلية لتغيير نظام سياسي معين، بل كان ذلك ـ وما عبر عنه الكثير من ساسة أميركا واسرائيل واوربا في مذكراتهم التي كتبوها عن تلك الايام ـ زلزالاً مدمراً للعالم الغربي.

ففضلاً عن ان أميركا فقدت بنجاح الثورة اهم موقع جغرافي واقتصادي وعسكري لها في احدى اشدّ مناطق العالم حساسية وفي بلد كان يمتلك اطول حدود مشتركة مع منافسه الشرقي (الاتحاد السوفيتي السابق)، فإن امواج هذا الانفجار الهائل، كانت قد هزت الانظمة العميلة في البلدان الإسلامية والعربية واصابتها بالذعر الشديد.

كانت رسالة الثورة الإسلامية الاصيلة ذات ماهية ثقافية بنيت على الفكر الديني والقيم المعنوية. ومن هنا كان انتصار الثورة يعني صدور رسالتها وقيمها لتفجير موجة من النهوض والتحرر في البلدان الإسلامية والعالم الثالث. وفي الفترة نفسها التي حققت الثورة الإسلامية نصرها في ايران سقط النظام العميل لامريكا في (نيكاراغوا). وفي افغانستان اضطر الاتحاد السوفيتي إلى القيام بانقلاب دموي دفع على اثره قواته العسكرية لاحتلال تلك الدولة للسيطرة على التحرك الإسلامي. كما ان الجماهير العربية المسلمة في لبنان وفلسطين احتفلت بانتصار الثورة الإسلامية في إيران وابتدأت مرحلة جديدة في نضالها، مستلهمةً من الثورة الإسلامية افكار واساليب جديدة. كذلك عادت الحياة إلى الحركات الإسلامية في مصر وتونس والجزائر والسودان والحجاز وتركيا.

بعد الحرب العالمية الثانية كان قد ساد العالم نظام ظلم. فقد تمّ تقسيم مناطق العالم بين القوتين المنتصرتين (الشرقية والغربية) واوكلت مهمة الحفاظ على هذا النظام المقيت إلى حلفي (وارشو) و(الناتو). ولم تستطع اية حركة أو ثورة في العالم الثالث من تحقيق أيّ هدف لها خارج هذا الاطار ودون الارتباط باحد القطبين الحاكمين. ومع ذلك حققت الثورة الإسلامية نصرها في عالمنا المعاصر وفي منطقة كان يعدّها الغربيون منطقة أمن لهم، وكان شعارها "لا شرقية ولا غربية".

لقد وقفت نهضة الإمام الخميني وبشكل مباشر بوجه الامبريالية الأميركية وألحقت الهزيمة بها، الأمر الذي جرّد الشيوعيين من سلاحهم الذي كانوا يلوحون به (الوقوف بوجه الامبريالية). ولاول مرة في العصر الحاضر يطرح الدين كعامل محرك في ميدان نضال الشعوب.

وعلى الرغم من مشاعر الشك والترديد، والمساعي التي بذلت على المستوى الدولي للحفاظ على نظام الشاه وللحيلولة دون انتصار الإمام الخميني في نهضته، حققت الثورة الإسلامية النصر في المرحلة الأولى من صراعها، ولهذا فإن انتصارها كان يعد معجزة أكثر منه تحولاً عادياً. وفيما عدا الإمام الخميني والجماهير المليونية التي آمنت بوعوده بعيداً عن التحليلات العادية، فإن معظم المحللين السياسيين وجميع الذين كان لهم دور في الاحداث التي شهدتها إيران، كانوا يرون هذا الانتصار ـ حتى في أواخر ايام النظام البائد ـ امراً مستحيلاً.

لهذا ابتدأت مشاعر الخصومة والعداء للنظام الإسلامي الفتي بالظهور والانتشار منذ صباح الحادي عشر من شباط 1979م. وقد قادت أميركا جبهة الاعداء، وكان لبريطانيا وبعض دول أوربا وجميع الأنظمة العميلة للغرب المشاركة الفعالة في تلك المواجهة. كذلك فإن الاتحاد السوفيتي ومن يدور في فلكه أيضاً، وقفوا إلى جنب الأميركان في العديد من المواقف العدائية ودعموا موقفهم بسبب عدم ارتياحهم لما وقع في إيران ومما نتح عنه من حاكمية الدين.

ومن النماذج البارزة لهذه التحالفات، ما حصل من تحالف اليسار واليمين ضد الثورة داخل البلاد، الأمر الذي اظهرت الوثائق ـ فيما بعد ـ ارتباطهم بكل من سفارة الاتحاد السوفيتي وأميركا. والابرز من هذا، تضافر جهود الشرق والغرب في تسليح صدام ودعمه في حربه المفروضة ضد الجمهورية الإسلامية.

غير أن الإمام الخميني مارس دوره القيادي بالمنطق نفسه الذي ابتدأه به قيادة النهضة وحيداً قبل سنوات، فقد قاد سفينة الثورة وهي تعيش في خضم الفتن والضغوط الخارجية، رافعاً شعار "انتصار الدم على السيف". وكان على اعتقاد راسخ بأن المجتمع الذي يؤمن بالشهادة كأعلى درجة من الكمال الروحي للانسان ويجاهد في سبيل الله، لابدّ وان ينتصر.

وكان الإمام الخميني بصدد تعبئة الشعب الايراني لبناء البلاد، وتجسيد نموذج المجتمع الديني السليم والمتطور أمام العالم. وابتدأ جهاد الشعب تحت شعار (جهاد البناء) وانطلق الآلاف من المتخصصين والمؤمنين بالثورة إلى مختلف المناطق المحرومة والقرى المنتشرة على طول البلاد وعرضها، ليبدأوا حركة اعمار كبرى تشمل شق الطرق وبناء المراكز الصحية وايصال الماء والكهرباء إلى مختلف مناطق البلاد. غير انه لم يمر وقت طويل حتى اخذت امواج الفتن والضغوط الخارجية تنهال على البلاد. فقد صممت أميركا على الاستفادة من طابورها الخامس في ايران لاشغال النظام الإسلامي بمشكلات داخلية وبث الفرقة والخلاف لايجاد الفرصة المناسبة لاسقاط النظام الفتي.

وقد عملت السفارة الأميركية بجد ـ عن طريق بعض عناصر الحكومة المؤقتة ـ لتمهيد الطريق لمشاريعها المستقبلية، وقد حققت بعض النجاح في ذلك ايضاً. فقد كانت حكومة السيد بازركان تتألف من افراد اتسم اكثرهم بالتوجهات القومية المحافظة. ولم يكن بمقدور هؤلاء هضم الظروف والضرورات الثورية ودرك الارشادات والافكار السامية للإمام الخميني. كذلك فان ضعف الحكومة المؤقتة وروح المماشاة التي كانت تتسم بها ساعد الفئات المعادية للثورة لاعادة تنظيم صفوفها بسرعة فائقة مستفيدة من المعونات الخارجية التي كانت تتلقاها، ثم المبادرة إلى خلق التشنجات في كنبد وكردستان وسائر المناطق.

كذلك فإن النظام البعثي العراقي ـ الذي اصيب بالذعر اكثر من الانظمة العربية الاخرى من انتصار الثورة الإسلامية نتيجة خوفه من امكانية انتفاضة شعبه ـ بادر إلى تسليح العناصر المعادية للثورة في جنور البلاد وفي كردستان. كما كان للسفارتين الأميركية والسوفيتية نشاط فعال في لمّ شمل افراد السافاك وبعض عناصر النظام السابق وتحريك الفصائل الشيوعية ومجاهدي خلق (المنافقين) للقيام باعمال مؤذية ضد الثورة. فقد قامت (منظمة الفرقان) باغتيال عضو مجلس الثورة العلامة الشيخ مرتضى المطهري في 2/5/1979 وآية الله القاضي الطباطبائي في 1/11/1979، والدكتور المفتح في 19/12/1979، واللواء القرني رئيس اركان الجيش في 23/4/ 1979 وفشلت في اغتيال الشيخ الهاشمي الرفسنجاني والموسوي الاردبيلي.

وكان الإمام الخميني يعتقد ـ نظراً لمعرفته بالأيادي الخفية ـ بضرورة القضاء، وبسرعة وبحزم، على اعداء الثورة خصوصاً الاضطرابات التي وقعت في كردستان. غير أنّ الحكومة المؤقتة ضيّعت الفرصة بانشغالها بالمفاوضات العقيمة في كردستان وتعاملها بليّن مع مثيري الاضطرابات، وهيأت عملياً الارضية لتفاقم الاوضاع.

من جانب آخر فإنّ الاقتصاد الذي تركه النظام المباد والمعتمد كلياً على واردات النفط، دفع أميركا واوربا ـ المطلعتين على هذه الحقيقة ـ إلى دعم موقف النظام السعودي ومؤيديه في منظمة (أوبك) لتخفيض اسعار النفط إلى ادنى مستوى لها مما الحق اضراراً بسوق النفط الايراني.

ومع وجود جميع هذه المشاكل لم يذعن الإمام الخميني ولم يرضخ لقبول المصالحة ولم يتراجع عن مواقفه حتى خطوة واحدة. فبادر إلى تشكيل المؤسسات الثورية لترميم ضعف الحكومة المؤقتة ولضمان ديمومة الثورة. وقد وقفت الجماهير الايرانية بعزم واستعداد للتضحية دفاعاً عن الثورة، ولم يمض اكثر من شهرين على انتصار الثورة حتى صوت 98.2% من ابناء الشعب في الاستفتاء الشعبي الذي أجري في الاول من نيسان 1979م لصالح الجمهورية الإسلامية، في واحدة من اكثر الانتخابات حريةً في تاريخ ايران. وبعدها اجريت الانتخابات للمصادقة على الدستور، وانتخابات نواب مجلس الشورى الإسلامي. وكان الإمام الخميني يتحدث إلى محبيه الذين كانوا يزورونه يومياً في مقر اقامته بقم، وفي المدرسة الفيضية بما يدعم ويرسخ اركان النظام الإسلامي، ويبين الاهداف والاولويات في الحكومة الإسلامية ويدفع الجماهير للحضور الدائم في ميادين الاحداث. فقد سافر سماحته من طهران إلى قم في الاول من آذار 1979 وبقي هناك حتى ألمّت به الازمة القلبية (22 كانون الثاني 1980). وبعد تسعة وثلاثين يوماً من العلاج المتواصل في مستشفى القلب بطهران، اقام سماحته في منزل يقع بمنطقة (دربند) ثم نقل في 27/5/ 1980 ـ ونزولاً عند رغبته ـ الى منزل بسيط يمتلكه احد علماء الدين (حجة الإسلام السيد مهدي إمام جماراني) في منطقة جماران، وبقي هناك حتى فارق الحياة.

 

الثورة الثانية: احتلال وكر التجسس الأميركي في إيران

أدّى نجاح الانتخابات ومشاركة الجماهير الواسعة فيها إلى تبديد الآمال الأميركية الواهية في قرب سقوط النظام الإسلامي، الذي كانت وسائل الاعلام الغربية لا تكف عن ترديده، فضلاً عن البيانات التي كانت تصدرها التيارات المعادية للثورة في الداخل. ولم تمتنع أميركا واوربا من النزول عند مطالب الشعب والحكومة الايرانية المشروعة باسترداد الاموال والارصدة الايرانية المجمدة التي تقدر بأكثر من 22 مليارد دولار فحسب، بل وضعت امكانات واسعة تحت تصرف اقطاب النظام الملكي البائد اللاجئين إليها، لتوظيفها في مواجهة النظام الإسلامي الفتي. وقد اثارت هذه النشاطات الأميركية والممارسات العدائية للبيت الابيض غضب الشعب.

ففي عام 1979 وعلى اعتاب الذكرى السنوية لنفي الإمام الخميني إلى تركيا (4 تشرين الاول) شاع خبر اللقاء السري بين بازركان وبريجنسكي (مستشار الامن القومي الأميركي آنذاك) الذي جرى في الجزائر، مما دفع مجموعة من الجامعيين المسلمين الثوريين ـ الذين اطلقوا على انفسهم اسم (الطلبة الجامعيون السائرون على نهج الإمام الخميني) إلى احتلال السفارة الأميركية بطهران. وبعد القضاء على مقاومة حرس السفارة، قاموا بالقاء القبض على الجواسيس الأميركان. ثم عكفوا بعدها على نشر الوثائق التي عثروا عليها في السفارة الأميركية في خمسين كتاباً سميت "وثائق وكر التجسس الأميركي في إيران". وقد كشفت هذه الوثائق الدامغة النقاب عن اسرار الجاسوسية الأميركية والتدخلات التي قامت بها الادارة الاميركية في مختلف نقاط العالم، واعلنت اسماء العديد من الرابطين والجواسيس لأميركا ومختلف اساليب الجاسوسية والتحركات السياسية الاميركية في مناطق العالم المختلفة.

مثل احتلال السفارة الاميركية، التي عرفت في ثقافة الثورة الإسلامية بـ"وكر التجسس"، فضيحة كبرى للحكومة الأميركية.

بعد يوم واحد من احتلال السفارة الأميركية سقطت حكومة السيد بازركان بعد قبول الإمام استقالتها، في وقت كان بازركان يتوقع ردّ فعل آخر من الإمام يتمثل في ضغطه على الطلبة الجامعيين لاخلاء السفارة الأميركية، غير ان الإمام الخميني قبل استقالة الحكومة على الفور غير مفرط بهذه الفرصة السانحة التي ستتيح له دفع الثوريين إلى سدة السلطة وكف ايدي التيار المحافظ الذي عرض البلاد خلال فترة حكومته الوجيزة إلى خطر اعداء الثورة بسبب مواقفه الضعيفة في التعامل مع الاحداث.

دافع الإمام الخميني عن حركة الطلبة الجامعيين الثورية، وعدّ عملهم ثورة تفوق في اهميتها الثورة الاولى. والحق انها كذلك. فقد كانت أميركا تقف إلى جانب النظام المقبور في الثورة الاولى وكانت تعلن رسمياً عن مواجهتها وعدائها للثورة الإسلامية، في حين أن الوثائق المصادرة من وكر التجسس الأميركي كشفت النقاب عن الدسائس التي حيكت ضد الثورة في الخفاء وفضحت عملاءها في الداخل.

بعد احتلال السفارة الأميركية حاولت أميركا بمختلف السبل دفع إيران للتراجع عن موقفها، فقامت، ومن يدور في فلكها، بفرض الحصار الاقتصادي والسياسي رسمياً على إيران، وابتدأت الجماهير مرحلة مواجهة الحصار الاقتصادي والسياسي مستلهمة بيانات وتوجيهات الإمام الخميني، دون ان تفكر في الاستسلام. وفشلت عملية اطلاق سراح الرهائن الأميركان بعد تحطيم الطائرات الاميركية في صحراء طبس، في حادثة اعجازية مدهشة.

وفي الرابع والعشرين من نيسان 1980م قامت ست طائرات سمتية من طراز C130 بالهبوط في احدى القواعد الأميركية السابقة في صحراء طبس شرقي إيرات، وقد وقعت هذه الحادثة خلال رئاسة ابو الحسن بني صدر. وكان مقرراً ان تقوم الطائرات ـ بعد التزود بالوقود والتحاق ثمانين سمتيات ميدانية ـ بالتوجه إلى طهران، لقصف منزل الإمام الخميني والمراكز الهامة الاخرى بالتعاون مع بعض العملاء، غير ان عاصفة طارئة هبت في الصحراء اجبرت بعض الطائرات الباقيات إلى الهبوط الاضطراري في الصحراء. ونتيجة لسوء الاحوال الجوية ارتطمت احداهما باخرى فانفجرت كلتاهما، وقتل على اثر ذلك ثمانية اشخاص من العسكريين الأميركان الغزاة، واضطر جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة إلى الاعلان عن ايقاف العمليات الفاشلة.

وبوفاة الملك محمد رضا في مصر في 27 تموز 1980، انتفى بشكل عملي احد الشروط الايرانية المتمثلة في استرداد الملك باعتباره احد المجرمين الاصليين في المذابح الجماعية التي ارتكبت في إيران. وأخيراً وبعد 444 يوماً تمّ الافراج عن الجواسيس الأميركان بواسطة جزائرية بعد اعلان اعضاء مجلس الشورى موافقتهم على اتفاقية الجزائر الموقعة بين إيران وأميركا، والتي تعهدت أميركا بموجبها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لايران، وإعادة الارصدة والاموال الايرانية المجمدة في مصارفها. إلا أنها لم تلتزم بأي منها.

ان اهم ما حققته عملية احتلال وكر التجسس الأميركي تمثل في طعن الغرور الفرعوني الأميركي، وبعث الامل في نفوس شعوب العالم الثالث بامكانية الوقوف بوجه القوى العظمى، ناهيك عن ضمانة ديمومة الثورة الإسلامية في إيران.

بعد تلك الواقعة، انهارت الابهة الأميركية والقدرة الوهمية ـ التي انفق من اجل اظهارها المبالغ الطائلة والجهود الاعلامية المكثفة ـ وتعرضت أميركا إلى صعوبات ومشاكل عديدة للسيطرة على العالم الثالث فيما بعد.

في أول انتخابات لرئاسة الجمهورية الإسلامية الايرانية (25/10/1980)، والتي جرت في وقت كان الإمام الخميني طريح فراش المرض في مستشفى القلب بطهران، فاز السيد أبو الحسن بني صدر على منافسيه. وكان ابو الحسن قد عاد إلى ايران قبيل انصار الثورة الإسلامية، وقدم نفسه من خلال خطاباته وكتبه على أنّه شخص متدين وخبير اقتصادي لامع. وفي مراسم اداء اليمين الدستورية لتولي مهام عمله كرئيس للجمهورية قال الإمام: "انني أوصي السيد بني صدر بوصية واحدة، وهي موجهة للجميع أيضاً، اقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة". غير ان غرور بني صدر ونزعته في التسلط حال دون التزامه بهذه النصيحة. لقد غرّته الآراء التي حصل عليها. ومنذ بداية حكومته اعتمد معارضة اتباع خط الإمام وعلماء الدين. وقد كان يعتقد ـ كما هو حال الحكومة المؤقتة ـ بضرورة مسايرة الدول الكبرى، واعتماد اسلوب المناورات السياسية معها. اما على الصعيد الداخلي فقد بادر على الفور إلى عزل الطاقات الثورية واحلال العناصر المرتبطة بالفئات المعادية للثورة محلها.

وفي عهده احتل العراق مناطق شاسعة من الاراضي الايرانية، وعلى الاثر قامت العناصر المرتبطة برئيس الجمهورية ـ التي كانت ترى وجودها مرتهناً بزيادة المشكلات وايجاد جو من التوتر أمام النظام الإسلامي ـ بالحيلولة دون اداء المدافعين عن البلاد لدورهم بشكل مناسب، ومنع تسليح الجماهير واتاحة الفرصة للحرس الثوري باداء دوره الفاعل، مستفيدين في كل ذلك من منصب بني صدر الذي كان قائداً عاماً للقوات المسلحة. وبذلك تعرضت الوحدة الوطنية إلى الخطر نتيجة الخلافات التي اثارها بني صدر. واخيراً اصدر الإمام الخميني قراره المقتضب في 10 حزيران 1981م القاضي بعزل بني صدر عن منصب القائد العام للقوات المسلحة، وتبعاً لذلك صادق مجلس الشورى الإسلامي على عدم كفاءة بني صدر كرئيس للجمهورية.

بسقوط بني صدر، بادر اعضاء ومؤيدو منظمة مجاهدي خلق (المنافقين) ـ الذين استغلوا ضعف الحكومة المؤقتة وما وفره لهم بني صدر من الدعم والحماية لتقوية تشكيلاتهم وتوسيعها ـ لممارسة اضطرابات دموية. إلا ان جماهير طهران تمكنوا من القضاء على مثيري الاضطرابات وتم اعتقال العديد منهم. ومنذ ذلك الوقت اقدم المنافقون رسمياً على القيام باعمال مسلحة واغتيالات، وفي الوقت نفسه بادر قادة التنظيم للاختفاء في أوكارهم، وقد تصدر حزب الجمهورية الإسلامية قائمة المستهدفين من قبل المنافقين.

تم تأسيس حزب الجمهورية الإسلامية بعد انتصار الثورة الإسلامية بهمة المخلصين من ذوي السماحة آية الله العظمى الخامنئي، والدكتور بهشتي، والدكتور باهنر، وهاشمي رفسنجاني، والموسوي الاردبيلي بهدف احتواء الطاقات المؤمنة بنهج الإمام الخميني، ومواجهة تحركات التيارات السياسية المعادية للثورة. وقد استطاع هذا الحزب الذي حظي بدعم الإمام المعنوي، ان يكسب اعداداً كبيرة من الاتباع والمؤيدين في مختلف انحاء البلاد وبسرعة كبيرة، ويمسي سداً أمام تطلعات العناصر المعادية للثورة.

في السابع والعشرين من حزيران 1981، جرح آية الله العظمى الخامنئي إثر انفجار قنبلة زرعها المنافقون بينما كان يخطب بالجماهير المحتشدة في مسجد ابي ذر بطهران. وفي اليوم التالي وقعت فاجعة رهيبة حيث هزّ انفجار قنبلة قوية زرعها احد عملاء منظمة المنافقين، مقر حزب الجمهورية الإسلامية، وذلك خلال اجتماع اعضاء الحزب، مما ادى الى استشهاد اثنين وسبعين من خير الطاقات الثورية من عناصر النظام الإسلامي ومن انصار الإمام الخميني، كان بينهم رئيس مجلس القضاء الاعلى الدكتور بهشتي وعدد من الوزراء ونواب مجلس الشورى الإسلامي وجمع من مسؤولي السلطة القضائية وعدد آخر من المفكرين والكتاب والطاقات الثورية الاخرى.

بعد شهرين من هذه الفاجعة وتحديداً في الثلاثين من شهر آب 1981 استشهد السيد محمد علي رجائي ـ الوجه الثوري المحبوب لدى الجماهير، والذي انتخب لرئاسة الجمهورية بعد عزل بني صدر ـ والدكتور محمد جواد باهنر (رئيس الوزراء) على اثر انفجار قنبلة اخرى زرعت في المكان الذي كان يجتمعان فيه.

ان قرار الإمام السريع والحازم بانتخاب وتنصيب المسؤولين لسد الفراغ الحاصل نتيجة سقوط هذا العدد من الشهداء، كان له بالغ الاثر في تهدئة الاوضاع وادخال اليأس في نفوس الاعداء، واصابة المحافل الخبرية والسياسية العالمية بالحيرة والذهول.

لو لم يكن ايمان الإمام الخميني وصلابته المذهلة، ووعي الجماهير الايرانية المؤمنة، لتمكنت واحدة من هذه الاحداث من اسقاط النظام الإسلامي. غير أنّ بيانات الإمام الخميني وخطاباته كانت بعد كل حادث من هذه الحوادث تهدى روع الجماهير وتسهل عليها تحمل المصائب وتزيد من تصميم الجماهير على مواصلة طريقها. فبعد استشهاد الدكتور بهشتي كانت الجماهير تهتف بشعار "ماذا تريد أميركا، ان إيران مليئة بأمثال بهشتي"، والذي استلهمه من حديث الإمام الذي كشف من خلاله النقاب عن ان الايادي الخفية للعدو الاصلي (أميركا) تكمن وراء هذه الاغتيالات. من جانب آخر، كان الإمام قد أكدّ مراراً ان الثورة الإسلامية لا تقوم على الافراد مهما كانت مواقعهم واهميتهم، وان حافظ الثورة هو الله وايمان الجماهير المؤمنة.

ان احد ابرز نجاحات الإمام الخميني تجسد في قدرته على تنمية الوعي العام لدى الجماهير وايجاد الاحساس بالمسؤولية والقدرة على التحليل السياسي لدى ابناء الشعب ازاء الوقائع والاحداث المعاصرة.

لسنوات طوال كانت وسائل الاعلام الغربية تعد بحتمية سقوط النظام الإسلامي بعد وفاة الإمام الخميني، وقد طرح هذا الموضوع حتى في المؤتمرات التي عقدها المفكرون الغربيون لدراسة الثورة الإسلامية، والملتقيات السياسية والمفاوضات التي كان يجريها الساسة الغربيون وبشكل جدّي، واعتبر موضع قبول الجميع. وعلى هذا الاساس ايضاً قبعت الفئات المعادية للثورة في الداخل في مكانها بانتظار ذلك اليوم الموعود. غير ان الدنيا شهدت كيف ان النظام الإسلامي لم يتعرض لادنى ارباك بعد ارتحال سماحة الإمام الخميني، وبذا تبددت احلامهم وامانيهم. والسبب في ذلك ما تقدم، إذ تمكن الإمام الخميني من اعادة تربية الجيل الخامل واللامبالي ـ الذي جرّ خلال الخمسين عاماً من حكم العائلة البهلوية إلى التيه والضياع واليأس والقنوط ـ بنحو جعلته قادراً وفي زمن قياسي من نبذ عادته وعلاقاته الاجتماعية السابقة والاعتقادات الخاطئة الراسخة، واستبدالها بالقيم والمثل السامية الجديدة في مختلف مناحي الحياة. وما اندفاع الآلاف من الشبان الذين واجهوا العدو البعثي المعتدي في جبهات القتال لمدة ثمانية اعوام متواصلة متحلين بأعلى درجات المعنوية والوعي إلا دليل على هذا المعنى، وان النماذج الكثيرة على مستوى وعيهم وشعورهم ومستوى ايمانهم ومعنوياتهم تتضح في الوصايا المطبوعة للشهداء، فيما كان اكثرهم ـ إلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية بقليل ـ تتهددهم انواع المفاسد، ويحركهم إعلام السوء وتتجاذبهم انواع القوى التخديرية.

ولعلّ البعض ممن يعاصر مجتمع عصر الإمام الخميني عن قرب، يعتبر هذا الحديث نوعاً من المبالغة في عرض الحقائق، ناشيء عن فرط المحبة للإمام وللثورة الإسلامية. لكن الأمر ليس كذلك، فكثير من الشواهد لازالت حية، والوثائق والمستندات الدامغة من الكثرة بحيث ان اثبات هذا الأمر لن يحتاج إلى طويل بحث أو مناظرة.

فإلى الآن ما زالت الثقافة الاجتماعية الايرانية الجديدة تدفع الناس إلى تهنئة من فقد ابناً على طريق تحقيق اهداف نهضة الإمام الخميني بدلاً من تعزيته ومواساته. إلى الان مازال الكثير من الآباء والأمهات في إيران ممن فقدوا اعزتهم في هذا الطريق يجيبونك حينما تسألهم عن شعورهم: بأن ذلك فخر للعائلة وانه نعمة من الله.

ولعل من غير المعقول بالنسبة للغربيين ان يقوم بعض افراد العائلة بالابلاغ عن اماكن اختفاء العديد من العناصر المضادة للثورة والارهابيين المنافقين من ابنائهم، ومساعدة الآباء والامهات قوى الامن لإلقاء القبض على ابنائهم.

وتتضح اهمية هذا الاحساس إذا ما اخذنا بنظر الاعتبار شدّة الترابط العاطفي في العائلة الايرانية والذي لا يمكن مقارنته ـ على أي مستوى ـ مع ما هو موجود من العلاقة الباردة الخالية من الروح لدى العائلة الغربية مثلاً.

فحتى الآن إذا سألت أيّاً من المقاتلين ـ الذين لا زالوا يتذكرون أيام الجبهة ـ عن أشدّ الايام التي قضاها في الجبهة قسوة؟ لأجابك انه يوم اعلان قبول قرار مجلس الامن والموافقة على وقف اطلاق النار. ان مشاعر الألم والحزن التي انتابت قوات التعبئة ذلك اليوم لا يمكن وصفها ولا يمكن تصورها؛ كل ذلك لاحساسهم بأنّ "باب جنة الشهداء" قد اغلق أمامهم، وانهم فقدوا الامل بالالتحاق بقافلة الشهداء.

ان ايجاد تحول روحي كهذا في مجتمع ما، وتحريك امواج الاندفاع نحو الإسلام في روح امة من الأمم، ليس بالعمل السهل واليسير.

ان لبنان وملحمة حزب الله، نموذج آخر على هذا التحول الذي ذكرناه. وخلافاً لما يدعيه الغرب عبر اعلامه، فإن تدخل إيران ودعمها لم يكن هو السبب في ايجاد هذا التحول، ذلك لأن لامريكا واوربا والاتحاد السوفيتي (السابق) حضور عميق وواسع ومباشر في لبنان، بيد انه لم يؤد إلى شيء. فالجامعة الأميركية في بيروت لها تاريخ طويل، كما ان أميركا واوربا انزلت قواتها في لبنان اثناء الاحداث التي وقعت في لبنان. لقد كانت لبنان وحتى وقت قريب اكبر سوق للسياسات الغربية في الشرق الاوسط، فما الذي ادى إلى ان يتمكن مجتمع صغير ـ قياساً إلى اعدائه وفي بلد محاصر من جميع الجهات، وله حدود مشتركة مع اسرائيل، ورغم قلّة امكاناته الدفاعية ـ من الوقوف بثبات وقوة بنحو يدفع القوات الغربية إلى الاعلان رسمياً عن فرارها من المنطقة، واضطرارها إلى تركها. واليوم ايضاً ورغم كل الضغوط الاقتصادية القياسية والقصف والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة، ترى حزب الله يثبت وجوده أمام الغرب ويقاوم بشكل منقطع النظير.

إن السبب الحقيقي الذي يقف وراء ذلك كله هو ان مسلمي لبنان ـ وبناءً على علاقاتهم الثقافية والعقائدية القديمة ـ استطاعوا التعرف على الإمام ودرك رسالته اسرع من سائر البلدان الإسلامية.

وبعد لبنان، شهدنا في فلسطين آثار هذا الفكر وهذه الرسالة، في انطلاقة (حركة حماس) والحركات الإسلامية في سائر بلدان المسلمين.. كل ذلك نتيجة التأثر المباشر أو غير المباشر لافكار الإمام الخميني ورسالته الجهادية. وان تحوّلاً كهذا لا ينحصر في الفكر السياسي للإمام الخميني ونوعية جهاده السياسي، فمدرسة الإمام الخميني التربوية وقدرته في معرفة الانسان وفي معرفة المجتمع هي التي ساهمت في ايجاد الارضية المناسبة لوقوع مثل هذه التحولات. وللاسف فان أبعاد نظرات الإمام وآرائه حول الانسان والمجتمع والتاريخ والتربية لم تزل حتى الآن متناثرة غير مدوّنة وغير معروفة كما ينبغي، فمدرسة الإمام في التربية وعلم الاجتماع تختلف كثيراً عما يدرس تحت هذه العناوين في جامعات دول العالم الثالث والبلدان الإسلامية.

إنّ الاساس الذي ابتنيت عليه نهضة الإمام الخميني انما يمتد إلى منهج الانبياء، ذلك المنهج الذي استطاع ان يخلق من بعض العبيد المغمورين والمظلومين شخصيات من امثال ابي ذر الغفاري وسلمان المحمدي. وان يجعل من المجتمع الجاهلي قائداً للمدينة والحضارة الإسلامية. بيد ان هذا المنهج اصبح منسياً في عصرنا الحاضر، وما نعرفه اليوم تحت عنوان العلوم الانسانية المعاصرة انما يهتم بتعريف الانسان والعلاقات الانسانية من وجهة نظر المدارس الوضعية الليبرالية و"الانسانية" الغربية، التي هي ايضاً وليدة عصر النهضة الصناعية وانعكاس للضيع وفقدان الهوية الذاتية والاصالة والقبول باصالة المادة وحاكمية الآلة على الانسان.

اعود للحديث عن كيفية قيادة الثورة في السنوات المشحونة بالاضطراب التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، فبعد فاجعة الثامن والعشرين من حزيران 1981م واستشهاد العشرات من انصار الإمام ومن مسؤولي الجمهورية الإسلامية، تمكن قادة منظمة المنافقين من الفرار من البلاد متوجهين إلى باريس برفقة رئيس الجمهورية المعزول، وذلك بارتدائهم الملابس النسائية وبالتعاون والتنسيق مع بعض العملاء المندسين في مطار طهران. فالطيار الذي قاد الطائرة كان من الطيارين المعتمدين لدى الشاه المخلوع، وهو نفسه الذي قادة طائرة الشاه حينما فرّ من البلاد قبل سنوات.

وخلافاً لادعاءاتها في احترام حقوق الإنسان ومواجهتها للارهاب، اعطت فرنسا حق اللجوء السياسي لاولئك الذين اعترفوا في بياناتهم التي اصدروها، بضلوعهم ـ بل بمسؤوليتهم ـ عن عمليات الاغتيال والتفجير في الاماكن العامة التي وقعت في إيران.

ومن يومها بات المنافقون الفارون الى مختلف الدول الاوروبية وأميركا، يتمتعون بدعم وحماية تلك الدول. وطوال فترة الحرب العراقية الايرانية، اتخذوا من العراق قاعدة اساسية لهم، بعد ان عقدوا صفقة مع صدام، وكانوا يمارسون دورهم كجواسيس ومرتزقة يضعون كل معلوماتهم وامكاناتهم تحت اختيار الجيش البعثي. وقد تلخصت مهمتهم الاساسية في جمع المعلومات عن جبهات القتال الايرانية بواسطة عملائهم المبثوثين في الداخل، واعطاء المعلومات حول مواضع سقوط الصواريخ العراقية التي استهدفت المناطق السكنية في إيران، والتحقيق مع الاسرى الايرانيين، والمشاركة في العمليات العسكرية العراقية.

وفي عام 1988م وبعد اعلان نهاية الحرب العراقية الايرانية، قاد المنافقون هجومهم الذي استهدف الدخول إلى عمق الاراضي الايرانية، الا انه تم سحقهم في عمليات "المرصاد"، مخلفين وراءهم اكثر من الف قتيل على ارض المواجهة، وان الضجة المفتعلة التي تشنها في العالم المنظمات المرتبطة باميركا ضد الجمهورية الإسلامية تحت ذريعة انتهاك حقوق الانسان، غالباً ما تغذيها مزاعم هذه المنظمة للحصول على دعم وتأييد الدول الغربية.

ان المنافقين (مجاهدي خلق) في نظر الشعب الايراني هم من اكثر الجناة اجراماً وانحطاطاً، وان جرائم اشهر مجرمي التاريخ الايراني المعاصر لم تصل إلى فضاعة جرائمهم. ففضلاً عن استشهاد 72 شخصاً من اكثر شخصيات النظام محبوبية لدى الناس في انفجار مقر حزب الجمهورية الإسلامية، واستشهاد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، اقدم المنافقون على اغتيال العديد من الشخصيات، كآية الله الصدوقي إمام جمعة يزد بتاريخ 2/7/1982، وآية الله اشرفي الاصفهاني إمام جمعة كرمانشاه بتارخي 15/10/1982، وآية الله دستغيب إمام جمعة شيراز بتاريخ 11/12/1981، وآية الله القدوسي واللواء الدستجردي بتاريخ 5/9/1981 وحجة الإسلام هاشمي نجاد بتاريخ 29/9/1981، وعشرات الشخصيات العلمائية ممن كانت تستحوذ على قلوب الناس في كل منطقة من المناطق التي كانت تمارس نشاطها فيها وممن كان لها الحظ الوافر في نهضة الإمام الخميني.

واضافة إلى الوجوه السياسية والدينية البارزة ومسؤولي النظام الإسلامي، فإن اعداداً كبيرة من الناس الابرياء سقطوا مخضبين بدمائهم بجرم الدفاع عن ثورتهم وحمايتهم، نتيجة لعمليات ارهابية وتفجيرات قام بها المنافقون في الاماكن العامة (وكان آخرها القتل المفجع الذي مارسه المنافقون بحق اثنين من القساوسة المسيحيين، وتفجير قنبلة في يوم العاشر من محرم الحرام جوار مرقد الإمام الرضا (ع) في مشهد عام 1994).

ومما يجدر ذكره ان اميركا واوربا والمنظمات الدولية لم تلزم السكوت أمام كل تلك الجرائم فحسب، وانما كانت تقدم للارهابيين الملجأ والامكانات لمواصلة نشاطاتهم الإرهابية. وقد سبق لهم أن اتخذوا موقفاً مشابهاً من جرائم الشاه بما يخالف ادعاءاتهم. ولهذا السبب بالذات لم يكن الإمام الخميني يعتمد آراء ومواقف الدول الاجنبية والمنظمات الدولية اساساً للتقييم أو انطلاقة للمواقف التي يتخذها سواء قبل انتصار الثورة أو بعدها. إذ كان سماحته يعتقد ـ وقد صرح بذلك مراراً عبر خطاباته ـ بأنّ هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ومنظمة الدفاع عن حقوق الانسان ليست سوى ادوات بايدي المتسلطين الدوليين، تماماً كادعاء الشيوعيين والاتحاد السوفيتي بحرية الشعوب ومناهضة الامبريالية، الذي لا يتطلعون من ورائه سوى تحقيق اهدافهم. بل واكثر من ذلك لفت الإمام الخميني ـ بناءً على هذه الحقائق ـ نظر مسؤولي النظام الإسلامي إلى معيار جديد لتقييم مستوى ادائهم بقوله: "في اليوم الذي تبادر فيه المؤسسات الدولية وأميركا والغرب إلى مدحكم والاعتراف طواعية بشرعيتكم وبثورتكم، عليكم ان تشكوا في سلامة مسيرتكم وحقانيتكم".


source : http://alhikmeh.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام الخميني من الولادة حتى الهجرة إلى مدينة ...
واقعة الحَرّة
ما المراد بکلمة یتیهون فی الآیة المبارکة؟ و هل ...
الإمامة عند أهل السنة
الأدلّة على إسلام أبي طالب؟
خطبة الإمام الحسين ( عليه السلام ) الأولى يوم ...
ميثم التمار
نظرية عدالة الصحابة (7)
في رحاب نهج البلاغة (لماذا نهى أمير المؤمنين عن ...
مناظرة الشيخ المفيد ( ره ) مع بعض مشايخ العباسيين ...

 
user comment