عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

وكانت صدّيقة (رواية)

شجرة المستقبل
استيقظت « خديجة » وشعورٌ غريب بالفرحة والأمل ينبعث في نفسها انبعاث النور في الظلام.. وربّما فكّرت في سبب ما لهذه الموجة الهانئة من الفرح.. لم تكن تدري سبباً واضحاً لذلك، فقد كان كلُّ ما يحيطها يفجّر كوامن الحزن بل ويبعث على المرارة واليأس.. ها هي تشهد كيف تصبّ قريش العذاب على زوجها. تضطهده.. تسخر منه.. وتكذّبه وهو الصادق الأمين.
تساءلت في نفسها: لعلّه الحمل الجديد والشجرة المثمرة عندما تحمل يعني الربيع والأمل والحياة. ولكن كيف وقد أخذ الله « عبدالله والقاسم » من قبل. وتركا في قلبها حزناً عميقاً كجرح لا يندمل، ولكن لا.. لا إنها تشعر بالأمل.. يكبر في أعماقها.. ينمو ويتفتّح كوردة في الربيع.
وحملها هذه المرّة عجيب خفيف تكاد تطير به.. تشعر بالسَّكِينة تترقرق في قلبها كنبع بارد. كما لاحظت شيئاً آخر.. مسحة من نور شفّاف تطوف فوق وجهها.. وشيئاً آخر أيضاً: انّها لم تَعُد تشتهي طعاماً سوى الرُّطَب والعِنَب.
أكملت خديجة ارتداء حلّة الخروج.. فزوجها ينتظر، و « عليّ » الفتى الذي يتبع ابن عمه.. يلازمه كظله، هو الآخر ينتظر.
انطلق الثلاثة.. أخذوا سَمْتَهم نحو الكعبة مهوى الأفئدة والبيت الذي بناه إبراهيم لربّه.
الكعبة تنشر ظلالها الوارفة فوق الأرض.. والسكينة تغمر المكان ما خلا حوار هادئ لرجال جالسين حول « زمزم ». كان أحدهم يراقب مشهداً بدا له عجيباً.. كان يرنو إلى باب « الصَّفا ». وقد طلع رجل بين الأربعين والخمسين من عمره.. أقنى الأنف.. أدعج العينين كأنه قمر يمشي على الأرض، وإلى يمينه فتى يشبه شِبلاً، وخلفهما امرأة قد سترت محاسنها.
قصد الثلاثة « الحجر الأسود » فاستلموه، ثمّ طافوا البيت سبع مرّات، بعدها وقف الرجل ووقف الفتى إلى يمينه، والمرأة خلفهما.
هتف الرجل الأدعج العينين: « الله أكبر »، فردّد الفتى وراءه: « الله أكبر »، وكذا المرأة خلفهما.. ركع الرجل الأزهر الوجه ثم سجد، والمرأة والفتى يُتعابعانِه.
وحول « زمزم » تساءل رجل قَدِم مكة حديثاً:
ـ هذا دين لم نعرفه من قبل!
أجاب رجل هاشمي:
ـ هذا ابن أخي محمّد بن عبدالله وامرأته خديجة، وهذا الفتى عليّ بن أبي طالب، وما على وجه الأرض من يعبد الله بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة.
ساد الوجومُ وجوه الرجال وهم يراقبون موكباً صغيراً يغادر الكعبة حتى توارى خلف جدران البيوت.
وتمرّ الأيام وتمرّ الشهور.. ويكبر الحمل.. ويتألّق وجه خديجة بالنور.. يشتدّ سطوعاً.. وتبدأ آلام المخاض.
وبين صخور « حِراء » كان محمّد يتأمل مكة، يفكر في مصير العالم وطريق الانسان.
بدا وجهه حزيناً كسماء مزدحمة بالغيوم.. يفكّر في قومه.. يحزن من أجلهم.. يريد أن يفتح عيونهم على النور الذي اكتشفه، لكنّهم صدّوا عنه... اعتادوا حياة الخفافيش في الظلام.. أعرضوا عن ملكوت السماوات.. فسقطوا في حضيض الأرض.. ضاعوا بين عناصر التراب والطين.
لم يَدَعوا شيئاً إلاّ وفعلوه.. آذَوه.. سَخِروا منه.. عَيّروه. قالوا: إنه ساحر كذّاب.. أبتر سيموت ويموت ذِكرُه.. فليس له ولد!
شعر بسكّين حادّة تغوص في قلبه وهو يتذكّر سخريتهم منه.. ينادونه بالأبتر! النبي يفكّر في قومه حزيناً حزن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم. آخر الأنبياء يفكّر غير ملتفت لما يجري حوله.
تَكهرَب الفضاء.. غلالة شفافة كالضباب تملأ المكان.. وقد غمر الصمتُ جميع الأشياء.. اختفت الأصوات.. تلاشت ولم يعد « محمد » يسمع شيئاً سوى كلمات.. تنفذ في أعماقه نفوذ النور في المياه الرائقة..
كلمات مؤثّرة عميقة جفّ لها ريقه.. تصبّب لها جبينه.. فبدا كحبّات لؤلؤ منثور.. الكلمات تضيء في أعماقه كالنجوم:
ـ إنّا أعطيناك الكوثر. فصَلِّ لربِّكَ وانحَرْ. إنّ شانئكَ هو الأبتر.
وانقلب الرسول إلى بيته فَرِحاً.. ولمّا دخل على زوجته وجدها هي الأَخرى فَرِحة.. تنظر إليه بعينين تفيضان حبّاً. هتفت بصوت يشوبه اعتذار:
ـ إني وضعتها أُنثى، وليس الذكر كالأُنثى!
تمتم النبي وهو يحتضن هدية السماء بحبّ:
ـ إنّا أعطيناكَ الكوثر.. أُسمّيها فاطمة.. ليفطمها الله من الشرور.
كلؤلؤة في حنايا صدفة بدت فاطمة بفمها الدقيق.. بعينيها الواسعتين كنافذتين تطلاّن على عالم واسع.. عالم يموج بالصفاء والسلام.
أضاء الأمل منزلاً صغيراً من منازل مكة.. وتفتّحت فاطمة للحياة كما تتفتح الورود والرياحين، ونَمَت في أحضانٍ دافئة تَنعُم بقلبين ينبضان حبّاً لها، وبنظرات تغمرها حناناً ورأفة.
وكَبُرت فاطمة.. نَمَت. تنظر إلى أمّها يغمرها الحزن.. وربّما شعرت بمرارة تعتصر قلب أبيها.. تهفو نحو أمها.. تُقبّل أباها.. فتعود البسمة إلى الوجهين الحزينين.. وتشرق الفرحة من جديد كما تشرق الشمس من بين الغيوم لتغمر الأرض بالدفء والنور والأمل.
وتمرّ الأيام.. وتنمو فاطمة.. ويعصف القدر بقسوة.. وتجد الطفلة نفسها بين ذراعَي والدتها في وادٍ غيرِ ذي زرع.. حيث أيامُ الجوع والخوف والحرمان..
تُصغي إلى أنّات المظلومين.. وتتأمّل سيوفاً مسلولة في الظلام. كبرت فاطمة في الشِّعب. فُطمت من اللبن ودرجت فوق الرمال. ومرّ عام.
ومرّ بعده عامان آخران.. فجأة اختطف القدر أمّها.. فقَدَت نبعاً ثرّاً من الحبّ..
فاطمة تبحث عن أمّها. تسأل أباها الحزين:
ـ أبه.. أين أمي ؟
ويجيب الأب المقهور وهو يحتضن ذكراه الغالية:
ـ أمّك في بيت من قصب، لا تعب فيه ولا نصب.
تلوذ بالصمت.. تفكّر في أمّها. عيناها تبحثان عن نبع سماوي.
كبرت فاطمة في زمن الحرمان.. في زمن الحصار.. في زمن اليتم.. في زمن القهر.. لهذا نشأت الطفلة نحيلة القوام كغصن كسير.. رسم القهر في عينيها الواسعتين لوحة حزينة.. منظراً ساكناً يغمره الصمت.. تفكّر.. تنطوي على نفسها في استغراق يشبه صلاة الأنبياء. نشأت فاطمة في زمن الجدب.. فغدا عُودها صُلباً ضارباً في الأرض جذوراً بعيدة الغور.. فبدت أكبر من سنّها ونهضت تملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحيل والدتها.. نهضت سيّدة صغيرة.. أمّاً رؤوماً لوالدها الذي أضحى وحيداً.
وتمرّ الأيّام.. وذات مساء خرج المحاصَرون في « الشِّعب » إلى مكّة. عادوا إلى ضجيج الحياة.. لتبدأ فصول أخرى من تاريخٍ مثير يزخر بالأحداث.. منذ الساعة التي التقت فيها السماء بالأرض في غار حراء.

عامٌ حزين
ملأ رُغاء الجِمال فضاءَ مكّة، فقد آبَت القوافل التي انطلقت إلى اليمن في رحلة الشتاء.. كان الجوّ بارداً والسماء تزدحم بغيوم رمادية، وصخور الجبال الجرداء بَدَت وكأنّها تتضرّع إلى السُّحب تنشدها قطرات المطر.
وشيئاً فشيئاً خَفَتت الأصوات وآبَت الطيور إلى أوكارها ساعةَ المغيب. كانت « فاطمة » مستغرقة في تفكير عميق تطوف في خيالها سورة « مريم » تلك الفتاة البتول التي انقطعت عن العالم في صومعتها تعبد الله تتبتّل إليه وحيدة.. تستكشف آفاق السماء متخفّفة من أثقال الأرض.
جلست فاطمة تترقب أوبةَ أبيها، وبدا المنزل خالياً من كل شيء « لا زينب، ولا رُقيّة » ولا « أمّ كلثوم » ذهبن ثلاثتهن إلى بيوت أرواجهنّ؛ زينب استقرت في بيت « أبي العاص بن الربيع » و« أمّ جميل » اختطفت « رُقيّة » و « أُمّ كلثوم » لولديها « عُتبة » و « عُتَيبة »؛ وكل هذا يهون أمام مصيبة كادت أن تعصف بكلّ شيء.. لقد رحلت أمّها.. « خديجة » ذلك النبع المتدفق حناناً وحبّاً ودفئاً..
ـ لكِ الله يا أمّي... ما كادت أعوام الحصار تمضي بأيّامها الصعبة ولياليها المضنية حتّى ودّعتِ الدنيا ليبقى والدي وحيداً وهو أشدّ الناس حاجة إلى مَن يؤازره ويقف إلى جانبه.. ولكن يا أمّاه سأجهد نفسي لأملأ الفراغ الذي جَثَم على البيت بعد رحيلك. سأكون له بنتاً وأمّاً... سأمسح دموعه بيدين تشبهان يديك، وسأبتسم له كما كنتِ تُضيئين قلبه بابتسامتك.
ولكن يا أمّاه أنا ما أزال صغيرة.. ليتكِ صبرت قليلاً، أبي كان قويّاً بك.. وكان يتحدّى العاصفة بعزم « أبي طالب » شيخ البطحاء.. تكفّله صغيراً وحماه كبيراً، غير أنكما تركتماه وحيداً واسترحتما من همّ الدنيا وغمّها، وحقّ لكما أن تستريحا وقد عصفت بكما النوائب من كل مكان، وسدّد لكما الدهر سهاماً مسمومة وحِراباً. أجل يا أمي... لقد أظلمت الدنيا.. نشر المساء ستائره السوداء وهذا عامنا عام حزن.. ها أنا أنتظر أوبة أبي.. أبي الذي يريد تبديد الظلام بنور الاسلام.. ولكن مكّة ترفض ذلك.. تتمنّع وفيها من يحبّ حياة الظلمات كما الخفافيش لا تهوى النور ولا تحبّ النهار.
سمعت « فاطمة » خطىً هادئة كنبضات قلبٍ يخفق أملاً، خطىً تعرفها فاطمة.. لهذا هبّت كفراشة تهوي إلى النور بقوامها النحيل.. بعينيها الواسعتين سعة الصحراء وبابتسامتها المشرقة بالأمل..
ولكن لِم تسمّرت « فاطمة » في مكانها كأن خنجراً يطعن قلبها طعنة نجلاء..
عاد أبوها حزيناً.. بدا وجهه كسماء مدلهمّة بِسُحب من رماد، كان ينفض عن رأسه ووجهه التراب والأوساخ.. وتمتم الرسول بحسرة:
ـ واللهِ ما نالَت قريش مني شيئاً أكرهه إلاّ بعد موت أبي طالب.
اهتزّت « فاطمة » لِهول ما ترى وبدت كسعفة أغضبتها الريح... يا لَصبر الأنبياء.. شعرت بالانكسار. كيف سوّلت لذلك السفيه نفسُه أن يمسّ بالسوء وجهاً يسطع بالنور؟!
بكت بانكسار.. وسالت دموعها حزينة حزن سماء تمطر على هون.
مسح الأب دموع ابنته ثمّ قال وعيناه تشعّان أملاً:
ـ لا تبكي يا فاطمة.. إن الله ناصرٌ أباك على أعداء رسالته.
انحسرت الغيوم عن السماء فبَدَت صافية مشرقة، وعادت الابتسامة إلى الوجه الملائكي.. ولكن عَتباً كان يموج في قلبها:
ـ تُرى أين كان فتى شيخ البطحاء.. وهو لا يكاد يفارق أباها..
يتبعه كظلّه.. يدفع عنه أذى السفهاء من قريش. ونسيت فاطمة كلّ شيء بعد أن ناداها أبوها فخفّت إليه كحمامة برّيّة تهفو إلى عشّها.
ابتسمت فاطمة... فانعكست ابتسامتها في وجه أبيها.. ابتسم محمّد.. أشرقت على قلبه شمس تغمره بالدفء والأمل والحياة.. يالَهذه الحورية الصغيرة ذكرى خديجة.. وباقة ورد من جنّات السماء.
جلست فاطمة بين يدي أبيها النبيّ زهرةً تتفتح.. تتشرب كلمات الله. وتضيء الكلمات في قلبها كنجوم في سماء صافية.
وتمرّ ثلاثة أعوام. ونَمت فاطمة.. وتفتحت للحياة كما تتفتح الأزهار في الربيع.

ليلة المَبيت
شيءٌ يلوح في سماء مكّة.. لعلّها خيوط مؤامرة تحوكها قريش كما تحوك العنكبوت بيتاً هو أهون البيوت.
أبو جهل بدا مربدّ الوجه، غاظه محمّد.. وقد أصبح حديث العرب في الجزيرة.. السياط تنهال على فقراء المسلمين، والإسلام ينتشر كنهر دافق تنثال مياهه على الشطآن الرملية.
وأبو جهل لا يروق له ذلك. غاظه رحيل محمّد إلى الطائف يدعو قبائلها إلى دينه، وأفقده صوابه أن يبايعه رجال من يثرب...
لقد مات أبو طالب وانتهت زعامته.. واختفت خديجة وتبددت ثروتها.. وآن لمحمّد أن يموت... لِيمُت هذا المتمرّد الذي يريد تحطيم الأصنام آلهة الآباء والأجداد وحارسة قوافلنا ومصدر هيبتنا! ولكن كيف السبيل إلى قتل محمّد.. إنه لم يعد وحيداً.. يحوطه رجال أشدّ من الحديد بأساً.. إنّه لا ينسى صفعة حمزة صيّاد الأُسود. ولكن حمزة قد فرّ من مكة. ترك ابن أخيه وهاجر. وإذن فان كلّ شيء مهيّأ للضربة القاضية. ويا لها من فكرة رهيبة تفتّقت عن شيطان مكّة.
شمّت « فاطمة » عبير الوحي ورأت أباها وجبينه يتصبب عرقاً... اكتنفه جبريل يسرّه كلمات عظيمة يكشف له خيوط العنكبوت.
غمر الليل مكّة. ملأ أزقّتها بظلمة مخيفة، وبدت النجوم وهي تومض من بعيد لآلئَ متناثرة فوق عباءة سوداء..
تقاطر رجال من مختلف القبائل يُخفون سيوفاً وخناجر كأشباح الليل.. كانوا يمرقون خلف أبواب مكّة الموصدة وأبو جهل ينتظر اللحظة الحاسمة. لسوف يُغمد شباب مكّة سيوفهم في قلب محمّد وينتهي كلّ شيء.. وسيرى الحيرة بادية على وجوه بني هاشم... لقد قُتل محمّد وضاع دمه.. تفرّق بين القبائل!
كان أبو جهل يعبّ خمرته منتشياً بفكرته.. ستبقى مكّة تتحدّث في أنديتها عن فطنة أبي جهل.
فرك شيطان مكّة يديه وراح ينظر من خلال كوّة تفضي إلى زقاق ملتوٍ منتظراً عودة فتيانه.
تمتم النبيّ بخشوع وقد استدعى ابن عمه علياً:
ـ وإذ يَمكرُ بكَ الذينَ كفروا لِيُثْبِتوكَ أو يَقتُلوكَ أو يُخرِجوكَ، ويَمكرونَ ويَمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرين .
أن يصمد الرجال في المعارك يقاتلون حتى النَّفَس الأخير.. فتلك شجاعة فريدة تدعو إلى الإعجاب. ولكنْ أن يقدّم المرء نفسه للموت تتخطّفه سيوفٌ وخناجر.. فهذا لا يمكن أن تستوعبه أبجديةٌ مهما بلغت من دقة التعبير وسموّ المعنى.
همس علي وهو يصغي إلى حديث رجل رافقه أكثر من عشرين سنة:
ـ أوَ تَسْلَم يا رسول الله إن فَدَيتُكَ بنفسي ؟
ـ نعم، بذلك وَعَدني ربي.
كان عليّ حزيناً، فمكّة تتآمر على قتل انسان بعثته السماء لخلاص الأرض، ولكن حزنه تبدّل إلى فرحة كبرى.. فتقدم إلى فراش النبيّ بخطىً هادئة، والتحف بِبُردته ينتظر السيوف التي ستمزّقه، وستتدفق دماؤه نقيّة طاهرة ترسم فوق الأرض قصةً رائعة فريدة من قصص الفداء.
كانت الأشباح المخيفة تتلصّص من خلال شقّ في الباب، فترى محمّداً ما يزال يغطّ في نومه هادئاً.
ـ ما يزال نائماً.
ـ ولن يستيقظ بعد الليلة أبداً.
ـ سأغمد خنجري في قلبه.
ـ هذا الذي يسخر من آلهتنا!
تطلّع أحدهم من شقّ الباب، وعاد ليطمئن أصحابه:
ـ ننتظر حَلبةَ شاةٍ ثم نَدهَمُه.
مثل طيف ملائكي انسلّ النبيّ من بيته مهاجراً متّجهاً صوب الجنوب، وهو يدعو الله أن يحمي فتى الإسلام عليّاً:
ـ ربِّ.. اجعل لي وزيراً من أهلي.
لم يُخالج النومُ عينَي فاطمة تلك الليلة. ها هو والدها العظيم يودّع مكّة خائفاً يترقّب... وفي فراشه ينام فتى أبي طالب.. سوف تتخطفه سيوف القبائل.. والليلة حبلى بالمفاجآت. ووجدت فاطمة نفسها تتضرّع إلى الله أن ينصر أباها كما نصر موسى من قبل وأن يحمي ابن شيخ البطحاء.
اقتحمت الضِّباع منزل النبيّ، وكانت السيوف والخناجر تتّجه إلى رجل نائم ملتحفاً بُرداً حَضْرَميّاً أخضر.
هبّ الفتى من فراشه كأسدٍ غاضب، وانتزع سيفَ أحد المهاجمين الذين تسمّروا في أماكنهم لهول المفاجأة. صرخ أحدهم:
ـ أين محمّد ؟!
وجاءه الجواب ثابتاً ثبات جبل حِراء:
ـ لستُ عليه وكيلاً.
تنفّس الصبح واستيقظت مكّة على أنباء مثيرة. لقد أفْلتَ محمّد وها هو الآن في طريقه إلى يثرب! وانطلق فرسان أشداء يجوبون الصحراء بحثاً عن رجلِ شَريد.
لا أحد يعلم عن مكان النبيّ إلاّ فتىً في العشرين من عمره، عاد لتوّه من غارٍ في جبل ثور حيث ودّع النبيّ بعد أن أمِن الطلب؛ عاد عليّ ينفض عن نفسه غبار الطريق ويفكّر في وصايا النبيّ. لقد بقيت عليه مهمة واحدة: أن يؤدي الأمانات إلى أهلها، ويحمل الفواطم وضعفاء المسلمين إلى يثرب..
ابتاع عليّ « إبلاً »، وأسرّ إلى والدته فاطمة بنت أسد أن تتهيأ للهجرة وتخبر فاطمة بنت محمّد وفاطمة بنت حمزة وفاطمة بنت الزبير.
تحرّكت قافلة الفواطم يقودها عليّ ماشياً.. والتحقت بالركب أمُّ أيمَن وأبو واقد.
وتسلّل ضعفاء المسلمين ليلاً إلى « ذي طُوى » حيث واعدهم عليّ هناك.
كان أبو واقد يسوق الركب سَوقاً حثيثاً، وأدرك عليّ ما يموج في أعماق أبي واقد من الخوف والهلع، فقريش لن تغفر له ذلك أبداً.
هتف عليّ مهدّئاً:
ـ إرفق بالنسوة يا أبا واقد.
وقُرب ( ضَجْنان ) لاح للقافلة ثمانية فرسان يثيرون الغبار.. كانوا ملثّمين وعيونهم تبرق بالشرّ.
صاح عليّ بأبي واقد وأيمن:
ـ انتَحِيا بالإبل واعقِلاها.
الصحراء مدّ البصر تموج بالرمال.. وعليّ الذي أنهكه المشي هو رجل القافلة الأوّل، فتى تعدّى العشرين بثلاث. كانت العيون تتجه إليه: أمّه تراقبه متوجّسة، وبنت محمّد تخاف عليه سيوف أعداء أبيها، وأبو واقد لا حول له ولا قوّة. وقف عليّ وعيناه تقدحان شَرَراً.
هتف فارس لم يكتشف عليّاً بعد:
ـ أظننتَ يا غدّار أنك ناجٍ بالنسوة.. ارجع لا أباً لك!
ـ فإنْ لم أفعل ؟
ـ لَترجعنْ راغماً.
ودنا أحدهم من النُّوق لإثارتها، فاعترضه عليّ وهوى بسيفه.. وسقط الفارس فوق الرمال.
تسمّر الفُرسان! لقد أخذتهم المفاجأة. إنهم لم يَرَوا في حياتهم ضربةً كهذه. صاح أحدهم وقد رأى الفتى يستعد للهجوم:
ـ احبِسْ نفسك عنّا يا ابن أبي طالب!
وهكذا دخل عليّ دنيا الفروسية، كما دخل دنيا الفداء قبل أيام.
وسارت سفن الصحراء تشقّ طريقها على مهل صوب يثرب، تسير ليلاً وتكمن نهاراً.

أمّ أبيها
السماء مرصّعة بالنجوم... تتلألأ من بعيد كلآلئ منثورة.
حطّ المهاجرون عصا الترحال في « ضَجْنان »، وانحنى عليّ يعالج قدميه وقد تفطّرتا من المشي مئات الأميال.
بَركت النوق فوق الرمال تلتقط أنفاسها وتشمّ رائحة وطن قريب.
عينا فاطمة تسافران بين النجوم تستكشفان آفاق السماء.. حيث انطلق أبوها في رحلة الاسراء والمعراج على ظهر البُراق.
عينا فاطمة ما تزالان تتطلعان إلى النجوم، وقد أزهر وجهُها. كوكب صغير هبط على الأرض، وبدا القمر في آخر ساعات الليل أصفر الوجه كما لو أجهده السهر. همست فاطمة في نفسها تناجي:
ـ أنت وحدك الباقي... كلُّ شيءٍ آخذٌ طريقَه نحو المغيب، النجوم، القمر.. الأرواح البيضاء تتجه إليك لا تبالي بأشواك الطريق في الصحراء حتّى لو كانت حافية القدمين..
أنت وحدك الحقّ يا ربّ.. أنت نور عيني وفرحة قلبي.. دعني أسبّحك في ملكوتك واطوف حول عرشك.. أنت وحدك الحقيقة وما سواك وهْمٌ.. أنت وحدك نبع الحياة وعداك سراب يحسبه الظمآن ماء.
في « قُبا » هبط جبرئيل يحمل كلمات السماء إلى رجل فرّ من أُمّ القرى ينبئه عن مسار قافلة فيها ابنته وامرأة ربّته وفتى ربّاه في حِجره فلمّا اشتدّ ساعده وقف إلى جانبه يَفديه بنفسه..
فاح عبير الوحي.. ملأ فضاء « قبا » حيث بنى الرسول أوّل مسجد في الإسلام:
ـ والذينَ يذكرونَ الله قياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهم ويتفكّرون في خلقِ السماوات والأرضِ ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فَقِنا عذابَ النار. فاستجابَ لهم ربُّهم أنّي لا أُضيع عملَ عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أُنثى بعضُكم مِن بعضٍ فالذينَ هاجَروا من ديارِهم وأُوذُوا في سَبيلي وقاتَلوا وقُتلوا لأُكفّرَنّ عنهم سيئاتِهم ولأُدخِلَنّهم جنّاتٍ تَجري مِن تحتِها الأنهارُ ثواباً مِن عندِ الله واللهُ عندَه حُسنُ الثواب .
كان النبيّ يترقّب وصول القافلة المهاجرة فيها أخوه وابنته وامرأة ربّته. كلمات جبريل ما تزال تطوف في خياله وهو ينظر إلى الأفق البعيد، ولكن لا شيء سوى الرمال السمراء..
ولو قُدّر لأحد كان في « قبا » لَرأى رجلاً قد ذرّف على الخمسين ليس بالطويل ولا القصير كان رَبعةً « وقد جُعِل الخير كله في الرّبعة »؛ أزهر الوجه، ناصع البياض مُشرَباً بحمرة خفيفة لعلّها من أثر الشمس ورياح الصحراء، رَجْل الشَّعر يبلغ شحمةَ أُذنَيه ويكاد يلامس منكبيه؛ واسع الجبين، مقوّس الحاجبين كهلالين، وكانت عيناه نجلاوَين واسعتين؛ أقنى الأنف، كأنّ أسنانه لؤلؤ منضود، فإذا مشى مشى الهُوَينى متقارب الخطى كزورقٍ ينساب على هون.
وقف النبيّ يتأمل الصحراء المترامية.. تمسح عيناه الأفقَ البعيد، ينتظر أحبّةً فارقهم في لحظةِ ليل وقد حاصرته ذئاب مكة.
غمر الليل الصحراء وآبَ النبي إلى مضارب « بني سهم »، وقد بدا على وجهه حزن كحزن آدم يوم بحث في الأرض عن حوّاء.
وصلت القافلة بسلام، وخفّ الأب للقاء ابنته.. ذكراه الغالية من خديجة.. خديجة التي رحلت بعيداً وتركته وحيداً.
عانقت البنت أباها. غرقت في عبيرِ رجُلٍ سماويّ، فاضت عيناها دموعاً، دموع فرح ودموع رحمة.
ـ يا لَعذاب محمّد.. يا لعذاب الأنبياء!
ربّما دُهِشت بعض النسوة وهُنّ يتطلّعن إلى رجل ذرّفَ على الخمسين يجتاز في لحظةٍ نصفَ قرن من الزمن ليتحوّل إلى ولدٍ يرتمي في أحضان أُمّه.
تمتم رسول السماء يضع حدّاً لأسئلة تناثرت فوق الرمال:
ـ فاطمة أُمّ أبيها.
فاطمة بربيعها الثالث عشر تتحوّل إلى أُمّ لأعظم الأنبياء.
ـ فاطمة بضعة منّي.
نظر محمّد إلى عيني ابنته.. كان يبحث فيهما عن فتى شرى نفسَه لله.
ـ انّه هناك يا أبه.. تشقّقت قدماه.. سال منهما الدم.. الشوك والرمضاء ومشاقّ الصحراء.. لا ناقة عنده ولا جمل.
تألقت عينا النبيّ:
ـ إنّه أخي.
مضى محمّد للقاء أخيه المهاجر..
وهبَّ الفتى للقاء رسول السماء.. نسي آلامه.
رشّ الرسول كفَّيه برحيق النبوّة ثم مسح على قدمي الفتى المهاجر، كأُمّ رؤوم تمسح رأس وليدها ليغفو وينام..
سافرت الآلام ووجد علي نفسه في مهد أمّه في كنف رجل ربّاه صغيراً... فغفا ونام، ونهض الرجل المكي تاركاً وليد الكعبة يلتقط أنفاسه بعد رحلة مريرة في رمال الصحراء.

أمرُ زواجها إلى الله
دخلت القافلة يثرب وانطلقت أناشيد الفرح تملأ الفضاء..
طلع البدر علينا من ثَنيّات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيُّها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت نوّرت المدينة مرحباً يا خير داع
وامترجت كلمات الفرح مع زغاريد النسوة، وارتدت يثرب حلّة جديدة.
ومرّت « القصواء » تشقّ طريقها بين الجماهير.. وتناثرت كلمات رجاء هنا وهناك.
ـ انزل يا رسول الله على الرحب والسعة.
ـ دَعُوا « الراحلة » فإنها مأمورة.
وسارت « القصواء » حتّى إذا وصلت بيت « أبي أيوب » شمّت رائحة وطن فأناخت رحلها وبركت، وفي تلك البقعة من أرض الله ارتفعت قواعد مسجد قُدّر له أن يصنع التاريخ والحضارة.
وتساءل بعض المسلمين: تُرى كيف ندعو إلى الصلاة ؟ قال أحدهم:
ـ ننفخ بالبوق كما يفعل بنو قُرَيظة.. ألسنا نتجه في الصلاة إلى قبلتهم ؟!
ـ الناقوس أفضل... ناقوس النصارى له صوتٌ ساحر..
وكان للسماء رأي آخر.. هبط جبريل يحمل النداء، إن الله يأمركم أن ترفعوا الأذان..
وترقرقت في جنبات المدينة كلمات السماء.. وكان بلال يدعو المسلمين: الله أكبر، حَيّ على الصلاة حَيَّ على الفلاح.
وتمرّ الأيام، ويشتدّ عود الإسلام؛ ونمت فاطمة.. تفتحت للحياة الجديدة.. حياة تنبض بدفء الإيمان والأمل.. وأبوها محمّد يرسم الطريق الذي يمرّ عبر يثرب قلب العالم.
توالت الأحداث.. وتستيقظ جزيرة العرب على أنباء ستغيّر مسار التاريخ. اتجه المسلمون إلى الكعبة في الصلاة بعدما كانوا يتّجهون إلى بيت المَقدِس.. واغتاظ اليهود.. ثمّ وُلد رمضان.. رمضان الكريم، وأصبح للمجتمع الوليد أعياد فرح.. عيد « الفطر » وعيد « الأضحى » وتدفّق نهر الزكاة يطهّر الأغنياء ويحيي الفقراء؛ ثمّ هبّت المدينة لتشارك كلّها فرحة النبيّ والذين آمنوا معه.
كبرت فاطمة سيدة النساء.. أُمّ أبيها.. نفسي التي بين جَنبيّ.. وفاطمة بضعة منّي..
مضى « أبو بكر » وهو يحثّ الخطى إلى منزل النبيّ.. وفي قلبه أُمنيّة طالما حدّث بها نفسه. لا شكّ أن رسول الله سيقبل طلبه فهو صاحبه الذي هاجر معه فارّاً من مكة.. وتحمّل معه مشاقّ الهجرة ومخاطر الطريق.. ثمّ إنّه قد زَفّ إليه ابنتَه عائشةَ وهي ما تزال صغيرةً بعد.. وأيّ شرف أعظم من مصاهرة رسول الله..
طرق « الصحابي » الباب برفق.. جلس قبالة النبيّ..
ـ جئتك خاطباً يا نبيَّ الله.
تمتم النبيّ:
ـ أمرُها إلى ربّها.
نهض « أبو بكر » واستأذن بالانصراف.. وفي الطريق كان أبو عائشة يفكّر ـ ألاّ يكون قد أغضب النبيّ فينزل فيه وحي من السماء.
وسمع « أبو حفصة » بقصة صاحبه فاستيقظت في نفسه رغبة سرعان ما استجابت لها جوارحه...
مضى « عمر » مسرعاً نحو منزل « الرسول »، واستأذن في الدخول عليه.. إنّه لا يحبّ الانتظار أكثر من ذلك، فقال على الفور:
ـ جئتك خاطباً ابنتك فاطمة.
قال النبيّ:
ـ أنتظرُ بها أمرَ الله..
وهيمن صمتٌ ثقيل.. ونهض « أبو حفصة » بعد ان استأذن النبيّ وغادر المنزل مثقل الخطى، ووجد نفسه يمضي إلى منزل صاحبه « أبي عائشة » ربما ليتحدّث معه بشأن « فاطمة »، تُرى من سيحظى بهذا الشرف الرفيع.. مَن سيقترن بسيّدة نساء العالمين ؟!

سكوتُها رضاها
نسيم عليل كان يداعب سعفات النخيل، يحرّكها برفق، وظلال وارفة تنتشر تطرّز أرض رجل من « الأنصار » كان عليّ ما يزال منهمكاً بإرواء نخلات باسقات، يحمل المياه على بعير له بأجر.. وقد تصبّب عَرَقاً..
جلس الفتى الذي بلغ من العمر خمسةً وعشرين سنة.. جلس يلتقط أنفاسه.. أسند جذعه إلى جذع نخلةٍ مَيساء.. وطافت أمامه آيات من القرآن...
ـ « ربِّ إني لِما أنزلتَ إليّ مِن خيرٍ فقيرٌ ».
من بعيد لاح له رجلان قادمان كانا يحثّان الخطى... سرعان ما عرفهما. عرف أوّلاً عمر، يُعرَف طريقته في المشي، ثمّ تعرّف « أبا بكر » لأنه طالما شاهدهما معاً.. فهناك ما يشبه الصداقة بينهما...
تمتم أبو عائشة:
ـ يا أبا الحسن.. لم تبق خصلة من خصال الخير إلاّ ولك فيها سابقة وفضل.. وأنت من رسول الله بالمكان الذي قد عُرِفتَ من القرابة والصحبة والسابقة... فما يمنعك أن تذكرها لرسول الله وتخطبها منه ؟
قال عمر دون مقدمات:
ـ وقد خطبها الأشراف من قريش فردّهم... وأظنّه قد حبسها من أجلك.
أمسك « أبو بكر » بخيط الحديث:
ـ ما الذي يمنعك يا علي أن تذكرها!!
تمتم عليّ وقد لاحت في عينيه غيوم ممطرة:
ـ والله إن فاطمة لَمَوضعُ رغبة.
وأردف وهو يقلّب يديه:
ـ ولكن يمنعني قلّة ذات اليد.. أنا لا أملك من حطام الدنيا سوى سيف ودرع وهذا البعير.
قال أبو بكر متأثّراً:
ـ إن الدنيا لدى رسول الله كهباء منثور.
وقال عمر وهو يحثّه:
ـ اخطبها يا علي تَزْدَدْ فضلاً إلى فضلك.
سكت عليّ وطافت في عينيه أحلام جميلة.
نهض عليّ إلى ساقيةٍ قريبة وراح يتوضّأ، أشاعت برودة الماء السّلام في روحه؛ وأدرك الشيخان أن « عليّاً » قد حزم أمره، فغادرا المكان وقَفَلا عائدَين.
كان « النبيّ » جالساً في حجرة أمّ سلَمَة، وكان عبير الوحي يطوف في سماء المكان.
ارتفعت طرقاتٌ على الباب.. وهتفت أمّ سلمة:
ـ مَن الطارق ؟
قال النبي وقد عرفه:
ـ افتحي له.. هذا رجل يحبّه الله ورسوله.
فتحت أمّ سلمة الباب... وتريّث « الطارق » ريثما تعود « أمّ المؤمنين » إلى خِدرها:
ـ السلام على رسول الله.
ـ وعليك السلام يا أبا الحسن.
جلس ربيبُ النبيّ مطرقاً.. تلألأت حبّات عرق فوق جبينه الواسع.. كلمات تطوف في أعماقه.. وقد انتصب الحياء سدّاً كصخرة صمّاء تقطع تَدفُّق الساقية.
أدرك النبيّ ما يموج في أعماق عليّ، فقال والبسمة تطفح فوق وجهه:
ـ ياعلي، كأنّك أتيت لحاجة.. فقل حاجتك.
انفتحت أمام الفتى كوّة من أمل، ووجد نفسه يقول:
ـ يا رسول الله.. إن الله هداني بك وعلى يديك، وقد أحببت أن يكون لي بيت وزوجة أسكن إليها، وقد أتيتك خاطباً ابنتك فاطمة.
كانت أمّ سلمة تنظر إلى وجه النبيّ، فرأت بسمةً تطوف في محيّاه. قال النبيّ:
ـ يا عليّ، إنه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رَسلِك حتّى أدخل عليها.
نهض النبيّ، ونهض عليّ إجلالاً له.
ـ يا فاطمة.
ـ لبيك يا رسول الله.
إنّ عليّ بن أبي طالب مَن قد عَرَفتِ قرابتَه وفضله وإسلامه.. وإني قد سألتُ ربّي أن يزوّجكِ خير خلقه وأحبّهم إليه؛ وقد ذكر من أمركِ شيئاً.. فما ترين ؟
أطرقت فاطمة وكانت علامة رضا تطوف فوق وجهها تغالب مسحةَ حياء صبغت وجنتيها بحمرة خفيفة كشمسِ صباحٍ باسم.
هتف النبيّ مستبشراً:
ـ الله أكبر، سكوتُها رضاها.
تدفّق ينبوع فرح في بيت أمّ سَلَمة. طاف الخبر السعيد منازلَ المدينة كفراشة تدور، تحطّ هنا وترفرف هناك، وحلّقت في الأفق أحلام العذارى، وشمّ بعض أهل « الصُّفّة » رائحة وليمة عرس.
قال النبيّ وهو يتطلّع إلى صهره:
ـ هل معك شيء أُزوّجك به ؟
عَرَض الفتى بضاعته:
ـ سيفي ودرعي وناضحي.
ـ أمّا سيفك فالإسلام يحتاج إليه، وأمّا ناضحك فتنضح به على نخلك وتحمل عليه رَحلك، ولكني رَضِيتُ بدرعك.
وانطلق عليّ عارضاً درعه على من يشتريه، وسرعان ما وجد له مبتاعاً.. اشتراها منه « عثمان » وأقبل الفتى يحثّ خطاه إلى منزل النبيّ، فصبّ الدراهم بين يديه وكانت أربعمئة درهم.
انطلق عليّ يهيئ منزله الجديد، وصورة فاطمة بربيعها الخامس عشر ما تزال تطوف في عينيه، وشعر بأن نبعاً من مياه باردة يتدفّق في قلبه..
نَشَر أرضَ الحجرة برملٍ ليّن، وراح يمسح عليه بكفّه، فبدا كبلاطة ناعمة، وثبّت خشبة بين الجدارين في أقصى الحجرة لتكون مشجباً للثياب.. وبسط فوق زاوية من الرمل جلد كبش، زيّنها بوسادة من الليف... وهكذا تمّ بيت فاطمة بنت محمّد.
أجال علي بصره في الحجرة.. لا شيء يشدّ قلب المرأة.. لا حرير ولا فراش وثير.. ولكنه يعرفها جيّداً، يعرف بنت النبيّ. إنّها ليست سوى نفسه الكريمة التي تأبى سوى حياة البساطة والحياة الخالية من بهارج الدنيا الزائلة.

اختيار السماء
قال النبي وهو يناول بلالاً حفنة من الدراهم:
ـ ابتَعْ لفاطمة طِيباً.
والتفت إلى « أبي بكر » وناوله حفنة أُخرى:
ـ ابتع لفاطمة ما يُصلحها من ثياب وأثاث، وخذ معك عمّار بن ياسر...
وانطلق جمع من صحابة النبيّ إلى السوق يشترون جهاز فاطمة.
كان السوق يزخر بمختلف البضائع.. بضائع حَمَلتها النُّوق من مكان بعيد..
كان أبو بكر يجيل بصره في زوايا السوق وفي قبضته دراهم معدودة... ماذا يمكنه أن يشتري بها ؟! وبعد جولة مضنية دفعته قلّة ذات اليد إلى أن يتخيّر بضائع رخيصة الثمن، فكانت: قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، قطيفة سوداء خيبرية، سرير مزّمل بشريط، فِراشان مصريّان؛ حَشو أحدهما ليف وحشو الآخر من صوف الغنم، أربعة وسائد من الجلد مما يُدبَغ في الطائف وقد حُشيت بنبات طيّب الرائحة.. ستائر رقيقة من الصوف، حصير مصنوع من سعف النخيل، رَحى، إناء نحاسي لغسل الثياب، سِقاء من الجلد، جرّة خضراء وبعض الآنية الخزفية. وحمل الصحابة جهاز فاطمة متوجهين إلى منزل النبيّ..
راح النبيّ يقلّب بيده آنية الخزف وعيناه تتفحصان جهاز سيّدة نساء الأرض.. فتمتم بصوت أقرب إلى الحزن:
ـ بارك الله لأهل بيت جُلّ آنيتهم من الخزف.
ربما تذكّر خديجة تلك المرأة الثرية التي كانت القوافل التجارية تحمل ثروتها من بلد إلى بلد، وها هي ابنتها تُزَف بجهاز من الجلد والخزف والنحاس. سرعان ما طَفَت الابتسامة فوق محيّاه وهو يرى ابنته قادمة، فنهض من مكانه.. وقبّل يدها وراح ينظر إلى وجهها المضيء، يستشف من ورائه صورةَ زوجته الوفية وملامح أمّه الرؤوم.
ارتفع صوت بلال جَهْوَريّاً يدعو المؤمنين للصلاة؛ الكلمات تنساب هادئة مؤثّرة مفعمة بالحبّ والأمل والحياة.. ويشعر النبيّ بأن نبعاً فيّاضاً في صدره ويشيع السلام في قلبه، فنهض ملبّياً داعيَ الله.
المسجد مكتظّ بالمسلمين، ينتظرون قدوم « الرسول » ليس للصلاة فقط بل لشيءٍ آخر. إن النبأ قد أثار استغراب الكثير؛ يريدون استكشاف هذا الزواج الفريد. إن فتاة مثل فاطمة كان بإمكانها أن تتزوج ثريّاً يفرش دربها بالحرير.. صحيح أنّ ابن أبي طالب مثال للفتوّة وهو ابن عمّ النبيّ، ولكنّه لا يملك شيئاً. لقد هاجر حافياً وما يزال يعيش حياةً مريرة لا يملك شيئاً... ولكن ما بال فاطمة ترضى لنفسها مثل هكذا حياة ؟!
كان الهمس يدور على الشفاه. تَحلّق المؤمنون حول « النبيّ » كعادتهم، كفراشات تنظر إلى شمعة تتوهج. أدرك النبي ما يجول في الخواطر فقال بخشوع:
ـ أتاني حبيبي جبريل فقال: يا محمّد، زوِّجْها عليَّ بن أبي طالب.. فإنّ الله قد رَضِيَها له ورَضيَه لها.
وانفضّ المسلمون وقد ترسّخت في ضمائرهم صورة جديدة عن الحياة العائلية عندما تنهض على الإيمان وحده. لقد اختارت السماء لعليّ فاطمة واختارت لفاطمة عليّاً، واستجابت فاطمة لإرادة السماء طائعة مبتهجة. إنّ شيئاً في أعماقها يشدّها إلى عليّ كما شدّ عليّاً إلى فاطمة. وباركت السماء رغبة عليّ واستجابة فاطمة، ورفرفت الملائكة بأجنحتها مَثنى وثُلاث ورُباع.
وجد علي في فاطمة ما كان يبحث عنه في نفسه، ووجدت فاطمة في عليّ ما كانت تنشده في أعماق روحها، وكان اللقاء على يد رسول السماء إلى الأرض.. إلى المرأة وإلى الرجل، ليكون اتحادهما ولادة للإنسان.
وهكذا قدر لأنيس العمر أن يكون رفيقَ درب. كانت فاطمة سعيدة بعليّ، ترى في عينيه طيف أبيها.. أبيها الذي تحبّه لأنه قادم من عند الله.
أحبّت فاطمة عليّاً.. أحبّت معناه وخياله، رأت فيه ظلال محمّد... حيث نشأت تحت تلك الظلال... أرادت أن تنتقل من بيت والدها إلى كَنفِ رجلٍ يشبه والدها في كلّ شيء.
جلس عليّ في بيته. استند إلى الجدار الطيني، وقد غاصت أصابع قدميه في الرمل الليّن الذي يغطي أرضية الحُجرة.. كلّ شيء في البيت ينتظر فاطمة... مشجب الثياب.. المخضب.. الرَّحى.. حتّى ذرّات الرمل. فاحت رائحة « الإذخُر » ملأت فضاء الحجرة عطراً... وعليّ ما يزال يترقّب قدوم فاطمة، وقد مضت ثلاثة أسابيع حَسِبَها عليّ قروناً طويلة.
لابدّ من خطوةٍ للقاء، وقفزت في ذهن « الفتى » صورة « حمزة » فنهض من فوره وحثّ الخطى نحو منزل عمّه.

الزفاف
مرّت أيام وأيام، وعلي لا يفتأ يذكر فاطمة.. يعيش خيالها الشفاف؛ روحها الطاهرة؛ عينيها المضيئتين؛ مشيتها وهي تخطر على الأرض هوناً...
قال حمزة وهو يحدّق في عينيه:
ـ في عينيك سؤال.
ـ يا عمّ، ذكرت أهلي.
ـ ما تنتظر إذن.. هيا بنا إلى منزل النبيّ.
في الطريق لاحت لهما « أُمّ أيمن » وقد أدركت على الفور ما يدور في خَلَد عليّ، فكَفَتْهما مؤونة ذلك.
انطلقت « أمّ أيمن ».. وكان النبيّ في بيت أمّ سلمة.
قالت أمّ أيمن وقد عرفت كيف تستأذن قلب الرسول:
ـ يا رسول الله، لو أنّ خديجة باقية لَقرّت عينُها بزفاف فاطمة..
وإن عليّاً يريد أهله.. فقِرّ عين فاطمة ببعلها واجمع شملهما وقِرّ عيوننا بذلك.
قال النبيّ:
ـ فما بال عليّ لا يطلبها مني ؟
ـ يمنعه الحياء يا رسول الله...
كانت عينا النبيّ تبحثان عن خديجة.. تجمّعت في عينيه الدموع كغيوم ممطرة:
ـ خديجة.. وأين مثل خديجة، صَدّقَتني حين كَذّبني الناس، وآزَرتني على دين الله وأعانَتني عليه.
وقفت أمّ أيمن تنتظر رسول الله:
ـ إنطلِقي إلى عليّ فأتيِني به.
خَفّت أمّ أيمن إلى حيث ينتظر الفتى:
ـ ما وراءكِ يا أمّ أيمن ؟
ـ الخيرُ كلّه؛ رسولُ الله يدعوك.
كان عليّ مطرقاً برأسه يحدّق في الأرض، قال النبيّ مشجّعاً:
ـ أتحبّ أن تدخل عليك زوجك ؟
ـ نعم فداك أبي وأمّي.
ـ نعم وكرامة يا أبا الحسن، أُدخلها عليك في ليلتنا هذه أو في ليلة غد إن شاء الله.
نهض الفتى وهو يطير فرحاً. لقد حلّت لحظة اللقاء؛ لقاء قلبين طاهرين.. روحين صافيتين...
تمايلت سعفات النخيل طرباً.. تألّقت في السماء النجوم؛ وظهر القمر يزدهي بهالته.. والسماء تتطلّع إلى عُرس في الأرض. تألّقت فاطمة فبدت بين النسوة كوكباً درّياً؛ حتّى إذا استَوَت فوق الناقة ارتفع صوت الدفوف، وبدأ موكب الزفاف يسير الهُوَينى.
فاطمة تحفّها بناتُ عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار، أخذ عمّار بزمام الناقة، وكان الرسول وبصحبته حمزة والرجال يمشون خلفها.
وملأت الزغاريدُ الفضاءَ.. وانطلق صوت أمّ سلمة يشدو فرحاً:

سِـرْنَ بعـونِ اللهِ جاراتـي واشكُـرنَهُ في كـلِّ حالاتِ
واذكُرْنَ ما أنعمَ ربُّ العُـلى مِن كشفِ مكـروهٍ وآفـاتِ
فقد هدانـا بعدَ كفـرٍ، وقـد أنعَـشَنا ربُّ السـمـاواتِ

وارتفع صوت حفصة:

فـاطمـةٌ خيـرُ نـساء البَـشَرِ ومَـن لـها وجهٌ كوجهِ القمـرِ
فَضّـلكِ اللهُ على كـلِّ الـورى بفضـلِ مَن خُصّ بآي الـزُّمَرِ
زوّجــكِ الله فتـىً فـاضـلاً أعني علـيّاً خيرَ مَن في الحضرِ
فَسِـرنَ جـاراتـي بـها أنـها كـريمـة بنت عظيـم الخـطرِ

في المسجد كان اللقاء، أخذ النبي يدي فاطمة، ووضعها في يدي علي، وتمتم الرسول بخشوع:
ـ اللّهم إنّهما أحبّ خلقك إليّ.. فأحبّهما، وإني أعيذهما بك وذرّيتهما من الشيطان الرجيم.
شهد البيت الصغير ولادة حبّ عميق عمق البحر، طاهراً كقطرات الندى، متدفقاً كالينبوع. لم تعثر فاطمة في بيتها على فراش وثير لكنّها وجدت قلباً دافئاً ينبض بالحبّ، ولم تجد فاطمة في منزلها الجديد جواهر أو لؤلؤاً منثوراً لكنها وجدت انساناً يموج بقيم تتألق سموّاً وتشعّ رحمةً، وجدت فاطمة ما تنشده المرأة في أعماقها.. وجدت كلّ ذلك قرب عليّ.
ووجد عليّ في فاطمة قبساً من أُمّه، فالزهراء تكاد تذوب رقّة، وجد فيها رفيق دربه ففاطمة شوق وحنين، ووجد فيها الخصب والحياة ففاطمة كوثر محمّد.
طلب عليّ يد فاطمة؛ واطرقت فاطمة، وكان صمتها وحمرة الحياء تقولان نعم لعليّ، وباركت الملائكة لقاء الشطرين ليؤلّفا كياناً جديداً فيه صفات حوّاء وخصال آدم.
وذات صباح جاء النبيّ زائراً وسأل فتاه:
ـ كيف وجدت أهلك ؟
أجاب عليّ وعيناه تنطقان ثناءً:
ـ نِعم العون على طاعة الله.
والتفت النبيّ إلى فتاته:
ـ وكيف وجدتِ بعلك ؟
فقالت بكلمات تقطر حياءً وحبّاً:
ـ خير بعل.
رمق النبيّ السماء. عَبَرت الأفلاك كلماتُه الدافئة:
ـ اللّهم ألّفْ بين قلبيهما وارزقها ذرّية طاهرة.
وعندما همَّ بالنهوض قال الأب لفتاته:
ـ يا بنيّة، نعم الزوج زوجك... لا تعصي له أمرا.
ثمّ شدّ على يد فتاه وقال بهدوء:
ـ الطف بزوجتك وارفق بها؛ فان فاطمة بضعة مني، يؤلمني ما يؤلمها ويسرّني ما يسرّها.
شيء ما وُلد في قلب عليّ تجذّر في أعماقه، شيء يشبه العهد.. الميثاق ألاّ يُغضب فاطمة أو يكرهها على أمر ما إلى الأبد.
وفي قلب فاطمة وُلد الحبّ، تفجّر نبعه.. وعندما يحبّ المرء ينسى كلّ شيء سوى الطاعة للحبيب.
وهكذا عاش عليّ وفاطمة.. وتمرّ الأيام.

الاستعداد
كانت تشبه أباها في كلّ شيء.. في حديثها، صمتها، مشيتها، وفي ذلك النور الذي يشعّ من عينيها، تعمل بصمت أو ترتّل القرآن تتشرّبه.. تتنفس جوّه وتعيش في ظلاله.
رتّبت ثيابها وكانت قليلة مختصرة. وضعتها فوق خشبة كان زوجها قد ثبتها في زاوية الحجرة، نشرت خمارها وقطيفة سوداء وقميصاً زهيداً، رتّبت الفراش ثم عمدت إلى كنس البيت. وتصاعد غبار خفيف كان يتألق في ضوء الشمس.
مسحت كيزان الخزف وأعادت ترتيبها فبدت جميلة.
حاولت أن تجرّ الرحى إلى مكان مناسب. وجدتها متشبثة في الأرض فتركتها مكانها ريثما يعود زوجها.
ومن كيس في زاوية استخرجت حفنات الحجرة من الشعير ثمّ جلست إلى الرحى.
دارت الرحى، تساقط الدقيق تباعاً فجمعته في اناء صغير، أضافت قَدَحين من الماء وراحت تعجن الخليط، حتّى إذا تجانس غطّت الاناء وتركته ريثما يصبح خميراً.
جلست فاطمة وأشعلت النار في الموقد، تصاعد دخان أزرق وتوهّج جمر فسفوريّ الحُمرة، كانت عيدان الحطب تتكسّر، وكانت فاطمة تصغي مستغرقة، سرت في أطرافها قشعريرة وتجمعت في عينها الدموع.. فرمقت السماء من خلالها وقلبها ينبض أملاً بما وعد الله المؤمنين. ملأت رائحة الخبز الحارّ فضاء البيت.
عاد عليّ وقد بدا مهموماً بعض الشيء، وعندما وقعت عيناه على فاطمة شاعت الابتسامة في وجهه. لَشدّ ما يحبّها بقوامها النحيل بتلك الروح التي تكاد تغادر إهاب البدن إلى حيث ترفرف الملائكة.
نظر عليّ وهو يتناول قرص الشعير إلى يديها. كانت هناك خطوط حمراء في كفيّها، أدرك على الفور أنّها من أثر الرَّحى؛ تمنّى أن يكون بوسعه شراء خادم تعينها على تدبير المنزل، فكّر أن يضاعف جهده في حفر الآبار، سيحيل المدينة إلى ينابيع لكي يتسنى له جمع مبلغ يكفي لشراء جارية تعين سيدة النساء؛ وربما حصل على غنيمة تُغنيه عن كلّ ذلك، كان عليّ يفكّر وهو يعالج سيفه ذا الفقار.
لم تسأل فاطمة زوجها عن المناسبة في كل هذا الاهتمام بالسيف، فقد عرفت استعدادات المسلمين للتصدّي لقوافل قريش التجارية، وتحدّثت بعض نسوة المهاجرين عن قافلة كبيرة يقودها أبو سفيان تحمل أموالاً طائلة.. تذكّرت فاطمة كيف صادر المشركون أموال المهاجرين.. تذكرت أيام الحصار في شِعب أبي طالب وألوان القهر والظلم الذي صَبَّه أبو سفيان وأبو جهل وأبو لهب على الرسول والذين آمنوا.
أفاقت فاطمة على صوت زوجها وهو يرتّل بخشوع:
ـ يسألونك عن الشهرِ الحرامِ قتالٍ فيه قُل قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ عن سبيلِ الله وكفرٌ به، والمسجدِ الحرامِ وإخراجُ أهلهِ منه أكبرُ عند الله، والفتنةُ أكبرُ مِن القتل .
لَكأن عليّاً يدرك ما يدور في خَلَد فاطمة، وها هي السماء تشدّ أزر المظلومين المشرّدين.. تمنحهم سيوفاً وبَيارقَ ينتصفون بها ممّن قهروهم وشرّدوهم من ديارهم.
ودّع النبيّ ابنته فاطمة. وأدرك المسلمون جميعاً أنّ الرسول قد أعدّ العدّة لاعتراض قافلة قريش، وانّه لم يبق له في المدينة شيء.
هزّ علي راية « العُقاب » بيده، وانطلق بصحبة النبيّ باتجاه الشمال حيث « وادي الرَّوحاء »، وسُمع النبي يقول:
ـ هذا أفضل أودية العرب.
عسكرت قوات المسلمين، وكانت تتألف من ثلاثمئة مقاتل يتناوبون على ركوب سبعين من الأبل اضافة إلى فرسين فقط. وبعد استراحة وجيزة قضاها المسلمون في الصلاة والتهيّؤ لقطع المسافة لآبار « بدر » حيث طريق القوافل التجارية.. قسّم النبيّ الأبل على المقاتلين فكان نصيبه مع عليّ و « أبي مرشد » بعيراً واحداً يتناوبون ركوبه.
قال عليّ وأيّده أبو مرشد:
ـ نحن نمشي عنك يا رسول الله.
أجاب النبي وهو يطوي الصحراء ماشياً على قدميه:
ـ ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما.
وفي « الصفراء » بعث النبيّ دورية استطلاع إلى « بدر ».. وفي « وادي ذفران » وصلت أنباء مثيرة.

ومكة تستعدّ أيضاً
مكّة يغمرها الظلام؛ والنجوم ترسل ضوءً واهناً.. تنبض من بعيد كقلوب مُجهَدة؛ نامت العيون ما خلا عيوناً حجريّة تُحيط بالكعبة ما تزال مفتوحة تُحدّق ببلاهة وغباء.
وفي عالم هُلاميّ كان رجل يركب بعيراً يخطر به، حتّى إذا وقف « بالأبطح » صرخ عالياً:
ـ يا آلَ غدر، انفروا إلى مَصارِعكم!
خفّ البعير براكبه فوق ظهر الكعبة وصرخ:
ـ يا آل غدر، انفروا إلى مصارعكم.
طار البعير نحو جبال مكّة. هبط على قمّة « أبي قبيس » وصرخ الراكب مرّة أُخرى:
ـ يا آل غدر، انفروا إلى مصارعكم.
انتزع الراكب صخرة من الجبل ثم قذف بها بيوت مكة.. انفجرت الصخرة في أسفل الوادي وأضحت حجارة متناثرة تساقطت كشهب مجنونة فوق منازل مكة وأفنيتها.
استيقظت « عاتكة » امرأة من بني عبدالمطلب.. استيقظت مذعورة تجفف وجهها من حبّات العرق، وما تزال الرؤيا ماثلة أمامها.
كانت السماء تنثّ مطراً خفيفاً كدموع هادئة، وظلّت « عاتكة » مستيقظة تحدّق في الظلام، حتّى إذا طلع الفجر أخذت طريقها إلى منزل « العباس ».
كغراب أسود يدور البيوت، شاع خبر الرؤيا في منازل مكّة! وجثم الوجوم على القلوب. تُرى ماذا تخبئ الأيام ؟! وهرع بعضهم إلى أصنام نَحَتوها يتمسّحون بها يلتمسونها الطمأنينة فلا تألوهم إلاّ خَبالاً؛ وقَدّم بعضهم نذوراً للآلهة، تصاعد دخان لكن دون جدوى؛ القلق ما يزال يلوي القلوب كريح عاصفة.
غضب « أبو جهل »، برقت عيناه حقداً وهو يصغي إلى تفاصيل الرؤيا، وهتف بالعباس متهدداً:
ـ أما كفاكم يا بني عبدالمطلب أن تتنبأ رجالكم حتّى تتنبأ نساؤكم! سنتربص بكم ثلاثة أيّام.. فان مضت ولم يكن شيء فأنتم أكذب بيت في العرب.
ردّ العباس بغضب:
ـ يا مصفراً استه، أنت أولى بالكذب منا.
مضت ثلاثة أيام؛ كصفحات من كتاب كبير تنطوي، وبدت صفحة كبيرة من عالم مفتوح، وظهرت مكة ويثرب وصحراء واسعة مليئة بالرمال والحوادث، وظهرت خيول وإبل ورجال تجوب الأودية.
استيقظت مكة مذعورة.. صرخات « ضَمْضَم » تبعث الرعب في القلوب.. الخطر يهدد الآلهة، وآلهة قريش عبادة وتجارة:
ـ يا معشر قريش، اللطيمة!.. أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد وأصحابه!
كان منظره على بعير مجدوع الأنف، مشقوق القميص.. إنذاراً بالخطر الداهم. وثارت الحَميّة حمية الجاهلية، صرخ أبو جهل:
ـ واللات والعزى، ما نَزَلَ بكم أمرٌ أعظم من أن يطمع بكم محمّد وأهل يثرب، فانهضوا ولا يتخلّف منكم أحد.
وتجهّزت قريش، اظهرت كلّ حقدها الدفين تطلب رأس رجل هاجر إلى ربّه.
تجمّع الحاقدون فكانوا ألفاً إلاّ خمسين، ومن الابل ثلاثمئة وخمسون ومن الخيل مئتان.
وسارت قريش بخيلها وخُيَلائها، بدفوفها وقِيانها، بخمرتها وآلهتها.. سارت تشقّ بطون الأودية.
وفي الصحراء كان أبو سفيان يقود القافلة، يسوقها سَوقاً حثيثاً، عيناه تدوران في محجريهما، تسعان الآفاق تترصدان الآثار. وبين الفَينة والاخرى كان يتوقّف ليدقّق في أثر بعير أو فرس، أو يُفتّت بَعرةً يبحث فيها عن أثرٍ لغريم يترصّده. ينتظر لحظة الثأر المقدّس.. ولكن لا شيء، الصحراء غامضة غموض البحر، والرمال هي هي بتموجاتها، والسماء تزدحم بغيوم رمادية تمرّ فوق الرمال كسفن تائهة.
كانت القافلة تتقدّم من آبار بدر، وقد عصف القلق بأبي سفيان وأطلّ الرعب من عينيه، يخشى أن يسقط في قبضة محمّد عدوِّه اللدود.
سأل أبو سفيان أعرابياً قرب الماء عن خبر محمّد، أجاب الاعرابي:
ـ لم أرَ أثراً لما تقول، ولكني رأيت رجلين يستقيان في الصباح.
ـ وأين مُناخهما ؟
ـ هناك فوق ذلك التلّ.
أسرع أبو سفيان إلى حيث أشار الأعرابي.
ـ نعم هذا مناخ إبل..
وحانت منه التفاتة فرأى بعرةً فالتقطها كما يلتقط المرء جوهرة نادرة، فَرَكها بكفَّيه فظهرت نواة تمر، صرخ أبو سفيان مرعوباً:
ـ هذه واللات علائف يثرب!
أسرع أبو سفيان إلى مُناخ قافلته فحثّ رجاله على إثارتها والاتجاه بها نحو ساحل البحر الأحمر، غادرت القافلة تاركة « بدر » إلى شمالها مُمعِنةً بالفرار، وهكذا أفلت أبو سفيان ولو إلى حين.

التحصّن في بدر
هطلت الأمطار.. هطلت بغزارة فسالت أودية بِقَدَر، وقف النبيّ.. راح ينظر إلى السماء والسحب تَسحّ ما تَسحّ من دموعها الثِّقال... رفع يديه إلى عوالم لا نهائية وتضرّع إلى الله:
ـ اللّهم نَصرَك الذي وعدت... اللّهم لا تُفلِتني أبا جهل فرعونَ هذه الأمّة.
كان الوجوم يسيطر على ثلاثمئة رجل. لقد خرجوا لمواجهة قافلة تجارية، وها هي الأنباء تحمل لهم سيوفاً وخناجر.. وها هي قريش تزحف نحوهم بجيش عَرَمْرم.. ألف رجل إلا خمسين.
هتف النبيّ بأصحابه:
ـ أشيروا علَيّ:
القلق يعصف بالرجال وقد ضرب الخوف أطنابه في بعض القلوب.. نهض « عمر » قائلاً:
ـ يا رسول الله.. إنها قريش!! ما ذلّت منذ عزّت، وما آمنت منذ كفرت!!
راح بعضهم ينظر إلى بعض وأفئدتهم هواء.
نهض المِقداد وقد امتثلت أمامه قصص بني إسرائيل:
ـ يا رسول الله، إمضِ لما أمرك، فنحن معك، والله لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى.. إذهَب أنت وربُّك فقاتِلا إنّا ها هنا قاعدون، إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون.
أطلّ عزمٌ جديد من عيون الرجال وخيّم صمت ثقيل. كان النبيّ ينتظر موقف الأنصار.. فله معهم يوم العَقَبة عهدٌ وميثاق.
نهض « سعد بن مُعاذ » وقال بأدب:
ـ لَكأنك تُريدنا يا رسول الله ؟
ـ أجل.
انسابت الكلمات قوّية أخّاذة مؤثّرة:
ـ يا رسول الله، لقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة.. فامضِ يا رسول الله لما أردتَ.. فوالذي بعثك بالحقّ، إن استعرضتَ بنا هذا البحر فخُضتَه لَخُضناه معك ما تخلّف منّا رجل واحد.
إن للكلمة في القلوب أثرَ البذرة في الأرض الخصبة، سرعان ما تنمو وتهب ظلالها وثمارها..
أشاعت كلمات سعد روح الأمل، شحذت الهمم بعد خوف وقلق.. طافت في الوجه السماوي فرحة ورضا، وهتف النبيّ برجاله:
ـ سيروا على بركة الله وابشروا، فإن الله وعدني احدى الطائفتين، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم.
عبّأ النبي قوّاته وغادر « ذفران » وسلك طريق « الأصافر » ثم هبط منها، وبدا « كثيب السحنان » كجبل شامخ. وقاد النبيّ رجاله إلى يمين « الكثيب ».. حتّى إذا اصبح قريباً من مياه بدر أصدر أمراً بالتوقّف، ريثما ينجلي الموقف.
بعث النبيّ « عليّاً » على رأس دوريّة استطلاع للحصول على معلومات عن قوّات قريش، أوغل عليّ في المسير بلغ آبار بدر؛ فالماء حيوي لرجالٍ في الصحراء، وألقَت الدوريةُ القبض على رجلين كانا يستقيان، وساقتهما إلى معسكر المسلمين.
كان النبيّ يصلّي.. مستغرقاً في رحلة في عوالم سماوية بعيداً عن ويلات الأرض وما يجري فوق كثبان الرمال، ولمّا عاد إلى الأرض وجد بعض المسلمين ينهالون عليهما ضرباً، تمتم النبيّ مستنكراً:
ـ إذا صَدَقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما ؟!!
ونظر النبيّ إليهما وهتف:
ـ صدقا والله.. إنهما لقريش.. إنهما لذات الشوكة.
وأردف متسائلاً:
ـ كم القوم ؟
ـ كثيرون.
ـ ما عِدّتهم.
ـ لا ندري.
ـ كم ينحرون ؟
ـ يوماً تسعاً ويوماً عشراً.
التفت النبيّ إلى أصحابه:
ـ القوم ما بين تسعمائة والألف.
ثمّ تساءل:
ـ فمَن فيهم مِن أشراف قريش ؟
ـ قال أحدهما:
ـ عُتبة بن ربيعة وأخوه شيبة.. النضر بن الحارث. وأضاف الآخر:
ـ وفيهم أميّة بن خلف، ونبيه بن الحجاج واخوه مُنبّه، وعمرو بن وَدّ..
التفت النبيّ إلى اصحابه وقال بحزن:
ـ هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذَ كبدِها.
تفجّر في قلوب المهاجرين غضبٌ مقدّس، وها هي رؤوس الشرك تزحف إليهم وقد حان وقت يثأر فيه المظلوم من الظالم.
كان بلال منسحباً داخل نفسه وقد تداعت في أعماقه صور سوداء، وكان وجه « أُمية بن خلف » محفوراً في ذاكرته بقسوة.. ما يزال جسده يئنّ من سياط أُمية، وشعر بثقل صخرة رهيبة تجثم فوق صدره فندّت عنه آهةُ ألم:
ـ آه.. أُميّة لا نجوتُ إن نجا!
برقت عيناه غضباً، وحانت منه التفاتة فرأى عمّاراً وقد علت وجهَه مسحةٌ من وجوم.. أدرك بلال أن صاحبه هو الآخر يستعيد حوادث رهيبة. لقد شهد مصرع والديه بحِراب « أبي جهل » ذلك القرشي المتوحش.
أصدر النبيّ أمره بالتحرك صوب آبار « بدر »، حتّى إذا وصلوا إلى أدنى المياه نزل النبيّ. وسرعان ما اتخذ المسلمون مواقعهم في الجهة الشرقية من الوادي الفسيح..
حلّ المساء وغفت العيون تترقب ما يُسفِر عنه عالم الغد.

سيُهزَم الجمع
أشرق يوم الجمعة والتاريخ يشير إلى السابع عشر من شهر رمضان. عسكرت قوات قريش، في ثنايا التلال القريبة من وادي بدر، وبدا أبو جهل أفعى رقطاء تتلمّظ. هتف ساخراً وهو يشير إلى قلّة المسلمين:
ـ ما هم إلاّ أكلة رأس، لو بعثنا إليهم عَبيدنا لأخذوهم باليد!
تساءل عتبة بن ربيعة:
ـ ربّما كان لهم كمين أو مدد.
ـ كلاّ يا صاحبي، لقد بعثت « ابن وهب » وطاف حول مواقعهم فلم يرَ شيئاً.
قال شيبة معقّباً:
ـ لكنه قال شيئاً آخر غير هذا.
امتعض أبو جهل، فتساءل عتبة:
ـ وماذا قال ؟
ـ جاء مبهور الأنفاس ونثر كلماته كالنبل: ما رأيت شيئاً ولكني وجدت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا.. نَواضِح يثرب تحمل الموتَ الناقع.
أطرق عتبة. كان يفكّر في المصير.. ألقى أبو جهل نظرة حانقة وبصق على الأرض ثم غادر المكان.
ارتقى عتبة جمله الأحمر وقد دوّت فكرة العودة إلى مكة في رأسه، وأصغت عشرات الرجال إلى ما يقول صاحب الجمل الأحمر:
ـ يا معشر قريش! لن تصنعوا شيئاً بلقاء محمّد وأصحابه. وبين أصحابه رجال من بني عمومتكم أو أخوالكم.. وهل يقتل المرء ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته.. ارجعوا وخلّوا بين محمّد وسائر العرب.
يا معشر قريش! أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، انّ محمّداً له إلٌّ وذمّة.. فان يكن صادقاً فأنتم أعلى عيناً به، وان يكن كاذباً كفتكم ذُؤبان العرب أمره.
جَحَظت عينا « أبي جهل » وخرجت الكلمات من فمه ممزوجة بالبصاق:
ـ انظروا ماذا يفعل الجبن في النفوس!! انظروا إلى سيد من سادات قريش وهو يرتعد من سيوف يثرب.
وفي أدنى الوادي كان الرسول يراقب عن كثب ما يجري في أقصى الوادي.. هناك على جمل أحمر رجل يحذّر قومه سوء العواقب.
واتصلت السماء بالأرض وهبط جبريل إلى كوكب الأرض في تلك البقعة من دنيا الله.. وسرت كلمات السماء في قلب محمّد: فإن جَنَحوا للسَّلْمِ فاجنَحْ لها .
هتف النبيّ وجبينه يتلألأ:
ـ يا معشر قريش! ارجعوا من حيث أتيتم، فلأن يليَ هذا الأمر مني غيركم أحبُّ إليّ من أن تَلُوه أنتم.
تمتم عتبة وهو يصغي إلى ابن مكة الذي فرّ منذ عامين:
ـ ماردّ هذا قومٌ ثم أفلحوا.
تجمعت في السماء النذر، وبدت السيوف بروقاً مخزونة بالرعود، نزل عتبة عن جمله الأحمر، وتقدّم مع أخيه شيبة وابنه الوليد إلى الأرض التي تفصل ما بين الجبهتين، ونادى عتبة بصوت غاضب وكان أبو جهل قد استفزّه:
ـ يا محمّد، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش.
التفت النبيّ إلى عُبيدة:
ـ قمْ يا عبيدة بن الحارث.
وإلى حمزة بن عبدالمطلب وإلى عليّ بن أبي طالب.
كانت راية « العُقاب » تخفق في قبضة عليّ فركزها في الأرض ثمّ انطلق إلى ميدان الصراع.. وتراءى امام عينيه طيف جميل. كان وجه « فاطمة » يبتسم له وقد شعّ من عينيها نورٌ سماويٌّ.
رانَ الصمت على الجبهتين، ما خلا ستة سيوف كانت تلمع وسط الغبار كبروق غاضبة، فجأة ارتفع السيف « ذو الفقار » ثم هوى فهوت معه جمجمة الوليد، ثمّ ارتفع مرّة أُخرى ليهوي على عتبة ثمّ على شيبة، وتساقطت رؤوس الشرك.. تعفّرت بالرمال وكانت العيون جاحظة تنظر برعب إلى شيء ما.
كبّر النبيّ وكبّر معه المسلمون، وانتقل اسمّ عليّ على الألسن في الفضاء.. وفي التاريخ...
وسُمع النبيّ يقول:
ـ والذي نفسُ محمّد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلاّ أدخله الله الجنّة.
وتراءت للذين سمعوا كلمات الرسول جنّات تجري من تحتها الأنهار.. فإذا السيوف ظلال لجنّة عرضها السماوات والأرض.
كان سقوط صناديد قريش صرعى فوق الرمال إيذاناً ببدء معركة رهيبة. وبدأت قريش هجوماً عنيفاً وتساقطت السهام والنبال كالمطر...
وقف المسلمون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، وصمدوا أمام هجمات مدمّرة كعاصفة هوجاء.. تصاعد غبار كثيف وتساقط القتلى والجرحى كجراد منتشر. وشيئاً فشيئاً خفّت حدّة الهجوم.. وفي هذه اللحظة الحاسمة دوّت كلمة القائد العظيم مختصرةً ومصيرية:
ـ شدّوا.
اندفع المسلمون كالسيل، وكانت راية « العقاب » تخفق في قبضة عليّ قويّة ثابتة؛ واختلطت أصوات عديدة بين صهيل الخيل ورُغاء الجِمال وقعقعة الأسلحة وصيحات الرجال، وكانت: « أَحَد.. أحد » تتردد في فضاء المعركة.
وتفجّر غضب مقدّس في القلوب وقد رأى المعذَّبون جلاّديهم.. وغادر النبيّ مقرّ القيادة وبقي أبو بكر وحيداً. اندفع النبيّ يقاتل في الخطوط الأُولى وظهرت في الأُفق سحب بيضاء شفافة تشبه أجنحة الملائكة، وكان النبيّ يهتف بحماس:
سيُهزَم الجمعُ ويُولّون الدُّبُر * بل الساعةُ موعدهُم والساعةُ أدهى وأمرّ ..
استمر القتال مريراً.. واقتربت المعركة من نهايتها بعد ان تمزّقت خطوط المشركين ولاحت في الأُفق هزيمة وشيكة.
هتف النبيّ غاضباً وهو يقذف حفنة من الحصى:
ـ شاهَت الوجوه!
انفجرت ساعة الانتقام وقذف بركان الثأر حممه مدوّية، وهتف بلال وهو يرمق جلاّده بغضب:
ـ أُميّة! رأس الكفر.. لا نجوتُ إن نجا.
حاول بعض المسلمين اعتراض بلال.. أرادوا عدوّهم أسيراً فصاح بلال:
ـ يا أنصار الله.. إنّه أُميّة رأس الكفر.. لا نجوتُ إن نجا..
انقضّ بلال على جلاّده فهوى كأنما سقط من شاهق... ولأوّل مرّة تنفّس بلال الصعداء وانزاحت عن صدره صخرة قاسية كانت تجثم فوق اضلاعه فدمعت عيناه، وراح ينظر إلى السماء في امتنان.
حاول أبو جهل في عناد قديم أن يمنع هزيمة « قريش »، وكان يقاتل خلف سياج من رماح رجاله وفي مقدمتهم ابنه عكرمة... ولكن أنّى لهؤلاء الحفنة من الحمقى الوقوف بوجه رياح النصر وهي تعصف بعنف من أدنى الوادي ؟! اقتربت هتافات: أحَد.. أحَد... وما هي إلاّ لحظات حتّى هوى أبو جهل وارتطم رأسه بالأرض.
وضع عبدُالله بن مسعود قدمه على عنق أبي جهل الذي رمقه متسائلاً:
ـ لمن الدائرة ؟
ـ لله ولرسوله وللمؤمنين.
كانت قدم ابن مسعود تدقّ عنق أبي جهل، فتمتم حانقاً:
ـ لقد ارتقيتَ مرتقى صعباً يا رُوَيعي الغنم!
حاول أن يبصق كعادته فسقط البصاق فوق وجهه، وجحظت عيناه. كان هو الآخر ينظر برعب إلى شيء ما.

تسبيح السيدة فاطمة عليها السّلام
يثرب تتألق فرحاً وقد عاد النبيّ ورايات النصر تخفق فوق رأسه. كانت سعفات النخيل تتمايل طرباً..
توجّه النبيّ إلى المسجد فصلّى ركعتين.. كان المسجد هادئاً والسكينة نبع يترقرق في جوانبه، نهض النبيّ واتجه صوب منزل فاطمة كعادته...
هبّت الفتاة لاستقبال أبيها العظيم، وكانت ابتسامة مشرقة تضيء قسمات وجهها الأزهر.
طبع الأب قُبلةً دافئة على جبين ابنته أودعها كلّ معاني الأُبوّة والحبّ.. ووجدت فاطمة نفسها في أحضان أمّها الدافئة. دخلت عائشة وكانت تغار من فاطمة، فقالت مستنكرة:
ـ أتقبّلها وهي ذاتُ بَعل ؟!
أجاب النبيّ مدارياً:
ـ والله لو علمتِ ودّي لها لازددتِ لها حبّاً.
أجابت ممتعضة:
ـ أنت لا تفتأ تكرّر ذلك وتذكر أمّها العجوز، وقد هلكت في الدهر الأول فأبدلك الله خيراً منها!
أجاب النبيّ بحزن:
ـ لا والله، ما أبدلني خيراً منها.. آمَنتْ بي إذ كفر بي الناس، وصدّقتني إذ كذبني الناس، وأنفقت مالها إذ حَرَمني الناس، ورزقني الله منها ذريّةً دون النساء.
ارتفع صوت عائشة فقالت فاطمة وهي تنسحب بهدوء:
ـ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتَكُم فوقَ صوتِ النبيّ .
ردّت عائشة وقد احمرّ وجهها غيظاً:
ـ والله يا بُنيّةَ خديجة، ما ترين إلاّ أن لأُمّك علينا فضلاً، وأيّ فضل كان لها علينا ؟!
ما لهذه المرأة لا تفتأ تذكر امرأة تَوسَّدت التراب من ثلاث سنين إلاّ لأنها ولدت فاطمة ؟! وفاطمة فتاة تنمّ عن سيدة كما ينمّ البلّور عمّا فيه وقد ولدت سيّدة النساء. تدخّل النبيّ غاضباً:
ـ يا حُمَيراء! إن الله بارك في الوَدود الولود.
وأردف وهو يكفكف دمعة شرقت من عينيه:
ـ رحم الله خديجة.
صرخت عائشة ثائرة:
ـ إنّك تحبّ فاطمة وعليّاً أكثر مني ومن أبي!
ماذا تقول فاطمة لهذه المرأة! هل تقول لها كيف لا يحبّ عليّاً وقد ربّاه في حِجره، فلما اشتدّ عوده آمن به وفَداه بنفسه يوم هاجر، وفي بدر وقد نصر الله المسلمين به وهم قلّة. أتقول لها إن أباك كان مختبئاً في « العَريش » وكان عليّ يقاتل.. يقاتل بضراوة فصَرَع لوحده خمسة وثلاثين من صناديد قريش من أصل سبعين. ماذا تقول لهذه المرأة التي أفقدتها الغَيرة صوابها، ماذا تريد من أبي وزوجي ؟! كانت لوعة تتأجج في روحها.
ـ لكَ الله يا أبي.
وماذا بوسعها أن تقول.. لا لا.. لن تقول شيئاً.. لن تضيف همّاً جديداً إلى هموم النبيّ وقد تألّب العرب عليه... لقد تعلّمت فاطمة الصبر.. رضعته مع لبن أُمّها.. مرّاً حنظلاً لكنها تعودت مذاقه حتّى بات شيئاً مألوفاً.
وفي البيت نادت فاطمة أباها:
ـ يا رسول الله.
ولكن، لا جواب... ونادت مرّة أُخرى: يا رسول الله.
كانت كلمات الله تترقرق في أعماقها: لا تجعلوا دُعاءَ الرسولِ بينكم كدعاءِ بعضِكم بعضا .
هتفت فاطمة:
ـ يا رسول الله!
التفت الأب العظيم وكان ينتظر منها كلمة أقرب إلى قلبه:
ـ يا فاطمة، انّها لم تنزل فيكِ.. أنتِ مني وأنا منك... قولي: يا أبه؛ فانّها أحيى للقلب وأرضى للربّ.
سأل عليّ مبتسماً وقد أراد أن يُشيع البهجةَ في الحجرة:
ـ يا رسول الله، أنا أحَبُّ إليك أم فاطمة ؟
ضحك النبيّ وقال بودّ:
ـ أنت عندي أعزّ منها، وهي أحبّ منك.
طافت الابتسامة الوجوه كفراشة تدور بين زهرات ثلاث. التفت النبيّ إلى ذكرى خديجة وقال مستفسراً:
ـ يا فاطمة، ما كانت حاجك أمس ؟
سكتت فاطمة، لاذت بالصمت...
لقد اكتشف أبوها إذن أنها جاءته لحاجة ثم عادت دون أن تسأله، وها هو اليوم يسألها وهي تودّ أن لا تسأله، على أن منظرها يشفّ عمّا بها، خاصّة كفّيها فما تزالان تؤلمانها من كثرة ما طحنت بالرحى.
تدخّل عليّ وقد عرف أن فاطمة لن تقول شيئاً:
ـ أنا أخبرك يا رسول الله.. إنّها استَقَتْ بالقِربة حتّى أثّرت في صدرها، وجرّت بالرحى حتّى مَجَلت يداها، وإنّها تسألك جاريةً تكون لها عوناً في ذلك.
شعر النبيّ بالحزن يعتصر قلبه وانبجست من عينيه الدموع، وقال بلهجة تنمّ عن اعتذار عميق لابنته:
ـ يا بضعة محمّد، إنّ في المسجد أربعمائة رجل مالهم طعام ولا ثياب.. فتعجّلي يا بنتاه مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة...
وأقبل النبيّ على عزيزته يرفدها من روحه العظيمة فقال:
ـ ألا أُعلّمك ما هو خير لك من الخادم ؟
ـ أجل يا أبه.
ـ تُسبّحين الله ثلاثاً وثلاثين مرّة وتَحمَدين ثلاثاً وثلاثين مرّة وتكبّرين أربعاً وثلاثين؛ تلك مئة باللسان وألف حسنة في الميزان.
ابتسمت فتاةُ الأنبياء. ظهر البِشر في عينيها العميقتين عمقَ البحار.. وهمست في نفسها:
ـ طَلَبنا الدنيا فجاءت لنا الآخرة.
ويمرّ عام.. تعاقبت فصوله الأربعة وانطوت أيامه ولياليه.

الكوكب الحَسَني
اطلّ شهر رمضان وتألقت لياليه الجميلة.. السماء تكتظّ بالنجوم... وصفاء لا عهد ليثرب به يسود المدينة، وطافت آياتُ القرآن بساتينَ النخيل والأعناب.
فاطمة صائمة، والهلال الذي بَزَغ في سماء يثرب ينمو ويكبر، وجَنينٌ في بطن فاطمة يتحرّك يفيض بالحياة... والعيون تترقب كوكباً سيشرق على الدنيا.
كبر الهلال، أصبح نصف دائرة من فضة.. وتدور الليالي حتّى إذا أصبح القمر بدراً، بدأت لحظة المخاض.
تألق الأمل في بيت عليّ.. وأطلّ على الدنيا صبيُّ عليه سِيماء محمّد.
خفّ النبيّ إلى منزل فاطمة، والبُشرى تطوف فوق جبينه.
هتف النبيّ بأسماء، وكانت عند فاطمة:
ـ هاتي إليّ ابني.
تقدّمت أسماء تحمل طفلاً ملفوفاً بمنديل أصفر.
احتضن النبيّ حفيده وطوّح بالمنديل الأصفر بعيداً وقال:
ـ يا أسماء، ألم أعهَد إليكم أن لا تلفّوا المولود بخِرقة صفراء!
أسرعت أسماء وأحضرت منديلاً أبيض، وبدا الوليد حمامةً بيضاء، أو غمامةً هبطت من سمائها إلى الأرض.
تساءل النبيّ عن اسمه، فقال عليّ:
ـ ما كنتُ لأِسبقَ رسولَ الله.
ـ يا عليّ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فسمِّه باسم ابن هارون.
ـ وما كان اسمُه يا نبيّ الله ؟
ـ اسمه شَبّر.
ـ العرب لا تعرف هذا الاسم.
ـ سمّه حَسَناً.
كانت فاطمة، سعيدة وكانت سعادتها انعكاساً لسعادة والدها كما ينعكس النور في المرايا...
كانت فاطمة فرحة؛ لأنها لم ترَ أباها سعيداً كهذا اليوم، طافت أمام عينيه سعادة قديمة يوم قدّمت خديجة طفلته الحبيبة فاطمة يوم بشّره جبريل بالكوثر.
مرّت سبعة أيام.. أيام ملوّنة كقوسِ قُزح.. حتّى إذا أطلّ اليوم السابع... نَحرَ النبيُّ كبشاً وَعقَّ عن حفيده.. لقد فَدَت السماءُ إسماعيلَ بكبش، وها هو حفيد إبراهيم يَفدي الوليدَ المبارك بكبش أملح.. وأعطى القابلة فخذاً وديناراً...
وضع النبيّ الوليد في أحضانه وحلق شعره وتصدّق بوزن الشعر فضة.
وأدرك الذين رأوا النبيّ وحفيده وتلك السعادة التي كانت تتدفّق في وجه النبيّ أن حبّاً عظيماً قد تفجّر في قلب الرسول، وأن لهذا الوليد المبارك شأناً عظيماً.
وتدور الأيّام والقلب الصغير ينبض بهدوء كنهرٍ هادئ...
استعادت فاطمة نشاطها، بل شعرت أن قوّة كامنة قد تولّدت في روحها.. قوّة تدفعها إلى العمل.. إلى أن تلمس الأشياء فتمنحها اسمها وجمالها.
رَشّت الفِناء بالماء.. تناثرت من بين أصابع كفّها حبّاتٌ باردة كانت تتألّق في ضوء الشمس.. وامتلأ الفضاء برائحة طيّبة تشبه رائحة الأرض المرشوشة بالمطر.. رائحة تشدّ المرء إلى أن يفتح صدره فيستنشق الهواء يملأ به رئتيه.
كان الحسن في مهده غافياً.. وطيفُ ابتسامة يلوح فوق فمه الدقيق كوردة تتفتح للربيع.. ربما كان يحلم بأشياء جميلة... أشياء أودعها الله في النفس يوم خلق الإنسان.
كانت فاطمة ترنو إلى الوليد الذي صيّرها أُمّاً. وقد ولدت فاطمة الأُمّ.. تدفّق نبعُ الأُمومة في قلبها فيّاضاً رقيقاً..
جلست إلى الرَّحى ومسّتها فدارت حول قطبها هادئة.
وبصوت رخيم راحت بنت النبيّ ترتّل آيات جاء بها جبريل من السماوات البعيدة، لَشدّ ما تحب فاطمة تلك الفتاة الطاهرة... مريمَ ابنة عمران.. انساب الصوت رقيقاً مؤثّراً كساقية:
وإذ قالَتِ الملائكةُ يا مريمُ إنّ اللهَ اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساءِ العالمين * يا مريمُ اقنُتي لربِّكِ واسجدي واركعي مع الراكعين... قالت الملائكة يا مريمُ إنّ الله يُبشّركِ بكلمةٍ منه اسمُه المسيحُ عيسى بنُ مريمَ وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين .
رَنَت فاطمة نحو وليدها.. حرّكت مهدهُ بقدمها وراح المهد يتهادى على هون كزروق في بحيرة رائقة.
الرحى تدور بهدوء.. وكلمات السماء تنساب بخشوع.. والمهد يتأرجح برفق.. وتلتقي هذه الأشياء لتملأ حياة فاطمة، حيث الزمن نهر تتدافع أمواجه في رحلة نحو البحر الكبير، أو رحى كبيرة تدور حول قطب ثابت لا يعرف الدوران.

ليلةُ شراب
جلس أبو حفصة يفكّر، والليل والظلام فلاةٌ واسعة يبذر المرء فيها ما يشاء ويزرع ما يشاء ويحصد ما يشاء، يطير في السماء أو يمشي في الأرض يخرقها أو ينافس الجبال طولاً...
جلس أبو حفصة وحيداً، وبدا جبينه الواسع برّاقاً في ضوء القنديل... كان يفكّر في ماضيه.. شجرة قصيرة النسب.. ليس لها جذور في أرض الجزيرة... في مكة كان يهرب من نفسه يشرب الخمر كؤوساً تنسيه ماضيه فيعيش في بعض خيالاته.. أو ربما ثأر من بعض أهل الشرف، فيتغاضون عنه... والسكر عُذر.
تذكر فرحته يوم « أسلم ». محمّد منحه الأمل في حياة لا حَسَبَ فيها ولا نَسَب إلاّ التقوى، ولكن خابت آماله في المدينة.. ما يزال البعض ينظرون إليه نظرات مستفهمة... فكان يزيد التصاقه بالنبيّ. زوّجه ابنته حفصة.. أصبح صهراً لرجل عظيم في الجزيرة كلّها، صادَقَ أبا بكر الذي هاجر مع النبيّ.. بات معه في الغار.
امتدّ به الليل.. وأضحت النجوم أشدّ لمعاناً.. اشتعلت في أعماقه رغبة مجنونة في الهرب.. تناول جَفنة صغيرة فملأها خمرةً معتّقة وأفرغها في جوفه. شعر بأنّ أعماقه تشتعل، وزاد وجهه حمرة كجمرة متوقّدة في الظلام... صبّ لنفسه جَفنة أخرى وأخرى... اشتعلت عيناه.. تراقصت فيهما أضواء القنديل... عَوَت ذئاب، ووُلِد وحش في أعماقه. كان الوحش يكبر ويكبر.. يزداد شراسة. فجأةً هبّ واقفاً حتّى كاد رأسه أن يرتطم بالسقف.. سوف يحطّم بيوت يثرب.. اتّجه إلى منزل « ابن عوف » لشدّ ما يكره هذا الرجل.. يفاخر بنسبه.. يتباهى بذهبه وفضّته. طرق الباب بعنف، فخرج الرجل وهو يحاول فتح عينيه بصعوبة، التمعت عينا أبي حفصة وهو يهوي على رأس ابن عوف بقبضته، ارتدّ الرجل مذعوراً وما لبث أن تهاوى في عتبة الباب.
راح عمر يجتاز البيوت.. حتّى إذا جعلها وراءه وبدت الصحراء أمامه بعيدة والسماء تكتظّ بالنجوم، تذكّر ما جرى قرب آبار بدر.. تذكّر صناديد قريش.. وهم يُسحَبون فوق الرمال، ثمّ يُرمى بهم في القَليب. رأى أبا جهل جثّة هامدة.. ورأى أُميّة بن خلف وعُتبة وشَيبة والوليد.. رآهم صرعى وكانوا يملأون مكّة هيبة. لقد أخذهم الموت دون عودة.. وخلّفوا وراءهم ذهباً وفضة ونساءً جميلات وخلّفوا شجرةَ مجدهم الرفيع!
انطلق أبو حفصة يتغنى بشعر الأسوَد:

وكـاينٌ بالقلـيب قلـيب بـدرٍ من القينات والشَّرب الكـرامِ
وكـاين بالقلـيب قلـيب بـدرٍ من السـرب المكامل بالسنامِ
أيدعونا ابنُ كبشـةَ أنْ سَنَحـيا وكيف حياةُ أصـداءٍ وهامِ ؟!
أيعجـز أن يردّ المـوتَ عنّي وينشرني إذا بَلِيَت عظامي ؟!

سمع بعضهم صوت عمر يشقّ صمت الليل ففضّل السكوت... رجل عنيف حادّ الطبع.
ولكن « ابن عوف » لم يتحمّل.. كان يشقّ طريقه في الظلام إلى منزل النبيّ، إنّه يعرف رسول الله.. سوف يجده مستيقظاً يعبد الله، وربما ينتظر أوبةَ رجالٍ بَعثَهم في الصحراء يستطلعون له أخبار القبائل وأخبار قريش، فقريش لا تنام على الثأر.
طَرقَ ابنُ عوف الباب وانتظر.. اطلّ النبيُّ بوجهه المضيء.. رأى صاحبه ابن عوف، وخيط من الدم يلوّن رأسه وقطرات حمراء فوق ثوبه.
تمتم ابن عوف بشيء من العتب:
ـ عُمَر يا رسول الله...
أدرك النبيّ كلّ شيء.. ما يزال صاحبه يشرب الخمرة ويفعل ما يحلو له...
بانَ الغضبُ على وجه النبيّ بعدما عرف بأنّ صاحبه يتغنى بشعر أعدائه.. يردّده كلمةً بكلمة وحرفاً بحرف... والأنكى من ذلك أنّه يحرّض المشركين لإطفاء النور الذي توهّج في الجزيرة!
وربّما لأوّل مرّة رأى المسلمون رسول الله يتميّز غضباً.. حتى إذا وقف على رأس صاحبه هتف أبو حفصة وقد عاد إلى وعيه:
ـ أعوذ بالله مِن غضب الله وغضب رسوله.
كاد الرسول أن يهمّ به لولا كلماتٌ سمعها هدّأت نفسه وكظم غيظه... يا للإرادة تضع نفسها فوق فوهة بركان ثائر.. وهكذا تُعرف الرجال في مواقف كهذه دونها لَهَوات الحرب وظلال السيوف.
عاد النبيّ إلى منزله يفكّر في آفة العقول هذه ماذا تفعل بالناس.. هؤلاء الفارّون من ضوء النهار إلى هَلوَسة الظلام.
نهض أبو حفصة يُجرجر قَدَميه عائداً هو الآخر إلى بيته.. وكانت العيون تحاصره.. تستنكر هذيانه.. رفع عمر يديه إلى السماء وهتف:
ـ اللّهم بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر.
وفي الصباح سمع أبو حفصة بآية حملها جبريل من قلب السماوات:
ـ إنّما يُريدُ الشيطانُ أن يُوقِعَ بينكُمُ العَداوةَ والبَغضاءَ في الخمرِ والمَيسِرِ ويَصُدَّكُم عن ذِكرِ اللهِ وعنِ الصلاةِ فهل أنتُم مُنتَهون! .
هتف عمر وهو يحطّم آنية الخمر بعصبية:
ـ نعم انتهينا.. نعم انتهينا!
سادت المدينة حركةٌ غير عادية، وتَوالت الحوادث.. اليهود يتآمرون خلف حصونهم يحرّضون المشركين كافة على غزو المدينة... والنبيّ قلبه على المدينة يخاف عليها الغدر.. وكانت السماء تحرس مدينةً آوت النبيّ.. تحميها من دسائس اليهود.

ليلة الحريق
مناحات مكّة ما تزال تتصاعد في فضاء الجزيرة كخيوطِ الدخان، وقريش تعدّ العُدّةَ للثأر، تحدّ سيوفاً وخناجر. « أبو سفيان » يعضّ على نواجذه غيظاً.. يحاول أن يفعل المستحيل، وقد تحوّلت زوجه إلى أفعى رهيبة في عينيها يسكن حقدٌ يُحيل السلام إلى حربٍ ضَروس والأخضرَ إلى رماد ودخان، هند لا تنام الليل.. تُبحلِق في الظلام كأفعى أسطورية. وأبو سفيان يقود خيلاً ورجالاً، يُغير على المدينة في قلب الليل.. يتسلّل كحيّة تسعى. ويجد « ابن مشكم » زعيم بني النَّظير ينتظره يدلّه على نقاط الضعف في المدينة.. يعلّمه كيف يقتل محمّداً عدوَّهما المشترك.
كان كعب بن الأشرف يُصغي بصمت.. راقب سيّده كيف يحوك خيوط العنكبوت، وأبو سفيان يتلمّظ كحيّة.. عيناه تستعران كجمرتين، وبَدَت ظلاله على الحائط شيطاناً مَريداً.
قال أبو سفيان وقد أثاره صمتُ كعب؛ ربما تعجّب من حماسة اليهود لقتل محمّد، وهم أهلُ كتاب:
ـ أُقسِم عليك بالتوراة، دِيننا خيرٌ أم دِين محمّد ؟
انتبه كعب كما لو لسعته عقرب، وقال بغيظ:
ـ بل دينكم يا أبا سفيان أهدى من دين محمّد!
قال ابن مشكم بخبثٍ يهودي:
ـ أتراه كاذباً يا أبا سفيان ؟!
ردّ أبو سفيان وقد ملّ:
ـ كيف وقد كنّا ندعوه الصادق الأمين.
ـ فَلِمَ تقاتلونه إذن ؟!
شعر أبو سفيان بالنار تشتعل في رأسه:
ـ كنّا وبنو هاشم مثل فَرَسي رِهان، كلّما جاءوا بشيء جئنا بمثله.. حتّى ظهر محمّد، فماذا يبقى لنا ؟!
قال كعب وهو يصبّ الزيت في النار:
ـ لو اجتمعتْ قبائل العرب عليه ما وصل الأمرُ إلى هذا الحد! قوافلكم.. هيبتكم.. وحتّى آلهتكم في خطر، تَغدَّوا به قبل أن يتعشّى بكم!
نهض أبو سفيان حانقاً وهتف بعصبيّة:
ـ لن يطلع القمر حتّى تسمع بمَناحةٍ في بيوتِ يثرب.
أسرع أبو سفيان وأمعن في الصحراء إلى حيث يعسكر مئتان من خيله ورجاله.
المدينة تغفو هادئة تنتظر الفجر.. تترقّب صياح الديكة ليوم جديد تزرع وتبني وتفجّر الصخر ينابيع..
سنابكُ خيلٍ مجنونة تهزّ الأرض وتثير غباراً امتزج مع غَبَش الفجر.
في « العُرَيض » من أطراف المدينة شَبّت النار في منزلين، وفرّت النسوة والأطفال وذُبِح رجال.. واحترقت بساتين النخيل وفرّ المُغِيرون.
كان أبو سفيان يراقب متلذّذاً منظرَ النار وهي تلتهم أهدابَ يثرب.. ودّ أنّ هنداً كانت حاضرةً لعلّها تُطفئ غليلَها!
صُراخ الأطفال والنساء يملأ الفضاء المفعم بالسكينة. وتناهى إلى أُذنَيه صهيلُ خيلٍ غاضبة، فهَمَز فرَسَه تسبق الريح باتّجاه مكّة.
استيقظت مكّة وقد سادتها حمّى الحرب، وراحت تنفث في الفضاء روح الثأر.. ثلاثة آلاف محارب يلتفّون حول أبي سفيان، والتفّت حولَ هند أربع عشرة إمرأة.. وثارت الحميّة.. حميّة الجاهليّة، وتصاعد دخان البخور لهُبل إله الحرب ليأخذ لهم ثأرهم من محمّد.
على ضوء سراج واهن بدا « العباس » مهموماً وهو يكتب إلى ابن أخيه رسالة يحذّره فيها من حملة وشيكة لقريش. وفي جوف الليل انطلق فارس يسابق الريح ويطوي رمال الصحارى.
كان النبيّ في « قُباء » على مبعدة أربعة أميال جنوب يثرب... في تلك الأرض التي وضع قدمه فيها آمناً بعد هجرة مثيرة.. وقد جاء ليراقب عن كثب ما تموج به الصحراء من غدر ودسائس.. القبائل لا تريد ليثرب السلام، تخطب ودّ قريش حيث مكة أُمّ القرى وبيت الآلهة.. وقريش لا تنام على الثأر..
لا شيء في الأفق البعيد سوى الرمال.. الصمت يهيمن على الأشياء يزيدها رهبةً.. كان أُبَيّ بن كعب يدقّق في نقطة سوداء لاحت في الأفق.. فهتف متسائلاً:
ـ أظنّه فارساً يسابق الريح.
ـ أجل، يبدو أنّه قادم من مكة.
توقّف الفارس بعد أن كبح جماح فرسه بعنف.. أثارت الفرس الرمال المتوهّجة وقفز الفارس مبهورَ الأنفاس يحمل في يمينه رسالة من قلب ينبض بحبّ النبيّ.
لا أحد يعرف مضمون الرسالة التي قرأها ابن كعب على النبيّ.. ولكن الوجوم الذي غمر وجه الرسول يشفّ عن أمرٍ مثير وحادثة ستهزّ الصحراء والتاريخ.

الله أعلى وأجلّ
قمر الرابع عشر من شوّال يتألّق في السماء.. يزدهي بهالته بين النجوم، وقناديل المدينة تتوهج.. ترسل ضوءاً ذهبياً.. وبدت الكوى ينابيع تتدفّق بالنور.
وفي المسجد التفّ المؤمنون حول الرسول، شباب وشيوخ وكهول يتداولون أمراً هامّاً.. قريش تزحف صوب يثرب. قال النبيّ:
ـ نقيم في المدينة وندعهم حيث نزلوا، فإنْ أقاموا أقاموا بشرّ مقام.. وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم.
أخرج النفاق رأسه إذ قال ابن سَلول وقد صادفت الفكرة هوىً في نفسه:
ـ نعم يا رسول الله.. نقيم في المدينة.
ساد الوجوم وجوه الشباب.. كانوا يتمنّون الحربَ في الصحراء.. والحرب في أزقّة المدينة لا تشبع حماستهم... وكيف ينعمون بحرب تشارك فيها النسوة والأطفال ؟! هتف شابّ لم يَحضُر بدراً يتمنّاها منذ عام:
ـ ماذا ستتحدّث العرب.. جَبنّا عن اللقاء وقريش تشنّ علينا الغارات ؟!
هتف آخر:
ـ اخرُجْ بنا يا رسول الله إلى أعدائنا.. حتّى لا يزدادوا جرأة.
سادت الحماسة وبلغت ذروتها، وضاع صوت العقل. وعندما ينفلت زمام العاطفة تصبح فرساً جموحاً لا تصغي لأحدٍ ولا يقف في طريقها شيء.
هبّت العاصفة لا يعتورها أحد، وأضحى من الحكمة مماشاتها وتوجيهها، والحدّ من عنفها.
انتبه بعضهم وقد تأثر لمنظر النبيّ يعدّل درعه، عرضوا عليه القبول برأيه والبقاء في المدينة، فقال بحزم:
ـ ما ينبغي لنبيّ لَبِس لامتَه أن يضعها حتّى يَحكُمَ اللهُ بينه وبين عدوّه.
وأردف لِيُحكِم قبضَته على العاصفة:
ـ عليكم بتقوى الله والصبر عند البأس، وانظروا ما آمُركم فافعلوا.
وقفت فاطمة تودّع أباها وبين ذراعيها صبيّ له من العمر شهر، اعتنقه النبيّ.. راح يملأ صدره من شذى عطر له رائحة الجنّة، وهمس بحبّ:
ـ إنّه ريحانتي من الدنيا.. وأُمّه صِدّيقة.
ودّع الرسول يثرب، ومعه ألف مقاتل، وفي ثَنيّة « الوداع » حيث الجادّة التي تؤدي إلى مكة. وعندما بلغ « الشيخان » وهما جبلان في أطراف المدينة قام النبيّ باستعراضٍ لقوّاته، فأرجع من الشباب من كان دون الخامسة عشر...
طلع الفجر ووصل النبيّ « الشوط »... بستان بين المدينة وجبل « أُحُد »...
وذرّ رأس النفاق قَرنَه فأعلن تمرّده على الرسول.
عاد « ابنُ أُبيّ » وعاد معه ذيوله وكانوا ثلاثمئة، فأحدث ذلك شرخاً في جيش النبيّ وهو على وشك الاشتباك.
عسكرت قريش في وادي « قناة » وانتشرت في أرضٍ سبخة، قاطعةً الطريق على جيش المسلمين.
تساءل النبيّ عن دليل يمكنه هداية الجيش على طريق يؤدي إلى أُحُد لا يمرّ على جيش المشركين.
هتف « أبو خَيثمة »:
ـ انا يا رسول الله.
ـ سِرْ على بركة الله.
سلك الدليل « حَرَّة » بني حارثة وهي أرض ذات حجارة سوداء منخورة كأنها شُوِيَت بالنار... كانت المزارع على يمين الجيش المتقدّم وقوّات المشركين على شمالهم، واتجه الدليل شمالاً نحو جبل أُحد، وقطع وادي « قناة ».
دخل الجيش الشِّعب المطلّ على الوادي، تاركاً الهضاب والجبل وسفوحه في ظهره.
نَظّم النبيّ جنوده صفوفاً في ثلاثة أنساق، وانتخب خمسين من أمهر الرُّماة، وأمرهم بالمرابطة فوق جبل « عينين » وهو جبل صغير يقع في الجنوب الغربي من معسكر النبيّ وعلى بُعد مئة وخمسين متراً من مقرّ القيادة، وكان إجراؤه هذا تحسّباً من حركةِ التفافٍ يقوم بها المشركون. وكان النبيّ يعلم أن لدى قريش قوّة كبيرة من الفرسان تحت إمرة « خالد بن الوليد »، وكانت هذه القوّة مصدر قلق في المعركة.
قال النبيّ لابن جبير قائد الرماة:
ـ انضَحوا الخيلَ بالنَّبل، لا يأتونا مِن خلفنا...
والتفت إلى بقية الرماة:
ـ احمُوا لنا ظهورَنا لا يأتونا مِن خلفنا وارشُقوهم بالنَّبل؛ فإنّ الخيل لا تُقدِم على النبل.. إنّا لا نزال غالبين ما لبثتم مكانكم، اللّهم إني أُشهدك عليهم.
وللمرّة الأخيرة أوصاهم النبيّ:
ـ إن رأيتمونا.. نَتخطّفنا الطيرُ فلا تَبرَحوا مكانَكم حتّى أُرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظَهَرْنا على القوم وأوطأناهم فلا تَبرَجوا حتّى أُرسل إليكم، وان رأيتمونا غَنِمنا فلا تَشركونا، وان رأيتمونا نُقتَل فلا تُغيثونا ولا تُدافعوا عنّا.
نظّم النبيّ قوّاته واضعاً في الخط الأوّل رجالاً أولي بأسٍ شديد، بدا فيهم عليّ وحمزة وأبو دُجانة وسعد بن الربيع ورجال حملوا أرواحهم فوق الأكفّ، كما خصّص كتيبة بقيادة المقداد للتنسيق مع الرماة في صدّ هجوم محتمل قد يقوم به فرسان قريش.
تذكّر النبيّ رؤياه. عادت تتمثّل أمامه من جديد.. رأى أبقاراً تسرّ الناظرين.. رآها تُذبح فتشحط دماً عبيطاً، ورأى في حدّ سيفه ثَلْماً..
تجمّعت في السماء النُّذُر، وبَدَت السيوف بين الغبار بُروقاً نزلت إلى الأرض، وشدّ أبو دُجانة حول رأسه عصابةَ الموت كجرحٍ يفور، وأدرك الذين رأوه أنّ الرجل قد اختار الموتَ طريقاً إلى الحياة.
الرجل الذي اختارته السماء رسولاً إلى الأرض يبلّغ رسالته:
ـ ما أعلم من عملٍ يُقرّبكم إلى الله إلاّ وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عملٍ يقرّبكم إلى النار إلاّ وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نَفَث الرُّوحُ الأمين في رُوعي أنّه لن تموتَ نفسٌ حتّى تستوفيَ رزقَها لا ينقص منه شيء.. المؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى إليه سائر الجسد.
وفي المعسكر الآخر في أرضٍ سبخة تعالت أصوات الدفوف والطبول تشفّ عن روح همجيّة متعشّقة لرؤية الدماء... تسكر على صوت طبول الحرب تُدَقّ بعنف فيستيقظ الشيطان يعربد ويدمّر.
خرجت خمس عشرة امرأة ينشدن أناشيد الثأر:
وكان صوتُ هندٍ له نَبرةُ نمرةٍ متوثّبة:

نحـنُ بنات طارقْ نمشي على النَّمارِقْ
الـدرُّ في المَخانِقْ والمِسكُ في المَفارِقْ
إن تُقبِـلوا نُعـانِقْ ونَفـرش النَّمـارِقْ
أو تُدبِـروا نُفارِقْ فِـراقَ غيرِ وامِـقْ

وحَلُم رجالٌ بليالٍ حمراء.. ليالٍ مليئة بالمتعة. ومَنُّوا أنفسَهم بسبيّ من يثرب فيهنّ حِسان من الأوس أو الخزرج.
اتّسعت الأحداق وعضّ الرجال على النواجذ.. وبدأت قريشٌ الهجوم.. بدأت قوّة من المُشاة تساندها كوكبة من الفرسان بقيادة عِكرمة بن أبي جهل هجوماً على ميسرة الجيش الإسلاميّ لتدميرها، ومن ثَمّ النفوذ إلى عمق الشِّعب وضرب المسلمين من الخلف.
قُوبِل الهجوم العنيف برشقات كثيفة من النِّبال، واعترض المقدادُ بقوّاته سيلَ المهاجمين وأرغمهم على التراجع. ومن فوق سفوح أُحد تدحرجت الصخور والحجارة فارتدّ المهاجمون وتشتتوا..
عاود الفرسان الكرّةَ مرّة بعد أخرى ولكن دون جدوى. وفي تلك اللحظات الحسّاسة أصدر النبيُّ أمرَه بشنّ الهجوم المعاكس.. مستهدفاً قلب القوّات المتقهقرة، وكان ثقل المعركة يدور حول « لواء » قريش من أجل إسقاطه وتحطيم الروح الجاهلية. وسقط اللواء بضربة من عليّ.. ثمّ ارتفع مرّة أخرى ثم هوى على الأرض.. ثم ارتفع.. ثم هوى ممزَّقاً فوق الأرض...
تزلزلت معنويات المشركين ودبّت فيهم الهزيمة، وأطلقت هند ساقَيها للريح.. وسَقَطت الدفوف وتبعثرت أُمنيات زوج أبي سفيان وذهبت أدراج الرياح...
وفي غمرة النصر سقط حمزة، اخترق قلبَه رمحُ وحشيٍّ.. سقطت ثُلمة من سيف محمّد.
وفوق جبل « عينين » كانت هناك معركة من نوع آخر.. معركة في داخل النفوس رهيبة مشتعلة.. أشعلتها الغنائم المبعثرة في الوادي.
وأخيراً.. وبعد صراع عنيف انتصرت النفوس الأمّارة بالسوء.. وغادر أكثر الرماة مواقعهم و ( ابن جُبَير ) يدعوهم.. يذكّرهم بوصايا الرسول. غير أن النفوس التي أصغت إلى فحيح الشياطين نَسِيت همساتِ السماء.
كان خالد بن الوليد ينتظر الفرصة، وعندما شاهد منظر الرماة وهم يهبطون الجبل.. التمعت في عينيه حمّى الحرب، فاندفعت الخيول كالعاصفة وعمّت الفوضى صفوفَ الجيش الإسلاميّ...
وفرّ المسلمون لا يلوون على شيء، والرسولُ ينادي:
ـ أنا رسول الله.. هلمّوا إليّ!
وبعد لأيٍ تمكّن النبي من تجميع أكثر قوّاته والانسحاب بهم نحو سفح الجبل.
صرخ أبو سفيان في بطن الوادي:
ـ أُعلُ هُبَل.
وجاء صوت الرسول:
ـ الله أعلى وأجلّ.
ـ لنا العزى ولا عزّى لكم.
ـ الله مولانا ولا مولى لكم.
ـ يا محمّد، حنظلة بحنظلة ويوم بيوم بدر.. والحرب سِجال.
أمر النبيّ عليّاً أن يستطلع قوّات قريش فقد تجتاح المدينة:
ـ انظر، فإن جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة.. وإن ركبوا الخيل فانّهم يريدون المدينة..
وأردف النبيّ وقد برق العزم في عينيه:
ـ والذي نفسي بيده، لئن أرادوا المدينة لأُناجزنّهم.
جراح النبيّ تنزف.. تفور.. لا تعرف التوقّف. يالَجراح الأنبياء حمراء حمراء بلون الشفق، تبشّر بالنهار، بشمس ساطعة ودفء الربيع.

المؤامرة
كذئاب مجنونة.. راح المشركون يجوسون خلال الجثث الهامدة، يمزّقون أكباداً وقلوباً كانت تنبض بالحياة، تحلم بعالم جميل.. بدنيا آمنة مطمئنة.
جَثَمت « هند » على جسد حمزة كنسر متوحّش، وبدا وجهها الحادّ كغرابٍ شَرِه.. كان صوتُها يشبه فَحيحَ الأفاعي:
ـ حمزة.. صيّاد الأُسود... جثة هامدة.. انهض يا قاتل أبي وأخي!
استلّت هند خنجراً وبَقَرت بطن أسد الله وأسد رسوله، ثمّ أنشبت يدها في بطنه. كانت المخالب تبحث عن كبد حرّى، ولما عثرت عليها انتزعتها.. وحمزة ما يزال نائماً يعلو وجهه غبار خفيف.
مزّقت الذئبة كبد الإنسان، تريد أن تلوكه.. أن تبتلعه.
وعلى تلال قريبة كانت نسوة في المدينة يرقبن المعركة، وقد غاظهن فرار المسلمين، صرخت « أُم أيمن » وهي تحثو التراب في وجه « عثمان »:
ـ هاك المغزل فاغزل به، وهَلُمَّ سيفَك!
أراد عثمان أن يخبرها بمقتل النبيّ وأنّه سمع أحدهم يهتف وسط المعركة: قتلتُ محمّداً؛ ولكنه فضّل الصمت فأمّ أيمن امرأة في رجل.. سوف تحثو في وجهه التراب مرّة أخرى.
لوى عثمان عنانَ فرسه وانطلق صوب جبل « الجَلعب » في ناحية يثرب، وتبعه المنهزمون، فهو خبير في اكتشاف المخابئ وقد يجتاح أبو سفيان المدينة.
عاد النبيّ إلى المدينة ينوء بجراحاته، وكادت « فاطمة » أن تموت وهي ترى أباها والدماء تسيل من وجهه.. تدفقت الدموع غزيرة كسماء ممطرة، واستيقظت في أعماقها كوامن الأمّ تحاول إنقاذ وليدها بأيّ شيء؛ عمدت إلى حصير فاحرقته، ولما صار رماداً لَمّت الرماد وراحت ترشّ جراح النبيّ.
نجح الرماد في وقف اشتعال النار، أطفأ الجراح بعد أن أخفق الماء.
كان عليّ يراقب زوجه تضمّد الجراح.. تمسّها ببلسم يوقف تدفق الألم.
تأملت فاطمة سيف أبيها وسيف بعلها وقد جلّلتهما الدماء، وأدركت هول الملحمة التي دارت في جبل أُحد.
قال علي وهو يناولها سيفه:
ـ خُذيه فلقد صَدَقني اليوم.
فقال النبيّ:
ـ لقد أدّى بَعلُك ما عليه، وقتل اللهُ بسيفه صناديدَ قريش حتّى نادى جبريل بين السماء والأرض: لا سيفَ إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ.
نظرت فاطمة إلى زوجها تشكره بعينين تشعّان رحمة... الله وحده يعرف الأعماق... وحده الذي يعرف روح هذا الفتى الشجاع الذي حمل روحه على كفّه يفدي رسول الله وقد غدا كل شيء في دنياه، إنّه لا يعرف للحياة معنى إلاّ بمحمّد... محمّد الذي منحه في زمن الرعب الطمأنينة والسلام.
عاد عثمان ومَن معه إلى المدينة بعد أن مكث في الجبل ثلاثة أيام... وقال النبيّ عندما وقعت عيناه عليهم:
ـ لقد ذهبتُم فيها عريضة!!
وتمرّ الأيّام وتندمل آلاف الجراح، وعادت إلى المدينة روح الأمل.. وانطلق المجتمع الجديد يزرع ويبني ويعمل ويشحذ السيوف... وقد أدرك الذين آمنوا أنّ طاعة الله والرسول هي الطريق إلى النصر.. إلى المجد وإلى جنّةٍ عرضها السماوات والأرض.
عادت فاطمة تدير الرحى وتهزّ المهد وتدير منزلها الصغير وتضمّد جراح النبي.. تعرف مواقعها في روحه العميقة؛ وربّما انطلقت إلى أُحد تبكي حمزة سيّد الشهداء.. تعرف عمق الجرح الذي أحدثه رحيله في قلب أبيها.
وأطلّ عام جديد يحمل معه أفراح النصر ويقدّم إلى رسول الله ريحانة أُخرى في حنايا فاطمة؛ فلقد ولد الحسين وجيهاً في الدنيا وفي الآخرة ومن المقرّبين.
وهمس النبيّ في أُذنيه بكلمات السماء، وسمعه الكثير وهو يقبّله قائلاً:
ـ حسين مني وأنا من حسين.
وكان الحسن قريباً فدبّ.. وراح يداعب شعر أخيه وقد غمره فرح بهيج، وتدفق نبعٌ جديد؛ نبع في أُسرة صغيرة؛ أُسرة أسسها النبيّ وباركتها السماء.
وتمرّ الأيّام والنبيّ يشمّر عن ساعديه ويبني الإنسان.. إنسان الصحراء.. يروّض في أعماقه الوحش ويضيء في ظلماته شمعة.
وبدت يثرب في أرض الله الواسعة سراجاً في مهب إعصار فيه نار، أو قارباً صغيراً وسط الأمواج العاتية.. والنبيّ والذين آمنوا يقاومون المدّ الجاهلي ويحبطون مؤامرات يهودية... واليهود عُجنوا بالغدر وتَشرّبوا تعاليم التلمود... نبذوا التوراة بعيداً إلاّ ما حرّفوه عن مواضعه، يَبنون حصونهم وقِلاعهم، وظنّوا أنهم مانعتُهم حصونُهم. يُخفون وراءها حقداً دفيناً للإنسان تناقلته أجيالهم منذ السبي البابلي وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. يباهون الأمم بموسى بن عمران وقد عَشعَش قارون في نفوسهم.. ترنّ في أعماقهم خشخشةُ الذهب والفضة، فتوارثوا عِجلاً صنعوه منذ أن سوّل لهم السامريّ، وظلّوا عاكفين عليه.. حتّى إذا نصحهم هارون كادوا أن يفتكوا به، أداروا ظهرهم للذي أنجاهم من البحر وعكفوا على عِجلٍ له خُوار.
كان موسى غاضباً وهو يُلقي الألواح.. ويأخذ بمخانق أخيه. هتف هارون:
ـ إنّهم استضعفوني وكادوا يقتلونني.
واتّجهت الأبصار إلى السامري.. كاد موسى يبطش به:
ـ فما خًطبُك يا سامري ؟
ـ لا شيء.. لقد رأيت أثر الملاك.. وكذلك سوّلت لي نفسي.
ومضى السامري في التيه... يشدّ عباءته إلى كتفيه يعتصر وجهه المخادع بكفّيه.. وعواء ذئب جائع يضجّ في صدره اللاهث.. ضاع السامريّ بين آثار الجِمال والحمير لا يعرف له وطناً سوى تلك البقعة التي خُسِفت بقارون وخزائنه الزاخرة بالذهب الأصفر.. في أعماقه أُمنيات لِعجلٍ جديد يعبده من دون الله؛ لا تكفيه بقعة واحدة.. يريد أن يبتلع سيناء وأرض كنعان، وبابل ورمال جزيرة العرب.
حطّ السامري رَحلَه هنا وهناك من أرض الجزيرة، وراح يبني الحصون والقلاع وينهب الذهب. القبائل العربية تعبد أصناماً من حجارة تنحتها بأيديها أو أشجاراً ذات رقاع، وابناء السامريّ يعبدون عِجلاً من ذهب يخطف الأبصار، يظلّون عليه عاكفين حتّى جاء محمّد.
توقّف التاريخ يحبس أنفاسه عند حصون بني النَّضير، فقد جاء محمّد ومعه جمع من أصحابه يطالبهم بالوفاء وهم جُبِلوا على الغدر؛ يبتسمون لمن يدعوهم فيكشّرون عن أنياب تنزّ صديداً.
قالوا وقد رأوا النبيّ عند الحصن في قلّة دونما سلاح:
ـ نعم يا أبا القاسم، نُعينك على ما أحببت.
وجلس النبيّ ينتظر الوفاء.
وخلف جدران الحصون والقلاع وُلدِت مؤامرة.
اجتمع ابناء السامريّ.. العيون تبرق بالغدر:
ـ هذه فرصتنا للقضاء على محمّد!
ـ أجل، نتغدى به قبل أن يتعشى بنا.
ـ انطلق يا « عزوك » فتحدّثْ معه وأطِل الكلام.
ـ وأنت يا « جحاش » اصعَدْ فوق الحصن وألقِ عليه ( رَحى الطاحون ).
حاكت العناكب شباكها على عَجَل، غير أنّ النبيّ الأمّي الذي يجدون اسمه في التوراة يعرف ما يجول في خواطرهم، فغادر الحصن وجاء المدينة يسعى.
وحُوصرت حصون السامريّ عشرين يوماً حتّى تهاوت جميعاً، وقتل عليّ « عزوك »، ولملم بنو النضير شِباكَِ العنكبوت ورحلوا.. رحلوا بعيداً وتنفّس النبيّ والذين آمنوا الصُّعَداء؛ وتَمّت كلمةُ ربّك بالحق وقيل: بُعداً للقوم الظالمين.
وعادت يثرب مدينةً منوّرة يكاد سنا نورها يضيء التاريخ.

العِقد المبارك
الحياة في يثرب ينابيع متدفقة، والأمل ينمو.. يكبر.. غدا شجرة خضراء أصلها ثابت وفرعها في السماء، والذين نصروا النبيّ يعملون دائبين في زروعهم يرعون ماشيتهم. والذين هاجروا وجدوا لهم متّسعاً من مكان في الأرض وفي القلوب، وغدا الجميع إخوة على دين واحد كلّهم من آدم وآدم من تراب، والرسول لا يفتأ يؤلّف بين القلوب.. يغسل عنها أدران الجاهلية.
عليّ يعمل.. يسقي الزرع أو يفجّر ينابيع، فيحصّل لقاءَ ذلك صاعاً من شعير أو تُمَيرات من نخيلِ يثرب.
كانت شمس الأصيل تغمر مسجد النبيّ بأشعتها الذهبية، ومساقط الضوء تتناثر من بين جريد النخل كدنانير ذهبٍ نُثرت فوق عروس.
جلس النبيّ في قِبلته بعد أن انفتل من الصلاة وقد تحلّق حوله أصحابه فبدا كقمر وسط النجوم، والزمن نهر يتدفق.. تتدافع قطراته بانتظام.. أو رحى كبيرة تدور وتدور، تَهَب السنين لمن يشاء ومن لا يشاء. تفتح عيون الأطفال وتُغمض عيوناً متغضنة الأجفان، تشدّ أعواد الشباب وتقوّس قامات الكهول، فالجميع إلى زوال.. ويبقى وجه الله... الله وحده.
دخل المسجد شيخٌ عَصفَ به الزمان.. نَحَت وجهَه ومزّق ثيابه، يدبّ على الأرض دبيب نملة تبحث عن رزقها في يومٍ بارد.
هتف الشيخ وهو يتطلّع إلى النبيّ كأنما يتطلّع إلى شمس تَهَب النور والدفء:
ـ يا نبي الله، أنا جائع.. عريان.. أشبِعْني واكْسُني.
أجاب النبيّ وقلبه يذوب تأثّراً:
ـ ما أجدُ لك شيئاً.. ولكن الدالّ على الخير كفاعله.. انطلِقْ إلى مَن يحب اللهَ ورسوله، ويحبّه اللهُ ورسوله، يُؤثِر الله على نفسه.. انطلق إلى فاطمة..
التفت النبيّ إلى بلال:
ـ قُم يا بلال.. فخُذه إلى منزل فاطمة.
وقف الشيخ على باب يُفضي إلى عالَمٍ من أمل.. عالم يَهَب الخير للجِياع.
هتف الشيخ بصوتٍ واهن ينوء بعبء السنين:
ـ شيخ عَصَف به الدهر، وأضرّ به الفقر.. واسِيني يا بنت محمّد.
نظرت فاطمة حواليها.. لم تجد شيئاً تسعف به انساناً ينتظر بأمل. كان هناك في زاوية الحجرة جلد كبش مدبوغ، فطوته وناولته الشيخ:
ـ خذه، فعسى الله أن يختار لك ما هو خيرٌ منه.
دقّق الشيخ النظر وتمتم:
ـ وما أصنع بجلد كبش يا بنت محمّد ؟!
وأصعب شيء أن تهب المرأة زينتها.. أساور من ذهب أو فضّة أو عقداً من لآلئ البحر، ولكن هناك ما يضيء في نفس المرأة ويتألق في أعماقها تألقَ اللؤلؤ في الأصداف.
انتزعت فاطمة عِقداً كان في عنقها وناولته الشيخ الملهوف:
ـ خذه يا شيخ.. عسى الله أن يعوّضك به ما هو خيرٌ منه.
عاد الشيخ الهُوَينى إلى المسجد.. كان النبي ما يزال جالساً بين أصحابه، قال الشيخ:
ـ يا رسول الله أعطتْني فاطمة هذا العِقد وقالت: بِعْه عسى الله أن يصنع لك به خيرا.
دَمِعت عينا النبيّ:
ـ كيف لا يصنع الله لك! وقد أعطتك إيّاه سيدة بنات آدم.
سأل عمّار ـ وكان حاضراً:
ـ بِكَم تبيع العِقد يا شيخ ؟
ـ بشبعة من الخبز واللحم، وبردة يمانية أستر بها نفسي وأصلّي بها لربي.
ملأ للشيخ كفيه دنانير من ذهب ودراهم من فضة، فهتف جذلاً:
ـ ما أسخاك بالمال يا رجل!
غاب الشيخ برهة ثمّ عاد وبريق أمل يشعّ من عينيه، وكلمات الدعاء وتمتمات الثناء تنساب من بين شفتيه.. فقد أغناه الله بعد فقر وأشبعه بعد جوع وكساه بعد عري.
انطلق عمّار إلى منزله.. فسكب عطراً غالياً على العِقد ثم لفّه ببردة يمانية وقال لفتاه ـ وكان اسمه سَهم:
ـ انطلِقْ إلى فاطمة وسلّمها العِقد وأنت لها.
وانطلق سهم كسهم يجتاز البيوت، حتّى إذا وقف على باب فاطمة:
ـ السلام عليكِ يا بنت رسول الله.. العِقد وأنا لك يا بنت محمّد.
ـ العقد لي وأنت حرٌّ لوجه الله.
كاد الفتى يطير فرحاً... كان يفكّر بالحريّة.. يحلم بها.. وها هي اللحظة التي كاد أن ينساها تتحقق فيدخل الدنيا حرّاً طليقاً.. إنه لن ينسى أبداً فاطمة... السيّدة التي أعادت إليه شيئاً غالياً فقده منذ زمن.
عاد مُهَرولاً والفرحةُ تطفو فوق وجهه، وجبينه مشرق وفمه كهلال عيدالفطر.. وجد نفسه يعود إلى عمّار، هتف عمّار:
ـ ما يُضحِكك يا سهم ؟
ـ أضحك لبركةِ هذا العِقد.. أشبَعَ جائعاً وكسا عرياناً وأغنى فقيراً وأعتق عبداً، ثمّ عاد إلى صاحبه.
وعندما أوَت الطيور إلى أعشاشها.. وعاد المزارعون إلى بيوتهم وساقَ الرعاةُ غُنَيماتهم... في طريق العودة وقد غابت الشمس... لتتألّق النجوم في صفحة السماء ويشرق القمر... كانت حكايات السمر تتحدّث بقصّة عقدٍ مبارك وهبته بنت محمّد ثمّ عاد إليها بعد أن مسّت بركتُه جياعاً وعراة وعبيداً... وهبتهم الخبز والكساء والحريّة.

رياح جاهلية
مضت خمسة أعوام على هجرة النبيّ.. والمدينة ما تزال تَنعُم ببركات السماء.. تبني وتزرع وتُنتج وتقدّم إلى العالم الكلمةَ الطيبة. ولكن قريشاً واليهود يفكّرون باجتثاث شجرةٍ غرستها السماء ليعود الناس القهقرى إلى زمان لا عودة إليه..
دخل فصل الشتاء.. ورياح باردة تهبّ من ناحية الشمال، الغيوم تتجمع في السماء.. ثمّ سرعان ما تتبدّد.. تاركةً الأرض عطشى والزروع أيدي متضرّعة تنشد المطر. العواصف تشتدّ يوماً بعد آخر ولا قطرة مطر..
وهناك رياح أخرى.. رياح جاهلية تهبّ من ناحية الجنوب.. قريش تعدّ العدّة لغزو المدينة.. والسامريّ الذي حَطّ رحلَه في خيبر يخطط لإطفاء النور في جزيرة العرب. اشتعلت في القبائل حمّى السلب والنهب.. ويثرب لقمة دسمة.. وكذلك سَوَّل لهم السامريّ..
دُقّت طبول الحرب بين مَضارِب القبائل، وسيوفُ الغدر تُشحذ.. تُومض في بطون نجد وكِنانة وقريش تطرب على رقصة الحرب، وهند تلوك كبد حمزة، وأبو سفيان يحلم بالمجد.. يهتف: أُعلُ هُبَل!
رياح الشتاء ما تزال تعصف بالمدينة والغيوم تعبر السماء كسفن تائهة، حلّ شهر رمضان، القى رحله في الجزيرة غريباً لا يعرفه أحد إلاّ في أرض طيبة...
صامَتْ يثرب لله.. امتنع أهلها عن الأكل والشرب.. وصامت جوارحهم... والمعدة توقفت عن الانبساط والتقلّص.. فانتفض القلب يخفق بقوّة.. واستيقظ العقل من سُباته متوتراً.. يَرى ما لا تراه العيون.. ويدرك ما لا تدركه الأبصار..
جاء رمضان يعلّم الإنسان كيف يجوع فينتصر.. كيف يظمأ لتولد إرادته.. كيف يَهزِم الوحشَ القابع في داخله لينتصر الإنسان المضطَهد في الأعماق.. رمضان نهرٌ يجري.. تتدافع أمواجه برفق. يغسل القلوب من الدَّرَن.. يعيدها بيضاء بيضاء كحمائم بريّة تطير في الفضاء خفيفةً حرّة تسبح في ملكوت الله.
الرياح الباردة ما تزال تهبّ من ناحية الشمال... والغيوم ما تزال تفرّ مذعورة باتجاه الجنوب... ولا قطرة مطر والعامُ عامُ جفاف... والرسول يشدّ على بطنه حجرَ المَجاعة، ويُصغي إلى أنباء تأتي من ناحية الصحراء.
ـ إنهم عشرة آلاف مقاتل.. قبائل غَطفان وقريش وكِنانة.. وقد نقض « بنو قُرَيظة » العهدَ وهم داخل المدينة... ألف خنجر في خاصرة يثرب.
ـ وهناك أعداء موجودون بيننا لا نعلمهم.. الله يعلمهم.
ـ كفانا الله شرّ المنافقين.
ـ يثرب في خطر.
ـ إنهم يزحفون باتجاه المدينة مِن فوقنا ومن أسفلَ منّا.
ـ لا تَنسُوا الله فينساكم.. واذكروه يَذكُركم ويُثبّت أقدامكم.
وفي المسجد كاد اليأس يعصف بالقلوب المؤمنة، والقلق يزعزع شجرةً غرسها النبيّ لتؤتيَ أُكُلها كلَّ حين بإذن ربِّها.
وبعد حَيرةٍ ووجوم نهضَ رجلٌ من أهل فارس.. يلوّح بطوقِ نجاةٍ ليثرب، فالطوفان قادم:
ـ يا رسول الله، إنّا كنّا بأرض فارس إذا خِفْنا العدوّ خَنْدَقْنا.
فكرة لم تكن العرب لتعرفها. هتف الأنصار:
ـ سلمان منّا.
وردّد المهاجرون:
ـ سلمان منّا.
وتنازع الفريقان رجلاً جابَ الأرض بحثاً عن رجل يُدعى محمّداً.
هتف النبيّ وقد رَنَت إليه العيون:
ـ سلمانُ منّا أهلَ البيت.
رياح الشتاء تعصف بعنف... والعام جفاف والبطون خاوية.. ولكن الإرادة التي أيقظها رمضان تكاد تلوي التاريخ..
من الشمال ستهبّ عاصفة الأحزاب. ضرب النبي الأرض بِمِعوَلٍ مِن حديد وببأسٍ شديد؛ وهَوَت المعاول تُفتّت الأرض على طول خمسة آلاف ذراع وعرض تسعة أذرع وعمق سبعة أذرع.
ومرّت الأيام والرياح ما تزال تهبّ شديدة البرودة، والأجساد تذوي لا تجد ما يسدّ رمقها.. ولكن الإرادة كانت تشتدّ.. تُفتّت الصخور وتغوص في أعماق الأرض، فأسراب الجراد قادمة.. تريد أن تُحيل كل ما هو أخضر إلى يَبابٍ لا شيء فيه إلاّ سراب يَحسَبُه الظمآنُ ماء.
جلس النبيّ ليستريح قليلاً.. جفّف حبّاتِ عَرَقٍ كانت تتألّق فوق جبينه، وبدا معوله قطعةً نادرة أو كنزاً منحته الأرض... شدّ حجر المجاعة إلى بطنه أكثر.. ثلاثة أيّام تمرّ وهو لا يجد شيئاً يطعمه.
لم يذكره أحد.. الجوع والبرد والإعياء وهواجس الصحراء تنسي المرء أقرب الأشياء إليه، ولكن فاطمة لم تنسَ الرجل الذي اختارته السماء رسولاً إلى الأرض المنكوبة.
الرجل ـ الذي اكتسبت يثرب مجدها به ـ جائع.. يشدّ حجر المجاعة إلى بطنه لا يجد شيئاً يأكله حتّى ذكرته فاطمة على حين غفلة من أهل يثرب.
غابت الشمس، وفاحت رائحة الخبز في فضاء المدينة، وتوهجت المواقد في البيوت تمنح الصائمين الدفء والشبع.. والنبيّ في خندقه يصلّي لله:
ـ ربِّ إني لِما أنزلتَ إليَّ مِن خيرٍ فقير.
وجاءت فاطمة مِن بعيد تحمل إليه قَلبها وخبزاً أنضجته قبل قليل.
شاعت البهجة في وجه النبيّ.. بهجة هي أصفى من بهجة الحَواريين يوم نزلت إليهم مائدة من السماء.
وفاطمة حوراء إنسيّة جاءت تحمل له الخبز والدفء والشبع. تمتم النبيّ:
ـ والله ما دخَلَ جَوفي طعامٌ مِن ثلاث.
عادت فاطمة إلى منزلها.. تُكفكف دموعها.. تبكي الرجل الذي حمل مشعل السماء إلى الأرض يريد له أن يبقى مضيئاً بوجه العاصفة القادمة.


source : http://www.imamreza.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

من معاجز الإمام الهادي عليه السّلام
مخالفة عائشة للرسول (ص) من كتب السنة
الوقفة الثانية سند هذا الحديث
الشعائر بنظرة رسالية دموع زين العابدين وحزن زينب
في رحاب العدالة العلويّة (1)
مختصر من حياة الشهيد المظلوم أبي عبد الله الحسين ...
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
كيف تعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع الناس
روى البخاري في صحيحه (كتاب الأحكام) قول الله ...
ولاية علي شرط الايمان

 
user comment