عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الإمام الخميني من الولادة حتى الهجرة إلى مدينة قم



في مثل هذه الظروف ولد روح الله الموسوي الخميني في العشرين من جمادى الثانية سنة 1320هـ، الموافق 24 أيلول 1902م؛ في مدينة خمين احدى مدن المحافظة المركزية، في بيت عُرف بالعلم والتقوى والجهاد والهجرة، ومن اسرة تنتسب إلى الصديقة فاطمة الزهراء؛ ورث منها سجايا آباء واجداد سعوا جاهدين جيلاً بعد جيل لهداية الناس، والنهل من المعارف الالهيّة.

عاصر المرحوم آية الله السيد مصطفى الموسوي ـ والد الإمام الخميني ـ المرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (رض). ودرس العلوم والمعارف الإسلامية في النجف الاشرف لعدة سنوات، وبعد ان بلغ مرتبة الاجتهاد عاد إلى ايران ليُقيم في خمين ويصبح ملجأً وملاذاً وموجِّهاً للناس في امور دينهم.

لم يُتم "روح الله" الخمسة اشهر، حتى استشهد والده في طريقه من خمين إلى اراك، على يد قطاع الطريق والخوانين المدعومين من قبل عملاء السلطة، انتقاماً من مساعيه في احقاق الحق والوقوف في وجه الطغاة والظلمة. ويومها توجهت اسرة الشهيد إلى طهران ـ دار الحكومة آنذاك ـ واصرّت على تنفيذ العدالة وانزال القصاص بحق قاتليه.

وبذا يكون الإمام الخميني قد واجه منذ طفولته قسوة اليتم وادرك مفهوم الشهادة.

بعد استشهاد والده امضى الإمام الخميني طفولته في احضان والدته (السيدة هاجر)، سليلة العلم والتقوى، فهي من احفاد المرحوم آية الله الخوانساري ـ صاحب زبدة التصانيف ـ ورعاية عمته المكرمة (صاحبة خانم)، المرأة الشجاعة التقيّة. حتى إذا ما بلغ الخامسة عشر من عمره حرم من نعمة هاتين العزيزتين.

درس الإمام منذ نعومة أظفاره ـ مستفيداً مما حباه الله من ذكاء متّقد ـ جانباً من المعارف الشائعة في عصره ومقدمات العلوم والسطوح المعروفة في الحوزات الدينية مثل آداب اللغة العربية والمنطق والفقه والاصول؛ على ايدي اساتذة وعلماء منطقته (كالميرزا محمود افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفي الخميني، والمرحوم الشيخ علي محمد افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفي الخميني، والمرحوم الشيخ علي محمد البروجردي، والمرحوم الشيخ محمد الكلبايكاني والمرحوم عباس الاراكي؛ وقبل هؤلاء اخيه الاكبر آية الله السيد مرتضى بسنديده ـ الذي امضى عنده اكثر وقته الدراسي ـ، سافر بعد ذلك ـ عام 1919م ـ إلى اراك ليواصل دراسته الدينية في حوزتها.

 

الهجرة إلى قم: تحصيل الدروس التكميلية وتدريس العلوم الإسلامية

بُعيد انتقال آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (ره) إلى مدينة قم، التحق الإمام الخميني بالحوزة العلمية بقم في رجب المرجب عام 1340هـ. فطوى سريعاً مراحل دراسته التكميلية في الحوزة العلمية على ايدي اساتذتها. فقد اكمل كتاب "المطوّل" (في علم المعاني والبيان) على يد المرحوم الميرزا محمد علي الاديب الطهراني، كما اكمل دروس مرحلة السطوح على يد المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخونساري، والمرحوم آية الله السيد علي اليثربي الكاشاني. كذلك اتمَّ دروس خارج الفقه والاصول على يد زعيم الحوزة العلمية في قم آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي رضوان الله عليهم اجمعين.

إنَّ الروح المرهفة الوثابة التي كان الإمام الخميني يتحلى بها دفعته إلى عدم الاكتفاء باتقان آداب اللغة العربية والدروس الفقهية والاصولية، بل ان يتعداها إلى الفروع العلمية الاخرى. ومن هنا وتزامناً مع دراسته للفقه والاصول على ايدي الفقهاء والمجتهدين، درس الرياضيات والهيئة والفلسفة يد على المرحوم الحاج السيد ابي الحسن الرفيعي القزويني، ثم واصل دراستها مع العلوم المعنوية والعرفانية لدى المرحوم الميرزا علي اكبر الحكيمي اليزدي، كما درس العروض والقوافي والفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية لدى المرحوم الشيخ محمد رضا مسجد شاهي الاصفهاني، كما درس الاخلاق والعرفان لدى المرحوم آية الله الحاج الميرزا جواد الملكي التبريزي، ثم درس اعلى مستويات العرفان النظري والعملي، ولمدة ستة اعوام عند المرحوم آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي اعلى الله مقاماتهم اجمعين.

بعد وفاة آية الله العظمى الحائري اليزيدي، اثمرت الجهود التي بذلها الإمام الخميني برفقه عدة من المجتهدين في الحوزة العلمية بقم في اقناع آية الله العظمى البروجردي للمجيء إلى قم وتسلم زعامة الحوزة العلمية فيها. وخلال هذه الفترة عُرف الإمام الخميني بصفة احد المدرسين والمجتهدين واولي الرأي في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق. وان زهده وورعه وتعبده وتقواه كان يتردد على لسان الخاصة والعامة.

ان هذه الخصال والسجايا الرفيعة التي كانت حصيلة سنوات طويلة من المجاهدة والترويض الشرعي وامتحان المفاهيم والاسس العرفانية في حياته العملية الشخصية والاجتماعية، ونهجه السياسي الذي جسد من خلاله اعتقاده الراسخ بحفظ كيان الحوزات العلمية وقوة الزعامة الدينية والعلماء باعتبارهم الملاذ الوحيد للناس في تلك الايام المضطربة الخطيرة، جعلته يوظف دائماً علمه وفضله وجهوده في ترسيخ اسس الحوزة العلمية الفتية في قم. فوقف رغم كل ما لديه من جداره واختلاف في وجهات النظر، يدعم مرجعية آية الله العظمى الحائري ثم آية الله البروجردي اعلى الله مقامهما، وحتى بعد وفاة آية الله البروجردي. ورغم الاقبال الواسع عليه من قبل الطلاب والفضلاء والمجتمع الإسلامي كأحد مراجع التقليد إلا انه يخطُ أيّة خطوة يشمُّ منها رائحة السعي لكسب المقام والزعامة، فكان دائماً يحث محبيه ومريديه على عدم الاهتمام بمثل هذه الامور. بل انّه أصرّ على نهجه هذا حتى في الوقت الذي التف حوله وعاة المجتمع باعتباره المنادي بالإسلام الحق وانه يمثل ضالتهم المنشودة لتحقيق آمالهم لما كان عليه من التقوى والعلم والوعي، فلم يغير من سيرته ومنهجه قيد انملة متمثلاً قوله الذي كان يكرره دائماً "إنّني اعتبر نفسي خادماً وحارساً للإسلام والشعب".

انه الرجل العظيم ذاته الذي عاد في (1 شباط 1979م) إلى إيران ليجد الملايين من ابناء الشعب وقد اجتمعوا في اكبر مراسم استقبال في التاريخ احتفاءً بقدوم قائدهم. وحينما سأله احد الصحفيين بلا مقدمة: ما هو شعوركم وانتم تعودون إلى بلادكم بعد خمسة عشر عاماً في ظل هذه الابهة؟ سمع منه جواباً غير متوقع، إذ اجابه سماحته: لا شيء!.

لقد توهم ذلك الصحفي بأن الإمام الخميني كسائر القادة السياسيين الساعين إلى السلطة ينسون انفسهم في مثل هذه المواطن المثيرة، ويطيرون فرحاً؛ غير ان الجواب الذي سمعه اوضح له بأن الإمام الخميني من سنخ آخر.

كان الإمام الخميني يعتقد بحق ـ كما اكّد ذلك مرات ومرات ـ بأنّ المعيار في سلوكه وتحركاته هو نيل رضا الخالق تعالى والعمل بالتكليف واداء المسؤولية الشرعية. فهو يرى بأنّ الأمر سيّان بالنسبة له سواء كان في السجن والنفي، أو في ذروة القوة والاقتدار، مادام تحركه في سبيل الله. أساساً ان سماحته كان قد اعرض ـ وقبل عقود من ذلك التاريخ ـ عن الدنيا وما فيها وسلك طريق الوصول والفناء في الله. ولعلّ اجمل تفسير لرده على سؤال الصحفي يكمن في بيت الشعر الذي نظمه سماحته:

اذهب إلى الخربات واعتزل الخلق جميعاً   وعلِّق قلبك بالمطلق واترك الباقي

مارس الإمام التدريس ـ خلال سنوات طوال ـ في الحوزة العلمية بقم، فدرّس عدّة دورات في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق الإسلامية في كل من المدرسة الفيضية والمسجد الاعظم ومسجد محمدية ومدرسة الحاج ملا صادق ومسجد السلماسي وغيرها، كما مارس تدريس الفقه ومعارف اهل البيت (ع) ـ وعلىارفع المستويات ـ في الحوزة العلمية بالنجف الاشرف، في مسجد الشيخ الانصاري (ره) لما يقارب الاربعة عشر عاماً. وفي النجف الاشرف طرح ـ ولاول مرة ـ اسس الحكومة الإسلامية عبر سلسلة دروس ألقاها في موضوع ولاية الفقيه.

وعلى ما نقله طلابه، فان حوزة الإمام الخميني كانت تعدّ من اسمى المراكز الدراسية، وقد تجاوز عدد من يحضرون درسه في بعض الدورات ـ خلال السنوات التي قضاها في التدريس بقم ـ الالف طالب، كان بينهم العشرات من المجتهدين المعروفين والمعترف باجتهادهم، فكانوا جميعاً ينهلون من مدرسته في الفقه والاصول. فكان من بركات ممارسته التدريس ان تمكّن سماحته من تربية المئات بل الآلاف ـ إذ اخذنا بنظر الاعتبار طول سنوات الدراسة ـ من العلماء والحكماء ممن اصبحوا بعد ذلك مشاعل واعلاماً في الحوزات الدينية، ومجتهدين وفقهاء وعرفاء بارزين ممن يشار إليهم بالبنان اليوم في حوزة قم العلمية وفي سائر المراكز الدينية. وان مفكرين كبار امثال العلامة الاستاذ الشهيد مرتضى المطهري والشهيد المظلوم الدكتور بهشتي، كانوا يفخرون دوماً بأنهم نهلوا من محضر هذا العارف الكامل لسنوات.

واليوم فإن الوجوه اللامعة من العلماء الذين يقودون مسيرة الثورة الإسلامية ويوجهون نظام الجمهورية الإسلامية هم من طلابه وخريجي مدرسته الفقهية والسياسية.

هذا وستكون لنا وقفة عند خصائص ومميزات مدرسته الإمام الخميني في العلوم المختلفة، كما سنعرض في آخر الكتاب وبشكل مختصر إلى تعريف كتب الإمام ومؤلفاته.

 

الإمام الخميني في خندق الجهاد والثورة

لقد كان لروحية النضال والجهاد في سبيل الله جذور تمتدُّ إلى الرؤية الاعتقادية والتربية والمحيط العائلي والظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بحياة الإمام؛ إذ بدأ جهاده منذ صباه، واخذ هذا الجهاد يتواصل ويتكامل بصورة مختلفة جنباً إلى جنب تكامل الجوانب الروحية والعملية في شخصيته من جهة، وتطور الاوضاع السياسية والاجتماعية في إيران والمجتمعات الإسلامية من جهة أخرى. وفي عامي 1961 ـ 1962 وفّرت احداث مجالس الاقاليم والمدن الفرصة ليلعب دوراً في قيادة حركة علماء الدين. وبهذا النحو انطلقت انتفاضة الخامس عشر من خرداد ـ الخامس من حزيران 1963 ـ التي شارك فيها العلماء وابناء الشعب معتمدة على دعامتين اساسيتين، اولاهما: قيادة الإمام المطلقة للحركة، وثانيتهما: إسلامية دوافع الانتفاضة واهدافها وشعاراتها، لتمثل فصلاً جديداً في جهاد الشعب الايراني؛ ذلك الفصل الذي عرف في العالم اجمع باسم "الثورة الإسلامية".

لقد ولد الإمام الخميني في وقت كانت ايران تمرّ فيه بأقسى ادوار تاريخها. فالحركة الدستورية تعرضت للضياع نتيجة دسائس ومعارضات عملاء الانجليز في البلاط القاجاري والصراعات الداخلية وخيانة بعض المتغربين وتعرّض العلماء ـ الذين كانوا يمثلون طليعتها ـ إلى الاقصاء من ساحة الاحداث بمختلف انواع المكائد ليعود النظام ملكياً مستبداً مرة أخرى. كذلك فإنّ الطبيعة العشائرية التي كانت تتسم بها العائلة القاجارية المالكة، وضعف الحكام وعدم صلاحيتهم أدّى إلى تدهور اقتصادي واجتماعي شديدين في ايران واطلق ايدي الاقطاعيين والاشرار لسلب الامن والامان.

وفي ظروف كهذه كان العلماء يمثلون الملاذ الوحيد للناس في مختلف المدن والمناطق. وكما اشرنا سابقاً فقد شهد الإمام الخميني في طفولته استشهاد والده نتيجة لدفاعه عن حقوقه وحقوق اهل منطقته ووقوفه في وجه الاقطاعيين وعملاء الحكومة آنذاك. إنّ أسرة الإمام ألفت ـ في الحقيقة ـ الهجرة والجهاد في سبيل الله منذ القدم.

يستعرض الإمام الخميني بعض ذكرياته عن الحرب العالمية الاولى ـ وكان حينها يبلغ من العمر اثني عشر عاماً ـ فيقول:

"إنّني اتذكر كلتا الحربين العالميتين.. كنت صغيراً إلا اني كنت اذهب إلى المدرسة وقد رأيت الجنود الروس في المركز الذي كان في (خمين) رأيتهم هناك واذكر كيف تعرضت بلادنا للاجتياح في الحرب العالمية الاولى".

وفي موضع آخر يذكر سماحته اسماء بعض الاقطاعيين الظالمين الاشرار الذين كانوا يمارسون النهب والاعتداء على اعراض الناس واموالهم مدعومين من قبل الحكومة المركزية:

"كنت في حرب منذ طفولتي… فقد كنا نتعرض لهجمات اشرار من امثال زلقي ورجب علي، وكانت عندنا بندقية، أذكر أني كنت أقارب البلوغ آنذاك فكنت اذهب مع البقية لاتخاذ موقعنا في الخنادق المعدّة للدفاع ضد هجوم اولئك الذين كانوا يقصدون الاغارة علينا. نعم كنا نذهب هناك ونتفقد الخنادق".

ويقول سماحته في موضع آخر:

"لقد كنا مضطرين إلى اعداد الخنادق في خمين ـ المنطقة التي كنا نعيش فيها ـ وكانت عندي بندقية، غير اني كنت لا ازال حينها يافعاً لم اناهز الثامنة عشرة بعد، وكنت اتدرب على البندقية واحملها وبما يتناسب مع سني. نعم كنا نذهب للتحصّن في الخنادق ونواجه هؤلاء الاشرار الذين كانوا يغيرون علينا. لقد كان الوضع متسماً بالفوضى والهرج والمرج، ولم يكن لدى الحكومة المركزية القدرة على السيطرة على الاوضاع،… وفجأة سيطروا على خمين فهبّ الناس لمواجهتهم وحملوا السلاح وكنت من بين من حملوا السلاح".

كان انقلاب رضا خان في 22 شباط 1912م، مخططاً ومدعوماً من قبل الانجليز، كما تشير إلى ذلك الوثائق التاريخية الثابتة والمؤكدة. ومع انه قضى على الحكم القاجاري ووضع حداً للقبلية والخوانين والاشرار، إلا انه اقام حكماً مستبداً حكمت تحت مظلته بضع مئات العوائل مصير الشعب المظلوم. وتصدت العائلة البهلوية للعب دور الخوانين والاشرار السابق.

سيطر رضا خان طوال عقدين من حكمه على نصف الاراضي الزراعية في ايران وثبّت ملكيتها له رسمياً وشكّل هيكلاً ادارياً لادارتها والمحافظة عليها يفوق في تشكيلاته هيكلية الوزرات الكبرى، وسعى في هذا السبيل ـ ما وسعه ـ لحل المشاكل القانونية المترتبة على نقل ملكية الاراضي ـ حتى الموقوفة منها ـ باسمه، فاصدر لذلك عشرات اللوائح والمصوبات القانونية من المجالس البرلمانية الصورية التي كان يأمر بتشكيلها. وقد شاع ذلك إلى درجة جعلت ما كتب عن حياته ـ من قبل مؤيديه أو معارضيه ـ يدور في اغلبه حول املاكه وما اقتناه من الحلي والمجوهرات والشركات والمراكز التجارية والصناعية.

كانت سياسة رضاخان الداخلية ترتكز إلى اسس ثلاثة هي: الحكم العسكري والبوليسي العنيف، والمواجهة الشاملة للدين ورجاله، والعمالة للغرب، وراح يصرّ عليها إلى أواخر عهده.

في مثل هذه الظروف هبّ علماء الدين الايرانيون ـ الذين تعرضوا للهجوم المتواصل من قبل الحكومات التي توالت على الحكم بعد الحركة الدستورية، فضلاً عما تعرضوا له من قبل عملاء الانجليز والمثقفين من عملاء الغرب الفكريين ـ للدفاع عن الإسلام وحفظ كيانهم وكرامتهم، إذ هاجر آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري ـ نزولاً عند رغبة علماء قم الاعلام ـ إلى مدينة قم تاركاً أراك، وبُعيد ذلك بفترة وجيزة هاجر إليها الإمام الخميني ـ الذي كان قد انهى وبسرعة دراسة المقدمات والسطوح في الحوزة العلمية في خمين واراك ـ وهناك ساهم عملياً بدور فعال في تحكيم وجود الحوزة الفتية، ولم يمض وقت طويل حتى عُدّ الإمام الخميني من الفضلاء الاعلام في هذه الحوزة واشتهر في مجالات العرفان والفلسفة والفقه والاصول.

وكما اسلفنا إن حفظ كيان العلماء والمرجعية كان من الضرورات الملحة آنذاك، وذلك لافشال المخططات التي كان يُعدّها رضا خان ومن بعده، والتي كانت تستهدف علماء الدين، والحيلولة دون تحقيقهم اهدافهم المتوخاة. وعلى هذا الاساس نرى الإمام ـ ورغم ما كان بينه وبين آية الله العظمى الحائري ومن بعده آية الله العظمى البروجردي من اختلاف في وجهات النظر بشأن بعض المسائل حول كيفية مواجهة الحوزات العلمية ومراجع التقليد للظروف المستجدة، وحول دور العلماء بهذا الشأن ـ يقف على الدوم وحزم إلى جانبهما للدفاع عن المرجعية ودورها طوال فترة زعمتهما.

كان الإمام الخميني مولعاً بمتابعة القضايا السياسية والاجتماعية. وكان رضا خان قد اقدم في تلك السنوات ـ وبعد ان فرغ من تثبيت دعائم حكمه ـ على تنفيذ مخطط واسع للقضاء على مظاهر الثقافة الإسلامية في المجتمع الايراني. ففضلاً عن ممارسة انواع الضغوط ضد العلماء، اصدر اوامره بإلغاء مراسم العزاء والخطابة الدينية ومنع تدريس المسائل الدينية والقرآن وإقامة صلاة الجماعة في المدارس، وروّج للهمس حول نزع الحجاب وفرض السفور على النساء الايرانيات المسلمات. وقبل أن يترجم رضاخان اهدافه عملياً على مستوى واسع، بادر علماء الدين الايرانيون الملتزمون للاعتراض على ممارساته بوحي من معرفتهم بالاهداف غير المعلنة التي كان رضاخان ينوي تحقيقها. وللاعتراض على بعض هذه الممارسات، أقدم بعض علماء اصفهان الملتزمين بقيادة آية الله الحاج آقا نور الله اصفهاني عام (1927م) على الهجرة الجماعية إلى قم للاعتصام فيها، وترافقت هذه الحركة مع هجرة العديد من العلماء من مدن اخرى إلى قم ايضاً، وبالفعل فقد استمر هذا الاعتصام لمدة مائة وخمسة ايام (من 12 أيلول إلى 25 كانون الاول عام 1927م) انتهى بعدها بتراجع رضاخان ـ ولو في الظاهر ـ وتعهد رئيس الوزراء آنذاك (مخبر السلطنة) بتلبية مطالب المعتصمين. وباستشهاد قائد الانتفاضة في كانون الاول عام 1957 على يد عملاء رضاخان انتهى الاعتصام عملياً.

اتاحت هذه الحركة الفرصة لطالب العلوم الدينية الشباب روح الله الخميني الذي كان يتحلى باللياقات والاستعدادات اللازمة للمواجهة والتصدي، لان يطلع عن كثب ـ ومن خلال حضوره المباشر في صلب تلك الحركة ـ على اساليب المواجهة، وما يتعرض له العلماء من ظلم، علاوة على التعرف على ملامح شخصية رضاخان اكثر فأكثر.

من جهة اخرى كانت قد حصلت قبل اشهر من هذه الحادثة، في آذار عام 1927، مشادة كلامية بين آية الله البافقي ورضاخان، حوصرت على اثرها مدينة قم من قبل قوات الشرطة وتعرّض العالم المجاهد البافقي إلى الضرب والنفي إلى مدينة الريّ بأمر من رضاخان. هذه الحادثة والحوادث المشابهة وما كان يحصل في المجالس التشريعية في تلك الايام ـ خصوصاً الحركة الجهادية الدؤوبة التي كان يمارسها المجاهد المعروف آية الله السيد حسن المدرس ـ تركت تأثيرها على روح الإمام المرهفة الوثابة.

وحينما اصدر رضاخان امره بفرض الامتحانات على طلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية بقم هادفاً القضاء على الحوزة، انبرى الإمام الخميني لفضح الاهداف الخفية لهذا الامر وتصدي لمعارضته وحذر بعض العلماء المشهورين ـ الذين عدوا ذلك الامر ونتيجة لسذاجتهم امراً اصلاحياً ـ من مغبّة القبول به.

وللأسف فإن المؤسسة العلمائية الايرانية كانت تعيش آنذاك حالة الانزواء نتيجة الاعلام المكثف الذي كانت تمارسه اجهزة النظام الدعائية، وبفعل الظروف والاختلافات التي نجمت على الحركة الدستورية. وقد وصل الامر إلى درجة ان بعض المنحرفين فكرياً وطلاب الراحة القشريين راح يعارض بشدة تدريس ودراسة بعض المواد الدراسية الحوزوية كالعرفان والفلسفة التي تؤدي بالنتيجة إلى إثارة الوجدان والبحث في المسائل والمصائب الواقعة.

وقد بلغ الضغط بهذا الاتجاه حدّاً عرّض الإمام الخميني إلى تحمل ما لا يطاق من اجل تعطيل درسه في الفلسفة والعرفان والاخلاق، الامر الذي اضطره إلى اعطاء دروسه في الخفاء فكان حصيلة تلك المساعي تربية شخصيات من امثال العلامة الشهيد المطهري.

ونتيجة لمقاومة العلماء وابناء الشعب الايراني، فشل رضاخان إلى حد كبير، رغم كل ما اوتي من قوة، في تحقيق تطلعاته بالقضاء على الإسلام وفرض السفور ومنع الشعائر الدينية، وفي الكثير من الاحيان اضطر إلى التراجع والانسحاب.

بعد وفاة آية الله العظمى الحائري (30/ 1/ 1937م) واجهت الحوزة العلمية في قم خطر التشتت والانحلال. فبادر العلماء الملتزمون وعلى مدى ثمانية اعوام لادارة شؤونها وفي مقدمتهم أصحاب السماحة: السيد محمد الحجة، السيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخونساري رضوان الله عليهم. وفي هذه الفترة وخصوصاً بعد سقوط رضاخان تهيأت الظروف للمرجعية العليا، فاقترح ان يرفع آية الله البروجردي الذي كان من ابرز الشخصيات العلمية، لتسنم مقام المرجعية والحفاظ على كيانها خلفاً لآية الله الحائري. وبسرعة تمّ متابعة هذا الاقتراح من قبل تلامذة آية الله الحائري ومن ضمنهم الإمام الخميني، فسعى سماحته شخصياً في إقناع آية الله البروجردي للهجرة إلى قم وقبول المسؤولية الخطيرة المتمثلة في تزعم الحوزة العلمية.

لقد ادرك الإمام الخميني ـ ومن خلال اطلاعه على حساسية الظروف السياسية التي يمرّ بها المجتمع، والوضع الذي تعيشه الحوزات العلمية، وطبيعة حركة التاريخ التي كان يستلهمها من مطالعته المستمرة لكتب التاريخ المعاصر والمجلات والصحف الدورية الصادرة وقتئذ، وما كان يقوم به من زيارات متوالية إلى طهران والمشاركة في مجالس العلماء الاعلام من امثال آية الله المدرس ـ أدرك بأن الامل الوحيد بالتحرر والنجاة من النكسة التي اعقبت فشل الحركة الدستورية، وبالخصوص بعد تولي رضاخان للسلطة، يكمن في تسلح الحوزات العلمية بالوعي، وقبل ذلك ضمان استمرار وديمومة وجود الحوزات العلمية وتمتين عرى الارتباط بين الجماهير والمؤسسة العلمائية.

لدى هجرة آية الله السيد البروجردي إلى مدينة قم، عكف الإمام الخميني، باعتباره احد المجتهدين والمدرسين المعروفين في الحوزة العلمية بقم، على تحكيم اسس زعامة ومرجعية آية الله البروجردي، وقد بذل في هذا السبيل مساعٍ حثيثة. واستناداً لما ينقله طلابه واظب الإمام حينها على حضور درس المرحوم آية الله البروجردي في الفقه والاصول.

ورغبة منه في متابعة مسيرته في تحقيق اهدافه السامية، اعدّ الإمام الخميني برفقة آية الله مرتضى الحائري في عام (1949م) مقترحاً لإصلاح البنية العامة للحوزة العلمية، وقام بتقديمه إلى آية الله البروجردي (ره) وقد حظي هذا المقترح باستقبال ودعم تلامذة الإمام وطلبة العلوم الدينية الواعين.

ولو كان طبّق هذا المقترح عملياً في تلك الظروف، لأصبحت الحوزة العلمية مؤسسة ذات تشكيلات علميّة واسعة تسهل عليها اداء دورها المطلوب، غير أنّ الخناسين المتظاهرين بالقداسة الذين رأوا ان هذا المقترح سيؤدي إلى تعكير صفو اوضاعهم المترفة الهادئة، اصيبوا بالاضطراب فانطلقوا يعارضون ويحبطون حتى بلغ الأمر ان غيّر آية الله البروجردي نظرته الاولى ورغبته القلبية في ذلك، فاشاح اخيراً عن قبول هذا المقترح. ونتيجة لذلك تأثر آية الله مرتضى الحائري فسافر للاقامة في مشهد مدة من الزمن، غير انّ الإمام الخميني أصرّ على البقاء رغم قسوة الظروف ورغم تألمه مما حدث وما تلاه من حوادث مشابهة، آملاً في حركة الوعي المرتقبة الوقوع في الحوزة العلمية.

قبل ثمانية أعوام من ذلك التاريخ وفي (1941م) كانت ايران قد تعرضت للاحتلال من قبل جيوش الحلفاء، وقد استسلم المستبد ـ الذي أمضى عشرين عاماً في تجهيز قواته المسلحة منفقاً المبالغ الطائلة عسى ان يتمكن بواسطتها من حبس الانفاس في صدور ابناء شعبه ـ أمام هجمات الغزاة، ووفقاً لما اقرّ به ابنه محمد رضا فإن جنوده قد بادروا للفرار من مختلف جبهات المواجهة أمام اولى الاطلاقات التي اطلقتها قوات الحلفاء وقبل ان يتقابلوا معهم. وإثر ذلك ارغم رضاخان على التنازل عن العرش رغم كل ادعاءاته، وغادر البلاد مجبراً.

كان رد الفعل الشعبي متناقضاً، فمن جانب كانت الجماهير تعيش الحزن والانكسار نتيجة اجتياح قوات الحلفاء لاراضي بلادهم، وفي الوقت نفسه كانت مشاعر السرور والفرح البالغ تعمّ الجميع نتيجة سقوط المستبد ـ الذي كانت امواله المنقولة التي جمعها من كدح الفقراء ومن سنين النهب للثروات الوطنية ـ تجاوز الستمائة وثمانين مليون من الريالات الايرانية (في ذلك الوقت).

صدر الامر بتعيين الملك الجديد من السفارة الانجليزية وبموافقة عضو آخر من قوات الحلفاء وهو روسيا، وكان الاختيار قد وقع على محمد رضا البهلوي، وبذلك بدأ فصل جديد من العذاب والعناء استمر لسبعة وثلاثين عاماً تميزت ببيع استقلال البلاد وعزتها.

امتاز العامان الأوّلان من حكومة محمد رضا بالتزلزل وعدم الاستقرار، الأمر الذي اتاح الفرصة للجميع بأن يلتقطوا انفاسهم، فبادرت الاحزاب والشخصيات السياسية إلى توضيح اهدافها ومراميها، فتوجه البعض نحو القومية التي كانت تتناغم مع اهداف الملك الشاب، في حين توجه جمع آخر من السياسيين نحو النفوذ في هيكل الدولة والتشكيلات التشريعية. وشهدت الساحة آنذاك غياب بعض العلماء المجاهدين من امثال آية الله المدرس، الذين كان وجودهم وقتئذ سيمثل دعامة اساسية لخيمة الثورة الشعبية، إذ تعرضوا للتصفية الجسدية على ايدي ازلام رضاخان، كذلك فإنّ الشيوعيين والاحزاب السياسية المرتبطة بالخارج كانت تعلن عن مواقفها بناءً على الاوامر الصادرة من موسكو وغيرها.

اما الحوزة العلمية في تلك الايام فقد كانت عاجزة عن تحمل مسؤولياتها الاجتماعية ودخول ميدان الاحداث ـ كما اشرنا سابقاً ـ وذلك نتيجة للحملات المسعورة التي شنها رضاخان ضدها ونتيجة لنفوذ الانتهازيين والنفعيين فيها ممن ساهموا في انزوائها وعزلها عن المجتمع.

ومن الطبيعي ان لا تكون تلك حالة عامة شاملة، فقد كان جمع من الاخيار المجاهدين من امثال نواب الصفوي وانصاره ـ ممن كانوا يعتقدون بمبدأ تشكيل الحكومة الإسلامية ـ يعدّون العدّة في تلك الظروف المضطربة استعداداً لخوض مرحلة الجهاد المسلح البطولي. وقد وصف الإمام الخميني غربة المجاهدين في سنوات الكبت والاختناق تلك التي مرت عليهم في عهد رضاخان بأبيات من الشعر قال فيها:

أين نتوجه للشكوى من جور رضاخان         وقد حبست الانفاس في الصدور

كيف نصرخ ولم يبق من                     الانفاس ما يمكننا من الصراخ!

انتهز الإمام الخميني الفرصة المتاحة فقام بتأليف ونشر كتابه "كشف الاسرار" (عام 1943م) الذي تعرّض فيه لذكر المآسي التي تميزت بها فترة العشرين عاماً من الحكم البهلوي ودافع فيه عن الإسلام والمؤسسة العلمائية، وازال الشبهات التي اثارها المنحرفون، ونوّه في كتابه هذا إلى فكرة الحكومة الإسلامية وضرورة النهوض لاقامتها.

ثم اصدر سماحته وبعد عام من ذلك التاريخ (نيسان 1944م) ما يمكن اعتباره اول منشور سياسي له، طالب فيه ـ وبصراحة ـ علماء الإسلام والأمّة الإسلامية بالنهوض والانتفاضة العامة. ويمكن القول بأن لهجة البيان ومضمونه وطبيعة المخاطبين الذين خاطبهم تشير كلها إلى أنّ الإمام لم يكن يتوقع قياماً وشيكاً من الحوزة في مثل تلك الظروف المؤسفة التي كانت تمر بها. وان الدافع وراء اصدار هذا المنشور كان دق اجراس الخطر وتنبيه طلبة العلوم الدينية الشباب لحقيقة ما يدور حولهم. وكما كان متوقعاً لم يتلق الإمام جواباً مناسباً على دعوته للنهوض والانتفاضة، غير أنّ بصيص الامل الذي دبّ في وجدان الطلبة، دفعهم للالتفات حول الإمام، إذ وجدوا في محاضر دروسه الأنس والحقيقة.

هذا وكانت ملامح شخصية الإمام ومواقفه السياسية قد اتضحت اكثر فأكثر بعد تحركه الاخير. وبهذا النحو كانت قد تشكلت بالتدريب نواة من تلامذة الإمام ممن يتفقون معه في الفكر والرؤية، وكان لاغلبهم ادوار هامة في احداث انتفاضة الخامس من حزيران 1963، وفي سنوات الاختناق التي تلتها.

وباختصار فإنّهم واصلوا مسيرتهم مع الإمام حتى ما بعد الثورة، فمن تمكن منهم من العبور بسلام من مضيق ما قبل الثورة وخرج سالماً من المعتقلات وأنواع التعذيب ـ الذي كان المجاهدون يعرضون له ـ وادّى دوره في المواقع الحساسة من هيكل النظام الإسلامي في أشدّ الظروف حساسية وحرجة.

وطبقاً للوثائق التاريخية والمذكرات المتوافرة، بذل سماحة الإمام جهده الجهيد في المجال الحوزوي خلال فترة مرجعية وزعامة آية الله البروجردي (ره) ـ فضلاً عن ممارسته دوره المعهود في التدريس والبحث وسائر المجالات المختلفة ـ للدفاع عن موقع المرجعية والحوزات العلمية من جانب، ونشر الوعي السياسي والاجتماعي وتحليلاته للمسائل السياسية الجارية والمبادرة لاطلاق التحذيرات في الأوقات المناسبة حول اغراض النظام الملكي والحيلولة دون نفوذ العناصر المنحرفة والمترفة إلى اوساط الحوزات العلمية من جانب آخر.

وفي غضون ذلك، كان الإمام يواصل الاتصالات بالشخصيات السياسية الواعية في طهران من امثال آية الله الكاشاني ويتابع الاحداث بدقة بشتى السبل بما في ذلك متابعة جلسات مجلس الشورى الوطني والنشرات المهمة التي كانت تصدر وقتئذ.

عندما دبّ الهمس (عام 1949م) حول تشكيل المجلس التأسيسي لتغيير الدستور واطلاق العنان للشاه، اشيع بأنّ آية الله العظمى البروجردي كان راضياً بتلك التغييرات المرتقبة وان مشاورات قد جرت بالفعل بينه وبين بعض المسؤولين بهذا الشأن، تأثر الإمام الخميني لهذه الشائعة فبادر للتحذير بصراحة ووضوح من مغبة هذا الامر، ثم بعث رسالة مفتوحة، اعدها بالتعاون مع بعض المراجع والعلماء الاعلام حينها إلى آية الله البروجردي يستطلع حقيقة الأمر. الأمر الذي دفع آية الله البروجردي إلى اصدار بيان كذّب فيه وجود أي اتفاق. وفي الوقت نفسه اصدر آية الله الكاشاني بياناً من منفاه في لبنان طالب فيه بضرورة الوقوف في وجه القرارات والخطوات التي يزمع الملك القيام بها.

وحينما جرت انتخابات الدورة السادسة عشرة لمجلس الشورى الوطني، وتمّ انتخاب آية الله الكاشاني من قبل اهالي طهران، وقد ادى الائتلاف والتنسيق بين جناح آية الله الكاشاني والجبهة الوطنية إلى ترجيح كفة الميزان لصالح انصار نهضة تأميم النفط ولغير صالح الملك، كذلك قام فدائيو الإسلام الذين كانوا يتمتعون بدعم آية الله الكاشاني بعدة عمليات خاطفة لم يبق لها مثيل تمّ من خلالها انزال ضربات موجعة في هيكل الحكومات العميلة للملك. واعتماداً على هذا التأييد الذي توفر له استطاع الدكتور مصدق ان يتسنم قيادة البلاد، ثم انطلقت انتفاضة الثلاثين من تير 1331 (12 تموز 1952م) في طهران، فتلفعت ايران بوشاح الفرح والسرور نتيجة تحقق مطالبها القديم بتأميم النفط، غير انه لم يمض وقت طويل حتى ظهرت ملامح عدم الانسجام في جبهة الائتلاف، وتفاقمت الاختلافات بين (فدائيي الإسلام) وآية الله الكاشاني، وقادة الجبهة الوطنية إلى حد المواجهة احياناً، إذ اصرّ المرحوم الكاشاني على رفض اقتراح دفع الغرامة للانجليز في مقابل تأميم النفط، وكان يعتقد بأنّ على الإنجليز أنفسهم ان يدفعوا الغرامة لايران عن نهبهم النفط الايراني لمدة خمسين عاماً، ولهذا السبب حذر سماحته الدكتور مصدق بشدة من مغبة التنازل أو المساومة في هذا الشأن.

من جانب آخر كان آية الله الكاشاني يعارض بشدة استبدال الانجليز بالأميركان والشركات الأميركية في مجال تعدين النفط وسائر المجالات الاقتصادية في البلاد. في حين ان الغالبية من المسؤولين في حكومة مصدق كانوا يميلون بصراحة نحو هذا الاتجاه.

كذلك كانت مشاركة بعض العناصر غير الإسلامية في نهضة تأميم النفط والاعتماد على (حزب تودة) الشيوعي، من جملة الأمور موضع الخلاف، إذ ادى نفوذ تلك العناصر المتزايد جنباً إلى جنب تنامي صلاحيات رئيس الوزراء، إلى تنامي وتيرة الاعلام المبرمج المعادي للإسلام، وبلوغ خيانات حزب تودة ذروتها وانزواء التيار المتديّن في النهضة مما اتاح الفرصة لامريكا للقيام بانقلابها الناجح في (19 آب 1953م) واعادة الملك ليمسك بزمام السلطة المطلقة، والتخلص من معارضيه.

ويتضح من خطابات الإمام وكلماته التي ألقاها حول أحداث الانتفاضة الوطنية بأنّ سماحته كان مدركاً هشاشة هذا الائتلاف مسبقاً.

حققت النهضة الوطنية انتصارات باهرة على طريق تحقق اهدافها المعادية للاستعمار، إلاّ أنّ عملية تأميم صناعة النفط كانت تنطوي على ثغرات مقطعية وزمانية حالت دون تحقيقها ـ منفردة ـ ديمومة النهضة على المدى البعيد. ان عدم إيمان التيار الوطني في النهضة بالشعارات والاهداف المطروحة من قبل التيار الديني الذي كان يحظى بتأييد الجماهير، وغياب القيادة الموحدة، ونفوذ العناصر المنحرفة وغياب الاهداف السياسية والثقافية المشتركة التي باستطاعتها استقطاب الجماهير الايرانية المسلمة على المدى البعيد، ناهيك عن التحركات الأميركية والضغوط الخارجية. كل هذا كان من جملة العوامل التي حالت دون امكانية استمرار النهضة.

لقد مثّلت نهضة تأميم النفط صورة مصغّرة للظروف السياسية والاجتماعية التي احاطت بالحركة الدستورية واتسمت بنفس نقاط قوتها وضعفها، لذلك واجهت المصير نفسه. حتى التيارات الدينية لم تكن تتصف بوحدة النظر والدعم الشعبي. إذ ان نشاط حركة فدائيي الإسلام وكذلك مساعي آية الله الكاشاني ليس فقط لم تكن تحظى بتأييد آية الله العظمى البروجردي المرجع والزعيم القوي آنذاك، بل كانت تعصف بها خلافات حادة أيضاً.

وفي ظروف كهذه لم تتمكن ايضاً المواقف الصريحة الداعمة التي وقفتها شخصيات معروفة من امثال آية الله العظمى الخونساري في قم والمواقف الضمنية المؤيدة من امثال الإمام الخميني من التأثير في مجرى الاحداث.

على أيّة حال قبل ان يتذوق الشعب الايراني حلاوة نهضة التأميم فوجئ بطعم المرارة الناجمة عن الاختلافات والحوادث المريرة اللاحقة التي ختمت بانقلاب (التاسع عشر من آب). ورغم أنّ فدائيي الإسلام لم يلقوا السلاح الا أنّهم وبعد عامين ـ أي في (16 تشرين الثاني 1955م)، نتيجه لفشل عملية اغتيال حسين علاء، رئيس الوزراء آنذاك الذي كان يهمّ بالسفر إلى بغداد للتوقيع على حلف بغداد (السنتو) ـ تعرضوا للاعتقال وحكم على قادتهم بالاعدام في محكمة عسكرية سرية وذلك في شهر كانون الاول من عام 1955م، ولم تثمر مساعي الإمام الخميني وسائر العلماء للحيلولة دون تنفيذ حكم الاعدام بهم.

هذه الاحداث المريرة تركت اثرها على روح الإمام الخميني المرهفة، إلا انها مثلت تجربة قيمة للمراحل اللاحقة من حركته الجهادية.

اما الملك وبلاطه فقد اصبحوا بعد الانقلاب ـ وفي ظروف تختلف عن المرحلة السابقة ـ تحت الهيمنة الأميركية، إذ أخلى الانجليز مواقعهم للأميركان. وبسرعة تم تأسيس دائرة الأمن (السافاك) عام (1957م) وضرب المعارضين بقسوة، وتشديد الحكم القمعي لاعداد الظروف الاجتماعية اللازمة لتنفيذ الاصلاحات الأميركية. وخلال الستينات والسبعينيات راحت الشركات الأميركية تتسابق في التوجه إلى الخليج الفارسي لاحتلال المواقع التي كان يتمتع بها الاستعمار الانجليزي. كذلك فإن اجواء الحرب البادرة والمنافسة الشديدة بين أميركا والاتحاد السوفيتي كانت قد زادت من حساسية منطقة الخليج الفارسي الستراتيجية، وكانت انظار البيت الابيض تتطلع إلى الثروات النفطية الإيرانية والاقليمية، لذا أقدم ساسة البيت الابيض على تفويض شاه ايران لعب دور شرطي المنطقة والحفاظ على مصالح الغرب فيها، وقد تمّ ترجيحه للعب هذا الدور على جميع الانظمة الاخرى في المنطقة من جميع الجهات. وكانت أميركا تسعى إلى تحقيق هدف آخر من التحالف مع الشاه، وتوفير الدعم له. فالمواجهة بين الدول الإسلامية والكيان الاسرائيلي الغاصب كانت امراً لابد منه، لذا فإن الطبيعة الخيانية للعائلة البهلوية وشخصية الشاه محمد رضا، اعتبرت في تصورهم عوامل تساعد في امكانية الاستفادة من النظام الملكي لايجاد شرخ في صفوف العالم الإسلامي. وكان للنفط الملكي لايجاد شرخ في صفوف العالم الإسلامي. وكان للنفط في هذا المخطط دور اساسي ايضاً، إذ أن ازمة الطاقة كانت الأمر الشاغل للغرب في حالة وقوع مواجهة عسكرية بين الدول النفطية الإسلامية واسرائيل، لذا فإن توسيع عمليات التنقيب عن النفط في ايران، وزيادة استثماره وتقوية النظام الملكي كانت تعدّ الضمانة الوحيدة للتقليل من الازمة المتوقعة في مثل هذه الظروف.

غير ان الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية التقليدية في ايران المعتمدة على الزراعة بشكل أساسي، كانت تعتبر عائقاً أساسياً أمام اجراء الاصلاحات الأميركية في إيران. فإيران كانت تفتقر في تلك الظروف إلى الاستعداد الكافي للتوسع في انتاج النفط وزيادة مدخولاتها النقدية من بيعه مستقبلاً ـ وهي الايرادات التي كان ينبغي ان تنفق في شراء التجهيزات العسكرية والسلع والبضائع الأميركية الأخرى ـ لذا فقد انهالت اللوائح والمشاريع والاقتراحات على مجلسي (الشيوخ والشورى) لتغيير الظروف وتهيئة الأرضية في إيران. واستناداً لما ورد في الاعترافات الصريحة التي أدلى بها مسؤولو النظام السابق وكذلك ما اظهرته الوثائق والمستندات التي تمت مصادرتها من وكر التجسس الأميركي (السفارة الأميركية السابقة) في إيران، فإنّ إعداد مضامين أغلب تلك اللوائح كان يتم إما في أميركا أو في سفارتها في إيران.

فكان مشروع الاصلاح الزراعي خطوة اختبارية اريد بها اعداد الارضية للمصادقة على اصول ثورة الملك البيضاء. اجل تمَّ اختيار المشروع كأول خطوة مدروسة، إذ رافقت طرح مشروع الاصلاح الزراعي حملة دعائية مكثّفة وشعارات طنانة كالوقوف بوجه الباشوات والاقطاعيين، وتقسيم الاراضي بين الفلاحين والمحرومين، وزيادة الانتاج.. إلى ما شابه ذلك. ومن هنا كانت المعارضة للاهداف الخفية لمشروع الاصلاح الزراعي، تعدُّ بمثابة دعم الاقطاعيين وملاكي الاراضي الكبار وكانت تقمع بشدة.

تزامنت التحركات الاميركية والشاهنشاهية الجديدة عام (1961م) مع وقوع حادثتين مؤلمتين. ففي الثلاثين من آذار 1961م، التحق آية الله العظمى السيد البروجردي بالرفيق الاعلى، الذي اعادت خدماته الجليلة وشخصيته العلمية، للمرجعية موقعها المتميز باعتبارها اهم ملاذ ديني للجماهير في ميدان الحياة الاجتماعية في ايران. فوجود سماحته بحدّ ذاته كان يمثل عائقاً اساسياً إمام تحقيق النظام الملكي لمخططاته. ومن هنا اعتبرت وفاته خسارة لا تعوض. وبعد عام تقريباً ودع الحياة ايضاً العالم المجاهد آية الله الكاشاني، الذي كان اسمه ذات يوم يبعث الرعب في كيان الشاه.

إمام الإمام الخميني ـ وكما هو ديدنه ـ فإنه لم يخط خطوة واحدة في سبيل المرجعية بعد وفاة آية الله البروجردي، رغم التفاف مجتمع الحوزة والجماهير حوله، بل رفض بشدة الاقتراحات والخطوات التي قام بها بعض اصحابه ومريديه في هذا الاتجاه. وكان ذلك في وقت كان الإمام الخميني قد اتمّ تعليقته على كتاب العروة الوثقى منذ خمسة اعوام قبل وفاة آية الله البروجردي، وفي تلك السنوات بالتحديد كان سماحته قد كتب حاشية على كتاب وسيلة النجاة لتكون رسالته العملية.

ان النظرة الزاهدة التي كان الإمام الخميني يتحلى بها تجاه الدنيا، وإعراضه عن المقامات والمناصب الاعتبارية الدنيوية، يمكن استشرافها من بحوثه الأخلاقية والعرفانية المعمقة التي وسمت آثاره المكتوبة، كشرح الاربعين حديث وسرّ الصلاة وآداب الصلاة التي كان قد كتبها قبل سنوات من ذلك التاريخ.

بعد ارتحال آية الله البروجردي وتجزؤ المرجعية الكبرى، أظهر النظام الملكي نشاطاً اكبر واندفاعاً في تحقيق الاصلاحات التي كانت أميركا ترغب فيها، كما انه سعى في الوقت ذاته إلى إخراج المرجعية من ايران. غير ان النظام كان مخطئاً في حساباته.

ففي (8 تشرين الاول 1962م) صادقت وزارة اسد الله علم على تعديل لائحة مجالس الاقاليم والمدن، وتغيير بعض مضامينها كاشتراط إسلامية المرشحين، والقسم بالقرآن الكريم، واشتراط الذكورة في المرشحين والناخبين. لقد كانت المصادقة على اشتراك النساء في الانتخابات تخفي وراءها اهدافاً اخرى. كما أن حذف وتغيير شرطي الذكورة والإسلام كان يراد منه ـ على وجه الدقة ـ ادخال العناصر البهائية في المراكز الحساسة من هيكل النظام الحاكم.

وكما اشرنا سابقاً، ان دعم الملك للكيان الصهيوني وتوسيع العلاقات الايرانية الاسرائيلية كانت شروطاً أميركية في مقابل توفير الدعم للملك، ولتحقيق هذه الشروط كان لابد من زيادة نفوذ اتباع المسلك الاستعماري البهائي في السلطات الايرانية الثلاث.

وبمحض انتشار خبر المصادقة على اللائحة المذكورة، بادر الإمام الخميني ومجموعة من العلماء الاعلام في قم وطهران ـ وبعد التشاور ـ إلى اعلان معارضتهم العامة والشاملة لها.

كان للإمام الخميني دور فاعل في توضيح الاهداف الحقيقية للنظام الملكي والتنبيه إلى خطورة الرسالة الملقاة على عاتق العلماء والحوزات العلمية في تلك الظروف.

أثارت البرقيات والرسائل المفتوحة المتعرضة التي بعث بها العلماء إلى الملك وإلى رئيس الوزراء ـ اسد الله علم ـ موجة عارمة من الدعم والتأييد لدى طبقات الشعب المختلفة. كما أنّ برقيات الإمام الخميني التي بعث بها إلى الملك ورئيس الوزراء تميزت باللهجة الحادة والحازمة المحذرة. يقول سماحته في إحدى تلك البرقيات: "إنّني انصحكم مجدداً بأن تطيعوا الله تعالى وتنصاعوا للدستور، وان تحذروا العواقب الوخيمة لمخالفتكم للقرآن واحكام العلماء الاعلام وزعماء المسلمين وانتهاك الدستور، فلا تعرّضوا البلاد عمداً وبلا مبرر للخطر، وإلا فإن علماء الإسلام سيقولون رأيهم فيكم".

بادر النظام الملكي بادئ الأمر إلى التهديد وتكثيف الاعلام المعادي ضد المؤسسة العلمائية. وصرح اسد الله علم في مقابلة اذاعية اجريت معه بالقول "إنّ الحكومة لن تتراجع عن تنفيذ مشروعها الإصلاحي الذي بدأته".

ولكن مع ذلك فإن الحركة الشعبية تزايدت باطراد، فعطلت الاسواق في طهران وقم وبعض المدن الاخرى، وتجمع الناس في المساجد للتعبير عن دعمهم وتأييدهم لحركة العلماء.

لم يمض اكثر من شهر ونصف على بداية الحادثة، حتى تراجعت الحكومة عن تنفيذ مشروعها، وابرق الملك ورئيس وزرائه برسالتيهما الجوابية إلى العلماء هادفين التودد إليهم وكسب رضاهم، غير أن النظام الملكي امتنع عن مخاطبة الإمام الخميني لما عرفه عنه من قوة الشخصية وثباتها.

رأى بعض العلماء في الحوزة العلمية بأن موقف الدولة هذا مقنع، وطالبوا بوقف الانتفاضة؛ غير أنّ الإمام الخميني عارض ذلك بشدة، فسماحته كان يعتقد بأنّ على الحكومة أن تبادر لالغاء لائحة مجالس الاقاليم والمدن بشكل رسمي وعلني. ففي رسالته الجوابية على سؤال بعض الكسبة والتجار من اهالي قم حول لائحة مجالس الاقاليم والمدن كان سماحته قد كشف النقاب عن الاهداف التي رامها النظام من وراء هذه اللائحة واشار إلى ان المقصود ادخال عناصر البهائيين والجواسيس الاسرائيليين في تركيبة النظام الايراني، إذ جاء في جانب من رسالته: "إنّ الشعب المسلم لن يسكت ما لم تتدارك هذه الاخطار، ولو رضي احد بالسكوت فسيكون مسؤولاً أمام الله القادر، وسيحكم عليه بالزوال في هذا العالم" كما حذر سماحته في ذات الرسالة نواب مجلسي الشيوخ والشورى من مغبّة التصويت لصالح هذه اللائحة قائلاً: "إنّ الشعب المسلم وعلماء الإسلام أحياء واعوان، وانهم سيقطعون أيّ يدٍ خائنةٍ تمتد للمساس باصول الإسلام واعراض المسلمين".

واخيراً اذعن النظام الملكي للهزيمة، ففي 28 تشرين الثاني 1962م، ألغت الحكومة اللائحة السابقة، وأبرقت للعلماء والمراجع في طهران وقم تعلمهم بالأمر. غير أنّ الإمام الخميني أصرّ مجدداً على مواقفه السابقة وأعلن في اجتماع ضم العلماء الاعلام في قم بأن إلغاء اللائحة بشكل سرّي أمر غير كافٍ وأكد بأنّ الحركة ستتواصل ما لم يعلن أمر الإلغاء في أجهزة الاعلام.

وفي اليوم التالي، أعلن خبر إلغاء لائحة مجلس الاقاليم والمدن في صحف النظام، واحتفلت الجماهير بأول نصر كبير تحقق لها بعد نهضة تأميم صناعة النفط.

وفي حديث له ـ حيث يعيش الشعب افراحه هذه ـ قال الإمام الخميني: "الهزيمة الظاهرية ليست مهمة، المهم هو الهزيمة الروحية. وإن المرتبط بالله لا يهزم، بل الهزيمة لاولئك الذين تمثل الدنيا غاية آمالهم… فالله لا يهزم. ولا تهنوا ولا تحزنوا… خلال الشهرين الماضيين اضطرتني الاحداث إلى الاكتفاء بساعتين من النوم يومياً… ومرة أخرى إذ رأينا أنّ شيطاناً من الخارج استهدف بلادنا، فنحن كما نحن والدولة كما هي… النصيحة من الواجبات… فعلى العلماء ان ينصحوا الجميع، بدءً من الملك وحتى آخر فرد في البلاد…".

وهكذا كانت حادثة لائحة مجالس الاقاليم والمدن تجربة ناجحة وهامة للشعب الايراني، خاصة وقد تعرف من خلالها على شخصية تؤهلها سجاياها لقيادة الامة الإسلامية.

ورغم هزيمة الملك في حادثة مجالس الاقاليم والمدن، إلاّ ان أميركا واصل الضغط عليه لتنفيذ الاصلاحات التي كانت تخطط لها. وفي مطلع عام 1963م أعلن الملك عن مبادئه الاصلاحية الستة وطالب اجراء استفتاء عام بشأنها. فاعلنت الاحزاب القومية عن موافقتها من خلال رفعها لشعار "نعم للاصلاحات، لا للاستبداد" كما أنّ الشيوعيين أيضاً ـ وانطلاقاً من رؤيتهم بأن الاصلاحات الملكية ستسرع من مسير ديالتيكية النظام الاقطاعي نحو النظام الصناعي والرأسمالي ـ أعلنوا عن موقفهم المنسجم مع الموقف الذي اعلنته اذاعة موسكو، واعتبروا اسس الثورة البيضاء اسساً تقدمية وهم انفسهم الذين نعتوا نهضة الخامس من حزيران بأنها حركة رجعية استهدفت الدفاع عن الاقطاعيين.

ومرة اخرى دعا الإمام الخميني المراجع والعلماء الاعلام في قم لدراسة الموقف والنهوض ثانية. لكنّ اولئك الذين كانوا يرون المرجعية الدينية منحصرة في مباشرة الامور الدينية للناس لا تحمّل المسؤولية في مواجهة المصائب والنوازل التي تحلّ بالامة الإسلامية، لم يرق لهم امر النهوض. ورغم أنّ اهداف النظام الملكي غير المعلنة من وراء ذلك الاستفتاء وتلك الاصلاحات كانت واضحة لشخص الإمام، وان المواجهة أمر لابدّ منه، إلا أنّ اجتماع العلماء قرر بالاجماع فتح باب الحوار مع الشاه واستكشاف نوياه.

كانت الرسائل المتبادلة بين الطرفين (الشاه والعلماء) ترسل بواسطة مبعوثي الطرفين للتفاوض، وفي عدة مراحل مكوكية. وفي لقاء لآية الله كمال وند، هدد الملك بأنّ الاصلاحات سيتم تنفيذها باي ثمن ولو كان بسفك الدماء وتخريب المساجد!

في الاجتماع اللاحق للعلماء الاعلام بقم، طالب الإمام بتحريم المشاركة في الاستفتاء العام الذي طرحه الملك، لكنّ الجناح المحافظ الذي كان حاضراً في الاجتماع، عدّ المواجهة في تلك الظروف بمثابة "نطح الصخرة" واعتبرها امراً عديم الجدوى. واخيراً ونتيجة لاصرار الإمام الخميني وثباته على موقفه، تقرر ان يقوم المراجع والعلماء بمعارضة الاستفتاء علناً وتحريم المشاركة فيه. وفي الثاني والعشرين من كانون الثاني عام 1962م اصدر الإمام بياناً شديد اللهجة، ادى انتشاره إلى تعطيل البازار المركزي بطهران، وخروج الجماهير في تظاهرات معارضة ردّ عليها رجال الشرطة. ومع اقتراب موعد الاستفتاء المفروض، اتخذت المعارضة الشعبية ابعاداً جديدة. مما اضطر الشاه ـ ولاجل التخفيف من حدّة المعارضة ـ إلى السفر إلى قم.

كان الإمام الخميني يعارض بشدة فكرة خروج العلماء لاستقبال الشاه، بل وحرّم الخروج من المنازل والمدارس يوم وصوله إلى قم. وكان تأثير هذا التحريم كبيراً إلى درجة جعلت المتولي لحرم السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم (ع)، الذي يعتبر اهم منصب حكومي في المدينة، يمتنع عن الخروج لاستقبال الشاه، الامر الذي ادى إلى عزله عن منصبه.

ولدى وصوله عبّر الشاه عن سخطه على علماء الدين والجماهير بأشد العبارات سقوطاً وفظاظة، عبر خطابه الذي ألقاه في جمع من الموظفين الحكوميين وعملاء النظام الذين اصطحبهم معه من طهران.

وبعد يومين من زيارة الملك لمدينة قم، اجري الاستفتاء في وضع مؤسف، إذ لم يشارك فيه غير عناصر النظام وأزلامه. وقد سعى النظام من خلال وسائل اعلامه التي كانت تكرر اذاعة برقيات التهنئة التي بعث بها المسؤولون الأميركان والدول الاوروبية، إلى اخفاء فضيحته الناجمة عن اعراض الجماهير عن المشاركة في الاستفتاء.

واصل الإمام الخميني فضح النظام واغراضه ونواياه من خلال الخطابات والبيانات، فكان ضمن ما اصدره بيان حازم ومستدل عرف فيما بعد بـ "بيان التسعة"، استعرض فيه مخالفات الملك وحكومته للدستور، وتوقع فيه ان تؤدي الاصلاحات الملكية إلى تدهور الزراعة وضياع استقلال البلاد، ورواج الفساد والفحشاء كنتائج قطعية مسلّمة.

واستجابة لاقتراح الإمام الخميني، تم تحريم الاحتفال بعيد النوروز لعام 1342 (21 آذار 1963م) اعتراضاً على ممارسات النظام. وقد أطلق الإمام الخميني في بيانه الذي اصدره بهذا الخصوص عبارة "الثورة السوداء" على ما سُميّ بـ "الثورة البيضاء"، كما أنّه فضح انصياع الملك للمخططات الأميركية الإسرائيلية، وكان سماحته قد اعلن في هذا البيان: "وإني لا أرى حلاًّ أن يصار إلى اقالة هذه الحكومة المستبدة بجريرة مخالفة أحكام الإسلام وانتهاك الدستور، وتشكيل حكومة ترتكز إلى أحكام الإسلام وتعي معاناة الشعب الايراني. اللهم لقد أدّيت واجبي ـ اللهم قد بلّغت ـ وإذا مُدَّ في عمري فإني سأواصل أداء تكليفي باذن الله".

ان ادراك اهمية هذا الكلام لا يتسنى إلاّ لاولئك المطلعين على السجون الرهيبة والاضطهاد الذي كان سائداً في تلك الايام، إذ كان اقل انتقاد يقود إلى السجن والتعذيب والنفي.

من جانب آخر فإن الشاه الذي كان قد طمأن واشنطن باعداد المجتمع الإيراني لتقبل الإصلاحات الأميركية واطلق على اصلاحاته اسم "الثورة البيضاء"، رأى ان معارضة العلماء له ستكلفه ثمناً باهظاً، لذا شرعت اجهزة الاعلام بشن حملة واسعة ضد العلماء والإمام الخميني وقرر الملك سحق النهضة.

وفي الثاني من فروردين 1342ش (22 آذار 1963م) ـ الذي صادف ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (ع) ـ هاجم ازلام النظام المسلحين، متنكرين بملابس مدنية، تجمع طلاب العلوم الدينية في المدرسة الفيضية، ثم قامت قوات الشرطة بالهجوم على المدرسة الفيضية مستخدمين اسلحتهم النارية فقتلوا وجرحوا الكثيرين من الطلاب. وفي الوقت ذاته تعرضت المدرسة الطالبية في تبريز لهجوم مماثل. وفي غضون تلك الاحداث كان منزل الإمام الخميني يستقبل كل يوم مجاميع كثيرة من الثوريين والجماهير الغاضبة التي كانت تأتي للتعبير عن تضامنها وتعزيتها ودعمها للعلماء وللاطلاع على آثار جريمة النظام في قم.

وكان الإمام الخميني يحمّل الملك شخصياً وبصراحة ـ اثناء خطاباته في الجماهير ـ المسؤولية الكاملة عن تلك الجرائم وعن التحالف مع إسرائيل، ويحثّ الجماهير على القيام. وفي خطابه الذي ألقاه في الأول من نيسان عام 1963م انتقد بشدة سكوت علماء قم والنجف وسائر البلاد الإسلامية ازاء جرائم الملك الاخيرة، قائلاً: "ان السكوت اليوم يعني التضامن مع النظام المتجبر".

وفي اليوم التالي أي في الثاني من نيسان عام 1963م اصدر الإمام بيانه المعروف تحت عنوان "محبة الملك تعني النهب". وقد وضع الإمام في بيانه هذا ـ الذي يعدّ من اشد بياناته السياسية لهجة ـ الملك في قفص الاتهام وأكّد في خاتمة بيانه ان التقية في مثل هذه الظروف حرام، وان اظهار الحقائق واجب (ولو بلغ ما بلغ). وخاطب الإمام الخميني في بيانه هذا الشاه وازلامه قائلاً: "لقد أعددت اليوم قلبي لتلقي طعنات حراب ازلامك، ولكني غير مستعد لقبول الظلم ولن ارضى بالخضوع إمام تجبر النظام".

كان الإمام الخميني قد اختار طريقه بوعي. ولديه الآن حصيلة غنية من التجارب السياسية والمواقف الجهادية الحلوة والمرّة. ويرى أنّ بانتظاره وقائع خطيرة وان إمامه طريقاً محفوفاً بالمخاطر. غير انه لا يتحرك بوحي من الماضي أو المستقبل. انه يفكر دوماً بأداء الواجب الشرعي رافعاً شعار "العمل بالتكليف ولو بلغ ما بلغ".

ان معنى "الهزيمة والنصر" في منطق الإمام الخميني غير ذلك الذي اعتاد عليه السياسيون المحترفون. فهو خلافاً لكثير من المناضلين المشهورين والقادة والاعلام من سياسي العالم، الذين يدخلون أولاً الميدان السياسي بأيّ وسيلة ودافع، ثم يحرصون على مظهرهم السياسي ودورهم وتتشكل شخصيتهم وسط ذلك الميدان المضطرب ـ دخل الميدان السياسي ومارس دوره القيادي للثورة الإسلامية في عام 1963م بعد أن قطع شوطاً كبيراً في مسيرة التهذيب وكسب الفضائل المعنوية والمعارف الحقيقية بسطوحها العالية، ومارس الجهاد الاكبر لسنوات طويلة. فالإمام كان يعتقد بأنّ بناء النفس والجهاد الذاتي مقدم على الجهاد الخارجي، حتى إنّه كان يقول دوماً بأنّ العلوم المختلفة ـ بما في ذلك علم التوحيد ـ إذا لم تقترن بتهذيب النفس فإنّها لن تكون سوى حجاب ولن تقود إلى الحقيقة.

ان العبارات الحادة التي ضمنها الإمام بيانه الصادر في 2 نيسان 1963م واشباهها التي وسمت الكثير من تراثه السياسي، لم تكن مناورة سياسية لاخراج مناوئيه من الساحة، بل انها كانت عرضاً لحقائق تنبع من اعماق وجود شخصية ترى أنّ العالم محضر الله. فالإمام لم يكن يكنّ لاحد من خصومه من امثال محمد رضا أو صدام أو كارتر أو ريغان وغيرهم ممن وقفوا بوجهه خلال جهاده، حقداً أو عداءً شخصياً. كان سماحته حريصاً على إنقاذ المجتمع البشري من سلطة اتباع الشيطان وإعادة البشرية إلى هويتها الفطرية الالهية ـ الرحمانية وكان ينظر إلى الصراع من هذا المنظار، وقد حرص على الاعتقاد والعمل بهذه المبادئ قبل ان يدعو غيره إليها.

وللوقوف على سرّ موفقية الإمام الخميني ينبغي البحث في مجاهدته الطويلة لنفسه وسعيه لبلوغ المعرفة الشهودية الحقيقية. فلا يمكن درك دوافع الإمام الخميني واهدافه من نضاله السياسي دون التأمل في مراحل تكامل شخصيته الروحية والمعنوية والعلمية.

لقد رأى العالم الكثير من العناصر التي ميّزت جهاده وثورته، إلاّ أنّ ما يميز نضال الإمام الخميني وما يميز ثورته عن سائر الثورات، ويجعلها متصلة بثورات الأنبياء، هو أنّ الشخصية التي فجرت الثورة الإسلامية في القرن العشرين، وحسب ما يروي رفقاء دربه، لم تترك طوال فترة ما قبل النهضة حتى انطلاقاتها ومن ذلك الوقت حتى رحيله عن الدنيا، نافلة صلاة الليل والتهجد ليله واحدة، ناهيك عن الفرائض والواجبات. إنّه ذلك الرجل الذي جلس يردّ على اسئلة العشرات من الصحفيين والمصورين الذين اجتمعوا من انحاء العالم في آخر لقاء صحفي له في محل اقامته في (نوفل لوشاتو) وما ان مرت بضع دقائق وحان موعد الصلاة، حتى قام ليؤدي صلاته غير مكترث لذلك الجمع.

وللوقوف على سرّ التأثير المميّز لبيانات الإمام وكلامه في الاستحواذ على مخاطبيه إلى الحدّ الذي يدفعه إلى التضحية بارواحهم، ينبغي البحث في أصالة فكره، والحزم في الرأي والصدق الخالص معهم.

ان من اهم المزايا التي وسمت نهضة الإمام الخميني: للوقوف بوجه التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية والخيانات التي يرتكبها الملك.

وفي الثالث من نيسان 1963م، أبرق آية الله العظمى الحكيم من النجف إلى العديد من العلماء والمراجع في إيران يطالبهم بالهجرة الجماعية إلى النجف الاشرف. كان هذا الاقتراح يهدف إلى الحفاظ على حياة العلماء وكيان الحوزات العلمية، وقد عبّر النظام الملكي ـ وعبر العديد من الممارسات ـ عن غضبه واستنكاره لدعم علماء النجف وكربلاء وآية الله الحكيم لنهضة العلماء في إيران. ومن اجل خلق جوٍ من الرعب والحؤول بين العلماء والاجابة على برقية آية الله الحكيم، بادر نظام الشاه إلى ارسال افواج من قوات الامن الداخلي إلى مدينة قم، كما ارسل في الوقت ذاته وفداً رسمياً أخذ على عاتقه نقل رسالة التهديد الملكية إلى مراجع التقليد.

امتنع الإمام الخميني عن استقبال هذا الوفد. وقد اشار سماحته إلى هذه القضية في خطابه الذي القاه في 2/ 5/ 1963 مشيراً إلى الملك بكلمة "التافه" إذ قال": "إن هذا التافه، رأس هذه الحكومة الخبيثة، أرسل رئيس الشرطة إلى منازل المراجع ـ طبعاً انا لم استقبلهم، وليتني فعلت، ليتني يومها سمحت لهم بدخول المنزل ثم هشمت اسنانهم! ـ ليبلغوهم: ان الشاه قد أمرنا إذا ما نطق احدكم بشيء بأن نقوم بارسال من يهدم بيوتكم ويقتلكم ويهتك اعراضكم".

ابرق الإمام الخميني برسالة جوابية إلى سماحة آية الله العظمى الحكيم، غير عابئ بتلك التهديدات، أكد فيها ان الهجرة الجماعية من قبل العلماء وإخلاء مواقعهم في الحوزة العلمية بقم يتعارض مع المصلحة الإسلامية. كتب الإمام في جانب من هذه البرقية يقول: "سوف نؤدي تكليفنا الالهي ان شاء الله وسوف نوفّق لإحدى الحسنيين: إما قطع ايدي الخونة عن الإسلام والقرآن الكريم، أو مجاورة رحمة الحق جل وعلا، وأنّي [لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً]".

وفي بيانه الذي أصدره بتاريخ 2 نيسان 1963 بمناسبة اربعينية شهداء فاجعة الفيضية، أكدّ الإمام الخميني وقوف العلماء والشعب الايراني إلى جانب قادة الدول الإسلامية والعربية ضد اسرائيل الغاصبة. وادان الاتفاقيات المبرمة بين الملك محمد رضا واسرائيل. وبذا أوضح، منذ إنطلاق نهضته، بأنّ النهضة الإسلامية في ايران ليست بمعزلٍ عن مصالح الامة الإسلامية، وان نهضته انما تهدف الاصلاح في كل العالم الإسلامي غير محدودة بحدود إيران الجغرافية.

كتب الإمام الخميني في رسالة وجهها إلى العلماء يقول: "إنّ الخطر الاسرئيلي على الإسلام وايران وشيك للغاية. فالمعاهدة مع اسرائيل في مقابل الدول الإسلامية ابرمت أو على وشك ذلك. وبالسكوت والاعتزال سنضيّع كل شيء. إنّ للإسلام علينا حقاً، ان لنبي الإسلام علينا حقاً. ينبغي لعلماء الإسلام واتباع الدين المقدس ان يؤدوا ما عليهم من دينٍ لدينهم في هذا الزمان الذي تتعرض فيه كل الجهود المضنية التي بذلها ذلك العظيم (صلى الله عليه وآله وسلّم) للزوال. لقد صممت على عدم التراجع حتى ألزم هذا النظام الفاسد حدّه…".


source : http://alhikmeh.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أمير المؤمنين شهيد المحراب
كربلاء ؛ حديث الحق والباطل
الشيعة وإحياؤهم ليوم عاشوراء
في تقدم الشيعة في علم الصرف ، وفيه صحائف -2
تأملات وعبر من حياة أيوب (ع)
تاريخ الثورة -6
من مناظرات الامام الصادق(عليه السلام)
من خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله ...
الكعبة‌
صموئيل النبي (ع)

 
user comment