عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

الاسرة وثقافة التسامح

تتجلى ثقافة التسامح كاحدى اهم الضرورات الانسانية والاخلاقية في الواقع المعاصر بعد ان استشرت ظاهرة العنف وظاهرة تهدم العلاقات الاجتماعية على كافة الاصعدة وبعد ان اصبح الكبار والصغار على حد سواء اما ضحايا او مجرمين بسبب هيمنة لغة العنف على الواقع المعاصر وغياب المثل والقيم الدينية والاخلاقية الامر الذي يجعل الفرد المعاصر يقف عند مفترق الطرق في التعامل مع الاخر الذي قد لا يتفق معه في افكاره بل ربما يؤذيه ويلحق به او باسرته او بافكاره الاذى .. قد يبدو الانسان المعاصر حائرا في التصرف في المواقف الشائكة بعد ان اسهمت التربية الحديثة في حشو دماغه ورأسه بالمعلومات التي تضيع في زحمة الحياة والتي لا تعلمه مهارات التفاعل الاجتماعي الصحيحة وبالتالي يبقى جانب مبتور في جوانب التربية المعاصرة لكنه في نفس الوقت جانب حياتي اذ كيف ينطلق الفرد في رسم سلوكياته مع الاخر؟

هل يرد له الصاع صاعين؟ ويعيش متوثبا حذرا واضعا يده على عاتقيه متأهبا لدخول المعركة في كل لحظة غير آبه بالنتائج والاثار فالمهم ان يكيل كيله على الاخرين وان يقف ساكنا فيُتهم بالحماقة والضعف واللاابالية.

ام انه لابد ان يتعلم التريث ازاء المواقف الصعبة وان يلتجأ الى لغة الحوار والتفاهم هذا اذا كان ينظر الى الاخر على انه مثله في الانسانية ومن حقه ان يمتلك التباين معه في الرأي والتعبير وهذه الثقافة التي تبدو هي الحلقه المفقودة في الواقع المعاصر بسبب التوجيه المكثف للاعلام نحو ثقافة العنف وبسبب غياب مفاهيم حياتية مثل حقوق الانسان وكرامة الفرد وغيرها.

ان التسامح هو احد سبل تعزيز العلاقات الاجتماعية بين الافراد والتسامح يعني عفو الانسان وحلمه عمن يؤذيه ويسيء معاملته او يختلف معه في الرأي والعقيدة والذي قد يكون هو المنطلق في  الاساءة والاذى من باب رفض الاخر المخالف.. فهو اذاً (القدرة على التفاعل الاجتماعي وادارة الخلاف بصورة تعترف بالاخر ولا تلغيه). حيث ان لغة العنف هي الغاء الاخر اما لغة التسامح فهي الاعتراف بالاخر ولكن عبر مساحات يتطلبها البناء الانساني والاجتماعي.

من هنا يكون التسامح جامعا مع العفو والحلم الى صفتين اخريين هما التحمل والمعاناة او بالاحرى التحمل مع معاناة، لان مسئلة التجاوز والغض عن الاذى - ايا كان- وعن التفاوت الفكري الذي يتخذ آلياـ المواجهة المتعددة تحتاج الى التعلق بلجام الصبر الكاتم على الالم النفسي الذي يحدثه الموقف مع الاخر..

ولكن هذا لا يعني ان الانسان المتسامح هو  انسان ضعيف غير قادر على الرد، ابدا.. فان احدى مقومات التسامح هو ان يكون الطرف المسامح في موقع القوة والقدرة. وهذا يتجلى في موقف رسول الله (ص) حينما دخل مكة فاتحا، فقد كان بامكانه ان ينتقم من اهل مكة ويرد لهم الصاع صاعين وهم الذين عذبوه وآذوه وآذوا اصحابه والجأوه الى الهجرة والغربة بعيدا عن الوطن.. كان (ص) في موقع الحاكم المطلق القادر على الانتقام والرد بالمثل ولكنه يتجاوز الموقف كله الى العفو عن الجميع بقوله (ص) اذهبوا فانتم الطلقاء ومن البديهي انه (ص) لما دخل مكة استعاد في ذاكرته معاناته مع اهل مكة وذكريات خديجة (رض) التي ماتت بعد الحصار المرير ولكن العفو عن هؤلاء المذنبين كان نوعا من التسامي الانساني الذي يتم عن قوة في التحمل والاقتدار.

ولا يعني التسامح الرضا بالاخطاء والظلم والحيف من الاخر، ابدا، فالتسامح ليس عمليه تأييد او موالاة لان منهج عدم الرضا بالانحراف واضح وصريح.. فهناك رفض واستنكار لكل ما قام به اهل مكة مع الرسول (ص) واصحابه.

وان كان قد عفا عنهم يبدو الموقف هذا صريحا مع هابيل (ع) فهو يرفض انحراف قابيل وتجرأه على المعصية وجنوحه نحو الذنب ولكنه رغم ذلك لا يلجأ الى البطش والقتال وانما يتعمد اسلوب التذكير والحوار والموعظة »قال لاقتلنك، قال انما يتقبل الله من المتقين ولئن بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك اني اخاف الله رب العالمينن«. (المائدة 28).

فالتسامح اذا يتجلى في مواقف الانحراف والاذى مع وجود القدرة على الرد والانتقام وهذه نعمة الفضائل الانسانية التي تشير الى مقدار التسامي النفيس الذي ينظر الى الاخر بما يحفظ له مكانته الانسانية اي لا يلغي هذا الوجود الاخر رغم الخطأ والانحراف وبالتالي فهو اعتراف (وعدم الغاء) ضمن دائرة الكرامة الانسانية (ولقد كرمنا بني آدم).

ويظهر التسامح في مواقع لا تكون على حساب الحقوق الانسانية الاصلية كحق الحياة وحق الامن، وقد تظهر في وقتنا المعاصر في التجاوز عن سفاهة الجاهلين واذاهم »واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما«. (الفرقان).

وكذلك في التعامل الانساني مع الجاليات والاقليات والجماعات التي لا تؤمن بالاسلام (ولكنها لا تحاربه) كأصحاب الذمة وغير المسلمين القاطنين في بلاد المسلمين والذين يؤدون شعائرهم بكل حرية من باب (لا اكراه في الدين) وينالون

حقهم في التعليم والعمل والسفر وغيره من حقوق المواطنة رغم الاختلاف العقيدي. ولهذا نجد حث الاسلام على التسامح حتى مع اهل الكتاب »ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن«(العنكبوت 46). ويبدو التسامح كواحد من ارقى صفات الرسول (ص) والتي اشار اليها القرآن الكريم بقوله تعالى »فبما رحمة من الله لنت لهم لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر«.(آل عمران 159).

فهو يتجاوز عن اخطائهم بالعفو ويُسقط عنهم العقوبة مع الاستغفار ثم هو لا يلغي وجودهم او يقصيهم وانما يشاورهم في الامور وهذه قمة الارتقاء الانساني والى هذا اشار الشافعي.

سامح صديقك ان زلت به قدم

                   فليس يسلم انسان من الزلل

التسامح يؤدي الى التعايش مع الاخر المخالف او المخطىء. فالتسامح قد يفعّل مبدأ الانسحاب من المواجهة الفورية الحادة وهذا الانسحاب يكون عاملا مساعدا في هدوء الطرف الاخر وتجديد التفكير في الامر الواقع. ولعل فتوحات المسلمين العظمية وسماحتهم الواسعة مع الكثيرين خير مثال لهذه المبادئ العليا.

 

اهمية التسامح:

كل السجايا الاخلاقية لها انعكاسات ايجابية طيبة على الفرد والمجتمع والاسرة ايضا. ان شيوع ثقافة التسامح يؤدي الى شيوع الامن في المجتمع لانه يساهم في تقليل العنف او عدم اللجوء الى العنف كحل للمشكلة وكمخرج مؤقت للموقف، ولعل هذا الامن هو اهم احتياجات الفرد سواء في الاسرة او المجتمع. وهناك فرق كبير بين ان يشعر الابناء ان اجواء الاسرة أجواء آمنة متسامحة تعفو عن الخطأ ولا تتجه للعقوبات القاسية او ان الاجواء عكس ذلك في الحالة الاولى قد يعترف الطفل والزوجة بالخطأ والتقصير لان مبدأ (لا تثريب عليكم) هو السائد وهو صمام الامان للكل وهذا يؤدي الى توجيه الخطأ بالاسلوب الصحيح كما انه يعزز لدى الابناء الشعور العميق بانسانيتهم (المحترمة) والتي لا تنتهك امام ابسط التجاوزات كالذي نراه في كثير من الحوادث المؤسفة التي نسمعها ونقرأ عنها كل يوم في الصحف والاعلام.

وقد يكون من عوامل زيادة الثقة بين الزوجين من خلال ما يعززه الشعور بالاحترام والذي يترافق مع الفهم الصحيح لكينونة الانسان بانه عرضة للخطأ والزلل (كل ابن آدم خطاء). وهذا يؤدي الى احترام الحقوق الزوجية مستقبلا وعدم تجاوزها.

من ناحية اخرى تساهم ثقافة التسامح في تعزيز مهارات الاختيار الصحيح عند الافراد، فمن الممكن ان يختار الفرد او الزوج مثلا الرد بالعقوبات القاسية والتجريح والضرب وربما بالسكوت والعفو وهذه لا تجعل الفرد امام طريق واحد مسدود كما هو الحال لدى مريدي ثقافة العنف، كما انه يساهم في تخليص الفرد من الضغط النفسي الذي يسيطر عليه نتيجة التفكير في الانتقام والبحث عن وسيلة ردع عنيفة وهذا ما يجعل الفرد المتسامح يتمتع بصحة نفسية عالية تساهم في تخليصه من كيثر من الامراض النفس _ جسمية ذات السبب النفسي والامراض الجسمية وكما تساهم في تخليص الفرد من القلق والاكتئاب والتوتر وتعمق الشعور بالمحبة وتخفف الشعور بالكراهية، ولعل هذا يتوافق مع حديث الرسول (ص) من كثرة عفوه مُد في عمره، فالذي يتسامح لا يعيش اضطراب التفكير اللاسوي في البحث عن وسائل للانتقام والثأر، كما ان مشاعر الكراهية والحقد والتي هي منشأ كثير من العلل لن تجد لها ارضا خصبة، واذا كان التسامح سببا لقوة العلاقات الاجتماعية وديمومتها فان الفرد المتسامح يكون ذا شخصية ناجحة تعزز لديه مشاعر الحب والود والتكيف مع المواقف المختلفة وهذه المحبوبية الاجتماعية من عوامل تحسين الصحة النفسية.

وبناء على كل ذلك فان الشخص المتسامح يكون اكثر انتاجية واكثر طاقة لانه لا يبعثر طاقاته في تصرفات هو جاء او تفكير بالانتقام او الاذى عبر اليات غير سليمة ابدا وهذا معناه زيادة الكفاءة الذاتية للافراد المتسامحين. واذا كان التسامح يعترف برفض ثقافة العنف فانه يفتح المجال مع الاخرين وفهم ارائهم وهذه تقوي مهارات الحوار والانصات والاستماع واللياقة الكلامية التي ربما تساهم في تغيير افكار الاخرين وفق اسس عقلانية لان الحوار الهادئ الهادف يوجب على صاحبه تجديد النظر في افكاره كما حصل مع الكثير ممن كانوا ينالون من الائمة (ع) فلا يبادروهم بالانتقام وانما بالحوار الناجح وكانوا (ع) كانوا لا يعفون عنهم فحسب ولا يكتفون( ع) بكظم الغيظ انما يتوجهون اليهم لتلبية احتياجاتهم من هذا ما ورد عن الامام (ع) حيث كان في المدينة رجل يسبه ويؤذيه ويشتم عليا وقدهم اصحابه بقتله فرفض وزجرهم وقصده في مزرعته فصاح به لو توطئ زرعنا فلما وطأة قال (ع) كم ترجوا ان يجيئك قال مائتا دينار فاخرج له صرة بـ (300) دينار، فقال الرجل: الله اعلم حيث يجعل رسالته.

وفي الحديث الشريف ان المؤمن نصفه تغافل ونصفه تحمل اي يتغافل عن اخطاء الاخرين ولا يقف لهم بالمرصاد ولا يتخذ اسلوب المواجهة العنيفة باي شكل من اشكالها وهو يتحمل مواقف الاخرين لنشر اجواء تسامح تقترب من السمة الديمقراطية في عصرنا.

 

كيف نشيع ثقافة التسامح:

يتفق الجميع ان اشاعة ثقافة التسامح انما تبدأ من الاسرة، فالبيت له اثر كبير في هذا الجانب فاذا كانت العلاقة بين الاباء والابناء تقوم على لغة التسلط والاكراه والاستبداد فمن البديهي ان البيت الذي تغيب عنه اجواء التسامح يكون عاملا في نشر ثقافة العنف  في جو ديكتاتوري لهذا يتعلمون الاستبداد بالرأي وعدم احترام الاخر او رأيه، كما ان النظام الديكتاتوري سواء في الاسرة او الدولة يعتبر من احد اسباب شيوع لغة العنف وغياب الامن وانعدام الثقة بين الافراد.

كما ان هذه الاجواء تعزز الشعور بالبغض والحقد والانتقام.

ومن البديهي اننا نستطيع تعليم الابناء الكثير من الامور عن طريق الاقناع او التوجيه الصحيح فاذا غاب هذا المفهوم فان العقوبات والتهديد ستؤدي الى تنفيذ الاوامر ربما لكن مع تعزيز الرغبة بالانتقام.

والى جانب اشاعة الاجواء المتسامحة والديمقراطية فهناك امور اخرى منها العدالة بين الابناء والتي تساهم في تعريف الطفل والمراهق بحقوقه وحقوق الاخرين وكما ان تعزيز التنافس الشريف او  الصحيح ينمي لدى الاولاد والاعتراف بمهارات الاخرين وما يمتلكونه من قدرات فقد يكون من الضروري ان نعلم الابناء تقديم التهاني في المسابقة الى الفائزين فهذه تعزز لديه الشعور بحب الاخرين واحترامهم وتمني الخير لهم مما يساعد في تدريب الاولاد على مقدمات التسامح.

شيء مهم يجب ان يعرفه الاولاد ان التسامح ليس الانسحاب من الموقف وهو ليس ضعفا بل قوة نحتاج الى تعبئتها في المواقف الحرجة، وقد يكون من الضروري تعزيز الثقة بالنفس لدى الاولاد واشعارهم بقدراتهم وطاقاتهم وعدم تعزيز الشعور بالنقص والحقاره خاصة في مواقف الخطأ والفشل واذا كان تقدير الطفل والمراهق لذاته سليما صحيحا فانه سوف يتقبل مسألة الخطأ والفشل وسينظر الى نفسه على انه انسان معرض للزلل والفشل وكذلك الاخرين وبالتالي فالفهم الصحيح للنفس يقود الى فهم صحيح للاخرين الامر الذي يقود الى تقبل اخطاءهم والتغافل عنها في مواقع القدرة.. وتلعب لغة الحوار والتدريب على مهارات الاستماع دورا كبيرا في ذلك، فاذا استمعنا لاولادنا وهم يعللون اخطاءهم ويبررون تصرفاتهم فان ملكة الانصات للاخرين ستتقوى لديهم مما يجعلهم مستمعين جيدين لاخطاء الاخرين وتقبل آراءهم والنظر بعمق لما يقوله الاخر.

وتلعب الصدمات درا كبيرا في اشاعة هذه الثقافه فالصداقة التي تقوم على الانانية والاثرة لابد وان تؤدي الى العنف والهجوم ومتى ما قامت الصداقة على دعامة احترام  الاخرين واحترام ثقافتهم والنظر الى سواسية البشر في الخلق والتكوين فهذه كلها تعزز التسامح.

تبقى دائما العلاقة بين الزوجين هي نبراس هذه الثقافة وهي المرآة المعكوسة على الاولاد، ونفس الشيء يقال بالنسبة للمعلم وعلاقته بالطالب وخاصة في مرحلة الابتدائية حيث تكون مرحلة تنمية هذه الخصلة وتطبيقها على ارض الواقع مع طلبة اخرين يعيشون اجواء مماثلة في بداية التعلم.

وتبقى مجتمعاتنا بحاجة الى تعزيز هذه الثقافة كي لا تطغى ظاهرة التعصب والتطرف والتي تعزز مشاعر الحقد والكراهية تجاه الاخر.

يبقى امر مهم و ان الطفل يجب ان يتعلم كيف يأخذ حقوقه المشروعة ويعرف نظرة الاخرين اليه فلو تسامح مع اخر لابد وان تكون النظرة اليه على انه طفل شجاع استطاع ان يعفو ويغفر، اما اذا نظر اليه الاخرين على انه ابله واحمق فانه سيسعى الى رد الصاع صياعين في المره القادمة.

ان الطفل يكتسب بالتعليم اسلوب القصاص والثأر والانتقام ولهذا فالمطلوب اننا عن طريق التعلم ايضا نعزز ثقافة التسامح عبر توجيه الاعلام بالشكل المعاكس الموجود عليه حاليا والذي يعتبر هو المتهم الاول في اقصاء ثقافة التسامح وشيوع لغة العنف حتى بين الصغار.


source : الشیعه
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

دعاء في آخر ليلة من شعبان
أسند عنه
الجنة لمن زارها
لـمـــاذا كــــتـم جـمـــاعـــــة مــن ...
غزة
من وصايا الإمام الباقر (عليه السلام)
منزلة القرآن الكريم في خطب أمير المؤمنين في نهج ...
آراء المستشرقين ومواقفهم من القرآن
فضلِ السَّخاء و الجود
من هم الذين يحبهم الله؟

 
user comment