عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

الحرية في الإسلام.. مرتكزاتها ومعالمها

* عبدالرحمن العلوي
الحرية غريزة فطرية ومفهوم رائع تلتقي عنده المشاعر وتتجاوب معه العواطف وتتطلع إليه النفوس، وهي ليست شيئاً ثانوياً في حياة الإنسان بل حاجة ملحّة وضرورة ماسّة من ضروراته، باعتبارها تعبيراً حقيقياً عن ارادته وترجمة صادقة لأفكاره. فبدون الحرية لا تتحقق الارادة وعدم تحقيق الارادة يعني تكبيل الإنسان ووأد كافة طموحاته وتطلعاته،القائه في هوة الضياع والموت البطيء، وهو ما لا ينسجم أبداً والغاية من وجود هذا الكائن الالهي والدور المناط به والمسؤولية التي تقع على عاتقه، وبدون الحرية لا تتحقق ذاتية الإنسان وكرامته وقدرته على تقرير مصيره، وبدونها أيضاً لا تتحقق سعادته «فالانسان الذي يُساق إلى غير ما يريد ويكره على غير ما يحب ويجرع من الافكار والانظمة ما لا يقبله ولا يستسيغه بحال لا يمكن أن يكون سعيداً، ثم ان السعادة لا تتم إلاّ بالأمن، ومن لا حرية له أمن له».(4)
فالحرية اذن منحة الهية للانسان الذي حباه الله تعالى بكل المقومات الاخرى اللازمة خلال مسيرته الحياتية والتي تضمن له اداء دوره الريادي على الارض في أحسن صورة.
____________________________________
4- الحلول المستوردة وكيف جنت على امتنا. الدكتور يوسف القرضاوي، ص: 210.
«وإذا كانت الميول الغريزية في الحيوان هي المجال الذي يعمل فيه حريته، فان الإنسان يمكنه ان يقهر تلك الميول أو يحددها».(1)
والحرية تتسع في مدلولاتها «لتشمل كل القضايا المتعلقة بحياة الإنسان فيما يفعل وفيما لا يفعل، في حركته الفردية والاجتماعية، في الممارسات الذاتية المتعلقة بطعامه وشرابه ولهوه ولعبه وغرائزه وميوله».(2) وكلمة الحرية «كان معناها جائلاً في الاذهان وامنية من اماني القلوب منذ اعصار قديمة»(3) كما ان «الصلة العاطفية التي تربط الإنسان بالحرية ليست ظاهرة حديثة في تاريخ الإنسانيّة ولا من نتائج الكيانات الحضارية التي يعيشها الإنسان الرأسمالي والاشتراكي»(4). ويعتقد البعض أن مفهوم «الحرية» قد انبثق عن الصراع الاجتماعي الديني الذي ساد أوروبا في اواخر القرن الثامن عشر، وامتد بعمق إلى القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا «فقد قامت في الكنيسة نفسها حركات اصلاح ديني كانت الممهدة للوعي العلماني حول قضية الحرية. واتخذت هذه الحركات وجه الحرية الفكرية حين قام «مارتن لوثر» يدعو إلى طبع الكتاب المقدس لجعله في متناول الافراد. وقام كذلك بترجمة الكتاب المقدس من اللغة اللاتينية إلى مختلف اللغات الاوروبية. وأدى ذلك خلال القرن السابع عشر والثامن عشر إلى ظهور طبقة من المفكرين ممن انكروا ان يكون ما يحتويه الكتاب المقدّس شيئاً منزلاً كوحي من الله لكنهم في الوقت ذاته لم ينكروا وجود الله سبحانه. وقد عرف هؤلاء بالمؤهلين، وكان أبرزهم الفيلسوف «جون لوك».(5)
ونتيجة لحيوية عنصر الحرية ودوره الفاعل في حياة البشرية، فقد حظي باهتمام الباحثين والاجتماعيين على وجه أخص. وأخذ كل منهم يبحث ويحقق فيه من وجهة نظره الخاصة وانطلاقاً من الاسس الفكرية التي يستند اليها، كما حاول هؤلاء اعطاء هذا العنصر التعريف الذي يعبّر عنه بشكل أفضل. فقيل ان الحرية هي «قدرة فردية واجتماعية على الفعل النفسي والاجتماعي»(6). وانها «التحرر من الذات ومن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وهي حرية الروح في اتجاهها الشاق نحو الكشف»(7) أو «حرية كل فرد في أن يحقق ذاته تحقيقاً كاملاً»(8). بينما رأى آخرون ان مجرد تحقيق الذات لا يستوعب مفهوم الحرية وانما هي «القيمة الرمزية لمجموع الحقوق القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي حفل بها النضال البشري»(9). والحرية من وجهة نظر القشيري(10) «ان لا يكون العبد تحت رق المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات، وعلامة صحته سقوط التمييز عن قبله بين الاشياء»(11) بينما ينظر اليها ابن عربي على انها «عبودية محققة لله فلا يكون عبداً لغير الله الذي خلقه ليعبده فوفى بما خلق له فقيل نعم العبد انّه اواب. أي رجع إلى العبودية التي خلق لها لأنه خلق محتاجاً إلى كل ما في الوجود».(12)
ويرى الشهيد آية الله محمد باقر الصدر رضوان الله عليه انّ الحرية في المفهوم الاسلامي ثورة، وهي ليست ثورة على الاغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب، بل على جذورها النفسية والفكرية، وبهذا كفل الإسلام للانسان أرقى وأسمى اشكال الحرية التي ذاقها على مرّ التاريخ».(13)
____________________________________
1- دروس في الاقتصاد، ج1، محمد علي التسخيري، ص: 189.
2- المنطلق العدد18، 1402 هـ مقالة للعلامة السيد فضل الله، ص 14.
3- الميزان، ج4، محمد حسين الطباطبائي، ص 116.
4- الاضواء، العدد 4، 1404 هـ، مقالة لآية الله الصدر ص 25.
5- مشكلة الحرية في الإسلام ج1، جميل م. منيمنه، ص 111.
6- المصدر السابق، ج2، ص 105.
7- المصدر السابق، ج1، 135.
8- المصدر السابق، ج2، ص 97.
9- المصدر السابق، ج2، ص 96.
10- فقيه شافعي صوفي ذو مشاركة في الاصول والكلام والتفسير، توفي سنة 465 هـ.
11- مشكلة الحرية، ج1، ص 135.
12- الفتوحات المكية، ص 227.
13- الاضواء، العدد 2، 1404 هـ، مقالة لآية الله الصدر ص 28.
وقد عبّر الامام علي «عليه السلام» اروع تعبير عن حرية الإنسان وحقه الطبيعي فيها حينما قال مخاطباً الإنسان: « لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً». والحرية بهذا المفهوم الذي يطرحه الامام «هي التي تخلق الثورات وتنشيء الحضارات وتقيم علاقات الناس على أسس التعاون الخير، وتربط الافراد بالجماعات بما يشدهم إلى الخير».(1)
وللخليفة عمر بن الخطاب كلام في حرية الإنسان يقول «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً»، ويعلق الكاتب جورج جرداق على النصّين أعلاه بقوله: «ولا يظنّ القارىء أنّ الفرق بسيط بين كلمة عمر بن الخطاب اذ يتوجه إلى الاسياد فيأمرهم بألاّ يستعبدواً أحداً، وبين كلمة علي اذ يتوجه إلى الكافة فيخبرهم بأنهم أحرار، ويجعل الامر مرهوناً بارادتهم هم لا بأرادة الاسياد إذا شاؤوا اعتقوا، فالفرق في نظرنا شاسع عظيم وهو فرق يتناول الاصول لا الفروع، ويشير إلى عمق نظرة الامام علي إلى مفهوم الحرية، فالحرية في وصفه هذا نابعة من اصولها الطبيعية.
من الناس الذين لهم وحدهم الحق في أن يقرروا مصيرهم استناداً إلى انهم احرار حقاً لا رأي في ذلك لمن يريد أن يسلبهم هذه الحرية أو يمنحهم اياها... ان علياً يقرر بقوله هذا أنّ الحرية عمل وجداني خالص ملازم للحياة الداخلية التي ترسم بذاتها الخطوط والحدود والمعاني فلا تُقسر عليها لانها نابعة من الذات لا تلقائية ولا خارجية وهي إذا كانت كذلك فليس لأحد أن يكره الآخر أو يجبره في هذا النطاق، لان عمله هذا يأتي فارغاً من أي معنى، خالصاً من أي أثر».(2)
ونحن نحاول ـ قدر مستطاعنا ـ أن نبرز في هذه المقالة الرؤية الإسلامية للحرية، وتوضيح ما بامكاننا توضيحه من النقاط ذات الصلة بهذا الموضوع الحيوي المثير للجدل.
الإنسان بين الجبر والاختيار
رغم تأكيد الإسلام على حرية الكائن الإنساني وتمتعه بقدرة الاختيار، نجد ظهور آراء متشابكة ومتضاربة بين الفرق الإسلامية حول هذه القضية، حتى انها طغت في فترات من التاريخ الاسلامي وضمن اطار «القضاء والقدر» على كافة القضايا الإسلامية الاخرى وكأنها مشكلة المشاكل أو المشكلة الوحيدة التي تعترض سبيل الفكر الاسلامي، وقد طفت على سطح الساحة الإسلامية ثلاثة اصطلاحات لتفسير السلوك الإنساني وهي «الجبر» و«التفويض» و«الاختيار».
و«الجبر» باختصار ـ من وجهة نظر علماء العقائد الإسلامية: «اجبار» الله تعالى عباده على ما يفعلون. خيراً كان أو قبيحاً، دون ان يكون للعبد ارادة واختيار الرفض والامتناع.
ويرى الجبرية أن كل ما يحدث للانسان قد قدر عليه ازلاً فهو مسير لا مخير»(3)، وهو ما تقول به الاشاعرة. اما «التفويض» فيراد به «ان الله تعالى فوّض أعمال العباد اليهم يفعلون ما يشاؤون على وجه الاستقلال ودون ان يكون لله سلطان على افعالهم»(4) وهو قول المعتزلة. ويراد بـ «الاختيار» «أن الله تعالى كلّف عباده بواسطة الانبياء والرسل ببعض الافعال ونهاهم عن بعض آخر. وأمرهم بطاعته في ما أمر به ونهى عنه بعد أن منحهم القوة والارادة على الفعل»(5)، وهو الرأي الصائب الذي يتماشى مع النظرة القرآنية ويصبّ في الهدف من خلق الإنسان وأرسال الرسل، ودور الإنسان البناء في الارض فلو كان الإنسان مجبراً على كل عمل يقوم به، فما معنى التكليف اذن؟
وما معنى مسؤوليته أمام الله تعالى عن كل أعماله؟ وما معنى العقاب والثواب المترتب على تلك الاعمال؟ فلا تكليف ولا مسؤولية إلاّ مع الحرية، وإلاّ لكان العقاب ظلما، وهذا ما يتناقض مع العدالة الالهية. «انّا هديناه السبيل امّا شاكرا وامّا كفوراً»(6)
____________________________________
1- الامام علي صوت العدالة الإنسانيّة ج1، جورج جرداق، ص 176.
2- نفس المصدر، ص 175.
3- عقائد الإسلام من القرآن الكريم، ج1، مرتضى العسكري، ص 448.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص 449.
6- الإنسان: 3.
«وان ليس للانسان إلاّ ما سعى»(1).
فالله تعالى قد «شرّع للانسان طريق الهدى ونهاه عن الضلال ومتّعه بالعقل الذي يدرك ويميز، ووهبه القدرة على أن يختار، واعطاه الارادة التي يُنفّذ بها الاختيار فيحيل الفكر إلى واقع حي»(2).
كما لا يمكن نكران دور القضاء والقدر في الحوادث الكونية والافعال الإنسانيّة، فهو يعني انكار مبدأ الضرورة العلية والمعلولية، أي الغاء قانون العلية وعدم الاعتراف بتأثيره في مجرى الحوادث وفعال الإنسان «فكل العوامل في الوجود تنشأ من علم الله وارادته، وآلة لاجراء قضائه وقدرته... ولا معنى لتصور قيام عامل ليس مظهراً لتجلي الارادة الالهية وآلة لاجراء قضائها وقدرها، أو تصور عامل خارج عن قانون العلية ومقابل في التأثير له».(3)
وبعبارة اخرى «لولا امداد الله عبيده بكل ما يملكون من طاقات فكرية وجسدية وما سخّر لهم في هذا العالم لما استطاع المؤمن ان يعمل عملاً صالحاً، ولا الضال الكافر أن يعمل عملاً ضاراً أو فاسداً، ولو سلبهم لحظة واحدة أي جزء مما منحهم من الرؤية والعقل والصحة... لما استطاعو ان يفعل شيئاً. اذن فأن الإنسان يفعل ما يفعل بما منحه الله بمحض اختياره.. فالانسان لم يفوض إليه الامر في هذا العالم. ولم يجبر على فعل، بل هو أمر بين أمرين».(4)
فالانسان اذن خلق حراً مختاراً واعطي فكراً وارادة، فهو في أعماله «ليس كالحجر تدحرجه فيتدحرج ويسقط متأثرا بجاذبية الارض دون ان تكون له أية ارادة، أو كالنبات ليس له إلاّ طريق واحد فمجرد توافر شروط معينة ينمو بالشكل المعتاد، أو كالحيوان الذي يؤدي اعماله بتأثير غريزي كلاّ ان الإنسان يجد نفسه على مفترق طرق ليختار منها أيّها شاء بملء حريته، ووفق مشيئته، ونوعية تفكيره. وليس مجبراً على سلوك أحدهما لا غير وانّما الذي يعيّن أحد الطرق هو اسلوب فكره واختياره».(5)
فالانسان يتأثر بالمؤثرات الخارجية والداخلية كما هو الحال بالنسبة للحيوان والنبات، إلاّ ان رد فعله ازاءها لا يكون عين رد الفعل الذي يبديانه، بل يمتلك الحرية في اتخاذ الموقف المناسب الذي يمليه عليه عقله ويجسّد ارادته، ومن هنا «فالانسان مؤثر في مصيره كعامل مختار، بمعنى أنه بعد ان تتوفر الشرائط الطبيعية المؤثرة يبقى له اختياره وحريته في الفعل أو الترك».(6)
وتجدر الاشارة إلى أنّ الحكومات التي سيطرت على مقاليد الحكم في العالم الاسلامي بعد صدر الإسلام قد عملت على ترويج ودعم بعض الافكار والصيغ ذات المفهوم المنحرف البعيد كل البعد عن النظرة القرآنية، وذلك لالهاء المسلمين عن قضايا مهمة على صعيد الحكم والقيادة وحرف أبصارهم عن مشاهدة الانتهاكات، وغمط الحقوق، والانحراف بالمسيرة الإسلامية كذلك «لايجاد المبررات الكافية لأية عمليات سياسية خاطئة أو غير عادلة، أو لا تتناسب مع روح التراث أو النصوص الدينية»(7). وثبت تاريخياً ان الجهاز الاموي قد حول مسألة «القضاء والقدر» إلى مستمسك قوي قارع به كل من يقول بالحرية الإنسانيّة بعد ان اتّهم اصحاب هذا الرأي بمخالفته العقائد الإسلامية وعُرف تاريخياً أيضاً «أن الجبر والتشبيه أمويان والعدل والتوحيد علويان»(8) هذا في حين قام المأمون «بتبني نظرية المعتزلة في الحرية الإنسانيّة ونشرها بالسيف والجدل»(9). كما سعى المستعمرون في العصر الحديث إلى «دعم نظرية القضاء والقدر لأهداف نفسية واجتماعية وسياسية»(10) عبر الادوات الفكرية
____________________________________
1- النجم: 39.
2- الإنسان والقضاء والقدر، آية الله المطهري، ترجمة محمد علي التسخيري، ص 46.
3- رسالتنا، الشهيد آية الله الصدر، ص 90.
4- عقائد الإسلام من القرآن الكريم، ج1، ص 459. مرتضى العسكري
5- الإنسان والقضاء والقدر، ص 42.
6- المصدر السابق، ص 52.
7- مشكلة الحرية، ج1، ص 172.
8- الإنسان والقضاء والقدر، ص 31.
9- مشكلة الحرية، ج1، ص 172.
10- المصدر السابق.
والدعائية التي كانت بحوزتهم.
مكانة الإنسان في الاسلام
حظى الإنسان في الإسلام بمكانة عظيمة لا ترقى اليها مكانة الإنسان في أي نظام آخر. وهذه المكانة ناشئة من الدور الذي اناطه الله تعالى به والمتمثل بكونه خليفة الله تعالى في هذه الارض. وهل هناك شرف أعظم من أن يمثل الإنسان لله سبحانه وتعالى في الارض؟ وهل هناك مبدأ آخر غير الإسلام قد أعطى للانسان مثل هذا الدور العظيم وتعامل معه على هذا الاساس ووفق هذه النظرة؟
فالانسان اذن من المنظار الاسلامي مخلوق كريم: «ولقد كرّمنا بني آدم»(1) وخليفة الله ينوب عنه في ادارة الارض واعمارها وتطويرها على شتى الاصعدة، ويصدر عنه في تحركه الايجابي الهادف، ويرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة ضماناً لسلامة مسيرته اللاحبة: «وإذا قال ربّك للملائكة انّي جاعل في الأرض خليفة...»(2)
ولم يقف الامر عند اناطة مهمة الخلافة بالانسان، وتكليفه بحكم الارض نيابة عن الذات المطلقة، بل أمر سبحانه الملائكة ان تسجد له أيضا، تعبيرا عن أكرام هذا المخلوق الالهي وايذانا ببدء مرحلة جديدة يقودها الإنسان على ظهر هذا الكوكب:
«واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا....».(3)
وفي استعراضه لعملية الاستخلاف الرباني للانسان يرى الشهيد آية الله الصدر رضوان الله عليه أنّ هذه العملية تعني فيما تعني(4):
1ـ انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد هو الله تعالى بدلاً من كل الانتماءات الاخرى، والايمان بسيد واحد للكون. وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام عليه الإسلام
2ـ اقامة العلاقة الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله تعالى وتحرير الإنسان من عبوديات الاسماء التي تمثل الوان الاستغلال والجهل والطاغوت.
3ـ تجسيد روح الاخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو الوان الاستغلال والتسلط. فما دام الله تعالى واحداً ولا سيادة إلاّ له، والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه فمن الطبيعي أن يكونوا اخوة متكافئين في الكرامة الإنسانيّة والحقوق.
4ـ الخلافة استئمان، والامانة تفترض المسؤولية والاحساس بالواجب، اذ بدون ادراك الكائن انّه مسؤول لا يمكن ان ينهض باعباء الامانة أو يختار لممارسة دور الخلافة.
والإنسان بهذا المفهوم الرائع للخلافة «خارج عن أي نوع من انواع التبعية لأي قوّة اجتماعية أياً كانت، وارتباطه حصراً بكل ابعاده بالوعي والارادة الذين يسودان المجتمع».(5)
والخلافة بهذا الشكل انما هي «حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوّة... حركة لا توقف فيها لأنها متجهة نحو المطلق، وأي هدف آخر للحركة سوى المطلق سوف يكون هدفاً محدوداً، وبالتالي سوف يجمد الحركة ويوقف عملية النمو. وعلى الجماعة التي تتحمل مسؤولية الخلافة ان توفر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كل الشروط الموضوعية. وتحقق لها مناخها اللازم».(6)
ويجب ان نشير هنا إلى انّ الله تعالى لم يترك هذا الخليفة ليعمل ما يحلو له وما يريد دون حساب بل انّه قد تعهده بالرعاية
____________________________________
1- الاسراء: 71.
2- البقرة: 30.
3- البقرة: 34.
4- خلافة الإنسان وشهادة الانبياء، الشهيد آية الله الصدر، ص 11 ـ 12.
5- العرفان، العدد 1، 1984، مقالة للدكتور محمد حسين دكروب، ص 50.
6- خلافة الإنسان، ص 19.
والتوجيه والهداية من خلال ارسال الرسل وانزال الرسالات وتوضيح معالم الطريق وتبيان الحقائق. غير أن هذه الحقيقة يبدو أنّها قد خفيت عن ادراك الملائكة الذين أسرعوا في التعبير عن قلقهم من المصير الذي ستؤول إليه الارض بفعل الممارسات المحتملة لهذا الخليفة الحر: «قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك».(1)
ويبدو أنّ الملائكة قد «هالهم ان توجد لاول مرة طاقة محايدة يتعادل فيها الخير والشر ولا تضبط وفقاً للقوانين الطبيعية والكونية الصارمة التي تسيّر الكون بالحكمة والتدبير، وفضلوا على ذلك الكائن الذي يولد ناجزاً مصمماً لا فراغ في سلوكه، تتحكم فيه باستمرار قوانين الخلق الجديد، ولكن فاتهم انّ الكائن الحر الذي جعله الله تعالى خليفة في الارض لا تعني حريته اهمال الله تعالى له، بل تغيير شكل الرعاية. فبدلاً من الرعاية من خلال قانون طبيعي لا يتخلّف... يتولى الله سبحانه وتعالى تربية هذا الخليفة وتعليمه لكي يصنع الإنسان قدره ومصيره ويُنمّي وجوده على ضوء هدى وكتاب منير».(2)
وانسجاماً مع دور الخلافة الذي يمارسه الإنسان المسلم خلال وجوده على الارض، وانطلاقا من حريته في العمل والحركة ضمن اطار ذلك الدور، فقد غدا صانعاً لمجريات الاحداث، وماسكاً بدفة العملية التاريخية لا خاضعاً لها ولا مسيراً من قبلها، على العكس من الماركسية التي تعطي للتاريخ الهيمنة والسيادة على الإنسان وتجعله خاضعا خضوعاً أعمى للعملية التاريخية وتسلب من كل ارادة امام مشيئتها وكلمتها الفصل ويبقى تحت رحمة ما تصنع له من قدر ومصير. وعلى العكس أيضاً من مسيحية الكنيسة التي ترفض التاريخ، وتفصل الإنسان عن واقعه الحي، وتقتل استجاباته لهذا الواقع.(3)
مرتكزات الحرية في الاسلام
الحرية في الإسلام ليست حرية متأرجحة هشة أو عشوائية غائمة، وانما تنطلق من اسس وقواعد ثابتة ورئيسية لا ترتكز عليها الحرية فحسب بل النظام الاسلامي بأسره وعلى هذا الاساس يمكن ان نقول ان المرتكزات التي تقوم عليها الحرية في الإسلام هي من اقوى الاسس والقواعد التي تقوم عليها فكرة أو مفهوم ما في أي نظام آخر. فالاسلام لا ينظر إلى الحرية كشيء كمالي ولا يعتبرها امراً مزاجياً خاضعاً للذوق والرغبة، بل أقامها على اصوله واعتبرها جزءاً لا يتجزأ من مبادئه. بل انّ الباحث المتتبع ليشم رائحة الحرية من كل التشريعات الإسلامية والمناهج التي وضعها في شتى مجالات الحياة، ومن اهم تلك المرتكزات:
1ـ العبودية لله تعالى:
ان العبودية لله تعالى تعني الانقياد التام والاطاعة الكاملة لله، وهو ما يعني التحرر من كافة العبوديات والانقيادات والتبعات لأية جهة اخرى. وهذا ما يكشف عن التحرر الحقيقي للانسان من كافة الاغلال والقيود التي طالما كبلت ارادته وفكره وجسمه وروحه وحتى عواطفه خلال مسيرته الحافلة بالعناء، فالعبودية لله تعني أسمى أنواع الحرية التي لم يحلم بها الإنسان ولم يتصورها ابداً وهو يصارع الوان العبوديات التي سلبت منه نعمة الحرية والحياة الآمنة والعيش الهانىء. ان العبودية لله تحرر الإنسان ليس من قيود الظلم والامتهان والاستعباد والاصنام والآلهة المزورة فحسب، وانما أيضاً من قيود النفس واهوائها الجامحة ونزعاتها الجنونية، وتفسح المجال لعنصر العقل لكي يتخذ القرارات بشكل سليم وناضج بعيداً عن التأثيرات الكاذبة والاجواء المحمومة. وهو ما يتيح للانسان شق طريقه بشكل افضل وأداء دوره بالصورة المطلوبة. «ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إلى الوان من العبودية والاغلال، فان الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس فانها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى لتنتهي إلى التحرر من كل اشكال العبودية المهينة».(4)
____________________________________
1- البقرة: 30.
2- خلافة الإنسان ص 15 ـ 16.
3- انظر: رسالتنا ص 106 ـ 107.
4- الاضواء، العدد 2، مقالة للشهيد آية الله الصدر.
صحيح أن العبودية لله لا تسمح للانسان بأية حرية حيال الله تعالى، أي لا حرية له في المتنصل من التكاليف والمسؤوليات التي القاها سبحانه على عاتقه، ولا العمل خارج اطار النهج الالهي ولا التحرك خارج اطار المسار الربـاني «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم»(1). لكنّ هذه العبودية تمنحه في عين الوقت الحرية الكاملة من أي قيد فكري وسياسي واجتماعي ونفسي وغيرها من القيود التي تحاول ان تفرضها عليه الافكار والعقائد والتقاليد والقوى التي لاتمت إلى المبدأ الالهي بصلة «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله».(2)
2ـ رضا الله تعالى:
انطلاقاً من قاعدة العبودية لله، يصبح لزاماً على الفرد المسلم ان يتحرك في الحياة ويسعى طبقاً لمرضاة الله تعالى. وتوخياً للقبول الالهي، فالعبودية تحتمّ الانصياع للمولى والانصياع للمولى يُراد منه تحقيق الرضا.. وبدون رضا المولى لا تتحقق العبودية مطلقاً... لهذا نرى لمعيار «الرضا الالهي» دوراً مهماً في هداية التحرك البشري وتوجيهه الوجهة الصحيحة ورفعه باتجاه الكمال. فالانسان المسلم يدرك أنّ المطلوب منه تحصيل الرضا الالهي وعليه ان يجد بكل ما متاح له من قوى وطاقات لتحقيق ذلك الرضا. وبهذا تُحفظ للحرية ـ كما هو الحال لباقي الاسس والمفاهيم الإسلامية ـ حيويتها وتُصان عن كل عملية يراد بها تقليصها أو الالتفاف عليها أو اجهاضها. فالمسلم مطالب بتحقيق مرضاة الله والدوران دائما وأبدا حول هذا المحور، لهذا فهو ملزم برعاية كافة القوانين والتشريعات والأطر الالهية خوفاً من غضب المولى وخشية من الخروج على ارادته... وبهذا المعنى تحتفظ «الحرية» برونقها وجذابيتها وحرارتها في المدرسة الإسلامية بل يشعر المسلم بلذة كبيرة وحماساً عظيماً حينما يرى نفسه وقد حافظ عليها وصانها من كل عملية تلاعب وتحريف. ويمتاز مقياس «رضا الله» عن أي مقياس آخر مهما كان شكله بميزات اساسية فهو «مقياس من النظرة الروحية العامة إلى الحياة والكون وليس مقياساً مرتجلاً. كما انّه يزيل كل تناقض من الصعيد العملي على عكس كثير من المقاييس التي يقدمها فلاسفة الاخلاق كاللذة أو المنفعة ونحوهما من مفاهيم غائمة أو غير محددة، فان الناس في المجتمع الواحد يتناقضون في لذاتهم ومنافعهم، كما تتناقض المجتمعات البشرية المختلفة في هذه المقاييس أيضاً فما كان فيه منفعة فرد أو مجتمع، أو كان ملذاً لهما قد يكون مضراً بفرد أو بمجتمع آخر، وايمان الإنسانيّة بهذه المقاييس الخلقية الناقصة هو الذي جرّ عليها كثيراً من الوان البلاء والقى بها في دوامة من الصراع والنزاع. واما حين تأخذ الإنسانيّة بالمقياس العملي الذي ينادي به الإسلام فسوف يزول كل لون من الوان الصراع والتناقض لان رضى الله تعالى لا يتناقض ولا يختلف».(3)
3ـ مسؤولية الإنسان المسلم أمام الله تعالى:
قد يوجد عنصر المسؤولية في كثير من الانظمة، لكنه لا يتجاوز في كثير من الاحيان مسؤولية الفرد تجاه القوانين المعمول بها. بل حتى هذا النوع من المسؤولية غالباً ما يفقد بريقه من خلال عمليات الانتهاك المتوالية لتلك القوانين والخروج عليها. اما مسؤولية الإنسان المسلم فتختلف جوهرياً عن تلك المسؤولية لانها نابعة من باطن الإنسان ونافذة إلى اعماقه وماثلة امامه دائماً وابداً. فالانسان المسلم مسؤول امام جهة مطلقة عليا تراقبه وتشاهد عن كثب كل تحركاته وسكناته، بل مطّلعة حتى على افكاره وخلجات قلبه.. وهو بهذا كتاب مفتوح امام العين الالهية الساهرة ولا حيلة له ولا وسيلة سوى اداء التكليف والقيام بالواجب الملقى على عاتقه دون تلكؤ أو تكاسل. وانطلاقاً من عنصر المسؤولية أيضاً يجد الإنسان المسلم نفسه مندفعاً لاداء التكليف الالهي، والحرص على تقديم اعماله كافة بنفس صادق وروح متفاعلة. ويظل عنصر المسؤولية هو الدافع القوي نحو تحقيق الارادة
____________________________________
1- الاحزاب: 36.
2- آل عمران: 65.
3- رسالتنا، ص 46 ـ 47.
الالهية وتطبيق الاحكام الإسلامية وتقليل مدى الخروج على تلك الاحكام وخفض مستوى انتهاك الحقوق الإنسانيّة والاصطدام بمبدأ الحرية الذي يحظى بأهمية فائقة في الإسلام بل انّه ـ أي عنصر المسؤولية ـ «الضمانة الاكيدة لقيام حرية حقيقية في الإسلام.(1)
وعنصر المسؤولية يشير من جهة اخرى إلى «حرية الإنسان» ويعبّر عن اختياره. وهو ما يكشف عن مدى الاهتمام الذي يوليه الإسلام للحرية. فالمسؤولية التي لا تقترن بالحرية تصبح مجرّد لفظة فارغة لا قيمة لها. وبمعنى آخر لامعنى للمسؤولية دون توفر الحرية، فأنت يجب ان تكفل للشخص حرية تحركه واتخاذ القرار المناسب في الظرف المناسب قبل ان تطلب منه أي شيء وقبل ان تحاسبه على أي شيء. وإلاّ فانك تكون قد ارتكبت ظلماً فادحاً عندما تحاسب من لا يمتلك الحرية، أو عندما تطلب منه ان يؤدي لك عملاً لا يملك حرية الحركة لادائه.
ومن ذلك نفهم ان المسؤولية تعني أولاً أنّ الإنسان كائن حرّ وثانياً التزامه وعقائديته «فالجماعة البشرية التي تتحمل مسؤوليات الخلافة على الارض انما تمارس هذا الدور بوصفها خليفة عن الله. وبهذا فهي غير مخولة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى، لانّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وانما تحكم بالحق وتؤدي إلى الله تعالى امانته بتطبيق احكامه على عباده وبلاده»(2). وهذا العامل يصبّ أيضاً في عملية صيانة تلك الحرية وديمومتها.
معركتا الإسلام لتحرير الإنسان
خاض الإسلام معركتين كبيرتين لتحرير الإنسان من قيود العبودية ووضع اقدامه على الطريق القويم البعيد عن كافة اشكال الاستعباد والاستذلال الضغوط والتهديدات.
فالاسلام كان واضحاً لديه انّ هذا الإنسان لا يمكن ان يتمرّد على قضبان العبودية بسهولة ولا يمكن تخليصه من قبضة الضغوط النفسية والاجتماعية بمجرد دعوته إلى ذلك، بل لا بد من ثورة ولابد من هزة عنيفة تعيد الحياة إلى عقله، والحركة إلى فكره، وتزيح عن جوهره ارادة الصدأ المتراكم عليه عبر الحقب الزمنية واشعال جذوة الضمير من أجل ان ينتصر هذا الإنسان على كافة وجوه العبودية لكي يجد في آخر المطاف نفسه وارادته وحرّيته الضائعة.
والمعركتان الرئيسيتان اللتان خاضهما الإسلام لتحرير الإنسان هما:
1ـ معركة التحرير الداخلي: وهي معركة ضروريةوملحة لابد للاسلام من البدء بها قبل أي خطوة اخرى على طريق تحرير الإنسان فنحن نعرف ان الإنسان ـ اناني بالفطرة وشديد الحب لنفسه، ولا يجد في الدنيا اعز إليه منها، وبدافع من هذه الغريزة المستضحلة ينطلق في الحياة لكي يوفر لنفسه كل ما تهفو إليه ويمتعها بكل ما تتلذذ به دون الاخذ بنظر الاعتبار امكانية ان يؤدي ذلك إلى الاضرار بمصالح الآخرين والتعدي على حقوقهم... الإنسان عندما ينطلق مع غريزة حب الذات وباقي الغرائز الاخرى التي هي في الواقع «فروع هذه الغريزة وشعبها»(3)، دون ترو وبلا حدود وقيود، فلابد وان تنجم عن هذا الانطلاق غير المقيد فاجعة ـ بل فواجع ـ اجتماعية رهيبة نتيجة الاصطدامات الطبيعية بين مجموع الغرائز الاجتماعية وهو ما يمكن التعبير عنه بفوضى الغرائز، ان حب الذات وحب الشهوة وحب جمع الاموال وكافة انواع الحب والرغبات والنوازع النفسية، انما هي حقيقة قائمة لا يمكن لأحد ان ينكرها أو يعترض على وجودها ولا يمكن بحال من الاحوال أن يتجرّد الإنسان عن غرائزه، ولا يمكننا ان نجد انسانا لا يحب ذاته، أو ان يحب الآخرين اكثر مما يحب نفسه «ولا يمكن تكليف الإنسان ان يتحمل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذة، في سبيل ان يلتذّ الآخرون ويتنعموا إلاّ إذا سلبت منه انسانيته واعطي صيغة جديدة لا تتعشّق اللذة ولا تكره
____________________________________
1- مشكلة الحرية، ج1، ص 28.
2- المدرسة الإسلامية الشهيد الصدر، ص 136.
3- فلسفتنا، الشهيد الصدر، ص 36.
الالم!».(1)
اذن فلابدّ من تطوير مفهوم حب الذات عند الإنسان وتوسيع مداه لكي يشمل اعضاء مجتمعه وابناء جنسه أيضاً. وللوصول لهذا الغرض فقد خاض الإسلام معركة على هذا الصعيد من خلال تطوير المفهوم المادي للانسان عن الحياة «فقد وضع الإسلام للحياة مفهوماً جديداً، واقام على اساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكل منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادية معاً، فالاسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من انظمة، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانيّة فان نقطة الارتكاز الاساسية لما ضجت به الحياة البشرية من انواع الشقاء والوان المآسي، هي النظرة المادية إلى الحياة التي تختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الإنسان في الدنيا هي كل ما في الحساب من شيء، واقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية ونشاط».(2)
فالاسلام اذن «يوحّد بين ا لمقياس الفطري للعمل والحياة وهو حب الذات والقياس الذي ينبغي ان يقام للعمل والحياة ليضمن السعادة والرفاه والعدالة، فالمقياس الفطري يتطلب من الإنسان ان يقدم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقومات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي ان يحكم ويسود هو المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية».(3)
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كيف يحصل الانسجام بين الدافع الذاتي والمصالح الاجتماعية وفق الرؤية الإسلامية
ويرى سماحة الشهيد آية الله محمد باقر الصدر طاب ثراه أنّ ذلك يحصل عبر اسلوبين:(4)
1ـ تركيز التفسير الواقعي للحياة، واشاعة فهمها في لونها الصحيح كمقدمة تمهيدية الى حياة آخروية يكسب الإنسان فيها السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا الله.
فالاسلام يوسع من ميدان الإنسانيّة ويغرض عليه نظرة أعمق إلى مصالحه ومنافعه، ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً في هذه النظرة العميقة، ومن الارباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف.
2ـ التعهد بتربية اخلاقية خاصة تعني بتغذية الإنسان روحياً، وتنمية العواطف الإنسانيّة والمشاعر الخلقية فيها، وليس معنى ذلك ان حب الذات يمحي من الصيغة الإنسانيّة بل ان العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لارادة حب الذات. فان القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للانسان ويكون تحقيق المحبوب معبراً عن لذة شخصية خاصة، فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقاً للذة خاصة بذلك.
فمعركة الإسلام الاولى موجهة اذن نحو الغرائز، ولكن لا بهدف قمعها والقضاء عليها ـ بل من أجل تهذيبها وصيانتها من الانحرافات وتوجيهها الوجهة الصحيحة، فالاسلام لا يلغي غريزة حب الذات والغرائز الاخرى المتشعبة عنها بل يقرها ويعترف بها ولكن بالقدر الضروري اللازم، دون ان يسمح لها بتخطي ذلك القدر لانه يعني التعدي على الحقوق الاجتماعية والاضرار بمصالح الآخرين وانتهاك حرياتهم.
الإسلام اذن يعترف بالروح والجسد معاً، ويعترف بما للروح من نزعات وطموحات، وما للجسد من شهوات ولذائذ، ولكن ضمن عملية توازن رائعة لا يطغى فيها الجسد على الروح ولا تتمرد فيها الروح على ارادة الجسد، وبذلك تؤتي العملية الثورية ثمارها وتتوفر الحرية باطارها الصحيح كاملة لكل الناس دون ان يمس أي منهم حرية غيره بسوء عندما تنتصر الروح الإنسانيّة ـ وهي روح الفكر والعقل ـ على الارادة الحيوانية ـ وهي روح الغريزة المحضة وحب الذات المجنون ـ عندئذ يدرك الإنسان ان «رسالته في الحياة ارفع من هذا المصير الحيواني المبتذل الذي تطغى فيه الشهوات وان مثله الاعلى الذي خلق للسعي في سبيله
____________________________________
1- المصدر السابق، ص 37.
2- المصدر السابق، ص 43.
3- المصدر السابق، ص 46.
4- المصدر السابق، ص 47 ـ 48.
أسمى من هذه الغايات التافهة والمكاسب الرخيصة التي يحصل عليها في لذائذه المادية»(1). وحينما يمتلك الإنسان مثل هذا الفهم للحياة والادراك لفلسفة الوجود فسيكون عندئذ انساناً حراً قادراً على الانطلاق في الحياة دون خوف عليه من شهوة أو لذة أو اغراء. وبمثل هذا الإنسان يمكن ان يُشاد مجتمع حر زاخر بالاخلاق والفضائل، يتسابق افراده في عمل الخير والمعروف واجتثاث جذور الشر والرذيلة، على العكس من المجتمعات المادية التي تعيش فوضى الغرائز ولا نجد فيها أي معنى خلقي وعاطفي بل يعيش كل فرد فيها «وهو يشعر بأنه المسؤول عن نفسه وحده، وأنه في خطر من قبل كل مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به. فكأنه يحيا في صراع دائم ومغالبة مستمرة، لا سلاح فيها إلاّ قواه الخاصة، ولا هدف له منها إلاّ مصالحه الخاصة».(2)
ولهذا نجد عجز الحكومات التي تقود مجتمعات مادية عن تحرير تلك المجتمعات من بعض العادات والامراض الاجتماعية، عندما تستفحل وتشكل خطراً يتهدد المجتمع من الاساس. ومرد ذلك العجز انعدام الحرية الحقيقية في نفوس ابناء تلك المجتمعات وخضوعهم الكامل لعبودية المادية والشهوة وحب الذات، تلك العبودية التي لا تسمح لأي منهم بسماع صوت العقل والضمير.
وهنا يجب الاشارة إلى ان البشرية ورغم قطعها لاشواط بعيدة في المجال العلمي إلاّ انها وللاسف لا زالت متخلفة على الصعيد الإنساني لاسيما في البلدان الرائدة في المضمار العلمي ويعود ذلك إلى ابتعاد تلك البلدان عن الدين وتشبثها بالماديات.
فالعلم لوحده غير قادر على تهذيب الإنسان ولا الارتقاء به خلقياً، انما هذه امور لا ينهض بها سوى الدين. «فالعلم سلّم تستطيع البشرية عن طريقه ان تصل إلى اهدافها وتحقيق غاياتها، وليس العلم بقادر على تغيير اهداف الإنسان ولا يستطيع ان يقدم له قيماً ومقاييس انسانية»(3). ومما يحز في النفس ان نجد العلوم وقد اضحت في خدمة ارادة الشر في عصرنا هذا و«اضحى ملاك العلم في خدمة شيطان الشهوة واصبح العلماء وكل المشتغلين في الحقل العلمي ادوات طيعة تخدم الساسـة والفراعنة وطلاب السيطرة والنـفوذ»(4).
2ـ معركة التحرير الخارجي: وبعد معركة تحرير النفس الإنسانيّة واعداد الإنسان الحر القادر على تقرير مصيره بيده ينطلق الإسلام مع هذا الإنسان لخوض معركة اخرى مع كافة اشكال الاستغلال والوان الظلم ومختلف القيود التي تحول دون تحقيقه لحريته وابراز ارادته وترجمة افكاره السليمة ومشاعره وعواطفه الإنسانيّة إلى واقع عملي متحرك.
لقد الغى الإسلام كافة الفوارق بين الناس ولم يعترف بأي امتياز أو تفاضل لانسان على اخر بسبب العنصر والعرق والطبقة واللغة والثروة والمنصب. واعتبر الناس كلهم متساوين في الحقوق والواجبات بصفتهم ابناء لأب واحد وعبيد لرب واحد. ورفع الإسلام عقيدته منادياً «ما هو مشترك بين الناس هو الاصل وهو الجدير بالاستجابة. واما ما هو مفرق فليس إلاّ عارضاً لا يجوز ان يجعل اساساً للتفريق والتحزّب والانقسام».(5)
والتفاضل الوحيد بين الناس من وجهة نظر الإسلام هو في «التقوى» وهذا ايضاً «أمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس»(6).. «انّ أكرمكم عند الله اتقاكم».(7)
وعلى هذا الاساس سوف يكون «الحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس والحر والعبد في مواقف سواء من حيث جريان القانون الديني في حقهم ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدلّ عليه السيرة النبوية».(8)
____________________________________
1- الاضواء، العدد 2، مقالة للشهيد الصدر، ص 29.
2- فلسفتنا، ص 25.
3- الامداد الغيبي في حياة البشرية، اية الله المطهري، تعريب آذر شب ص 36.
4- المصدر السابق.
5- رسالتنا، ص 95.
6- الميزان، 4، ص 124.
7- الحجرات: 13.
8- الميزان، ج4 ص 124.
ومقياس التقوى من اروع المقاييس في الوجود الإنساني فهو سيدفع الناس باتجاه الخير والفضائل وينمي في أنفسهم هذه الملكة العظيمة التي لا تبقي في نفس صاحبها أي نزعة للاستغلال والظلم والتمايز والاستعلاء كما لا تسمح له أيضاً بقبول أي نوع من انواع الاستعباد والجور من أي جهة كانت. وتثير في نفسه عوامل التحرك لمواجهتها والتصدي لها. فالاسلام اذن مبدأ العدالة والمساواة الإنسانيّة وثورة على كافة الوان الاستعباد والاستغلال. بل انه يدفع الإنسان للثورة على الواقع الفاسد وكافة اصناف العبودية، ويؤجج في روحه عوامل المقاومة والجهاد ضدّها.
ورغم ان البشرية قد شهدت قيام ثورات كثيرة خلال مسيرتها الطويلة، إلاّ ان أغلب تلك الثورات التي حمل المستضعفون لواءها انما كانت بسبب ما تزخر به قلوبهم «من المشاعر الشخصية المتقدة بسبب ظلم الآخرين واستهتارهم بحقوق الجماعة ومصالحها»(1)، لا على اساس من الرؤية الالهية لمفاهيم العدل والمساواة والحرية مما جعل تلك الثورات ثورات غير حقيقية لانها كانت ثورات على «تجسيد معين للاستغلال من قبل المتضررين من ذلك التجسيد»(2). وهي بهذا المعنى لا تعدّ ثورة على جذور الاستغلال وحقيقته ولن يكون لها ذلك التأثير المهم عليه. اما الثورات التي قامت على أساس الإسلام وبوحي من رسالته التحريرية الثورية، انّما كانت بسبب «الاحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحق والقسط والايمان بعبودية الإنسان لله التي تحرره من كل عبودية»(3). ومثل هذه المشاعر سوف «تخلق القاعدة التي تتبنى تصفية الاستغلال، لا لأنه يمس المصالح الحقيقية للظالمين والمظلومين على السواء، وتنزع وسائل السيطرة من المستغلين لا طمعاً فيها وحرصا على احتكارها، بل ايماناً بأنها من حق الجماعة كلّها، وتلغي العلاقات الاجتماعية التي نشأت على أساس الاستغلال لا لتنشيء علاقات مماثلة لفئة اخرى من المجتمع، بل لتعيد إلى الجماعة البشرية الشروط الضرورية لممارسة الخلافة على الارض وتحقيق اهدافها الرشيدة»(4).
والطاقة التي تدفع الإنسان للثورة على شتى الوان الاستغلال والظلم والعبودية هي الطاقة التي يستوحيها من الإسلام وهي طاقة هائلة مستوحاة من الطاقة الالهية التي لا تنفد ولا تقلّ وتضخ الزخم والقوة باستمرار في قلب الإنسان المسلم، ولا تدع له بأي حال من الاحوال الفرصة للشعور باليأس والضعف بعد ان اقتلع الإسلام عوامل مهمة من قلوب المسلمين، وغذّاها بالأمل والتفاؤل «وكان الإسلام في ذلك فريداً: فانه لم يسبق لأي دين أو ميثاق وضعي ان اعطى حق الثورة للمؤمنين أو المواطنين وحق الثورة هو قمة الحرية السياسية الذي يتجاوز حتى مفهوم النقد الذاتي، لذا حفل الإسلام بالثورات السياسية الفكرية ولم تكن ثوراته اقتصادية العوامل، ولكنها كانت فكرية خالصة».(5)
الحرية المنضبطة
الإسلام دين الحرية كما قلنا ويولي الحرية اهمية كبرى على كافة الاصعدة وفي شتى المجالات، ولكن الحرية التي يؤمن بها الإسلام ليست حرية عشوائية غير محددة، فالاسلام لا يعتقد ابداً بالعشوائية في اي مفهوم من مفاهيمه وفي أي قيمة من قيمه. الحرية التي يقدمها الإسلام للانسانية حرية محددة واضحة وحرية منضبطة موزونة. فالاسلام ضد الحرية المطلقة غير المؤطرة، الحرية التي تتحول في آخر المطاف إلى تعد على مصالح الآخرين وحقوقهم وتطلعاتهم اى حياة هادئة وديعة. فالحرية المطلقة «لا يمكن أن توفّر للفرد الاعتيادي الذي يعيش ضمن مجتمع مترابط، لانّ الحرية المطلقة لكل فرد في المجتمع تصطدم بحريات الآخرين وبالتالي يستقطب التناقض في الجهاز الاجتماعي حتى يتفسخ. ولكي يحتفظ كل فرد بنصيبه من حريته بعيداً عن تدخلات الآخرين، لابد له ان يتنازل عن شيء منها. وينعكس هذا التنازل على الصعيد الاجتماعي في القوانين التي تشرع لتنظيم
____________________________________
1- خلافة الإنسان، ص 36.
2- المصدر السابق، ص 37.
3- المصدر السابق، ص 37.
4- المصدر السابق، ص 37 ـ 38.
5- مشكلة الحرية، ج2، ص 103.
المجتمع وضبط تصرّفاته».(1)
فالحرية المطلقة فكرة اقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، ولا يمكن تحقيقها في أي مجتمع، حتى في المجتمعات الغربية رغم انها تبعد كل البعد عن الحرية المنضبطة، لكنها حرية غير مطلقة أيضاً بدليل وجود القوانين والعقوبات المفروضة على عملية تخطي تلك القوانين والتمرد عليها والحرية المنضبطة التي ينادي بها الإسلام تؤمن بالمبدأ القائل «لا تنتهي حرية كل فرد إلاّ حيث تبدأ حريات الآخرين»(2). فليس للفرد الحق أن يفعل ما يشاء ويقوم بما يحلو له دون حدود وقيود، وانما هو حر إلى الحد الذي لا يصطدم بحرية الآخرين ولا يتعرض لحقوقهم، وبذلك تعد الحرية التي يرفع الإسلام لواءها الصيغة الامثل للحرية باعتبارها تحافظ ليس على حرية المجتمع وحقوقه المشروعة فحسب، بل وعلى حرية الفرد نفسه، من خلال ضبطها لحرية الآخرين وعدم السماح له بتهديد حريته. وفي مثل هذا الجو الهادىء سيُتاح للأفكار السليمة الهادفة ان تنمو وللقابليات ان تتطور وللابداعات ان تشق طريقها باتجاه خدمة الإنسانيّة ككل.
حريّة العقيدة
الإسلام ليس لدين التقليد والاتباع الاعمى، ولا يقر لاتباعه الايمان به وفق قاعدة المحاكاة وتقليد الاسلاف والاباء بل يريد منهم ايماناً قائماً على العقل والفكر والقناعة الذاتية والشعور الصادق، الإسلام لا يقر للمسلم ايمانه بالاصول الإسلامية إلاّ إذا كان نابعاً من التصديق الفكري وقائماً على الدليل والحجة والبرهان. ولهذا نجده يحث في كتابه على التفكر والتدبر واستعمال العقل وصولاً للحقائق، ويذم المحاكين والسائرين على قاعدة «وجدنا آباءنا» مهما كانت تبريراتهم.
«قل هل يستوي الاعمى والبصير أفلا تتفكّرون»(3).
«ويتفكّرون في خلق السموات والارض».(4)
انطلاقا من اهتمام الإسلام بالعقل ودوره في تحديد المسار الحياتي فقد رفض بشكل قاطع الافكار المنحرفة والمعتقدات القائمة على الخرافات، ولهذا فانّ محاربته للافكار المنحرفة الباطلة لا تعني اطلاقاً محاربته لحرية العقيدة، بل محاربته للضلال والانحراف والزيغ عن الطريق القويم، باعتبار ان تلك الافكار لم تكن وليدة العقل والتفكر، بل وليدة الاوهام والاباطيل والتقليد المقيت.
لقد دوّى صوت الإسلام منذ أن اراده الله رسالة كاملة للبشرية مدوياً: «لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»(5)، والآية كما يبدو تؤكد على نفي الاكراه في الدعوة إلى الإسلام وتمنع اجبار الناس على التدين بالاسلام. وما فائدة المسلم الجبر على دخول الإسلام؟ وهل بامكان مسلم غير مقتنع بالاسلام ان يؤدي الدور الموكل إليه في الحياة، وان يتعامل بصدق واخلاص مع ذلك المبدأ الذي اقحم فيه اقحاماً؟ أبداً... ان الإسلام يرفض هذا النوع من التدين ويرفض أي عملية اكراه للناس على دخول الإسلام ثم لم الحاجة إلى الاكراه وقد تبين الرشد من الغي ووضح لهم الحق من الباطل والايمان من الكفر؟ ولم الاكراه وبامكان العقل السليم البعيد عن كافة المؤثرات الخارجية والداخلية ان يصل إلى القناعة بالاسلام كفكر الهي عظيم متلائم مع الفطرة ونظام الكون بأسره، ومعبّر عن الحاجة الإنسانيّة «وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للانسان، واحترام ارادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني ـ التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلّة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرّمه الله ـ باختياره لعقيدته ـ ان ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتّى اجهزتها التوجيهية، وما تمليه
____________________________________
1- الاضواء، العدد 2، مقالة للشهيد الصدر ص 25.
2- المصدر السابق.
3- الانعام: 50.
4- آل عمران: 191.
5- البقرة: 256.
عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها»(1)، ويسيء البعض فهم آية «لا اكراه» أو يحاول ان يبرر خروجه عن الإسلام اعتماداً عليها من خلال القول بأن الإسلام قد ضمن للانسان الحرية في التديّن، فبإمكانه ان يكون مسلماً أو لا يكون وبإمكانه أيضاً ان يدين بأي دين يشاء سماوياً أو غير سماوي!
ويرد المرحوم العلامة الطباطبائي على هؤلاء بقوله: «المنهج الاسلامي قائم على اساس التوحيد والغاء الشرك فكيف يمكن ان يتضمن المنهج حرية مخالفة هذا الاساس؟! أنّه تناقض واضح وصريح فكما انّ القوانين الوضعية الراهنة لا يمكن ان تعطي للافراد حرية مخالفتها، فكذلك الإسلام لايبيح مخالفة الاسس التي يقوم عليها تشريعه».(2)
أمّا الشهيد آية الله الصدر فيرى انّ «الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من عبودية الاصنام على اساس التوحيد، لا يمكن ان يأذن للانسان بالتنازل عن اساس حريته والانغماس في عبوديات الارض وأصنامها. كما ان الإسلام لا يعتبر عقيدة التوحيد مسألة سلوك شخصي خاص كما ترى الحضارات الغربية، بل هي القاعدة الاساسية لكيانه الحضاري كله. فكما لا يمكن للديمقراطية الغربية مهما آمنت بالحرية الشخصية ان تسمح للافراد بمناوأة فكرة الحرية نفسها وتبني افكار فاشستية دكتاتورية، كذلك لا يمكن للاسلام ان يقرّ أي تمرد على قاعدته الرئيسية. وانما يهدف القرآن الكريم حين ينفي الاكراه في الدين إلى ان الرشد قد تبين من الغي، والحق تميز عن الضلال. فلا حاجة إلى اكراه ما دام المنار واضحاً والحجة قائمة، الفرق بين الظلام والنور ماثلاً لكل أحد. بل لا يمكن الاكراه على الدين لانّ الدين ليست كلمات جامدة ترددها الشفاه ولا طقوساً تقليدية تؤديها العضلات وانما هو عقيدة وكيان ومنهج في الفكر».(3)
وعلى ضوء هذه الآية أيضاً يثار سؤال يقول: هل يسمح الإسلام اذن بحرية الافكار المضادة له؟ ويجيب العلامة محمد حسين فضل الله على هذا التساؤل قائلاً: «انّ من حق كل فرد وكل جهة غير اسلامية ان تعبّر عن وجهة نظرها فيما ترتأيه، وفيما تشك فيه، وفيما تريد السؤال عنه، ولكن الساحة قد تختلف حسب اختلاف المصلحة الإسلامية العليا التي تحددها الاجهزة المشرفة على شؤون الفكر والعقيدة. فقد لا يختلف اثنان انّ من حق الافكار المضادة ان تعبر عن رأيها بكل حرية في اجواء الحوار الفكري. وليس لأحد ان يمنعها عن الحديث عن كل شيء حتى عن الافكار التي تتحدى واقع الرموز الكبيرة في الإسلام ومن حق الإسلام ان يحمي لهؤلاء حريتهم ويقدم لهم افضل الاجوبة واحسن الاساليب من اجل الوصول إلى قناعتهم الفكرية، لانّ ذلك هو معنى «قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين»، وتلك هي قوّة الحقيقة التي يختزنها الإسلام في داخل ايمانه في قدرته على الدفاع عنها بما يملكه من أدلة وبراهين».(4)
فالاسلام اذن لا يخشى من الافكار المضادة ان تطرح آراءها ووجهات نظرها، وذلك لايمانه بمتانة قاعدته ورصانة حجته، وضعف الافكار المناوئة، وعدم استنادها على اية قاعدة حقيقية.
فالاسلام يسمح للافكار المضادة اذن ان تطرح ما لديها من وجهات نظر ولكن بشرط ان تُطرح ضمن اساليب صحيحة معترف بها، وبعيداً عن الكذب والدس والخداع والتضليل فهو لا يسمح لها ان تُقدّم إلى الجماهير عبر هذه القنوات المرفوضة ليس من الإسلام فحسب بل من كافة المبادىء الأخرى. لانّ الإسلام يريد للحقائق ان تُقدّم على حقيقتها وكا هي للناس ومن خلال الاساليب المنطقية الصحيحة، لكي لا تُضلل الجماهير ولا تقع ضحية الكذب والدجل. الإسلام يريد للافكار ان تقدّم بدون اية عملية تجميل وترقيع وبعيداً عن الصخب والضوضاء والتهويل...
وتبقى الكلمة الاخيرة للجماهير في تلك الافكار والآراء المطروحة «وقد ترك لنا القرآن الكريم في آياته البينات الكثير الكثير من الافكار المضادة التي تحدثت عن الشك في وجود الله ووحدانيته وفي رسالة الرسل... فدعاهم إلى التفكير وقادهم إلى الحوار
____________________________________
1- في ظلال القرآن، ج1، سيد قطب، ص 425 ـ 426.
2- الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي، محمد حسين الطباطبائي، تعريب آذرشب، ص 42.
3- الاضواء، العدد2، ص 33.
4- المصدر السابق، مقالة للعلامة فضل الله، ص 178
ودلهم على المنهج... وكان له شجاعة تخليد ذلك كله للاجيال القادمة على اساس ان تبقى للعقيدة قوّة المعانة، وروح المواجهة للافكار المضادة فيتحقق لها الثبات في النفس من خلال اجواء التحدي لا في آفاق الاسترخاء»(1) انّ صدر الإسلام رحب للغاية بحيث لا يشعر بالانزعاج والقلق من أي فكرة اخرى تعرض نفسها في اطار صحيح. كما ان الإسلام قد «كفل حرية الاديان التي انضوت تحت لواء حكمه، خاصة الاديان الكتابية...
وإذا كانت حرية الاعتقاد مكفولة في معظم الدساتير الحديثة فانّ الإسلام قد قررها دون ان يخوض تجارب سلبية دامية كتجربة محاكم التفتيش في العصور الاوروبية الوسطى»(2).
وهناك شبهة طالما اثارها المستشرقون والمتغربون من المسلمين في انّ الإسلام قد انتشر بقوّة السيف وهو ما يتعارض مع ما يدعيه من «لا إكراه في الدين».
ويجيب على هذه الشبهة صاحب الظلال بقوله: «لم يحمل الإسلام السيف ليكره الناس على اعتناق عقيدته، ولم ينتشر بالسيف على هذا المعنى كما يريد بعض اعدائه ان يتهموه انما جاهد ليقيم نظاماً آمناً يأمن في ظله اصحاب العقائد جميعاً، ويعيشون في اطاره خاضعين له وان لم يعتنقوا عقيدته وكانت قوّة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان اهله على عقيدتهم، أو اطمئنان من يريدون اعتناقه على انفسهم، واقامة هذا النظام الصالح وحمايته، ولم يكن الجهاد اداة قليلة الاهمية، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد اخبث اعدائه ان يوحي للمسلمين!
لابدّ للاسلام من نظام ولابدّ للاسلام من قوّة، ولا بد للاسلام من جهاد. فهذه طبيعة التى لا يقوم بدونها اسلام يعيش ويقود... وهكذا ينبغى ان يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم، فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع، انما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الارض جميعا، وعلى نظم الارض جميعا، وعلى مذاهب الأرض جميعا...».(3)
فالاسلام لم يمسك السيف كي يقسر الآخرين على اعتناقه، وهذا ما أثبته التاريخ بكل جلاء. «وانّه لمن سخرية القدر... ان اليهود الذين كانت عداوتهم للنبي (ص) تكاد تنجح في تدمير الدولة الإسلامية الصغيرة، قد وجدوا في المسلمين خير حماة لهم.. كانوا محتقرين تُنهب اموالهم وتنصب عليهم نقمة الغضب والكراهية من قبل الامم المسيحية. فوجدوا ملجاً لهم في الإسلام»(4). كما انّ المسلمين حينما رفعوا لواء الإسلام على بلاد الاندلس، قد عاملوا اهلها من كافة الاديان والعروق والطوائف معاملة انسانية رائعة لازال التاريخ يتحدث عنها باعجاب. «وقد بلغ التسامح معهم درجة جعلتهم يسمحون للاسبان ان يحكموا طبقاً لشرائعهم الخاصة وان ينالوا حقّ التوظيف في المناصـب المدنية، بل وان يخدموا في الجيـش أيضاً»(5).
الحرية السياسية
لقد تجلت الحرية السياسية في الإسلام من خلال مبدأ «الشورى» الذي نطق به القرآن الكريم بشكل صريح «وأمرهم شورى بينهم»(6). فلا دكتاتورية ولا استبداد ولا ارادة مفروضة في الإسلام بل هناك تشاور من اجل استخراج الرأي الصائب، والوصول إلى الحكم الافضل. فالاسلام «يعطي للامة صلاحية ممارسة امورها عن طريق الشورى مالم يرد نص خاص على خلاف ذلك»(7). ويكون مبدأ الشورى بذلك «قد أعطى الحرية السياسية في الإسلام الصيغة النظرية الضرورية لممارسة
____________________________________
1- المصدر السابق: ص 17 ـ 18.
2- مشكلة الحرية، ج2، ص 22.
3- في ظلال القرآن، ج1، ص 432 ـ 433.
4- روح الإسلام أمير علي، ترجمة، ص 268.
5- المصدر السابق، ص 280.
6- الشورى: 38.
7- الإسلام يقود الحياة، الشهيد الصدر، ص 171.
الحريات الفردية والاجتماعية المختلفة في اتجاه المثال الاعلى»(1)، كما يسمح «بالرجوع إلى رأي الاكثرية عند الاختلاف»(2). وعدا مبدأ الشورى الذي تمارس الاُمّة من خلاله دورها في الخلافة، هناك أيضاً مبدأ «الولاية» الذي تحدثت عنه الآية القرآنية «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»(3). ويراد بالولاية ان يتولى المؤمن امور المؤمن «بقرينة تفريع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه»(4)، الامر الذي يؤدي إلى حدوث حالة من الانسجام والتعادل في المجتمع الاسلامي، والاستقرار السياسي في النظام الحاكم، لكي يُتاح له التفكير والعمل على أحسن وجه.
وقد طبّق الرسول محمد «صلّى الله عليه وآله» مبدأ «المشاورة» استجابة للطلب الالهي الذي عرضته الآية القرآنية «وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكّل على الله»(5). وقيام النبي «صلى الله عليه وآله» وهو المعصوم ـ بمشاورة المسلمين، انما يعبّر عن مدى الاهمية التي يوليها الإسلام للآخرين، ومدى احترامه لحرية الرأي «حتى انّه ـ أي الرسول ـ في جملة من الاحيان كان يأخذ بوجهة النظر الاكثر انصاراً مع قناعته شخصياً بعدم صلاحيتها، وذلك لسبب واحد وهو ان يشعر الجماعة بدورها الايجابي في التجربة والبناء».(6)
كما انّ مبدأ «البيعة» من المبادىء المهمة التي قامت عليها الحرية السياسية في الإسلام وهي تلتقي في الواقع مع نظام الانتخابات المعروف هذا اليوم في قول الاُمّة كلمتها في الحاكم الذي يحكمها. فيجب ان يكون هناك اجماع جماهيري أو اتفاق الاكثرية الجماهيرية على الحاكم الذي يحكمها. لكي يصبح في مقدور هذا الحاكم ان يؤدي دوره بشكل افضل وإلاّ فقد مصداقيته ونجد مبدأ «البيعة» معمولاً به حتى مع الرسول الاعظم «ص» والائمة من بعده، رغم انهم معيّنون من قبل الله تعالى كأئمة وخلفاء على الاُمّة وان بيعتهم واجبة عليها ولا يحق لأحد من افرادها التخلف عنها لكنّ تلك البيعة انما كانت «اشعاراً لها ـ أي الاُمّة ـ بخلافتها العامة وبأنها بالبيعة تحدد مصيرها، وان الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه».(7)
كما انّ الإسلام قد اباح للامة نقد الجهاز الحاكم واعتبره جزءاً اساسياً من عملية اصلاح ذلك الجهاز وتقويمه وحفظه من عملية الانحراف، فلو سُلب مثل هذا الحق من الاُمّة ولو تخلفت الامة عن اداء هذا الدور العظيم فستزداد الاخطاء المقصودة وغير المقصودة ويزداد الحاكم جرأة يوماً بعد آخر في التنصل عن القوانين والمبادىء، ويكبر الهوى في نفسه فيغلبه حب الدنيا والنفس الامارة، فيحاول ان يكسب على حساب الاُمّة اما عندما تكون مراقبة الاُمّة قوية ومحاسبتها شديدة لن يكون بمقدور الحاكم ان يهضم حقوقها وينحرف عن مبادئها.
لكن لو انحرف الحاكم عن الخط بحيث لا تبقى له ولاية بالمعنى الشرعي «فانّ من مسؤولية الاُمّة ان تتحرك من اجل العمل على ابعاده عن موقع المسؤولية بالطرق الشرعية انطلاقاً من كل الاحاديث التي تحدثت عن مقاومة السلطة غير الشرعية المنحرفة والضالة والظالمة»(8).
ومع انّ الإسلام يبيح للمسلم حرية نقد الجهاز الحاكم بأسره، وبكافة دوائره ومرتكزاته إلاّ انّه وضع لعملية النقد قيوداً لا يجوز اجتيازها ارادها ان تكون عملية تعصب لله لا للنفس والاهواء وان تكون موضوعية صحيحة بعيدة عن التأثيرات العاطفية ومرتكزة إلى قاعدتي «الخوف من الله تعالى» و«طلب رضاه» وبدون ذلك ستكون عملية اضعاف وهدم للجهاز الحاكم بدلاً من أن تكون عملية تصحيح وتقويم، فالأمّة «لا يجوز لها ممارسة هذه الحرية بطريقة التشهير الذي يحاول تسجيل النقاط
____________________________________
1- مشكلة الحرية، ج2، ص 50.
2- الإسلام يقود الحياة، ص 171.
3- التوبة: 71.
4- الإسلام يقود الحياة، ص 171.
5- آل عمران: 159.
6- الإسلام يقود الحياة، ص 165.
7- المصدر السابق، ص 162.
8- الاضواء، العدد 2، مقالة للعلامة فضل الله ص 19.
واظهار العيوب بعيداً عن اسلوب الاصلاح.. لان الهدف من النقد هو تغيير الواقع وليس التنفيس عن عقدة أو التسجيل لنقطة خطأ على الفريق الآخر».(1)
الإنسان في ظل الحضارة المادية
انّه لما يؤسف له وقوع الكثيرين من ابناء العالم الاسلامي تحت تأثير الدعايات الغربية والحملات الاعلامية المكثفة التي تحاول ان تقدم للجيل الاسلامي صورة زائفة براقة عن الغرب على صعيد الحرية الفكرية والثقافية وتملأ اسماعهم بالحديث عن «الديمقراطية» والذي يجب ان يقال انّ الحضارة الغربية قد قامت على اساس مادي بحت وانقادت مع شهوات الإنسان ونزعاته النفسية واهوائه ولذائذه إلى اقصى حد «فليس القيود الاخلاقية والدينية بذات وزن في مفهوم هذه الحضارة المادية... والتجربة العملية التي مرت بها اثبتت انها حطمت الروح الإنسانيّة والفضائل السامية في الإنسان وانزلته إلى مستوى البهائم والحيوانات، وصدته عن ارتقاء سلم التكامل الذي هيأته له طبيعة الوجود»(2) وانطلاقا من ذلك فان الإنسان في الحضارة المادية «كائن مسلوب الاختيار مرغم على السير في خط معين لا يتعداه ولا يستطيع ان يتعداه وقد اسهمت مذاهب الاجتماع والاقتصاد والمدارس النفسية في تغذية هذه النظرة إلى الإنسان ولكن إذا جردنا الإنسان من حريته الداخلية ونفينا ان يكون شيئاً اكثر من هذه الكتلة المنظورة من المادة فماذا ابقينا من الإنسان وإذا نفينا الحرية فقد نفينا المسؤولية وحين ترتفع المسؤولية ترتفع الاخلاق. اذ كيف نفرض على انسان لا سلطان له على ذاته سلوكاً معيناً، وما الاخلاق إلاّ مجالات تمارس فيها الحرية الإنسانيّة عملها... وقد تمثل رد الفعل على هذه الحتمية في وجودية سارتر الملحدة، فالانسان حسب النظرية الوجودية حرية مطلقة ودفعة لا يقيّدها قيد ولا يكبحها ضابط فلا اله ولا دين ولا اخلاق ثابتة، وهكذا يتمزق الإنسان الاوروبي بين الدعوات المتضادة دون ان يهتدي إلى السبيل القويم».(3)
ففي ظل النظام الرأسمالي الغربي المرتجل انبثقت حلقات متسلسلة من المآسي الاجتماعية: «فأوّل تلك الحلقات تحكّم الاكثرية في الاقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية. فان الحرية السياسية كانت تعني ان وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حق الاكثرية ولنتصور ان الفئة التي تمثل الاكثرية في الاُمّة ملكت زمام الحكم والتشريع، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية ـ وهي عقلية مادية خالصة في اتجاهها ونزعاتها واهدافها واهوائها ـ فماذا يكون مصير الفئة الاخرى؟ أو ماذا ترتقب للاقلية من حياة في ظل قوانين تشرع لحساب الاكثرية ولخطط مصالحها؟! وهل يكون من الغريب حينئذ إذا شرعت الاكثرية القوانين على ضوء مصالحها الخاصة واهملت مصالح الاقلية، واتجهت إلى تحقيق رغباتها اتجاهاً مجحفاً بحقوق الآخرين؟ فمن الذي يحفظ لهذه الاقلية كيانها الحيوي ويذب عن وجهها الظلم ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كل فرد وما دامت الاكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليتها الاجتماعية؟؟ وبطبيعة الحال ان التحكم سوف يبقى في ظل النظام كما كان في السابق وانّ مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم ستحفظ في الجو الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الاجواء الاجتماعية القديمة وغاية ما في الموضوع من فرق: ان الاستهتار بالكرامة الإنسانيّة كان من قبل افراد بأمة واصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثل الاكثريات بالنسبة إلى الاقليات التي تشكل بمجموعها عدداً هائلاً من البشر»(4) ثم ان الحرية الاقتصادية التي تنادي بها الرأسمالية ستؤدي إلى حدوث انقسام فظيع بين طبقات المجتمع مما ينجم عنه في نهاية الامر سيطرة الاقلية على الموقف والامساك بزمام الامور وقهر الحرية السياسية «فان الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية وتمكنها من شراء الانصار والاعوان تهيمن على مقاليد الحكم في الاُمّة وتتسلم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر
____________________________________
1- المصدر السابق ص 20.
2- الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي، ص 40 ـ 41.
3- رسالتنا، ص 91.
4- فلسفتنا، ص 21 ـ 22.
على مآربها، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال، بعد ان كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية انّه من حق الاُمّة جميعاً، وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حكماً تستأثر به الاقلية وسلطانا يحمي به عدد من الافراد كيانهم على حساب الآخرين بالعقلية النفعية التي يستوحونها من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية».(1)
* * *
وهكذا نرى ان النظام الغربي الرأسمالي قد اقام تشريعه على اساس الفرد ومنافعه الذاتية، فلحق بالمجتمع الوان المآسي والويلات على كافة الاصعدة، ولم يكن المجتمع الذي طبقت فيه التجربة الاشتراكية بأحسن حظاً من المجتمع الرأسمالي، ذلك انها قد الغت الشخصية الفردية وأقامت نظامها على اساس المجتمع الامر الذي ادى إلى تدمير الفرد والمجتمع معاً، وانتهكت فيه حقوق الافراد وسُلبت منهم حرياتهم وارادتهم وقُتلت فيهم تطلّعات الطبيعة فالفرد في ظل النظام الاشتراكي «وان كسب تأميناً كاملاً وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته... ولكن أليس من الاحسن بحال هذا الفرد ان يظفر بهذا التأمين دون ان يخسر استنشاق نسيم الحرية المهذبة ويضطر إلى اذابة شخصه في النار واغراق نفسه في البحر الاجتماعي المتلاطم؟! وكيف يمكن ان يطمع بالحرية انسان حرم من الحرية في معيشته وربطت حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معينة مع ان الحرية الاقتصادية والمعيشية هي اساس الحريات جميعاً».(2)
لقد مني المجتمع الغربي بفجائع وتعرض إلى هزّات عنيفة بفعل الانظمة التي تحكمه، هذه الانظمة التي لا تقيم وزناً للاخلاق، ولا تعترف بالاتزان الفكري وتنطلق مع رغبات الإنسان الجامحة ولا تمتلك رؤية واضحة للحياة ولا تنطلق من قاعدة فكرية صحيحة اما ما يقال عن الديمقراطية الرأسمالية فهي الاخرى «محكومة عليه بالانهيار والفشل المحقق في نظر الإسلام، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصة في ذاتها... بل انّ مرد الفشل والوضع الفاجع إلى مفاهيمها المادية الخالصة التي لا يمكن ان يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها ويستمد خطوطه العامة من روحها وتوجيهها».(3)
فالديمقراطية الغربية وهم وسراب في ظل الحضارة الغربية التي عجزت عن وضع الحلول لمشاكل الإنسان المعاصر ويرجع الكثير من عناء الإنسان وشقائه في اقطار الارض إلى القائمين على هذه البلدان التي تتبجح بالتقدم واحترام الإنسان والدفاع عن حقوقه.. ولو افترضنا انها تعترف بحقوق ما، فهي لا تعترف بها إلاّ للانسان الغربي أو لفئة معينة داخل المجتمع الغربي ومن الزاوية المادية بالطبع. اما الإنسان الذي يعيش في الشرق لاسيما الإنسان المسلم فلا حق له ولا قيمة ولا يحظى بأهمية كبيرة في اهتماماتها.. واللافتات التي تُرفع والشعارات التي تردد حول كرامة الإنسان وحريته فقد اثبتت الوقائع والاحداث والمواقف السياسية والعسكرية كذبها وزيفها، وانها لم تكن إلاّ من باب التضليل والخداع، فنحن نجد انّ «الديمقراطية الحديثة ادت إلى تقسيم العالم اليوم إلى كتلتين: كتلة تجمع الدول الكبرى في العالم التي تجد من حقها ان تقرر مصير الإنسانيّة ومصير هذا الكوكب بشكل عام، وكتلة اخرى تجمع الدول الضعيفة والشعوب المتأخرة التي تعيش تحت رحمة الدول الكبرى».(4)
الجرائم التي ارتكبها الغرب في العصر الحديث تؤكد على انّ الإنسان الغربي لازال بعيداً كل البعد عن الإنسان الذي يريده الإسلام الإنسان الذي يحمل انسانيته معه دائما، وتتغلب فيه ارادة الخير على نوازع الشر «ان التاريخ يحكم بصراحة تامّة بانّ جرائم الاستعمار البريطاني في آسيا وافريقيا ومجازر امريكا في فيتنام ومذابح الفرنسيين في الجزائر وجرائم البرتغاليين وسائر الدول الاستعمارية داخل مستعمراتها تفوق ما ارتكبه الاسكندر المقدوني وجنكيز خان المغولي في وحشيتها وبربريتها وسفكها لدماء الابرياء»(5). كما ان «الجرائم المروعة التي مارسها البيض في اوروبا وأميركا بحق الهنود الحمر والزنوج لهي مما يندى لها جبين
____________________________________
1- المصدر السابق، ص 24.
2- المصدر السابق، ص 33.
3- المصدر السابق، ص 43 ـ 44.
4- نظرية السياسة والحكم في الإسلام محمد حسين الطباطبائي، ترجمة محمد مهدي الآصفي، ص 31.
5- غروب الغرب، مسيح مهاجري، ترجمة سمير ارشدي، ص 67.
الإنسانية، وجعلت صفحات التاريخ حمراء دامية وسودت وجه الإنسانيّة.(1)
لقد اضحى التفسّخ وانفصام العرى الاجتماعية وضياع القيم وشيوع الامراض النفسية والبدنية لاسيّما الجنسية سمة من سمات المجتمعات الغربية كما أدّى «الانحطاط الثقافي ورواج المفاسد والادمان على المخدّرات وتفاقم المشكلات المعاشية إلى ارهاق اعصاب الرجال في الغرب حيث تراهم عاجزين عن معاملة ازواجهم بالعطف والحنان والمودة وان الخشونة التي يمارسها الرجل الغربي مع زوجته في ذلك المجتمع لا نجد لها مثيلاً حتى في اكثر القبائل توحّشاً في العالم. ان الاحترامات والمجاملات التي يتصور البعض انها موجودة بين الرجل والمرأة في الغرب لا وجود لها إلاّ في الافلام التلفزيونية والسينمائية والمجلات الدعائية فقط. اما في الحياة العائلية داخل المجتمع الغربي فليس لها أي أثر. ان الغربيين لا يزالون يجهلون قيمة المرأة ومكانتها».(2)
لقد اكثر الإنسان الغربي من تشدقه في الدفاع عن حقوق الإنسان ودوخ العالم بالحديث عن رسالته وقيمه... وعندما مارس هذا الإنسان تلك الرسالة التي نادى بها نراه قد «استرقّ وجوّع وسدّ منافذ العلم والحضارة عمّن تسلط عليهم من الناس، وخلف عالماً يئن من الجور والطغيان والعذاب، عالماً تمزّقه البغضاء والحروب»(3).
ورغم وضوح مفاسد الغرب، وشذوذ الحرية الغربية، وضياع الإنسان والقيم الإنسانيّة في مستنقع المادية الغربية، نجد هناك من يدافع عن الديمقراطية الغربية، ويوجه الانتقادات اللاذعة للاسلام.
والواقع انّ هؤلاء «لا يريدون من الحرية التي ينعون على الإسلام انّه يفقدها إلاّ هذا اللون من الابتذال والخلاعة الذي يشيع في الاجواء الغربية بصورة واسعة».(4)
ان الإنسان المسلم في مأمن من الكوارث التي يتعرض لها الإنسان الغربي وليس من السهل ان يفقد انسانيته ويتحول إلى موجود لا يفكّر إلاّ بنفسه ومصالحه ورغباته. دون ان يعير اهتماماً لما يلحق بالعالم من ضرر وخسارة ذلك لانّ «العقيدة الإسلامية لم تُضحّ بكيانه الروحي في سبيل ان تيسر له المتاع المادي بل يسّرت له ان يلبي اشواق الـروح، وضرورات الجسد حين اعترفـت بثنائيته وعالجته على هدى هذه الثنائية».(5)
والواقع انّ عجز الحضارة والقيم الغربية وفشل رسالة الغرب ـ بما فيها من مبادىء برّاقة وجذّابة ـ في تحقيق أي دور بناء على الارض ومساهمتها في تضييق الخناق على الإنسان في مناطق كثيرة من العالم وعدم فسح المجال له في ممارسة حريته لا سيما الفكرية والسياسية، ليُبشر بمستقبل الإسلام... النظام الوحيد القادر على فهم الإنسان واستيعابه، وتحقيق رغباته وطموحاته الخيّرة، كما يبشر أيضاً بأنه «سيقود الإنسان من جديد لأنّه لا يخالف طبيعة الإنسان وفطرته، ولابدّ ان تعبّر الفطرة عن نفسها في نهاية المطاف، والإسلام هو دين الفطرة في مبناه ومعناه».(6)
____________________________________
1- المصدر السابق، ص 68.
2- المصدر السابق، ص 50 ـ 51.
3- رسالتنا، ص 65 ـ 66.
4- نظرية السياسة والحكم، ص 32.
5- رسالتنا، ص 82.
6- المصدر السابق، ص 111.


source : البلاغ
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحسد والسعایة
حجّ الإمام الكاظم(عليه السلام)
ذكرى إستشهاد حمزة سيد الشهداء
لماذا نبداء بـ : بسم الله الرحم الرحيم
الإمام الحسين (ع) مبادئ متجددة ونظام لفعل الخير
خطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) أمام نساء ...
آثار الذنوب علی الفرد
الحسين(ع) إماماً و مصباح الهداية
عاشوراء مِرآة للتاريخ
الارتباط بالمطلق مشكلة ذات حدين

 
user comment