عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الخوارج

نشوء الخوارج عند مخالفتهم لمبدأ التحكيم

  إنّ الذين حملوا عليّاً ( عليه السَّلام ) على الموادعة والرضوخ للتحكيم ، رجعوا عن فكرتهم وزعموا أنّ أمر التحكيم على خلاف الذكر الحكيم حيث يقول ( ان الحُكْم إلاّ لِلِّه ) (1) فحاولوا أن يفرضوا على علىّ ( عليه السَّلام ) أمراً اخر وهو القيام بنقض الميثاق ورفض كتاب الصلح بينه وبين معاوية ، فجاء هؤلاء قائلين : « لا حكم إلاّلله ، الحكم لله يا علي لالك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله. إنّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا وأن يدخلوا في حكمنا عليهم وقد كانت منّا زلّة حين رضينا بالحكمين ، فرجعنا وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا ، وإلاّ برئنا منك. فقال علي : وَيْحكم ، أبعد الرضا(والميثاق) والعهد نرجع؟ أو ليس الله تعالى قال : ( اُوفوا بالعقود ) وقال : ( واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون ) : فأبى علي أن يرجع ، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه ، وبرئت من علي ( عليه السَّلام ) ، وبري

    1 ـ الأنعام : 57. وقد ورد في سورة يوسف أيضاً مرّتين ، لا حظ الآية 40 و 67 من هذه السورة.

منهم (1) .


    وقال الطبري : لمّا أراد عليّ أن يبعث أبا موسى إلى الحكومة أتاه رجلان من الخوارج : زرعة بن برج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي (2) ، فدخلا عليه فقالا له : لا حكم إلاّ لله ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : لا حكم إلاّ لله ، فقال له حرقوص : تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا ، فقال لهم علي : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا ، وقد قال الله عزّوجل : ( واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون ). فقال له حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه ، فقال علي : ما هو ذنب ولكنّه عجز من الرأي وضعف من الفعل وقد تقدّمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه ، فقال له زرعة بن البرج : أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عزوجل قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه ، فقال له علي : بؤسا لك ما أشقاك كأنّي بك قتيلا تسفى عليك الريح. قال : وددت أن قد كان ذلك ، فقال له علي : لو كنت محقَاً كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا. إنّ الشيطان قد استهواكم فاتّقوا الله عزّوجلّ إنّه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها فخرجا من عنده يُحكِّمان (3) .

    روى ابن مزاحم عن شقيق بن سلمة قال : جاءت عصابة من القرّاء قد

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 589 ـ 590.
    2 ـ إنّ الاباضية ـ الفرقة الباقية من الخوارج ـ يقولون المحكمة الاُولى نظراء : زرعة ، وحرقوص ، والراسبي مُحِقوُن بحجة أنّهم أرادوا أن لا يحكم الرجال فيما حكم فيه سبحانه وهو قتال أهل البغي حتى يفيئوا ، ولكنّهم لا يذكرون شيئاً من أنّهم كانوا هم الأساس لمسألة التحكيم ، وهم الذين فرضوا على الإمام ، هذا الأمر. فلتكن على ذكر من هذا النقل حتى يحين وقت دراسة الموضوع.
    3 ـ الطبري : التاريخ 4/52 ـ 53.

 

سلّوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم فقالوا : يا أمير المؤمنين ما تنظر بهؤلاء القوم إن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق؟ فقال لهم عليّ : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ولا يحلّ قتالهم حتى ننظر بِمَ يحكم القرآن. (1)
    وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت مصّرة على التصالح وانّ عصابة منهم ، كانوا متوقّفين في بدء الأمر ، ثمّ بدا لهم أن ينصروا الإمام في وقت ، تمّت الإتفاقية بين الطرفين وأعطى الإمام العهد بالعمل بها.
    هذه الكلمة الجارحة التي صدرت من زرعة الطائي وحرقوص بن زهير السعدي ونظائرها كانت تصدر من الخوارج آونة بعد اُخرى ، وذلك لأنّهم يتّهمون عليّاً بارتكاب الإثم ولزوم التوبة بنقض الصحيفة ، وفي مقابل ذلك سطّر التاريخ مواقفاً جريئة وحرّةً صدرت عن ثلّة من أصحاب علي ( عليه السَّلام ).

 

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 569.

 

 الملل والنحل - العلامة السبحاني - ج 5   - ص 70 – 71  بتصرف

 

تحليل لكارثة التحكيم :
    إنّ هناك أسئلة تطرح نفسها ونحن نجيب عنها مستندين إلى متون الروايات الواردة حولها :
    الأوّل : لماذا اغتر المحكّمة بظواهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على رؤوس الأسنّة لأجل اللجوء إلى القرآن ، واجراء حكمه بين الطرفين ، مع أنّ عليّاً وكثيراً من أصحابه نبّههم على أنّ ذلك خدعة ومكيدة. والجواب : انّ الذي حملهم على قبول التحكيم في بادىء ذي بدء أمران :
    1 ـ إنّ الخسارة البشرية الفادحة التي ألحقتها الحرب بالعراقيين (مع أنّ خسائر الشاميين كانت أكثر) كانت عاملا نفسيّاً مهمّاً لقبول التحكيم ودافعاً لهم إليه وفي كلام الإمام علي ( عليه السَّلام ) اشارة إلى ذلك :
    قال ابن مزاحم : ذكروا أنّ الناس ماجوا وقالوا : أكلتنا الحرب وقتلت الرجال ، وقال قوم : نقاتل القوم على ما قاتلنا هم عليه أمس ، ولم يقل هذا إلاّ قليل من الناس ، ثم رجعوا عن قولهم مع الجماعة وثارت الجماعة بالموادعة فقام علي أميرالمؤمنين فقال : « إنّه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، لقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوّكم فلم تترك ، وانّها فيكم أنكى وأنهك .... وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون » (1) .
    ولعل النجاشي يشير إلى ذلك العامل في قصيدته إذ يقول :

غشيناهم يومَ الهرير بِعُصبة فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا
 

 
 

يمانيّة كالسيل سيل عِرانِ عليها كتاب الله خير قرآن

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 553 ـ 554.

ونادوا (1) : عليّاً ، يا ابن عمّ محمّد فمن للذراري بعدها ونسائنا
 

 
 

أما تتقي أن يهلك الثقلان ومن للحريم أيّها الفَتَيانِ (2)

    2 ـ إنّ البساطة والسذاجة من الاُمور التي تسود أهل البادية حيث لا يملكون الوعي الفكري والتجربة الإجتماعية ، وجلّ القبائل التي كانت تحارب تحت لواء عليّ من القاطنين في البادية غير متمدّنين ، فطبيعة عيشهم هو الصدق والصفاء والإيمان بظواهر الاُمور دون أن يتعمّقوا فيها لمعرفة ما يدور خلف الستار من خفايا ، ولأجل ذلك اغتّروا بظاهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على الأسنّة لأجل الاستظلال في ظلّه والعيش تحت رايته.
    غير أنّ الإمام والواعين من قادة جيشه علموا أنّ خلف هذا العمل مؤامرات وتفرّسوا بأنّ وارء هذا ليس إلاّ الفتنة ، ولأجل ذلك لمّا بعث علي ( عليه السَّلام ) أحد النخعيين إلى الأشتر لإيقاف الحرب ورجوعه إلى معسكر الإمام ، فسأله الأشتر عن سبب الفتنة ، وقال : « ألِرَفع هذه المصاحف؟ » قال نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقد اختلافاً وفرقة (3) .
    3 ـ إنّ عيشة القوم كانت عيشة قبيلة والنظام القبلي يفرض على كافة أفراد القبيلة ، الطاعة العمياء لرئيسها فإذا أصحر الرئيس بالرأي ، فالباقون بحكم الأغنام يتبعونه من دون تفكّر ووعي ، ولمّا كان في جيش علي ( عليه السَّلام ) رؤوس البطون ، وخضعوا للتحكيم ، لم يبق مجال لغيرهم في القبول والرفض ، ولأجل ذلك صار التحكيم فرضاً من جانب عشرين ألفاً مقنّعين بالحديد ، ومن البعيد جداً أن يكون حكم كلّ واحد من هؤلاء صادراً عن وعي و إمعان.

    1 ـ يعني أهل العراق.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 602.
    3 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 562.

الثاني : لماذا رجعوا عن التحكيم بعد فرضه على علي ( عليه السَّلام ) ؟ :
    إنّ القوم لم يكونوا أهل فكر واجتهاد ، وماكانوا يصدرون عن مبدأ عقلي في المواقف الصعبة والحَرِجةِ ، فكما أنّهم اغتّروا برفع المصاحف على الأسنّة ، اغترّ الكثير برأي بعض القرّاء حيث ردّ التحكيم بقوله سبحانه : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلّه ).
    قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ويمرّ به على صفوف أهل الشام ، وراياتهم ، حتى مرّ برايات عنزة فقرأه عليهم. قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله ، ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية ، وهما أوّل من حكم (أي أنكر مبدأ التحكيم) ثم مرّ بها على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :

ما لعلي في الدماء قد حكم
 

 
 

لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم


    لا حكم إلاّ لله ولو كره المشركون.
    ثمّ مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم ، فقالوا : لا حكم إلاّ لله ولا نرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم ، فقال رجل منهم : « لا حكم إلاّ لله ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين » وخرج عروة بن اُديَّة فقال : أتحكّمون الرجال في أمر الله؟ لا حكم إلاّ لله : فأين قتلانا يا أشعث؟ (1) .
    فزعموا أوّلا : أنّ حكم الله مضى في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أويدخلوا في حكمهم وانّ إيقاف الحرب والتنازل إلى الموادعة خلاف حكم الله

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 558. وجاء في ذيل كلامه انّ هؤلاء المخالفين أوبعضهم كانوا من المصرّين على التحكيم في بدء الأمر وانّما رجعوا عن فكرتهم عند عرض الكتاب.

سبحانه.
    ثانياً : انّ هذا تحكيم للرجال في دين الله ، وهو يضادّ النصّ الصريح في الذكر الحكيم أعني قوله تعالى : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلِّه ) وكلا الوجهين موجود ان في كلامهم يوم حاولوا فرض نقض الميثاق وطلبوه من علي ( عليه السَّلام ) يقول ابن مزاحم : فنادت الخوارج في كلّ ناحية :
    لا حكم إلاّ لله ، لا نرضى بأن يحكّم الرجال في دين الله.
    قد أمضى الله حكمه في معاوية و أصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم (1) .
    ثالثاً : زعموا أنّ قبول التحكيم يستلزم أنّهم كانوا ضالّين في نضالهم وجهادهم ضد معاوية طيلة شهور ، ونتيجة ذلك أنّ ما ارُيقت منهم من الدماء ، وما قدموا في ذلك الطريق من الشهداء كانت على غير وجه الحق ولأجل ذلك لمّا قرأ الأشعث صحيفة الصلح على تميم ، قالوا : أتحكّمون الرجال في أمر الله لا حكم إلاّ لله ، فأين قتلانا يا أشعث (2) .
    رابعاً : قالوا : إنّك نهيت عن الحكومة أوّلا ثم أمرت بها ثانياً ، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيباً ، وبأمرك مخطئاً ، وإن كانت حسنة كنت بنهيك عنها مخطئاً وبأمرك بها مصيباً ، فلابد من خطئك على كلّ حال.
    هذه الوجوه الأربعة ممّا اغترّ به القوم ، وأرادوا فرض نقض التحكيم والميثاق على علي ( عليه السَّلام ) وهي تكشف عن بساطة القوم في المقام ، وإليك تحليل كل واحد من هذه الوجوه :
    أمّا الوجه الأوّل :فإنّه وإن كان قد مضى حكم الله في معاوية وأصحابه أن

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 594.
    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 588.

يقتلوا أو يدخلوا في حكم الإمام المفترض طاعته ، وكان الواجب على الإمام محاربتهم حتى تتحقّق احدى الغايتين ولكن التكليف بالمحاربة ، مرهون بالقدرة وعدم المانع من تحقيق التكليف ، والقوم سلبوا القدرة عن الإمام القائد ، حيث جاءوا إليه في عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد ، شاكي سيوفهم على عواتقهم يدعونه باسمه ويقولون : أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم.
    أفي هذا الموقف الحرج يتصوّر أن تكون المحاربة تكليفاً شرعيّاً على الإمام أو يكون الحكم مرفوعاً بارتفاع قدرته على مواصلة الحرب ، إذ كانت نتيجة مواصلة الحرب هو قتل الإمام أوتسليمه إلى العدّو مكفوف اليدين ، ولكان الذل والوهن عندئذ أكبر وأفدح.
    نعم ، رجعت القدرة إلى الإمام بعد ندامتهم على التحكيم واستعدادهم لمواصلة الحرب بعد الصلح وأخذ المواثيق ، ولكن كانت الندامة في غير محلّها وندموا ولم ينفعهم الندم حيث ضاعت الفرصة الذهبية ، إذ كما أنّ من حكمه سبحانه مواصلة حرب الطغاة وقد نطق بها الذكر الحكيم ، كذلك الايفاء بالمواثيق ، واحترام العقود والعهود من أحكام القرآن والسنّة المطهرّة. ولأجل ذلك أجاب علي عن اصرارهم على مواصلة الحرب بقوله : « ويحكم ، أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أوليس الله تعالى قال : ( اُوفُوا بالعقودِ ) وقال : ( وَ أوفُوا بِعَهْدِ اللهِ اِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الأيمانَ بَعْدَ تَوْكيدَها وَ قَدْجَعَلْتُمْ الله عَلَيْكُمْ كفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونْ ) (1) .
    ولكن القوم كانوا بعيدين عن المنطق ، قريبي القعر ، سمعوا أدلّة الإمام ولم يجيبوا عنها بشيء إلاّ بتضليله والبراءة منه.وسوف نرجع إلى تحليل هذا

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 589.

الوجه عند البحث عن الاباضيّة.
    وأمَا الوجه الثاني : أعني كون هذا تحكيماً للرجال في دين الله : وهو خطأ. إنّ الإمام وأصحابه لم يحكّموا الرجال في دين الله بل حكّموا القرآن والذكر الحكيم فيما اختلفوا فيه ولكن القرآن شجرة يانعة وحجة صامتة لا تجتني ثمرته ولا يعلم مقاصده إلاّ بمن ينطقه وإلى ذلك يشير الإمام في بعض خطبه :
    « إنّا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن ، هذا القرآن انّما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان ، وانّما ينطق عنه الرجال ، ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله سبحانه : ( فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شيء فَرِدُّهُ إلى اللهِ وَ الرسول ) فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه ، وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق النّاس وأولاهم بها » (1) .
    وفي كلام آخر له :
    « فانّه حكم الحكمان ليُحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه ، فإن جرّنا القرآن إليهم ، اتبعناهم ، وإن جرّهم إلينا اتبعونا ، فلم آت ـ لا أباً لكم ـ بُجراً ولا خَتلْتكم عن أمركم ، ولا لبّستُه عليكم ، انّما اجتمع رأي مَلَئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما ألاّ يتعدَّيا القرآن (2) .
    وقد جاء في نفس الميثاق الذي أملاه على التصريح بأنّ الحكم هوالقرآن ، وانّ دور الحكمين هو انطاق القرآن في محلّ النزاع وقد جاء في

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 125.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.

الميثاق قوله :
    « وان كتاب الله سبحانه وتعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن فان وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتّبعناه ، وإن لم يجداه أخذا بالسنّة العادلة غير المفرقة » (1) .
    وبعد هذه الكلم الواضحة ، المعربة عن حقيقة الحال ، كان اصرارهم على نقض الميثاق صادراً عن جهل وعجز في الرأي.
    وأمَا الوجه الثالث : أي أنّه يستلزم من قبول التحكيم كونهم ضالّين في نضالهم وجهادهم طيلة شهور ، وانّ الدماء التي اُريقت ، انّما اُريقت في غير وجه الحق ، فهو أوهن من الوجهين السابقين ، وذلك لأنّه سبحانه كما أمر بالقتال والنضال في كتابه وقال : ( قاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُوْمِنُونَ بِالله وَ لا بِالْيَوْمِ الآخِرِ .... ) (2) .
    وقال سبحانه : ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةُّ وَيَكُونَ الدِينُ كَلُّهُ للهِ ... ) (3)
    كذلك أمر بالصلح والسلم في غير واحد من آياته ، وقال : ( وَاِن جَنَحُوْا لِلسَّلْمِ فَاْجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ .... ) (4)
    وقال سبحانه : ( وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوْا فَاَصْلِحُوْا بَيْنَهُما فَاِنْ بَغَتْ إحْديهُما عَلى الاُخْرى فَقاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتّى تَفِىء إلَى أمْرِ الله فَإنْ فَآتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالْعَدْلِ

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/38.
    2 ـ التوبة : 29.
    3 ـ الأنفال : 39.
    4 ـ الأنفال : 61.

 

وَأَقْسِطُواْ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (1)
    الصلح والايقاف ليسا دليلا على أنّ الدماء الّتي اُرقيت إنّما اُرقيت في غير وجه الحقِ ، وعلى ذلك فكل من الحرب والصلح ، والنضال والموادعة حكم من أحكام القرآن ، يطبّق كل في مورده وذلك حسب مايراه الحاكم الإسلامي وعلى ذلك جرت سيرة الرسول الأكرم ، فقد ناضل قريشاً في بدر واُحد وقاتلهم في الأحزاب ، وقد اُريقت من دماء المسلمين مالايستهان بها ، ومع ذلك فقد صالح قريشاً في الحديبية ، وكتب بينه وبينهم ميثاق الصلح على ما مرّ الإيعاز إليه في كلام علي ( عليه السَّلام ) حتّى انّ قريشاً أبوا أن يكتب « رسول الله » إلى جانب اسمه ، وألزموه بتجريد اسمه عن الرسالة كما أبى معاوية وعمروبن العاص إلاّ أن يكتب اسم عليّ مجرّداً عن الإمارة ، فكان في ذلك اقتداء بالنبي ، فالدماء التي اُرقيت في ساحات القتال إذا كانت لوجه الله فلا تنقلب عمّا عليه ، وأصحابها شهداء ، أحياء عند ربهم يُرزقون ، ولا يأبى ذلك أن يصالح القائد الإسلامي إذا اقتضت المصلحة لظروف مختلفة ، مع العدو وكلا الحكمين حكم الله.
    وأمّا الوجه الرابع : فقد أجاب عنه الإمام بعد ما قام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فلم ندر أىّ الأمرين أرشد؟ فصفق ( عليه السَّلام ) إحدى يديه على الاُخرى ثم قال :
    « هذا جزاء من ترك العُقْدة (2) أما والله لو انّي حين أمرتكم به ، حملْتُكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً ، فان استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وإن ابيتم تداركتم ، لكانت الوثقى ، ولكن بِمَنْ وإلى مَنْ؟ اُريد أن

    1 ـ الحجرات : 9.
    2 ـ العقدة : الرأي الوثيق.

(82)

اُدواي بكم وأنتم دائي » (1) .
    أقول : إنّ القوم كانوا بُعَداء عن التفكير الصحيح فزعموا أنّ هنا تناقضاً في الرأي ، مع أنّه لا منافاة بينهما بعد فرض اختلاف ظرف الحكمين ، ففيما كان الإمام قائداً مُطاعاً ، كان الحق هو مواصلة الحرب ، ولذاك كان يصرّ على المواصلة ، وعند ما عُصِيَ ، وخُولِفَ ، لم يكن بدّ من التنازل إلى الحكم ألآخر ، فلا الإيقاف يبطل حكم القتال وأجر الشهداء ولا الحكم بالقتال يلازم بطلان الهدنة وعدم صحّته إذا اقتضت المصلحة ذلك وفقاً لا ختلاف الظروف.

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 121.

 

 المصدر السابق - ص 74 – 82

 

 

ألقاب الخوارج وفرقهم ( راجع ص 177 وما بعدها ):

 

للخوارج ألقاب عديدة فمن ألقابهم « الخوارج » لخروجهم على عليّ بن أبي طالب ، و « المحكِّمة » ، لكون شعارهم : « لا حكم إلاّ لله » ، و« الحرورية » لنزولهم بحروراء في أوّل أمرهم ، و« الشُراة » لقولهم : شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بِعْناها بالجنّة ، و« المارقة » لأنّهم مرقوا من الدين كما يَمْرق السهم من الرميّة ـ حسب توصيف الرسول لهم ـ وخرجوا منه ، والفرقة الباقية اليوم أعني الاباضية يفسّرون الخروج بالخروج عن الدين ويخصّون اللقب بالطوائف المنحرفة الذين خرجوا في عصر الأمويين ، وكانوا يعترضون الطريق ويقتلون الأبرياء من غير جرم وسيوافيك أنّ التخصيص بلاوجه.

    وأمّا فرقهم ، فقد ذكر البغدادي لهم عشرين فرقة ، بل أزيد ، وهذه أسماؤهم :

    1 ـ المحكّمة 2 ـ الأزارقة 3 ـ النجدات 4 ـ الصفرية 5 ـ العجاردة ، المفترقة إلى : 6 ـ الخازنية 7 ـ الشعيبية 8 ـ المعلومية 9 ـ المجهولية 10 ـ أصحاب طاعة لايراد الله تعالى بها 11 ـ والصلتية 12 ـ الاخنبسية 13 ـ الشبيبية 14 ـ الشيبانية 15 ـ المعبدية 16 ـ الرّشيدية    17 ـ المكرمية 18 ـ الحمزية 19 ـ الشمراخية 20 ـ الإبراهيمية 21 ـ الواقفية 22 ـ الاباضية (1) .

    ولا يخفى أنّ الفرق حسب ما ذكرها تزيد على عشرين ، ولو لم تعد العجاردة فرقة مستقلّة باعتبار أنّها مقسّمةً لأقسام كثيرة يكون عدد الفرق « 21 » فرقة.

    ثمّ قال البغدادي : « الاباضية » منهم افترقت فرقاً ، معظمها فريقان « حفصية » و« حارثية » ، وقال : فأمّا « اليزيدية » من الاباضية ، و« الميمونية » من العجاردة ، فهما فرقتان من غلاة الكفر الخارجين عن فرق الاُمّة.

    وأمّا الأشعري فقد ذكر لهم خمس عشرة فرقة ثم ذكر الفرق المتشعّبة منها وهي فرق كثيرة (2) .

    وقد ذكر المقريزي في خططه للقوم ستاً وعشرين فرقة (3) .

    وذكر الشهرستاني لهم ثمانية فرق ، وإليك أسماؤها :

    1 ـ المحكّمة الاُولى 2 ـ الأزارقة 3 ـ النجدات 4 ـ البيهسية 5 ـ العجاردة 6 ـ الثعالبة 7 ـ الاباضية 8 ـ الصفرّية (4) .

    ولكن الحق ، إنّ اُصول الفرق قليلة جدّاً ، وقد ذكر الأشعري أنّ اُصول أربعة وهي : الأزارقة ، النجدية ، الاباضية ، والصفرية ، والأصناف الاُخرى تفرّعوا من الصفرية (5) .

    ويظهر من المبرّد في كامله ، أنّ اُصول الفرق هي ثلاثة :

    1 ـ البغدادي : الفّرق بين الفرق 72.
    2 ـ الأشعري : المقالات 1/86 ـ 131.
    3 ـ تقي الدين المقريزي : الخطط 2/254 ـ 255.
    4 ـ الشهرستاني : الملل و النحل 1/114 ـ 138.
    5 ـ الأشعري : المقالات : 1 / 101.

 

الأزارقة ، الاباضية ، البيهسية ، وأمّا الصفرية والنجدية فكانوا يقولون بقول ابن أباض (1) .
    ولعلّ ما ذكره الأشعري في بيان اُصول فرقهم أقرب ، كما يظهر من دراسة مذهبهم ونحن نذكر الفرق الأربعة التي ذكرها الأشعري ، ونحيل بيان سائر الفرق إلى كتب المقالات والفرق ، خصوصاً المقالات للأشعري ، والفَرق بين الفِرق للبغدادي ، والملل و النحل للشهرستاني ، وانّا ضربنا الصفح عن بيان فرقهم عامّة لأنّهم قد هلكوا ولم يبق منهم على أديم الأرض سوى فرقة واحدة هي الاباضية وأقاويلها أقرب إلى أقاويل سائر المسلمين. ولأجل ذلك نرى أنّ أبا بيهس يصف نافعاً بأنّه غلى ، ويصف عبد الله بن اباض بأنّه قصَّر ، وسوف يظهر غلوّ الأوّل وتقصير الثاني حسب تعبير أبي بيهس ، وسيوافيك نصّه في محلّه.


    والعجب أنّ هذه الفرق ظهرت في زمان واحد ، فصار للقوم أئمّة أربعة ، كلّ يدعو إلى نفسه.
    وكانت الخوارج على رأي واحد إلى عصر ابن الزبير وبعد افتراقهم عنه حصل هناك اختلاف بين الأزارقة والنجدية كما ستعرف وصارت فرقتين ذاتي أمامين ، ولم يكن لهم إلى عهد عبدالله بن الزبير إلاّ اُصول بسيطة وهي :

    1 ـ اكفار مرتكب الكبيرة.

    2 ـ انكار مبدأ التحكيم.

    3 ـ تكفير عثمان وعليّ ومعاوية وطلحة والزبير ومن سار على دربهم ورضى بأعمال عثمان وتحكيم عليّ ، على هذه الاُصول نشأوا إلى عهد ابن الزبير.

    1 ـ المبرّد : الكامل 2/214.

    قال الكعبي : إنّ الذي يجمع الخوارج إكفار عليّ وعثمان و الحكمين وأصحاب الجمل وكلّ من رضى بتحكيم الحكمين ، والخروج على الإمام الجائر وإكفار من ارتكب الذنوب (1) .

    وقال الأشعري : أجمعت الخوارج على إكفار عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لأنّه حكّم ، وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا. وأجمعوا على أنّ كلّ كبيرة كفرٌ إلاّ النجدات ، فإنّها لاتقول بذلك ، وأجمعوا على أنّ الله سبحانه يعذّب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلاّ النجدات (2) .

    وما ذكره من الاستثناء دليل على أن أكثر هذه الاُصول برزت بينهم في العصر الزبيري وما بعده ، لا في عهد الإمام علي ولا في عهد معاوية.

    إذا وقفت على ذلك فلنشرع في بيان الفرق الأربعة التي ذكرها الأشعري ونترك بيان عداها إلى الكتب المعدّة لذلك.

    1 ـ البغدادي : الفّرق بين الفِرق 1/73 نقلا عن الكعبي.
    2 ـ الأشعري : مقالات الاسلاميين 1/86.

 

 

 

 

 

الاباظية
أتباع عبدالله بن اباض (1) م 86

    وصفت الاباضية في كلام غير واحد بأنّهم أقرب الناس إلى أهل السنّة (2) وأنّهم هم الفرقة المعتدلة من الخوارج ، ولأجل هذا اُتيح لهم البقاء إلى يومنا هذا ، فهم متفرّقون في عمان وزنجبار وشمال أفريقيا ، فإذا كان البحث في سائر الفرق بحثاً في طوائف أبادهم الدهر وصاروا خبراً لِكانَ ، فالبحث عن الاباضية بحث عن فرقة موجودة من الخوارج ويعتبر مذهبهم ، المذهب الرسمي في عُمان ، وقد ذكرنا في بداية الكتاب النشاط الثقافي التي تقوم به وزارة الأوقاف عندهم. فنبحث أوّلا عمّا يقول عنهم أصحاب المقالات والتاريخ ، ثم نرجع إلى

    1 ـ إنّ اباضية عمان يقرأونه ـ بالفتح ـ خلافاً لاباضية شمال أفريقيا فيقرأونه ـ بالكسرـ وعلى كل تقدير واباض ـ بضم الهمزة ـ فهي قرية أو واحة باليمامة.
    2 ـ المبرّد : الكامل 2/214.

كتبهم المنتشرة في هذه الأيام لغاية التعريف بهم.

الاباضية في كتب المقالات والتاريخ :
    عبدالله بن اباض المقاعسي المرّي التميمي من بني مرّة بن عبيد بن مقاعس ، رأس الاباضية وإليه نسبتهم ، وقد عاصر معاوية وعاش إلى أواخر أيّام عبدالملك بن مروان ، وكان ممّن خرج إلى مكّة لمنع حرم الله من مسلم بن عقبة المرّي (1) عامل يزيد بن معاوية.
    اتّفق عبدالله بن اباض مع نافع و أصحابه على أن يسألا عبدالله بن الزبير عن رأيه في عثمان ، لأنّ الخوارج يومذاك كانوا ملتفِّين حول عبدالله بن الزبير ، فلمّا سألوه وجدوه ، مخالفاً للعقيدة فتفرّقوا من حوله ، وذهبت طائفة من الخوارج إلى اليمامة وعدّة اُخرى إلى البصرة ، منهم ابن الأزرق وعبدالله بن اباض وعبدالله بن الصفار (2) .
    ثمّ إنّ ابن الأزرق خرج على ثلاثمائة رجل عند وثوب الناس بعبيدالله بن زياد ، وتخلّف عنه عبدالله بن صفّار وعبدالله بن اباض ورجال معهما على رأيه ، وكتب إليهما ما ألقاه لأصحابه في خطابته وهو :
    « إنّ الله قد أكرمكم بمخرجكم ، وبصَّركم ما عمى عنه غيركم. ألستم تعلمون أنّكم إنّما خرجتم تطلبون شريعته وأمره ، فأمره لكم قائد ، والكتاب لكم إمام ، وإنّما تتّبعون سننه و أثره؟ فقالوا : بلى ، فقال : أليس حكمكم في وليّكم حكم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) في وليّه ، وحكمكم في وعدوّكم حكم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) في عدوّه ، عدوّكم اليوم عدوّالله وعدوّ

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/438.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/438.

النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) كما أنّ عدوّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يومئذ هو عدوّ الله وعدوّكم اليوم؟ فقالوا : نعم ، قال : فقد أنزل الله تبارك و تعالى : ( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وِرَسُولِهِ اِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ) وقال : ( لا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) فقد حرّم الله ولايتهم ، والمقام بين أظهرهم ، واجازة شهادتهم ، وأكل ذبائحهم ، وقبول علم الدين عنهم ، ومناكحتهم و مواريثهم. قد احتجّ الله علينا بمعرفة هذا ، وحقّ علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم ، ولانكتم ما أنزل الله ، والله عزّوجلّ يقول : ( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ وِ الهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيِّنّاهُ لِلنّاسِ فِى الكِتابِ اُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ ) (1) .
    فبعث بالكتاب إلى عبدالله بن صفار وعبدالله بن اباض ، فأتيا به ، فقرأه عبدالله بن صفار ، فأخذه ، فوضعه خلفه فلم يقرأه على الناس خشية أن يتفرّقوا ويختلفوا ، فقال له عبدالله بن اباض : مالك لله أبوك؟ أيّ شي أصبت؟ أن قد اُصيب اخواننا؟ أو اُسر بعضُهم؟ فدفع الكتاب إليه ، فقرأه ، فقال : قاتله الله ، أيّ رأي رأى. صدق نافع بن الأزرق (لكن) لوكان القوم مشركين ، كان أصوب الناس رأياً وحكماً فيما يشير به ، وكانت سيرته كسيرة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) في المشركين.
    ولكنّه قد كذب وكذبنا فيما يقول : إنّ القوم كفّار بالنعم والأحكام ، وهم براء من الشرك ، ولايحلّ لنا إلاّ دماؤهم ، وما سوى ذلك من أموالهم فهو علينا حرام (2) .
    ثمّ إنّ المبرّد نقل كتاب ابن الأزرق إليهما بغير هذه الصورة ، والنقلان

    1 ـ البقرة : 159.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4/438 ـ 440.

متّفقان في المادة ، وأضاف أنّ الكتاب ورد إلى أبي بيهس وعبدالله بن اباض ، فأقبل أبوبيهس على ابن اباض فقال : إنّ نافعاً غلا فكفر وانّك قصّرت فكفرت (1) .
    هذا هو عبدالله بن اباض ، وهذه زمالته مع نافع بن الأزرق وهذا فراقه له في مسألة تكفير المسلمين كفر ملّة ودين ، وهذه اباحته دماء المسلمين (بعد اتمام الحجّة) ولأجل هذه المرونة بين الاباضية ، يقول المبرّد : إنّ قول عبدالله بن اباض أقرب الأقاويل إلى أهل السنّة من أقاويل الضلال.

أوهام حول مؤسّس المذهب :
    ثمّ إنّ هناك أوهاماً حول الرجل في كتب الفِرق والتواريخ :
    1 ـ خرج ابن اباض في أيام مروان بن محمّد (2) وهذا وهم فقد مات قبل أيام مروان بأربعين عاماً.
    2 ـ وقال الزبيدي : كان مبدأ ظهوره في خلافة مروان الحمار (3) .
    3 ـ وقال المقريزي : إنّه من غلاة المحكّمة وانّه خرج في أيام مروان ، ثمّ قال : ويقال : إنّ نسبة الاباضية إلى اباض ـ بضم الهمزة ـ وهي قرية باليمامة نزل بها نجدة بن عامر (4) .
    وكلا الأمرين يدلاّن على أنّه ظهر بين سنتي 127 ـ 132 ، أيام حكم مروان وهو لايتّفق مع ما عليه الاباضية على أنّ وفاته كانت في أيام عبدالملك بن مروان.

    1 ـ المبرّد : الكامل 2/213 ـ 214 وقد مرّ ـ كتاب ابن الأزرق ـ إليهما عند البحث عن البيهسية ، فلاحظ.
    2 ـ نقله خير الدين الزركلي في الاعلام 4/184 ، عن هامش الأغاني : 330 من المجلد السابع.
    3 ـ الزبيدي : تاج العروس ، مادة ابض.
    4 ـ المقريزي : الخطط 2/355.

 

    وقال الشهرستاني : عبدالله بن اباض الذي خرج في أيام مروان بن محمّد (1) .
    ولعلّ وجه اشتباههم هو : وقوع فتنة الاباضية في أواخر حكومة مروان بن محمّد ، وكان في رأس الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي طالب الحق وكان اباضياً.
    قال ابن العماد : وفي سنة 130 كانت فتنة الاباضية وهم المنسوبون إلى عبدالله بن اباض. قال : مخالفونا من أهل القبلة كفّار ، ومرتكب الكبيرة موحّد غير مؤمن ، بناءً على أنّ الأعمال داخلة في الإيمان ، وكفّروا عليّاً وأكثر الصحابة ، وكان داعيتهم في هذه الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي (طالب الحق) ، وكانت لهم وقعة بقديد مع عبدالعزيز بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فقتل عبدالعزيز ومن معه من أهل المدينة ، فكانوا سبعمائة أكثرهم من قريش منهم : تخرمة بن سليمان الوالبي ، روى عن عبدالله بن جعفر وجماعة ، وبعدها سارت الخوارج إلى وادي القرى ولقيهم عبدالملك السعدي فقتلهم ولحق رئيسهم إلى مكّة فقتله أيضاً ، ثمّ سار إلى تبالة ـ وراء مكّة بستّ مراحل ـ فقتل داعيتهم الكندي (2) .
    ومن الأوهام ما ذكره ابن نشوان الحميري عن أبي القاسم البلخي المعتزلي : انّ عبدالله لم يمت حتى ترك قوله أجمع ، ورجع إلى الاعتزال (3) ، والرجل توفّي ولم يكن للاعتزال أي أثر ، فإنّ رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء الذي ولد عام 80.
    ثمّ إنّ الاباضية انقسمت إلى فرق خرجوا عن الاعتدال والمرونة ومالوا

    1 ـ الشهرستاني : الملل و النحل 1/134.
    2 ـ ابن عماد الحنبلي : شذرات الذهب 1/177.
    3 ـ ابن نشوان الحميري : الحور العين 173.

إلى التطرّف والشدّة ، ولكن جمهور الاباضية على الاعتدال. يقول الأشعري :
    وجمهور الاباضية يتولّى المحكّمة كلّها إلاّ من خرج ، ويزعمون أنّ مخالفيهم من أهل الصلاة كفّار ، وليسوا بمشركين ، حلال مناكحتم وموارثتهم حلال غنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب ، حرام ماوارء ذلك ، وحرام قتلهم وسبيهم في السر ، إلاّ من دعا إلى الشرك في دار التقيّة ودان به ، وزعموا أنّ الدار ـ يعنون دار مخالفيهم ـ دار توحيد إلاّ عسكر السلطان ، فإنّه دار كفر ـ يعني عندهم ـ.
    وحكي عنهم أنّهم أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم ، وحرّموا الاستعراض إذا خرجوا ، وحرّموا دماء مخالفيهم حتّى يدعوهم إلى دينهم ، فبرأت الخوارج منهم على ذلك ، وقالوا : إنّ كل طاعة إيمان ودين ، وإنّ مرتكبي الكبائر موحّدون وليسوا بمؤمنين (1) .
    وقريب من ذلك ما ذكره البغدادي في كتابه ، يقول : افترقت الاباضية فيما بينها فرقاً يجمعها القول بأنّ كفّار هذه الاُمّة ـ يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الاُمّة ـ براء من الشرك والإيمان ، وانّهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنّهم كفّار ، وأجازوا شهادتهم وحرّموا دماءهم في السرّ واستحلّوها في العلانية ، وصحّحوا مناكحتهم ، والتوارث منهم ، وزعموا أنّهم في ذلك محاربون لله ولرسوله ، لايدينون دين الحق ، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض ، والذي استحلّوه الخيل والسلاح ، فأمّا الذهب والفضة فإنّهم يردّونهما إلى أصحابهما عند الغنيمة.
    ثمّ افترقت الاباضية فيما بينهم أربع فرق : الحفصية ، والحارثية ، واليزيدية ، وأصحاب طاعة لايراد الله بها.

    1 ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين 104 ـ 105.

    ثم قال : واليزيدية ، منهم غلاة لقولهم بنسخ شريعة الإسلام في آخر الزمان (1) .
    ولأجل تصريح عبدالله بن اباض بأنّ المراد من الكفر هو الكفر بالنعم لا محيص عن تفسير الكفر فيما نقله البغدادي عنه بالكفر بالنعم ، نعم بعض الفرق منهم خرجوا عن الاعتدال وحكموا بكفر المسلمين كفراً حقيقياً.
    هذا ما يقوله أصحاب المقالات عنهم ولكنّهم في كتبهم المنتشرة في السنوات الأخيرة يقولون خلاف ذلك ، وانّهم لا يختلفون مع جماهير المسلمين إلاّ في مسألة التحكيم ، وأمّا ما سواه فهم وغيرهم سواسية ، وينكرون وجود هذه الفرق التي نسبها إليهم الأشعري ثم البغدادي (2) . ولأجل ذلك يجب دراسة مذهبهم من كتبهم.
    الاباضية في كتب اعلامهم :
    قد تعرّفت على المذهب الاباضي وترجمة مؤسّسه على ما في كتب الفرق والتاريخ ، غير أنّ كُتّاب الاباضية في العصر الحاضر وماقبله يتحرّجون من أن يُعَدُّوا من فرق الخوارج ، وإن كانوا يتّفقون معهم في بعض المبادئ ولكن يخالفونهم في كثير من المبادئ والعقائد ، ويعتقدون أنّه مذهب نجم في أواخر القرن الأوّل بيد مؤسّسه عبدالله بن اباض وجابر بن زيد العماني ، فكأنّ الأوّل قائداً مخطّطاً والثاني قائداً دينياً ، وانّ الخوارج هم المتطرّفون كالأزارقة الذين كانوا يكفّرون المسلمين ويعدّونهم مشركين ويستبيحون أموالهم ويستحيون

    1 ـ البغدادي : الفَرق بين الفِرق : 103 ، ثمّ ذكر عقائد فرق الاباضية تبعاً للشيخ الأشعري في المقالات 102 ـ 111 ، ومن أراد التفصيل فليرجع إليهما.
    2 ـ الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/21 ـ 28.

نسائهم ويقتلون أولادهم ، وأمّا غيرهم الذين لايعتنقون هذا المبدأ وماشابه فليسوا من الخوارج.
    وقد بذلت الاباضية في هذه العصور الأخيرة جهوداً في تنزيههم عن كونهم من هذه الطائفة وانّ المقصود منه غيرهم ، وإليك بعض نصوصهم وتحليلاتهم :

هل الاباضية من الخوارج؟ :
    1 ـ قد عمد البعض من الخوارج بعد وقعة النهروان إلى سلوك طريق لايتّفق مع الاُصول الصحيحة للشريعة الغّراء وأحد ثوا في الإسلام حدثاً كبيراً بما استحلّوا من استعراض المسلمين بالسيف وتكفير أهل القبلة الذين لايذهبون مذهبهم ، وتفرّق هؤلاء الخارجون إلى فرق عديدة كان منها الأزارقة والنجدات والصفرية ... وهؤلاء هم الذين أصبحوا يعرفون بالخوارج ، ويعني وصفهم بذلك أنّهم خارجون عن الدين ومارقون بما استحلّوا من المحرّمات وما خالفوا فيه من الأحكام الصحيحة للإسلام.
    أمّا الاباضية ـ وهم عرفوا بجماعة المسلمين أهل الحقّ والاستقامة ـ فهم لايرون رأي هؤلاء الخوارج بل يرونهم مارقين خارجين عن الدين ، ورغم أنّهم يوالون المحكّمة الاُولى ـ وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي ـ إلاّ أنّهم لم يوافقوا الأزارقة و من والاهم من بعده بل تبّرأوا منهم ولم يذهبوا مذهبهم.
    وعلى ذلك فالخوارج هم غير الاباضية ولايمكن اعتبار الاباضية احدى فرقهم ، وإلاّ فكيف نجمع بين النقيضين في صعيد واحد ، وكيف نصف من يتمسّك بصحيح الإسلام ، ولايكفّر أصحاب القبلة ، ولايستحلّ دماء المسلمين ولا أموالهم إلاّ دفعاً لبغي أو ردّاً لعدوان؟ .... كيف نصف هؤلاء بأنّهم من

الخوارج الذين أبوا إلاّ مفارقة الجماعة والخروج عليهم واستعراض المسلمين بالسيف ، واستحلال دمائهم وأموالهم بغير حقّها ، وذهابهم إلى تكفير هؤلاء ، وإذا كانت الاباضية قد والوا المحكّمة الاُولى إلاّ أنّ ولاءهم لم يكن لمن خرج من بعد ذلك على الدين ، وكان سلوكهم مروقاً وعصياناً (1) .
    2 ـ الاباضية لم يجمعهم جامع بالصفرية والأزارقة ومن نحا نحوهم إلاّ انكار الحكومة بين علي ومعاوية ، وأمّا استحلال الدماء والأموال من أهل التوحيد ، والحكم بكفرهم كفرَ شرك ، فقد انفرد به الأزارقة والصفرية والنجدية ، وبه استباحوا حمى المسلمين ولمّا كان مخالفونا لايتورّعون ، ولايكلِّفون أنفسهم مؤونة البحث عن الحق ، ليقفوا عنده ، خلطوا بين الاباضية الذين لايستبيحون قطرة من دم موحّد بالتوحيد الذي معه ، وبين ما استحلّوا الدماء بالمعصية الكبيرة حتى قتلوا الأطفال تبعاً لآبائهم ، مع أنّ الفرق كبير جداً كالفرق بين المستحل والمحرّم.
    ثمّ قال : إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر ، وإنّما هي انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب عليّ ، المنكرين للتحكيم والراضين به ، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا اللفظ بعد ثبوت الأمر لمعاوية والاستقرار ولم يفرّقوا في ذلك بين المتطرف وغيره (2) .
    3 ـ إنّ الاباضية رغم اعتدالهم من الناحية المذهبية والفقهية إلاّ أنّهم كانوا في عداء سياسي مع دولة بني اُمية ودولة بني العباس لأنّهم كانوا يقولون بأنّ الإمامة أو الخلافة حق لأيّ مسلم صالح ، فلا تكون قاصرة على قريش ، ولا على بطونها المختلفة من الأمويين أو العباسيين أو العلويين ، ولمّا كان هذا الموقف

    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 212.
    2 ـ أبو إسحاق السالمي : تحفة الأعيان : هامش الجزء الأوّل كما في الإمام جابر بن زيد العماني.

السياسي للاباضية يلتقي من الناحية النظرية ومن الناحية الفكرية البحتة مع الخوارج : الأزارقة والنجدات والصفرية ، فقد عممّ كُتاب الفرق القول ووضعوا الاباضية ضمن هؤلاء الخوارج واعتبروهم فرقة رابعة من فرقهم ، والاباضية أنفسهم كما هو موجود في كتبهم القديمة والحديثة يتبرّأون من هؤلاء الخوارج كل البراءة بل ويقاتلونهم بأشدّ قتال.
    إنّ المذهب الاباضي لم يعرف بهذا الاسم إلاّ منذ الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة حينما غلب على أصحابه هذا الاسم واشتهروا به ، وانّما أصحابه قبل ذلك يعرفون باسم جماعة القعدة وهو اسم له دلالته السياسية ، وقد أطلقه عليهم جماعات الخوارج من الأزارقة وغيرهم احتقاراً لهم ورفضاً لمبدئهم : ذاك في القعود ، فقد وضع هؤلاء القعدة لأنفسهم مبدأ المسالمة وعدم اشتهار السيف في وجه اخوانهم من المسلمين ، وأجازوا لأنفسهم البقاء تحت حكم الجبابرة ، وقالوا بعدم جواز قتل أطفال مخالفيهم ولا قتل نسائهم ولا استحلال أموالهم وأخذوا يعملون على نشر مبادئهم السياسية في سرّيّة وكتمان ، ودخلوا في مرحلة كتمان طويلة امتدّت منذ أن تأسّس المذهب على يد جابر بن زيد في أواخر القرن الأوّل للهجرة حتى هاجر معظم علماء المذهب وآخر أئمة الكتمان أبو سفيان محبوب بن الرحيل إلى عمان في أواخر القرن الثاني للهجرة (1) .
    4 ـ إنّ مذهب الاباضية لم يعرف بهذا الاسم في المصادر الاباضية إلاّ في الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة وقد قبلت الاباضية بهذا الاسم منذ ذلك التاريخ لأنّه غلب عليهم بمرور الزمن وصار علماً يلتفّون حوله ، وإنّما يطلقون على أنفسهم قبل ذلك اسم « جماعة المسلمين » أو « أهل الدعوة » أو « أهل الاستقامة » وقد سمّاهم أعداؤهم من الخوارج المتطرّفين باسم « القعدة »

    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 54 ـ 56.

احتقاراً لهم ، لأنّهم طبقاً لوجهة نظر هؤلاء الخوارج ، قعدوا عن الجهاد في سبيل الله بمحاربة الولاة والحكّام الظالمين.
    وكان هؤلاء القعدة قد رأوا القعود عن الحرب ، وعن رفع السيف ضد اخوانهم المسلمين عقب موقعة النهروان التي وقعت بين الإمام علي بن أبي طالب وجماعة المحكّمة الذين عارضوه لقبوله التحكيم ، وقالوا : « لاحكم إلاّ لله » واشتهروا باسم « المحكّمة » أو « الشراة » أو « الحرورية » وأطلق عليهم خصومهم من أرباب الدولة الأمويّة اسم الخوارج (1) .
    5 ـ إنّ الصفريّة اتّخذت الخروج بالسيف على الدولة وسيلة لتحقيق أهدافهم ، فإنّ الصفريّة في بلاد المغرب اتّبعوا هذا الاسلوب في هذه المنطقة النائية ، ولذلك رفعوا لواء الثورة ضدّ بني اُميّة منذ عام 122.
    وقد أظهر هؤلاء الصفرية من تطرّف شديد في معاملتهم لخصومهم سواء كانوا من العرب أم من البرير ، فكانوا يستحلّون سبي النساء ، ويستحلّون الأموال ، يسفكون الدماء ، وكانوا في حركتهم في بلاد المغرب أقسى على الناس من حركة الأزارقة في بلاد المشرق ، وقد وصل تطرّف البرير الصفرية إلى غايته عندما داهموا القيروان في عام 139 ، واحتلّوها وفعلوا بأهلها وبمساجدها ما تقشعرّ له الأبدان على يد قبيلة« ورفجومة » التي كان أهلها من غلاة الصفرية.
    ثمّ بعد فترات تنقّلت قيادة البربر من الصفرية إلى الاباضية بعد أن ضاق البربر بعنف الصفرية وتطّرفهم المقيت ، فضعف أمر الصفرية منذ ذلك الحين وذاب أغلبهم في الاباضية (2) .

    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 12 ـ 13.
    2 ـ نفس المصدر : 53.

    6 ـ المذهب الاباضي يعتمد في اُصوله على الكتاب والسنّة ويتّفق في كثير من اُصوله وفروعه مع مذهب أهل السنّة ، ولايختلف معها إلاّ في مسائل قليلة ، اختلاف مذاهب السنّة فيما بينها ، فلا يخلو منها مذهب لايخالف غيره في قليل أو كثير من المسائل ، وما كان اعتماد المذهب الاباضي على الكتاب والسنّة وعدم تباعده عن مذاهب السنّة إلاّ لأنّ مؤسسّه جابر بن زيد قد أخذ عن الصحابة الذين أخذ عنهم أصحاب هذه المذاهب من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة ، بل انّه يمتاز على أصحاب هذه المذاهب ، في انّه أخذ عن الصحابة مباشرة بينما هم لم يأخذوا في معظهم إلاّ من التابعين ، كما أنّ الأحاديث التي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجمّاع الأحاديث من الاباضية كالربيع بن حبيب وغيره ، ليست إلاّ أحاديث وردت عند البخاري ومسلم وغيرهم من أئمّة الحديث كأبي دواد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطبراني والبيهقي وغيرهم من أهل السنّة والجماعة (1) .
    7 ـ اطلاق لفظ الخوارج على الاباضية من الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصّب السياسي أوّلا ثمّ عن المذهبي ثانياً ، لمّا ظهر غلاة المذاهب وقد خلطوا بين الاباضية والأزارقة والصفرية والنجدية.
    إنّ لاطلاق الخوارج على الاباضية سببين :
    الف ـ اشتراكهم مع سائر الخوارج في انكار التحكيم ، فصار ذلك سبباً للجمع بين كل منكر للتحكيم في صعيد واحد.
    ب ـ إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر وإنّما انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ، ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب علىّ المنكرين للتحكيم والراضين به ، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا الأمر بعد ثبوت الأمر لمعاوية ، فإنّ

    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر و المغرب : 60.

الأمويين أطلقوا هذه التسمية على كل من يعارض ملكهم العضوض (1) ولم يفرّقوا بين الاباضية وبين سواهم من متطرّفي الخوارج (2) .
    8 ـ إنّ ابن اباض تبّرأ من الأزارقة في الرسالة التي كتبها إلى عبدالملك وجاء فيها : أنا براء إلى الله من ابن الأزرق وضيعه وأبقاعه ، لأنّه خرج عن مبادئ الإسلام فيما ظهر لنا و أحدث وارتدّ وكفر بعد إسلامه فنبرأ إلى الله منهم (3) .

نَظُرنا في الموضوع :
    هذه كلمات القوم وهي تعبّر عن كونهم مصرّين على أنّهم ليسوا بخوارج ومن سمّاهم بذلك فقد ظلمهم ، وبما أنّ الخوارج لم يكونوا ذوي سمعة حسنة ، وكان المسلمون يتبرّأون من عقائدهم وأعمالهم ، صار هذا هو الحافز لعلماء الاباضية على السعي البالغ من اخراج أنفسهم عن صفوفهم ، وانّهم فرقة مستقلّة لاصلة لهم بالخوارج إلاّكونهم مشتركين في أصل واحد وهو انكار التحكيم.
    ولعلّ القارىء ، يتعجّب من الاطناب والافاضة في المقام وماهذا إلاّ لأجل اراءة منطق القوم فيما يتبنّونه لئلاّنبخس حقوقهم ، فإنّهم كما عرفت يتّهمون المخالفين بعدم التورع في البحث وعدم تكليف الأنفس مؤونة الفحص عن الحق ، ولكنّها غير لاصقة بنا ، فإنّا كلّفنا أنفسنا مؤونة البحث ويشهد بذلك نقل كلماتهم ، ومع هذا كل ما ذكروه أشبه بالخطابة ، وذلك :

    1 ـ لازم ذلك أن يسمّوا الشيعة أيضاً باسم الخوارج.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي ، الإمام جابر بن زيد العماني : 213 ـ 214 ، والكاتب غفل عن القريض المعروف في شأن أبي بلال المنتصر كما سيوافيك ، وكانت الحادثة سنة 60 قبل فتنة الأزارقة.
    3 ـ الإمام جابر بن زيد العماني : 224 ، ونقلا عن الجواهر المنتقاة للبرادي : 156 ـ 167.

أوّلا : إنّ هذه الكلمات تحكي أنّ الاباضية أوّل من خطّ خطّ الاعتدال ومشى على ضوئه ، واكتفى بالعزلة والقعود ولم يحارب الناس ، ولم يعترضهم ، ولكنّه في غير محلّه إذ لو صحّ كلّ ذلك في عبدالله بن اباض فراسم هذا الخط هو أبو بلال مرداس بن جدير ، فإنّه أوّل من ندّد بعمل الخوارج في اعتراضهم الناس و نهب أموالهم ، وكان ينادي بأعلى صوته بأنّه لا يحارب الاّ من حاربه ولايروّع أحداً ولا ... ولا ... فعلى ذلك يجب أن يقال : إنّ مبدىء هذه الكفرة هو أبوبلال المقتول عام« 60 » وقد كان أبو بلال قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وأنكر التحكيم وشهد النهر ونجا فيمن نجا (1) .
    ثانياً : إنّ الحجر الأساس لفرقة الخوارج هو التطّرف والخروج عن الاعتدال ، وإن كان للتطرّف مدارج ومراحل ، فالقوم من بدو الخروج على علي وانكار التحكيم عليه بعدما فرضوه عليه ، كانو متطرّفين ، لا يحترمون دماً ولاعرضاً. إنّ تخصيص التطرّف بالأزارقة ، والنجدات ، والصفرية بزعم أنّهم هم الذين كانوا يستعرضون المسلمين ، ويستحلّون دماءهم ، ويكفّرون أهل القبلة ، كلام فارغ عن الحجّة ، بل الحجة على خلافه ، فإنّ المحكّمة الاُولى وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي أيضاً كانوا من المتطرّفين ، ويظهر ذلك من خطب هذا الراسبي وكلماته التي ألقاها في الحروراء ، وقد نقلنا بعض كلماته في الفصل السادس ، وإليك لقطات منها :
    قال مخاطباً إخوانه عند الشخوص من الحروراء إلى النهروان : فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضرّة (2) .

    1 ـ المبرّد : الكامل 2/183 ومرّ تفصيله.
    2 ـ مرّ المصدر في الفصل السادس.

 

    ماذا يريد من قوله : الظالم أهلها ، وهل يريد بلدة الكوفة وأهلها الملتفّين حول الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ؟ والحال انّ الآية نزلت في حق المشركين قال سبحانه : ( وِمالَكُمْ لاتُقاتِلُونَ فِى سَبِيِلِ اللهِ وِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجال وَالنِّساءِ وَ الوِلْدانِ الّذيِنَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخرِجْنا مِنْ هذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نصِيراً ) (1) .
    إنّ المحكّمة الاُولى هم الذين بقروا بطن زوجة عبدالله بن خباب بن الأرت ، ذلك التابعي العظيم ، ولم يكتفوا بذلك ، فذبحوا زوجها كما يذبح الكبش ، بعدما أعطوه الأمان ، وهم الذين قتلوا ثلاث نسوة من طي ، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية ، كل ذلك ارتكبوه بعد ما انتقلوا من الحروراء إلى النهروان ، ولمّا بلغ عليّاً هذه الجنايات المروِّعة عمد إلى مقاتلتهم بعد ما أتمّ الحجّة عليهم.
    وأيّ دليل على تطرّفهم أتقن من توصيف الإمام إيّاهم بقوله : « سيوفكم على عواتقكم ، تضعونها مواضع البُرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب » (2) .
    أبعد هذا يصحّ للاُستاذ صالح بن أحمد الصوافي تخصيص التطرّف بالخوارج الذين جاءوا بعدهم.
    هذا هو شبيب ، مساعد ابن ملجم في قتل علي ، دخل على معاوية في الكوفة بعد قتل عليّ ، ولمّا وقف معاوية على أنّه فيها ، بعث إلى الأشجع لأن يخرجه من الكوفة ، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلاّ قتله. (3)

    1 ـ النساء 75.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.
    3 ـ ابن الأثير : الكامل 3/206.

    وهذا هو قريب بن مرّة وزحاف الطائي قد خرجا في امارة زياد بن أبيه فاعترضا الناس ، فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه ، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف ، فناداه الناس من ظهور البيوت : « الحرورية »!!!
    انج بنفسك ، فنادوه (قريب وزحاف ومن معهما) : لسنا حرورية ، نحن الشرط ، فوقف فقتلوه ، ثمّ جعلا لا يمرّان بقبيلة إلاّ قتلا من وجدا حتى مرّا على بني علي بن سود من الأزد ، وكانوا رماة فرموهم رمياً شديداً ، فصاحوا : يا بني علي! البقيا! لارماء بيننا. قال رجل من بني علي :

لاشيء للقوم سوى السهام
 

 
 

مشحوذة في غلس الظلام

    ففرّ عنهم الخوارج إلى ان واجهوا بنو طاحية من بني سود ، وقبائل من مزينة وغيرها ، ووقعت الحرب فقتل الخوارج عن آخرهم ، وقتل قريب وزحاف (1) .
    ما ذكرنا نماذج من استعراضهم للناس وقتلهم الأبرياء ، قبل قيام ابن الأزرق بالدعوة ، فإنّ ماذكرنا يرجع إلى عهد علي وما بعده بقليل ، وأمّا فتنة الأزارقة والنجدات فهي راجعة إلى عصر ابنه يزيد بن معاوية فهي من حوادث بعد الستين.
    ثالثاً : إنّ تخصيص اسم الخوارج بالمتطرّفين منهم كالأزارقة والنجدات تخصيص بلاوجه ، فقد اُطلق هذا اللفظ في عصر عليّ على هؤلاء أي على عبدالله بن وهب الراسبي وذي الخويصرة ومن قتل معهما في وقعة النهروان :
    هذا هو الإمام علي بن أبي طالب ـ بعد ما خرج من قتال الخوارج في ضفة النهر مرفوع الرأس ـ قال : لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطاه

    1 ـ المبرّد : الكامل 2/180.

كمن طلب الباطل فأدركه (1) . فلو كانت هذه الكلمة لعلي كما هوالمقطوع لكان دليلا على أنّ القوم في بدء نشوئهم كانوا مسمّين بهذا الاسم ، وإن كان لغيره فالظاهر أنّ ذلك الغير هو الموالي للخوارج بقرينة مدحهم في ذيل الجملة ، فكان شاهداً على أنّ القوم كانوا مسمّين بهذا الاسم منذ البداية.
    ويظهر ممّا نظمه نفس الخوارج من الأشعار أنّ تسميتهم بها كان رائجاً في عصر معاوية أي قبل الستين وقبل أنّ يتسنّم الأزارقة والنجدات منصّة القيادة يقول عيسى بن فاتك من بني تميم تأييداً لموقف أبي بلال مرداس به ادية الذي قتل عام 60 في أبيات :

أألفا مؤمن فيما زعمتم كذبتم ليس ذاك كما زعمتم هم الفئة القليلة غير شكّ
 

 
 

ويهزمهم بآسك أربعونا؟ ولكن الخوارج مؤمنونا على الفئة الكثيرة ينصرونا (2)

    ويُستنتج من ذلك الأمرين : أنّ الخوارج اُطلق يوم اُطلق على من خرج عن طاعة أمير المؤمنين وأنكروا التحكيم عليه من غير فرق بين أوائلهم ومن بعدهم.
    رابعاً : لاشك إنّ المحكّمة الاُولى كانوا يبغضون عليّاً ويكفّرونه ، وتشهد بذلك كلماتهم و أشعارهم خصوصاً في مفاوضاتهم مع عليّ ، وقد تضافرت الروايات أنّ حبّه آية الإيمان وبغضه آية النفاق ، ولايمكن لعالم ملّم بالأحاديث انكار ذلك.
    هذا هو مسلم روى في صحيحه عن زر بن حبيش قال : قال عليّ : والذي

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 60.
    2 ـ المبرّد : الكامل 2/186 ، ابن سلاّم (م 273) بدء الاسلام وشرائع الدين : 111 ، مرّت قصة أبي بلال.

خلق الجنّة وبرأ النسمة أنّه لعهد النبيّ الاُميّ إليّ لايحبّني إلاّ مؤمن ولايبغضني إلاّ منافق (1) .
    وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن زرّ بن حبيش ، عن علي قال : عهد النبي إليّ أنّه لايحبّك إلاّ مؤمن ولايبغضك إلاّ منافق (2) .
    ورواه النسائي في خصائصه بعدّة طرق (3) .
    ورواه الحافظ ابن عساكر في تاريخه بأسانيد تربو على 18 طريقاً (4) .
    وعلى ضوء ذلك فهؤلاء محكومون بالنفاق والخلود في النار ، فيشملهم قول النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) في شأن ذي الخويصرة الذي كان في الرعيل الأوّل من المحكّمة : فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة (5) .
    روى المبرّد في الكامل أنّ عليّاً (رضي الله عنه) وجّه إلى رسول الله مذهّبة من اليمن فقسّمت أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن جالس المجاشعي ، وربعاً لزيد الخيل الطائي ، وربعاً لعيينة بن حصن الغزاري ، وربعاً لعلقمة بن علاثة الكلابي ، فقام إليه رجل مضطرب الخلق غائر العينين ناتئُ الجبهة فقال : لقد رأيت قسمة مااُريد بها وجه الله ، فغضب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) حتى تورّد خداه ، ثم قال : أيأمنني الله عزّوجلّ على أهل الأرض ولاتأمنوني؟ فقام إليه عمر فقال : أقتله يا رسول الله؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إنّه سيكون من

    1 ـ مسلم : الصحيح 1 ، كتاب الايمان 60.
    2 ـ أحمد بن حنبل : المسند 1/127. الحديث 948 ، وفضائل الصحابة 2/563 ، ونقله في كتابه الأخير في غير واحد من المواضع ، لاحظ الأحاديث 979 ، 1059 ، 1086 ، 1146.
    3 ـ الحافظ أبو عبدالرحمان النسائي : الخصائص 187.
    4 ـ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق ، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 2/190 ـ 199.
    5 ـ ابن هشام : السيرة النبوية 4/496. ابن الأثير : الكامل 2/164.

ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلاترى ، شيئاً ، وتنظر في الرصاف فلاترى شيئاً ، وتتمارى في الفوق (1) .
    إنّ المحكّمة الاُولى كفّروا من طهّره الله سبحانه في كتابه وقال : ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبُ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَ يُطَهَركُمْ تَطْهِيراً ) (2) وقد اصفقت الاُمّة إلاّ الشواذ من الخوارج كعكرمة على نزول الآية في حقّ العترة الطاهرة ، هذا هو مسلم يروي في صحيحة عن عائشة ، قالت : خرج النبي غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود وجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين بن علي فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) (3) .
    وروى إمام الحنابلة في مسنده نزول الآية في شأن الخمسة الطاهرة ، فمن أراد فليرجع إلى مظانّه (4) .
    إلى غير ذلك من الآيات النازلة في حقّ أهل البيت.
    أفيصحّ لنا الحكم باسلام من يكفّر ويبغض ويقاتل من طهّره الله في نصّ كتابه ، ومحكم ذكره؟
    ولأجل ذلك فالمحكّمة الاُولى محكومون بالكفر والنفاق وإن افترضنا أنّهم اكتفوا بانكار التحكيم فقط ، ولم يستعرضوا المسلمين بالسيف ولم يقتلوا النساء ولا الأطفال ولاكفّروا المسلمين.
    وفي كلمات أئمّة أهل بيت اشارة إلى هذا النوع.

    1 ـ المبرّد : الكامل 2/142.
    2 ـ الأحزاب : 33.
    3 ـ مسلم : الصحيح 7/130.
    4 ـ أحمد بن حنبل : المسند : 4/107 و 6/292 ، 296 و 323.

    كان عبدالله بن نافع بن الأزرق يقول : لو عرفت أنّ بين قطريها أحداً تبلغني إليه الإبل يخصمني بأنّ عليّاً ( عليه السَّلام ) قتل أهل النهروان وهو غير ظالم ، لرحلتها إليه ، فقيل له : إئت ولده محمّد الباقر ( عليه السَّلام ) فأتاه فسأله ، فقال بعد كلام : الحمد لله الذي أكرمنا بنوبّته ، واختصّنا بولايته ، يامعشر أولاد المهاجرين و الأنصار من كان عنده منقبة في أمير المؤمنين ، فليقم وليحدّث ، فقاموا ونشروا من مناقبه فلمّا انتهوا إلى قوله : لاُعطينّ الراية غداً رجلا يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله ، سأله أبو جعفر عن صحّته فقال : هو حقّ لاشكّ فيه ، ولكن عليّاً أحدث الكفر بعد.
    فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : أخبرني عن الله أحبّ علي بن أبي طالب يوم أحبّه وهو يعلم أنّه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ، إن قلت : لا ، كفرت ، فقال : قد علم ، فقال : فأحبّه على أن يعمل بطاعته أم على أن يعمل بمعصيته؟ قال : على أن يعمل بطاعته ، فقال أبو جعفر : قم مخصوماً ، فقام عبدالله بن نافع ابن الأزرق وهو يقول : حتّى يتبّين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، اللهُ يَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه (1) .
    روى الشريف المرتضى عن الشيخ المفيد : أحبّ الرشيد أن يسمع كلام هشام بن الحكم مع الخوارج ، فأمر بإحضار هشام بن الحكم وإحضار عبدالله بن يزيد الاباضيّ (2) وجلس بحيث يسمع كلامهما ولايرى القوم شخصه ، وكان بالحضرة يحيى بن خالد ، فقال يحيى لعبدالله بن يزيد : سل أبا محمّد ـ يعني هشاماًـ عن شيء ، فقال هشام : لا مسألة للخوارج علينا ، فقال

    1 ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل آبي طالب : 2/289 كما في البحار 10/158.
    2 ـ ترجمه ابن حجر في لسان الميزان 3 / 387 بقوله : عبدالله بن يزيد الفزاري الكوفي المتكلّم ، ذكره ابن حزم في النحل : انّ الاباضية من الخوارج أخذوا مذهبهم عنه.

عبدالله بن يزيد ، وكيف ذلك؟ فقال هشام : لأنّكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والإقرار بإمامته وفضله ، ثمّ فارقتمونا في عداوته والبراءة منه ، فنحن على إجماعنا وشهادتكم لنا ، وخلافكم علينا غير قادح في مذهبنا ، ودعواكم غير مقبولة علينا ، إذ الاختلاف لايقابل الاتّفاق ، وشهادة الخصم لخصمه ، مقبولةٌ ، وشهادته عليه مردودة.
    قال يحيى بن خالد : لقد قرَّبت قطعه يا أبامحمّد ، ولكن جاره شيئاً ، فإنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يحبّ ذلك ، قال : فقال هشام : أنا أفعل ذلك ، غير أنّ الكلام ربّما انتهى إلى حدّ يغمض ويدق على الأفهام ، فيعاند أحد الخصمين أو يشتبه عليه ، فإن أحبّ الإنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلا ، إن خرجت عن الطريق ردَّني إليه ، وإن جار في حكمه شهد عليه ، فقال عبدالله بن يزيد : لقد دعا أبومحمّد إلى الإنصاف ، فقال هشام : فمن يكون هذه الواسطة؟ وما يكون مذهبه؟ أيكون من أصحابي ، أو من أصحابك ، أو مخالفاً للملّة أو لنا جمعياً؟ قال عبدالله بن يزيد : اختر من شئت فقد رضيت به ، قال هشام : أمّا أنا فأرى أنّه إن كان من أصحابي لم يؤمن عليه العصبيّة لي ، وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم عليَّ ، وإن كان مخالفاً لنا جميعاً لم يكن مأموناً عليّ ولا عليك ، ولكن يكون رجلا من أصحابي ، ورجلا من أصحابك ، فينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحقّ ومحض الحكم بالعدل ، فقال عبدالله بن يزيد : فقد أنصفت يا أبامحمّد ، وكنت أنتظر هذا منك.
    فأقبل هشام على يحيى بن خالد فقال له : قد قطعته أيّها الوزير ، ودمّرت (1) على مذاهبه كلّها بأهون سعي ، ولم يبق معه شيء ، واستغنيت عن مناظرته ، قال : فحرّك الرشيد الستر ، فأصغى يحيى بن خالد فقال له : هذا متكلّم الشيعة وافق

    1 ـ دمّر عليه : هجم عليه هجوم الشر. دمّر عليه : أهلكه.

الرجل موافقة لم تتضمّن مناظرة ، ثمّ ادّعى عليه أنّه قد قطّعه وأفسد عليه مذهبه ، فمره أن يبيّن عن صحّة ما ادّعاه على الرجل ، فقال يحيى بن خالد لهشام : إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحّة ما ادّعيت على هذا الرجل ، قال : فقال هشام رحمه الله : إنّ هؤلاء القوم لم يزالوا معنا على ولاية أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) حتّى كان من أمر الحكمين ماكان ، فأكفروه بالتحكيم وضلّلوه بذلك ، وهم الّذين اضطرّوه إليه ، والآن فقد حكّم هذا الشيخ وهو عماد أصحابه مختاراً غير مضطرّ رجلين مختلفين في مذهبهما : أحدهما يكفّره ، والآخر يعدّله ، فإن كان مصيباً في ذلك فأمير المؤمنين أولى بالصواب ، وإن كان مخطئاً كافراً فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها ، والنظر في كفره وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليّاً ( عليه السَّلام ) قال : فاستحسن ذلك الرشيد و أمر بصلته وجائزته (1) .
    إنّ عداء القوم بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين كانت ظاهرة في كتب أوائلهم ، هذا هو محمّد بن سعيد الكدمي أحد علماء المذهب الاباضي بعمان ، حتى لُقّب بإمام المذهب في القرن الرابع الهجري يذكر عليّاً في كتابه ويقول :
    « إنّ علي بن أبي طالب استخلف على الناس ، ونقض عهد الله وحكم في الدار غير حكم كتاب الله ، وقتل المسلمين وسار بالجور في أهل رعيّته ، فعلى الذي قد صحّت منه سعادة عليّ بن أبي طالب أن يتولّى لله علي بن أبي طالب على سفكه لدماء المسلمين وعلى تحكيمه في الدماء غير حكم كتاب الله ، وسيرته القبيحة ، لا يحلّ له الشك في ولايته ، وعليه أن يبرأ لله من باطله ومن سفك دمه إن قدر على ذلك ، وليس له أن ينكر على المسلمين

    1 ـ الشريف المرتضى : الفصول المختارة 1/26.

البراءة منه » (1) .
    وهذا هو ابن سلاّم الاباضي المتوفّى بعد عام 273 يقول : « وحكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله ، وحكّموا الحكمين في أمر قضاه الله ، واختلفت الاُمّة وتفرّقت الكلمة ، وصار الناس شيعتين مفترقتين ، وظهر أهل الباطل من أصحاب معاوية على أهل الحق ، فاختفى المسلمون بالحقّ الذي تمسّكوا به فاختلفت عليهم كلمة المختلفين ، يقتلونهم على دين الله الحنيف والملّة الصادقة ( مِلَّةَ إبْراهيِمَ حَنيِفاً وَ ما كانَ مِنَ المُشْرِكينَ ) (2) . يبصّرون الناس دينهم في السرّ ويصبرون في الله على الأذى والقتل ، واحتقروا ذلك في ذات الله » (3) .
    ياليت ابن سلاّم يشير إلى الذين حكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله ، إلى الذين فرضوا التحكيم على الإمام المفترض طاعته في أمر قضاه الله. أو ليس هؤلاء أشياخه وأولياءه الذين كانوا مقنّعين في الحديد يدعون إمامهم باسم عليّ لابإمرة المؤمنين ، ويقولون : « أجب القوم إلى كتاب الله وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ».
    إنّ الكاتب نسى أو تناسى الجرائم المريرة التي ارتكبتها المحكّمة الاُولى حين تنقّلهم من حروراء إلى النهروان. فكان الأولى له التنويه بذلك ، لكّنه شطب على هذه الحقائق التاريخية بقلم عريض ، وإلى الله المشتكى.
    يقول بعض فقهائهم في مسألة « الولاية والبراءة ».
    فإن قالوا : فما تقولون في علي بن أبي طالب؟ قلنا له : إنّ علي بن أبي طالب مع المسلمين في منزلة البراءة.

    1 ـ الكدمي ـ محمّد بن سعيد : المعتبر 2/41.
    2 ـ البقرة : 135.
    3 ـ ابن سلام الاباضي : بدء الاسلام وشرائع الدين 106.

    فإن قال : من أين وجبت عليه البراءة وقد كان إماماً للمسلمين وهو ابن عم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وختنه (1) ، مع فضائله المشهورة وقتاله بين يدي النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) المشركين؟
    قلنا له : أوجبنا عليه البراءة من وجوه شتّى ، أحدها أنّه ترك الحرب التي أمر الله بها للفئة الباغية قبل أن تفئ إلى الله ، و أحدها تحكيم الحكمين في دماء المسلمين وفيما لم يأذن الله به المضلّين الذين كان النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يحذّرهما ويخوّفهما أصحابه.
    وأحدهما بقتله أهل النهروان وهم الأفضلون من أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وهم الأربعة آلاف رجل من خيار الصحابة رحمهم الله. والأخبار بذلك تطول ويضيق بها الكتاب ويتّسع بها الجواب ولم نعدّ كتابنا هذا لشرح جميع أخبارهم ، وإنّما أردنا أن نلوّح لكم ونذكر بعض الذي كان من أحداثهم ، لتكونوا من ذلك على علم ومعرفة لتعلموا ضلال من ضلّ وخالف وشغب عليكم وبالله التوفيق.
    فإن قالوا : فما تقولون في طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام؟ قلنا له : إنّهما عند المسلمين بمنزلة البراءة.
    فإن قال : من أين وجبت عليهما البراءة؟ قلنا له : بخروجهما على علي بن أبي طالب والمسلمين وطلبهما بدم عثمان بن عفان بإرادتهما إزالة علي بن أبي طالب عن إمامته ، وقالا : حتى يكون الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم إماماً غيره ، بعد رضائهما به وبيعتهما له وأعطيا صفقة أيديهما (2) على طاعة الله وطاعة رسوله وعلى قتال من خرج يطلب بدم

    1 ـ الختن : الصهر ، زوج الابنة ، والجمع : أختان.
    2 ـ صفقة الأيدي تعني توكيد البيعة.

 

عثمان بن عفان.
    فإن قال : فما تقولون في الحسن والحسين ابني علي؟ قلنا له : هما في منزلة البراءة ، فإن قال : من أين أوجبتم عليهما البراءة وهما ابنا فاطمة ابنة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟! قلنا له : أوجبنا عليهما البراءة بتسليمهما الإمامة لمعاوية بن أبي سفيان وليس قرابتهما من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) تغني عنهما من الله ، لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال في بعض ما أوصى به قرابته : يا فاطمة بنت رسول الله ، ويا بني هاشم ، اعملوا لما بعد الموت ، فإنّي ليس أغني عنكم شيئاً ، أو نحو ذلك من الخطاب. فلو كانت القرابة من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) تغني عن العمل لم يقل ذلك لهم النبي. فهذا نقض لقول من يقول : إنّ القرابة من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) مغفور لها. وقد وجدنا الله يهدّد نبيه بقوله : ( وَ لِوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ* لاََخَذْنا مِنْهُ بِالَْيمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حاجِزِينَ ) (1) . فقد بطل ما خاصمت به أيّها الخصم واحتججت به من قبل القرابة للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) (2) .
    إنّ الخوارج في مصطلح القوم مفهوم سياسي وفي الوقت نفسه مفهوم ديني ، فيراد من الأوّل خروجهم عن طاعة الإمام المفترض طاعته ، ويحكم عليهم بما يحكم على البغاة ، ويراد من الثاني خروجهم من الدين والملّة ، وصيرورتهم كفّاراً.
    وعلى كلا المفهومين ، فالمحكّمة الاُولى خوارج ، حيث خرجوا عن

    1 ـ الحاقة : 44 ـ 47.
    2 ـ السير والجوابات لبعض فقهاء الاباضية : تحقيق الاستاذة الدكتورة « سيدة إسماعيل كاشف ، استاذة التاريخ الاسلامي في كلية البنات جامعة عين شمس; القاهرة ط 1410 هـ ـ 1989 م ، ص 375 ـ 377.

طاعة الإمام وبقوا عليه في أثناء المعركة ، وخارجون عن الدين حيث أبغضوا من بغضه نفاق وكفر وحبّه دين وإيمان.
    وقال عمر أبوالنظر :
    وتعاليم الخوارج منذ ظهورهم مزيج من السياسة والدين ، فشعارهم « الحكم لله » شي يمتزج بالدين والسياسة معاً ، فلا يصحّ والحالة هذه أن يقال : إنّ دعوتَهم هذه كانت دينيّة محضة أو سياسية محضة ، وظلت دعوتهم بسيطة حتى خلافة عبدالملك بن مروان حيث خرجوا فيها كثيراً عن التعاليم الجديدة ، وذهبوا يتأوّلون الأحكام الدينية تأويلا فيه كثير من الاغراق و التعقيد ، فقالوا : إنّ العمل بأوامر الدين من الايمان ، فمن اعتقد التوحيد والرسالة وارتكب الكبائر فهو كافر (1) .
    هذا ما يرجع إلى المحكّمة الاُولى ومن جاء بعدهم من الأوائل المنتمين إلى الاباضية.
    وأمّا اباضية اليوم المنتشرة في عمان والمغرب العربي أعني ليبيا والجزائر وتونس وكذلك مصر ، فلم يظهر لنا من كتبهم المنتشرة اليوم إلاّ تخطئة التحكيم وتصويب المحكّمة الاُولى من دون نصب عداء للوصيّ أو بذاءة في اللسان بالنسبة إليه ـ إلا ما نقلناه أخيراً ـ فلايمكن الحكم في حقّهم إلاّ بالمقدار الذي ظهر لنا ولكن لايمكن الوثوق به لأنّ للقوم في الدين مسالك أربعة ، منها مسلك الكتمان كما سيوافيك توضيحه عند البحث عن التقّية ، فإنّ القوم من أصحابها ومجوّزيها والعاملين بها طيلة قرون ، وفي ظلّها عاشوا ومهّدت لهم الطريق ، وقامت لهم دول في عمان ، وفي أقصى المغرب العربي.

    1 ـ عمر أبو النضر : الخوارج في الإسلام 102.

نظرية اُخرى في مفهوم الخوارج :
    المتبادر من الخوارج لدى المسلمين هو المحكّمة الاُولى الذين ثاروا على عليّ في ثنايا حرب صفّين وخرجوا عن الطاعة بوجه وعن الدين بوجه آخر ، غير أنّ بعض الاباضيين في العصر الحاضر يفسّره بالخروج عن الدين ويصّر على أنّ المراد منه هو أصحاب الردّة بعد وفاة رسول الله أو الثورات الاُخرى التي وقعت إلى انتهاء خلافة الإمام علي ( عليه السَّلام ) (1) .
    قال علي يحيى معمر :
    « كان الأمويّون والشيعة يحاولون بكل ما استطاعوا أن يلصقوا هذا اللقب لقب الخوارج ـ بعد أن فسّر بالخروج من الدين ـ بهؤلاء الثائرين الذين ينادون في اصرار وشدّة بالمبادىء العادلة في الخلافة ، وكان الشيعة يحاولون بما اُوتوا من براعة أن يحصروها في بيت علي ، كما كان غير هم من الطامعين فيها ، يشترط لها الهاشمية أو القرشية أو العروبة ، حسب المصلحة السياسية لأصحاب الآراء في ذلك الحين ، وكلّ هذه الاّتجاهات تجتمع على محاربة الاّتجاه الذي اتجه إليه أتباع عبدالله بن وهب الراسبي. ذلك الاّتجاه العادل الذي يرى أن ّ المسلمين متساوون في الحقوق والواجبات. ( إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُم ). « لا فضل لِعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى ».
    يلاحظ عليه :
    أنّ النبيّ الأكرم لم يتكلّم عن الخوارج بوصف كلّي وإنّما عيّن إمامهم وأشار إلى قائدهم ، وقد رواه المحدّثون في صحاحهم ومسانيدهم وأطبق على نقله الفريقان ، فلا يمكن لمحدّث واع انكاره ، ولا التشكيك في صحّة أسانيده ، فما ظنّك بحديث رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد بن حنبل وغيرهم ،

    1 ـ علي يحيى معمر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 27.

ولأجل ايقاف القارىء على نصّ الرواية نذكرها عن تلك المصادر ونشير إلى محلّها :
    1 ـ روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : بينا النبي يقسّم ذات يوم قسماً ، فقال ذو الخويصرة ـ رجل من بني تميم ـ : يا رسول الله أعدل. قال : ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر : إئذن لي فلأضرب عنقه؟ قال : لا إنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. يمرقون من الدين كمروق السهم من الرميّة ينظر إلى نصله (1) فلايوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيّه (2) فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى قذذه (3) فلا يوجد فيه شيء سبق الفرث والدم ، يخرجون على حين فرقة من الناس آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر (4) . قال أبو سعيد : أشهد لسمعته عن النبي وأشهد أنّي كنت مع عليّ حين قاتلهم فالتمس في القتلى فأتى به على النعت الذي نعت النبي (5) .
    ورواه بنصّه بلا تفاوت مسلم في صحيحه (6) .
    2 ـ روى ابن ماجة عن جابر بن عبدالله ، قال : كان رسول الله بالجعرانه ، وهو يقسّم التبر و الغنائم ، وهو في حجر بلال ، فقال رجل : أعدل يا محمّد ، فإنّك لم تعدل ، فقال : ويلك ومن يعدل بعدي إذا لم اعدل؟ فقال عمر : دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال رسول الله : إنّ هذا في

    1 ـ هي عصية تلوى فوق مدخل النصل.
    2 ـ هو القدح في عود السهم.
    3 ـ جمع القُذّة وهي ريش السهم.
    4 ـ تضطرب وتتحرك.
    5 ـ البخاري : الصحيح 8/70 رقم الحديث 186 من باب ما جاء في قول الرجل ويلك.
    6 ـ مسلم : الصحيح 3/112 طبعة محمّد على صبيح.

أصحاب أو اصيحاب له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (1) .
    والرسول وإن لم يسمّ الرجل أو لم يجيء اسمه في الرواية ، ولكن علم المقصود منه بفضل الروايتين السابقتين.
    3 ـ روى أحمد بن حنبل في مسنده بالنصّ الذي رواه البخاري ومسلم بتفاوت طفيف في آخره ، حيث جاء فيه : رجل أسود في إحدى يديه أو قال إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ، يخرجون على حين فترة من الناس فنزلت فيهم : ( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ... ) ثم نقل ما ذكره أبوسعيد من سماعه عن رسول الله و مشاهدته في عصر عليّ (2) .
    كيف يفسّر حديث ذي الخويصرة بأصحاب الردّة ، فقد أشار النبيّ الأكرم إليه ، وقال : « سيخرج من ضئضىء هذا الرجل قوم يمرقون من الدين ... » ولم يكن هو من أصحاب الردّة ، بل كان من المحكّمة الاُولى. كيف يفسرّ هذا المفهوم بالثورات التي وقعت إلى انتهاء خلافة الإمام عليّ ( عليه السَّلام ) مع أنّ النبي الأكرم قال : أنت يا علي قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، ولم يقاتل الإمام بعد أصحاب الجمل (الناكثين) وأصحاب معاوية (القاسطين) إلاّ المحكّمة الاُولى.
    أظنّ انّ هذه الاستدلالات الواهية أشبه بتمسّك الغريق بالطحلب ، فالأولى على علماء الاباضية المفكّرين ، والعائشين في عصر ظهرت البواطن ، وطلعت الحقائق ، وانقشع غمام الجهل عن سماء المعرفة ، أن يعرضوا عقائدهم على الكتاب والسنّة ، وعلى المقاييس الصحيحة من الاجماع و

    1 ـ أبو عبدالله بن ماجة (207 ـ 275 هـ) : السنن 1/171 الباب 12 ، باب في ذكر الخوارج.
    2 ـ أحمد بن حنبل : المسند 3/56. وسيوافيك مجموع ما رواه اهل السنّة عن النبي والصحابة والتابعين في آخر الكتاب فانتظر.

العقل ، فلربّما عادوا إلى الطريق المهيع ، وتنكّبوا عن سبيل الغواية ، فلهم أن يعملوا بما وصل إليهم من الكتاب والسنّة في ضوء الاجتهاد الصحيح ، ويجدّدوا النظر في مسألة التحكيم كما لهم أن يجدّدوا النظر في حق المحكّمة ، وربّما اختاروا طريقاً واضحاً لاتعصّب فيه ولا تساهل.

( وَ لَوْ أنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ واَشدٌّ تثبيتاً )

 

عقائد الاباضية واُصولهم الثمانية

 

    إنّ الاباضية تشترك مع سائر فرق الخوارج في أمرين بلاشك ولاشبهة ، ولا يمكن لأحد منهم انكاره.
    1 ـ تخطئة التحكيم.
    2 ـ عدم اشتراط القرشية في الإمام.
    وفي ظل الأصل الأوّل يوالون المحكِّمة الاُولى كعبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير السعدي وغيرهما ، ولأجل الأصل الثاني ، اعترفوا بإمامة عبدالله بن وهب الراسبي ومن جاء بعده من المحكِّمة.
    ثمّ إنّ لهم اُصولا خاصّة يتميّزون بها عن أهل السنّة (الأشاعرة) وإن كانوا يلتقون فيها مع غيرهم ، فتجب علينا دراسة تلك الاُصول التي يعتقدون بها ، وربّما يكون بعضها أصلا لامعاً ورصيناً يدعمه الكتاب والعقل.

1 ـ صفات الله ليست زائدة على ذاته :
    إذا كانت الأشاعرة قائلة بأنّ صفات الله تعالى غير ذاته ، وكان المنسوب إلى الماتريدية من أهل السنّة انّ الصفات ليست شيئاً غير الذات ، فهي ليست

صفات قائمة بذاتها ولا منفكّة عن الذات فليس لها كينونة مستقلّة عن الذات ، فهذا هو ما يقوله الاباضية في الصفات أيضاً ، وربّما يلتقي الاباضية والماتريدية في هذه المسألة حتى في التعبير واختيار الكلمات (1) .
    إنّ البحث عن الصفات من أهم المسائل الكلامية ، فقد طال النقاش فيها قروناً ، وأوّل من أصحر بالحقيقة ، وصوّر التوحيد بأعلى مظاهره هو الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) فنفى زيادة صفاته على ذاته ، وإنّه عين ذاته ، لا بمعنى نفي صفاته ، تعالى عنه علوّاً كبيراً ، بل بمعنى أنّ الذات بلغت من الكمال والعلو مرتبة صارت نفس العلم ، والقدرة ، والحياة ، وليس هناك صفات قديمة وراء الذات حتى يناقض التوحيد ويكون هناك قدماء كثيرة وراء الذات ، وكون العلم والقدرة والحياة فينا اُموراً قائمة بالمادة أو بالموضوع ، لايكون دليلا على كونها كذلك في جميع المراتب ، إذكما أنّ من العلم ممكناً ، فكذا منه واجباً ، فلولم يكن الممكن قائماً بالذات ، فلايكون دليلا على كونه كذلك عند ما كان واجباً ، والحكم بالتوحيد وانّه لاواجب سواه ، يجرّنا إلى القول بعينية صفاته مع ذاته ، وقد أوضحنا الحال فيها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة ، ولايبعد أن يتأثّر الخوارج في هذه المسألة بالمعتزلة كما أنّ المعتزلة اخذت هذا الأصل من خطب الإمام أميرالمؤمنين وكلماته ، بل لايبعد أن يكون الجميع قد أخذوا من الإمام أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ).
    والعجب انّ هذه النقطة من النقاط الوضّاءة في عقائد الاباضية ، مع أنّهم لايركّزون على ذلك الأصل خوفاً من مخالفة الأشاعرة ، وطفقوا يبحثون بين الكتب الإسلامية حتى يجدوا موافقاً لهم من أهل السنّة حتى استبان لهم أنّ الماتريدية من أهل السنّة يوافقونهم.

    1 ـ علي يحيى معمر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/295.

    إنّ الرجل الواعي الطالب للحقيقة لا يخاف من لومة لائم ، ولا من مخالفة فئة ، فكان على الاباضية أن يرفعوا علم المخالفة في هذه المسألة ، وفي مسألة الرؤية ، وخلق القرآن ، ويندّدوا بالمخالفين سواء أكانوا من السنّة أو غيرهم ، فالحق أحق أن يتّبع ، كيف يصحّ لموحّد أن يقيس الواجب بالممكن فيصوّر له ذاتاً وصفة قائمة بها ، ويحكم بالتعدّد ويخرج في النتيجة بالقدماء الثمانية ثمّ يدّعي التوحيد ويخطّىء النصارى القائلين بالتثليث.
    ثمّ إنّ من يرى أنّ مرجع عينية الصفات إلى نفي حقائقها عن ذاته ، (كما عليه الزنادقة) رأي باطل صدر ممّن لاقدم له في المباحث العقلية ، وليس له مصدر إلاّ قياس الممكن بالواجب ، فإذا رأى أنّ القول بالعينيّة ينتج نفيها في الممكنات ، عاد يخطّىء القائل بالعينيّة في الواجب بأن معناها نفي حقائقها عن ذاته سبحانه.

2 ـ امتناع رؤية الله سبحانه في الآخرة :
     إنّ امتناع رؤية الله سبحانه من الاُصول التي استقاها الوعاة من المسلمين من القرآن الكريم وخطب سيّد الموحّدين أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) إذ قال عزّ من قائل : ( لا تُدْرِكَهُ الأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (1) .
    وهذا الأصل أيضاً من الاُصول اللامعة في عقائد الاباضية ، والأسف انّ الكُتّاب المتأخّرين منهم يُقلِّلون من أهمية هذا الأصل ، توخّياً لتقريب عقائدهم من أهل السنّة. حتى أنّ علي يحيى معمَّر يُعَنْوِنُ المسألةَ بقوله : هل رؤية الباري جلّ وعلا في الآخرة ممكنة؟ والعنوان يحكي عن وجود ترّدد وشك في نفس الكاتب ، ولا أقل يطرح المسألة على شكل غير قطعي وعلى خوف ووجل ،

    1 ـ الأنعام : 103.

وليس كتابه كتاباً دراسياً يطلب فيه طرح المسائل على وجه السؤال والاستفهام.
    ثمّ إنّه يكتب : قد كان في الرؤية طرفان متطرّفان ووسط معتدل هوكان اللقاء بين المذهبين ، وذلك إنّ طرف الاثبات يبالغ حتى يصل به التطرّف إلى حدّ التشبيه والتمثيل والتحديد ، وطرف النفي يبالغ حتّى يصل به التطرّف إلى حد نفي حصول كمال العلم ، وبينهما يقف أصحاب التحقيق في الجوانب المتقاربة التي تلتقي في المعنى الواحد لقاءً كاملا أو لقاءً متقارباً ، وهذه الصورة تتمثّل فيما ذهب إليه بعض علماء أهل السنّة من أنّ الرؤية معناها حصول كمال العلم بالله تبارك وتعالى ، وعبَّر عنها آخرون منهم بأنّ الرؤية تقع بحاسّة سادسة هي كمال العلم ، واختلفت تعابير الكثير منهم ولكنّها تتلاقى في النهاية على نفي كامل الصورة التي يتخيّلها الإنسان لصورة راء ومرئىّ وما تستلزمه من حدود وتشبيه ، وتتّفق في النهاية على الابتعاد عمّا يشعر بأيّ تشبيه في أيّ مراتبه ، وبالمحدودية في أيِّ أشكالها ، وليس لنا أن نخوض فيه بغير القدر التي جاءت به النصوص.
    والمعتدلون من الاباضية لايمنعون أن يكون معنى الرؤية هو كمال العلم به تعالى ويمنعون الرؤية بالصورة المتخّيلة عند الناس (1) .
    عزب عن الكاتب انّ محلّ النزاع من القرن الأوّل إلى القرون المتأخّرة ليس إلاّ الرؤية بالأبصار لابحاسّة سادسة سمّاها كمال العلم ، فإنّ القائلين بالرؤية يستندون إلى ما رواه البخاري وأمثاله من أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « إنّكم ترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر غير متضامّين » ، فليس للمحقّق الكلامي إلاّ موافقة هذا الأصل أو طرده من الرأس ، فاللجوء إلى الرؤية بحاسّة سادسة بمعنى كمال العلم تفسير بأمر بائن وخروج عن محطّ البحث.

    1 ـ علي يحيى معمِّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/291 ـ 292.

    وأظن وظن الألمعي يقين انّ الكاتب توخّياً لإيجاد القرب بين الاباضية وأهل السنّة تنازل إلى حدّ غير مطلوب ، ولم يقم بالدفاع عن مذهبه بحماس.
    نعم قد أحسن في المقام صالح بن أحمد الصوافي ، فقد طرح المسألة بشكل رصين ، ودفع شبهة القائلين في المقام ، ترى أنّه قام بتفسير قوله سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئذ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (1) ، الذي هو من أهم أدلّة القائلين بالرؤية ، فقال :
    « أوّلا : النظر في اللغة غير الرؤية ، ولذا يقال : نظرت إلى الهلال فلم أره ، ولايصحّ أن يقال رأيته فلم أره ، واطلاقه على الرؤية مجاز ، لايصحّ إلاّ لقرينة ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز خلاف الظاهر.
    ثانياً : إنّ سياق الآية دال على انتظار رحمة الله تعالى بدليل أنّه عطف عليها قوله : ( وَ وَجُوهٌ يَوْمَئِذ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بَها فاقِرَةُ ) (2) فلو فسّر النظر في الآية بالرؤية لارتفعت المناسبة بين الجملتين ولتداعى بناؤها واختلّ نظمها ، إذ لامناسبة بين عيون رائية ربّها ووجوه باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة (3) .
    ثالثاً : إنّ النظر في الآية انتظار ما لهم عند الله من الثواب ، ومنه قول الشاعر :

فإن يك صدر هذا اليوم ولّى
 

 
 

فإنّ غداً لناظره قريب

    وقول الآخر :

كلّ الخلائق ينظرون سجاله
 

 
 

نظر الحجيج إلى طلوع هلال

    1 ـ القيامة : 22 ـ 23.
    2 ـ القيامة : 24 ـ 25.
    3 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 238 وقد أوضحنا هذا الوجه في الجزء الثاني من هذه الموسوعة (لاحظ ص 202 ـ 208).

    وقول الآخر :

وكنّا ناظريك بكل فجّ
 

 
 

كما للغيث ينتظر الغماما

    وقال امرؤ القيس :

وقد نظرتكم أعشى بخامسة
 

 
 

للورد طال بها حبّي وتبساسي (1)


3 ـ القرآن حادث غير قديم :
    إنّ المترقّب من الأباضية الذين رفضوا القشرية ، وخضعوا للعقل ، أن يكون موقفهم في خلق القرآن موقف العدلية ويصرّحوا بأنّ القرآن مخلوق لله سبحانه وحادث بعد أن لم يكن ، لكونه حادثاً ومخلوقاً لله سبحانه غير أنّ الظاهر من بعض كتّابهم أنّهم يتحرّجون من التصريح بخلق القرآن وإن كانوا بعداء عن القول بكونه قديماً غير مخلوق. وننقل في المقام نصّين من كتّابهم ، حتى تلمس الحقيقة.
    1 ـ يقول الدكتور رجب : وبالنسبة لمشكلة خلق القرآن نراهم يقفون أمام هذا القول الذي فرضه المأمون على العالم الإسلامي فرضاً بتأثير من المعتزلة ، ممّا أدّى إلى تمزيق وحدة الاُمّة الفكرية ، وإلى اضطهاد كثير من العلماء والفقهاء ، ولذلك توقّف العمانيون عن القول بخلق القرآن ، وقالوا في صراحة واضحة في واحد من أهمّ كتبهم الفقهية : « لا يلزم الناس معرفة هذه المسألة » وكتب أبو عبدالله القلهاتي الذي عاش في القرن الرابع للهجرة ـ العاشر للميلاد ـ أكثر من عشرين صفحة في مناقشة القول بخلق القرآن والردّ على من قال بذلك ، كما كتب أحمد بن نظر العماني الذي عاش في القرن الخامس للهجرة

    1 ـ المصدر نفسه ، وقد اغرق نزعاً في التحقيق في اثبات القول الحق وتنزيهه ، والتبساس : هو الشوق الشديد.

ـ الحادي عشر للميلادـ في كتابه دعائم الإسلام خمسة وسبعين بيتاً من الشعر ، فندّد القول بهذه المسألة واستنكرها كل الاستنكار. وفي العصر الحديث نجد الشيخ نورالدين السالمي يعبّر عن هذا الموقف قائلا : « إنّ الأشياخ توقّفوا عن اطلاق القول بخلق القرآن وأمروا بالشدة على من أطلق القول في هذه المسألة ، حتى لايفتتن الناس في دينهم » (1) .
    ترى في هذا الكلام التناقض ، فبينما ينقل عن بعضهم الرد على من قال بخلق القرآن ينقل عن الأشياخ انّهم توقّفوا عن اطلاق القول بخلق القرآن ، وأمروا بالشدّة على من أطلق القول في هذه المسألة.
    لاشكّ إنّ القرآن ليس بمخلوق أي ليس بمختلق للبشر كما قال سبحانه حاكياً عن بعض المشركين : ( إنْ هذا إلاّ قَوْلُ البَشَرِ ) (2) ولكنّه مخلوق لله سبحانه ، إذ لايتجاور كون القرآن فعله ، وفعله كلّه حادث غير قديم ، وإلاّ يلزم تعدّد القدماء وأما علمه سبحانه بما في القرآن من المضامين والمعارف والحوادث فلاشك إنّه قديم ، وهو غير كلامه.
    فاللائق بمن يصف نفسه بأنّه أهل تقييد لاتقليد أن يصرّح بموقفه في مسألة خلق القرآن ، اللّهم إلاّ إذا كان موجباً للفتنة أو كانت عقول الناس بعيدة عن درك الحقيقة ، فحينئذ الأولى عدم البحث والطرح.
    ونؤكّد من جديد أنّ القول بعدم قِدم القرآن هو من الاُصول الوضّاءة في عقائد الاباضية ، وهم في الاعتقاد بها عيال على المعتزلة ، فاللائق بالكاتب الواعي أن يجهر بالحق ويحدّد محل النزاع ، وياللأسف انّ بعضهم ـ مثل الكاتب السابق ـ بدل أن يخرج من المسألة مرفوع الرأس ، ويحقّقها على ضوء

    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الأباضية في مصر والمغرب : 70 ـ 71.
    2 ـ المدثر : 25.

القرآن والعقل ، طفق يطلب من يقول بكون القرآن مخلوقاً من بين أهل السنّة.
    2 ـ يقول علي يحيى معمّر : إنّ من علماء أهل السنّة من يقول دون تحرّج أو احتراز : « القرآن مخلوق » فقد ذكر الخطيب البغدادي من طرق متعدّدة عن أبي يوسف انّ أبا حنيفة كان يقول : القرآن مخلوق ، أمّا أبو منصور الماتريدي ، فقد كان يقول : إنّه محدث ، ولم يحفظ عنه أنّ قال : مخلوق ، وقد كان أبو النضر العماني من أئمّة الاباضية يقول : إنّ القرآن غير مخلوق ، وأنكر انكاراً شديداً على من يقول بخلق القرآن ، وذهب القطب من أئمّة الاباضية انّ هذه المسألة ليست من الاُصول ، وقال أبو إسحاق طفيش : إنّ الخلاف فيها لفظي ، وهذا القدر كاف للدلالة على اللقاء بين المذهبين ، ويكفي أن يلتقي المسلمون على حقيقتين في هذا الموضوع : هي أنّ الله تبارك و تعالى سميع بصير متكلّم وانّ القرآن الكريم كلام الله عزّوجلّ أنزله على رسوله (1) .
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ناش من توخّي ايجاد اللقاء بين المذهبين : الأشاعرة والاباضية ، فلأجل ذلك ذهب ليجد من أهل السنة من يقول بأنّ القرآن مخلوق ، ومن أئمّة الاباضية من يقول : بأنّ القرآن غير مخلوق ، وهذا يعرب عن أنّه لم يتّخذ الكاتب في هذا الموقف رأياً حاسماً أوليس للأباضية فيه رأي جازم ، مع أنّ المنقول منهم كونه حادثاً أو غير قديم أو مخلوقاً بمعنى أنّه أنزله الله سبحانه وأوجده من العدم.
    فكان من الواجب على الكاتب أن يدافع عقيدته وعقيدة طائفته ويطرحها بوضوح ويذبَّ عنها ذبّاً علميّاً تحقيقياً متحرّياً للواقع.
    ثمّ إنّ ما ذكره في ذيل كلامه من أنّه « يكفي أن يلتقي المسلمون على أنّ القرآن الكريم كلام الله عزّوجلّ أنزله على رسوله ». وإن كان كلاماً صحيحاً ،

    1 ـ علي يحيى معمرّ : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/291.

إذ ليس الاعتقاد بالحدوث والقدم في القرآن من الأصول العقائدية التي يناط بها الإسلام و الكفر ، غير أنّه لو كان هذا هو الأصل الثابت في جميع المواقف فليضرب هذا الكاتب الاباضي صفحاً على الأصول التي اتّخذها اُصولا لمذهبه كمسألة التحكيم وولاء المحكّمة الاُولى ، أو ليس ذلك أوفق بالتقريب و توحيد الاُمّة وجعلهم صفّاً واحداً في مقابل الأعداء؟
    إنّ البحث عن التحكيم و المحكّمة وخلق القرآن وعدمه ومايأتي من الاُصول الاُخرى للاباضية من خلود الفاسق في النار وعدمه ، وكونه كافراً كفر النعمة ، بحوث علمية يختصّ فهمها بالمحقّقين والوعاة من علماء الإسلام ، فالتحيّز إلى هذه الاُصول وجعلها محاور للحقّ والباطل والإسلام والكفر ، لايدعمه الكتاب ولا يوافقه العقل ، فليكن شعار الجميع ما سمحت به قريحة شاعر الأهرام :

إنّا لتجمعنا العقيدة أمّة ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا
 

 
 

ويُضمّنا دين الهدى أتباعا مهما ذهبنا في الهوى أشياعا

    والحق إنّ الخوارج بالمعنى العام الذي يعمّ الاباضية لم يكن يوم ظهورها إلاّ حزباً سياسيّاً يهدف إلى تخطئة مسألة التحكيم مع عزل علي عن الحكومة والدعوة إلى بيعة رئيس المحكّمة الاُولى عبدالله بن وهب ، ولم يكن لهم يومذاك أي شأن في المسائل العقائدية الماضية ، ولمّا قضى عليٌ نحبه واستولت الطغمة الغاشمة من الأمويين و المروانيين على منصَّة الحكم ، صار الخوارج يكافحون الحكومات ، ويصارخون في وجوههم للقضاء عليهم ولم يكن لهم في هذه الأيّام أيضاً إلاّ هذا الأصل ، غير أنّ مرور الزمن وتلاقي الخوارج مع المعتزلة وغيرهم من الطوائف الإسلامية ، ألجأهم إلى أن يّتخذوا في بعض المسائل موقفاً فكريّاً ، فعند ذلك أصبحوا جمعيّة دينية وفرقة كلامية بعد ما كانوا حزباً سياسياً بحتاً

فتلاقوا في هذه المسائل مع المعتزلة بل تأثّروا بهم كما هو الحال في المسألة التالية ، فقد تأثرت الاباضية فيها عن المعتزلة وخالفوا الشيعة وغيرهم من الطوائف الإسلامية.

4 ـ الشفاعة : دخول الجنّة بسرعة :
    إنّ مرتكبي الكبيرة عند الاباضية إذا ماتوا بلا توبة ، محكومون بالخلود في النار ، فلأجل هذا الموقف المسبَّق في هذه المسألة فسّروا الشفاعة بدخول المؤمنين الجنّة بسرعة ، وفي الحقيقة خَصُّوها بغير المذنبين من الاُمّة ، وهذا التفسير يوافق ما عليه المعتزلة من أنّ الغاية من الشفاعة هو رفع الدرجة لامغفرة الذنوب.
    إنّ الشفاعة أمر مسلّم عند جميع المسلمين غير أنّهم اختلفوا في تفسيرها ، وهؤلاء كالمعتزلة ذهبوا إلى أنّ شفاعة النبيّ بل شفاعة جميع الشفعاء لاتنال أهل الكبائر متمسّكاً بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « ليست الشفاعة لأهل الكبائر من اُمّتي ».
    يقول السالبي في كتابه شرح أنوار العقول : « فإن قيل : المؤمنون مستوجبون للجنّة بأعمالهم فلا معنى للشفاعة ، فالجواب أنّ الشفاعة لهم هي طلب تنقلهم من المحشر ، ودخولهم الجنّة بسرعة » (1) .
    يلاحظ عليه : أنّ الشفاعة مسألة قرآنية ، وفي الوقت نفسه مسألة روائية وحديثية ، فلا يجوز لمسلم الإدلاء برأي إلاّ بعد الرجوع إلى المصدرين الرئيسيّين مجرّداً عن كل رأي ، وأمّا تفسيرها على ضوء الرأي المسبق فهو من قبيل التفسير بالرأي الذي حذَّر عنه النبي في الحديث المتواتر عنه و قال : « من

    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 256 ، نقلا عن مشارق أنوار العقول : 294.

فسّر القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النار » (1) .
    إنّ مسألة الشفاعة ليست مسألة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين اُمم العالم من قبل ، وخاصّة بين الوثنيين واليهود ، فلو ذكرها القرآن فإنّما يذكرها بالمفهوم الرائج عندهم ، لا بمفهوم مغاير ، فلو أمضاها ، فإنّما أمضاها بهذا المفهوم ، ولو هذّبها من الخرافات وحدّدها في اطار خاص فإنّما هذّب ذلك المفهوم وحدّده ، ومن المعلوم أنّ الشفاعة عندهم إنّما هو لغفران الذنوب لالرفع الدرجة أو سرعة التنقّل إلى الجنّة ، ولأجل ذلك كانوا يرجون لصلتهم بالأنبياء حطَّ ذنوبهم ، وغفران آثامهم ، وكان المتطرّفون منهم يرتكبون الذنوب تعويلا على الشفاعة.
    وفي هذا الموقف وردّاً على ذلك التطرّف الباعث للجرأة ، يقول سبحانه : ( مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِاِذْنِهِ ) (2) ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشفاعة المقترنة بالخرافة : ( وَلا يَشْفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارْتَضَى ) (3) .
    ومن تدبّر في الآيات الواردة حول الشفاعة أيجاباً وسلباً ، يقف على أنّ الإسلام قَبِلَ الشفاعة بنفس المفهوم الرائج بين الاُمم ، لكن حدّدها بشروط وجعل لها إطاراً خاصّاً ، وعلى ضوء ذلك فتفسير الشفاعة بدخول الجنّة بسرعة ، نبع من العقيدة بخلود العصاة في النار إذا ماتوا بلاتوبة ، فلأجل ذلك إلتجأوا إلى تفسير الشفاعة بغير المعنى المعروف.
    نعم يجب إلفات نظر القارىء إلى أمر هامّ :
    إنّ بعض الذنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه كما

    1 ـ حديث متّفق عليه. رواه الفريقان.
    2 ـ البقرة : 255.
    3 ـ الأنبياء : 28.

تقطع الأواصر الروحية بالشفيع فمثل هذا الشخص لاينال الشفاعة ، ولايرضى الرب بشفاعة الشفيع في حقّه ، وقد أوضحنا حقيقة الشفاعة وشروطها في موسوعتنا التفسيرية ، وقمنا بالذّبّ عن الاشكالات التي تثار حولها من جانب المعتزلة أو بعض المفكّرين الجدد (1) .

5 ـ مرتكب الكبيرة كافر نعمة لاكافر ملّة :
    اتّفقت الخوارج حتى الاباضية على أنّ ارتكاب الكبيرة موجب للكفر ، ولكن المتطرّفين يرونه خروجاً عن الملّة ، ودخولا في الكفر والشرك ، ولكن الاباضية لاعتدالهم ، يرونه كفر النعمة ، فالمسلم الفاسق كافر عندهم لكن كفر النعمة ، ولأجل التعرّف على حقيقة مرامهم نأتي بنص بعض كُتّابِهم ، وإن كان طويلا مفصّلا :
    يقول علي يحيى معمّر :
    « يحسب كثير ممّن لا علم له أنّ الاباضية ممّن يتّفقون مع الخوارج في تكفير العصاة كفر شرك ، ولايعرفون أنّ الاباضية يطلقون كلمة الكفر على عصاة الموحّدين الذين ينتهكون حرمات الله ، ويقصدون بذلك كفر النعمة ، أخذاً من الآيات الكريمة التي أطلقتها في أمثال هذه المواضيع و استناداً إلى أحاديث الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : ( وِلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلا وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِيْنَ ) (2) . ( لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ اُمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي

    1 ـ لا حظ : مفاهيم القرآن 4/156 ـ 279.
    2 ـ آل عمران : 97.

 

غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (1) . ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَاُولئكَ هُمُ الكافِروُنَ ) (2) .
    سأل الأقرع بن حابس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « الحج علينا كل عام يا رسول الله؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : لو قلت نعم لوجب ، ولو وجب لما قدرتم عليه ، ولو لم تفعلوا لكفرتم ، وقال : من ترك الصلاة كفر ، وقال : ليس بين العبد والكفر إلاّ تركه الصلاة ، وقال : ألا لاترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وقال : الرشا في الحكم كفر ».
    وخلاصة البحث انّ الأباضية عندما يطلقون كلمة الكفر على أحد من أهل التوحيد فهم يقصدون كفر النعمة ، وهو ما يطلق عليه غيرهم كلمة الفسوق و العصيان ، والمعنى الذي يطلق عليه الاباضية كفر النعمة ويطلق عليه المعتزلة (3) الفسوق ، ويطلق عليه غيرهم النفاق أو العصيان فهو معنى واحد.
    والسبب الذي دعا الاباضية إلى اطلاقهم هذه الكلمة على العصاة بدلا من كلمة النفاق أو الفسوق أمران :
    أوّلهما : إنّها الكلمة التي أطلقها الكتاب الكريم والسنّة القويمة عليهم في كثير من المواضيع والمناسبات.
    ثانيهما : إنّ لكلمة النفاق أثراً خاصّاً في تاريخ الإسلام ، فقد اشتهر بها عدد من الناس في زمن رسول الله ، آمنوا ظاهراً ، ولكن قلوبهم لم تطمئن بالإيمان ، فكان القرآن الكريم ينزل بتقريعهم ، ويفضح بعضهم ، ويتوعّدهم بالعذاب الأليم

    1 ـ النمل : 40.
    2 ـ المائدة : 44.
    3 ـ اطلاق الفاسق على مرتكب الكبيرة غير مختصّ بالمعتزلة ، بل الأشاعرة والإمامية في ذلك أيضاً سواء ، بل الفرقتان الاخيرتان أولى بهذا الاصطلاح من المعتزلة ، لأنه عندهما مؤمن ، لا كافر ولا مشرك بخلاف المعتزلة فإنّه عندهم لاكافر ولا مؤمن بل منزلة بين المنزلتين.

في الدنيا والآخرة حتى اشتهروا بهذا الاسم وعرفوا به ، قال الله تعالى :
( المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض يَأْمُرُونَ بالمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنْ عَنِ المَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (1) حتى صارت هذه الكلمة تشبه أن تكون علماً لهم فإذا اطلقت انصرفت إليهم.
    والنقاش في هذا الموضوع نقاش لغويّ والاختلافات لفظي ، والنتيجة انّ من يصرّ على معصية الله يلاقي نفس الجزاء الذي يلاقيه من يكفر بالله ، أمّا معاملة المسلمين لمن يفسق عن أمر الله ، أو ينافق في دين الله ، أو يكفر بنعمة الله ، فإنّها معاملة للعاصي المنتهك الذي تجب محاولة ارشاده إلى وجوب الاستمساك بدينه ورجوعه إلى أوامر ربّه ، واقلاعه عن محادة الله ورسوله ، فإن أصرّ واستكبر وتغلّب عليه الشيطان ، بُرِئ منه (2) .
    يلاحظ عليه
    أوّلا : انّ المحكّمة الاُولى كانوا لايريدون من الكفر إلاّ الخروج عن الدين ، وكانوا يقولون للإمام أميرالمؤمنين : تب من كفرك ، وكان يجيبهم : أبعد ايماني بالله ، وجهادي مع رسول الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين (3) .
    فلمّا أحسّ عبدالله بن اباض أو من قبله بتطرّف هذه الفكرة عاد بتأويله إلى كفر النعمة تحرّزاً عن ردّ فعل للنظرية الاُولى.
    ثانياً : لو فرضنا إنّ القرآن الكريم استعمل الكفر في كفر النعمة أو استعمله الحديث في حق تارك الصلاة ، ولكن هذا الاستعمال طفيف جدّاً ، فقد ورد لفظ الكفر ومشتقّاته في القرآن قريباً من 450 مرّة واُريد في أغلبها كفر الملّة

    1 ـ التوبة : 67.
    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحقلة الاُولى 89 ـ 92.
    3 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 58.

والخروج عن الدين ، ولو استعمل في كفر النعمة فانّما استعمل مورد أو موردين ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ لفظ الكفر والكافر يعطيان مفهوماً خاصّاً يهزّ القلوب ويروّعها ، إذ لايقصد منه إلاّ الخروج عن الدين فاستعمال ذلك في كلّ معصية كبيرة ، يقلّل من شدّة خطره ويُصغّر أمره العظيم. والأثر الخاص الذي ادّعاه لكلمة النفاق ، موجود في كلمة الكفر بوجه أشدّ. فلو عدلوا عن إعماله ، فليعدلوا عن اطلاق كلمة الكفر لأجله والكلمتان مشتركتان في أثر السيّىء.
    أوليس الأولى للاباضية أن ينتهجوا نهج جميع المسلمين فيختاروا لفظاً غيره في مورد ركوب الكبيرة ؟
    وقد تنبّه لما ذكرناه الكاتب الاباضي حيث علّق على ماينسب إلى الاباضية : « المخالفون كفّار نعمة لا كفّار في الاعتقاد » قوله : لا شكّ انّ أيّ مسلم إذا قيل له : « إنّ الاباضية يعتبرونك غير مسلم ، ويرونك كافراً » يتملّكه الغضب ويعتبرهم فرقة ضالّة ظالمة تستحقّ اللعن ، ولن ينتظر منك أن تشرح له الفرق بين معاني الكفر (1) .
    ولكن اللوم متوجّه عليه وعلى أسلافه لا لأصحاب المقالات فإنّهم استعملوا لفظ الكفر في حق المخالفين غير أنّ المتطرّفين فسّروه بالكفر في الاعتقاد وغيرهم فسّروه بكفر النعمة مستشهدين بأنّه ورد لفظ الكفر في مورد المرتكبين للكبائر ، ونقلوا عن الرسول الأعظم أنّه قال : الرشوة في الحكم كفر ، وقوله من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه فيما يقال فقد كفر بما اُنزل على محمّد (2) .

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/103.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : 123.

6 ـ الخروج على الإمام الجائر :
    يقول أبو الحسن الأشعري : « والاباضية لاترى اعتراض الناس بالسيف لكنّهم يرون ازالة أئمّة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمّة بأيّ شيء قدروا عليه بالسيف أو بغيره » (1) .
    وربّما ينسب إليهم أمر غير صحيح ، وهوأنّ « الاباضية لايرون وجوب اقامة الخلافة » (2) .
    إنّ وجوب الخروج على الإمام الجائر أصل يدعمه الكتاب والسنّة النبوية وسيرة أئمّة أهل البيت إذا كانت هناك قدرة ومنعة ، وهذا الأصل الذي ذهبت إليه الاباضية بل الخوارج عامّة ، هو الأصل العام في منهجهم ، ولكن نرى أنّ بعض الكتّاب الجدد من الاباضية الذين يريدون ايجاد اللقاء بينهم وبين أهل السنّة يطرحون هذا الأصل بصورة ضئيلة.
    يقول علي يحيى معمر : إنّ الاباضية يرون أنّه لابدّ للاُمّة المسلمة من اقامة دولة ونصب حاكم يتولّى تصريف شؤونها ، فإذا ابتليت الاُمّة بأن كان حاكمها ظالماً ، فإنّ الاباضية لايرون وجوب الخروج عليه لاسيّما إذا خيف أن يؤدّي ذلك إلى فتنة وفساد أو أن يترتّب على الخروج ضرر أكبر ممّا هم فيه ، ثم يقول : إذا كانت الدولة القائمة جائرة وكان في امكان الاُمّة المسلمة تغييرها بدولة عادلة دون احداث فتن أكبر تضّر بالمسلمين فإنّهم ينبغي (3) لهم تغييرها. أمّا إذ كان ذلك لايتسنّى إلاّ بفتن واضرار فإنّ البقاء مع الدولة الجائرة ومناصرتها في حفظ الثغور ومحاربة أعداء الاسلام ، وحفظ

    1 ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين : 189.
    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية : 2 / 53 ـ 54.
    3 ـ إنّ الرجل لتوخّي المماشاة مع أهل السنّة يعّبر عن مذهبه بلفظ لايوافقه ، بل عليه أن يقول مكان « ينبغي » « يجب ».

الحقوق ، والقيام بما هو من مصالح المسلمين واعزاز كلمتهم ، أوكد وأوجب (1) .
    إنّ ما ذكره لاتدعمه سيرة الأباضية في القرون الاُولى ويكفي في ذلك ما ذكره المؤرّخون في حق أبي يحيى عبدالله بن يحيى طالب الحق ، قالوا : إنّه كتب إلى عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة وإلى غيره من الاباضية بالبصرة يشاورهم بالخروج ، فكتبوا إليه : إن استطعت ألاّ تقيم إلاّ يوماً واحداً فافعل ، فأشخص إليه عبيدةُ بن مسلم أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي في رجال من الاباضية فقدموا عليه حضرموت ، فحثّوه على الخروج ، وأتوه بكتب أصحابه ، فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار الامارة إلى آخر ما سيوافيك بيانه من حروبه مع المروانيين وتسلّطه على مكّة والمدينة.
    وأظنّ انّ ما يكتبه علي يحيى معمّر في هذا الكتاب وفي كتاب « الاباضية في موكب التاريخ » دعايات و شعارات لصالح التقارب بين الاباضية وسائر الفرق خصوصاً أهل السنّة ، ولأجل ذلك يريد أن يطرح اُصول الاباضية بصورة خفيفة حتى يتجاوب مع شعور أهل السنّة ، تلك الأكثرية الساحقة ، وأوضح دليل على أنّهم يرون الخروج واجباً مع القدرة والمنعة بلا اكتراث ، إنّهم يوالون المحكّمة الاُولى ويرون أنفسهم اخلافهم والسائرين على دربهم ، وهم قد خرجوا على عليٍّ بزعم أنّه خرج بالتحكيم عن سواء السبيل.
    وأظنّ انّ هذا الأصل أصل لامع في عقيدة الخوارج والاباضية بشرطها وشروطها ، وأنّ التخفيض عن قوّة هذا الأصل دعاية بحتة.
    والعجب أنّه يعترف بهذا الأصل في موضع آخر من كتابه ويقول : إنّ الثورة على الضلم والفساد والرشوة ومايتبع ذلك من البلايا والمحن ، إنّما هو المنهج الذي جاء به الإسلام ودعا إليه المسلمين ، ودعا المسلمون إليه ، وقاموا

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 2 / 53 ـ 54.

به في مختلف أدوار التاريخ ، ولم تسكت الألسنة الآمرة بالمعروف ، الناهية عن المنكر ، ولم تكفّ الأيدي الثائرة في أيّ فترة من فترات الحكم المنحرف .... وقد استشهد في هذا السبيل عدد من أفذاذ الرجال ، ويكفي أن أذكر الأمثلة لاُولئك الثائرين على الانحراف و الفساد : شهيد كربلاء الإمام الحسين سبط رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وعبدالله بن الزبير نجل ذات النطاقين ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن علي بن الحسين ، وكلّ واحد من هؤلاء يمثّل ثورة عارمة من الاُمّة المسلمة على الحكم الظالم ، والخروج عليه ومدافعته حتى الاستشهاد (1) .

7 ـ التولّي والتبرّي والوقوف :
    قد اتّخذ الاباضيون « التولّي » و« التبرّي » نحلة ولهما أصل في الكتاب والسنّة وهما ممّا يعتنقه كل مسلم اجمالا ، ولكن التفسير الاباضي لهذين المفهومين يختلف تماماً مع تفسير الجمهور ، وإليك بيانه بنقل نصوصهم من كتبهم :
    « أصل الولاية ، الموافقة في الدين ، فكل من وافقك في الدين فهو وليّك ، سواء علمت بموافقته أو جهلتها ، أو برئتَ منه بالظاهر ، لحدث عرفته منه وهو قد تاب ورجع عنه ، فالملائكة عليهم السلام أولياؤنا لأنّهم موافقوننا في أصل الامتثال ، وكذلك أهل الطاعة من الاُمم السالفة ، فإنّه وإن اختلفت الأوامر بالنظر لاختلاف الشرائع ، فالدين عندالله الإسلام أي الانقياد لأحكامه مطلقاً.
    فاعلم انّ ممّا يدين به المسلمون وهو لازم لهم ، الولاية لأولياء الله والحب لهم ، والبغض لأعداء الله والبراءة منهم. فولاية من اتّصف بالإيمان فرض

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/183.

واجب ، ثبت وجوبه بأدّلة قطعية ، وأمّا البراءة فهي مثل الولاية فتجب البراءة من الفاسقين مطلقاً سواء كانوا من المشركين أو كانوا أهل كفر نعمة ، فالبراءة منهم واجب بنصّ الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة.
    ثمّ إنّهم ذكروا للولاية والبراءة أقساماً نوردها فيما يلي :
    1 ـ أن يرد الكتاب بما يوجب ولاية أحد ، أو البراءة منه ، كالأنبياء المذكورين بأسمائهم في الولاية وكأبليس في البراءة.
    2 ـ ما نطق فيه رسول من رسل الله انّ فلاناً من أهل السعادة ، أو من أهل الشقاء ، بشرط أن يسمع السامع من لسان الرسول ذلك الكلام حين نطقه.
    3 ـ ولاية الجملة وبراءة الجملة ، وصورتها أن يعتقد المكلّف ولاية أهل طاعة الله من الأوّلين والآخرين إنسهم وجنِّهم وملائكتِهم ، وأن يعتقد البراء من جميع أهل معصية الله من الأوّلين والآخرين إنسِهِم وجنِّهم إلى يوم الدين.
    وهذا القسم هو الذي يعبّر عنه بعقيدة الإنسان لأنّه لابدّ لكل مكلّف أن يعتقده ديناً.
    4 ـ نعم يجب الوقوف فيمن لم يعلم فيه موجب الولاية ولا البراءة لقوله تعالى : ( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) ، وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « المؤمن وقّاف ، والمنافق وثّاب (2) .
    قال أبو سعيد الكدمي : واعملوا رحمنا الله وإيّاكم : انّ الولاية والبراءة فريضتان وقد نطق بذلك القرآن وأكّدته السنّة ، ونسخته آثار الأئمّة الذين هم

    1 ـ الاسراء : 36.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : 258 ـ 263 بتلخيص ، وكان عليه أن يذكر قسماً خامساً وهو تولّي شخص معيّن لكونه مطيعاً والتبرّي منه لكونه عاصياً إذا لمسنا شخصيّاً منهما الطاعة أو العصيان ، ولعلّه لم يذكره لكونه مستفاداً من القسم الاوّل.

حجّة الله في دينه ، فمن ذلك قوله تعالى : ( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذ قالُوا لِقَوْ مِهِمْ إنّا بُرَءَ ؤُاْ مِنْكُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بدَا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ العَداوَةُ وَالبَغْضاءُ أَبَداً حتّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ ) (1) .
    ويقول أيضاً : لايجوز له أن يتولّى أحداً من علماء أهل الخلاف ولامن أفضلهم ، ولو جهل أمرهم ، ولو ظنّ أنّهم أهل الحقّ وأهل الفضل ، ماجاز أن يتولّى أحداً منهم بدين (2) .
    ويقول أيضاً : البراءة حكم من أعظم أحكام الإسلام (3) .
    ويقول : واعلموا انّه ممّا يلزم المسلمون ويدينون به : الولاية لأولياء الله والحبّ لهم ، والبغض لأعداء الله والبراءة منهم ، ومن أحبَّ عبداً في الله فكأنّما أحبّ الله ، وذلك من أشرف أعمال البّر (4) .
    وقد حرّر هذه المسألة أحد المعاصرين من علماء الاباضية وقال :
    ولاية الجملة وبراءتها فريضتان بالكتاب والسنّة والاجماع على كلّ مكلّف عند بلوغه إن قامت عليه الحجّة ، وأمّا ولاية الأشخاص وبراءتها فواجبتان قياساً عليهما.
    إنّ محبّة المؤمن الموفي بدينه ، الحريص على واجباته ، المبتعد عن المحارم ، المتخلِّق بأخلاق الإسلام ، المتّبع لهدى محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وجبت محبّته على المؤمنين ، وأُعلِنَت ولايته بين المسلمين ، وطلبت له المغفرة والرحمة من ربّ العالمين.
    فإذا نزغ أحدهم من الشيطان نزغ ، ولم يستعذ بالله من الشيطان ، فأقدم على المعصية ولم يُسارع إلى التوبة ، انفصم هذا الرباط الذي يربطه

    1 ـ أبوسعيد الكدمي : المعتبر 2/134. والآية من سورة الممتحنة : 4.
    2 ـ المصدر نفسه 1/95.
    3 ـ المصدر نفسه : 1 / 135.
    4 ـ المصدر نفسه : 1 / 137.

بالمؤمنين ، وتهدَّمَتْ هذه الاُخوّة التي قامت على الدين حتى يجدّد ايمانه بربّه ، ويستغفرالله من ذنبه ، ويصل حبال قلبه بفاطر السموات و الأرض ، فإذا فعل ذلك ، رجعت منزلته بين اخوانه كما كانت ، وعزَّتْ نفسه بينهم بعد أن هانت ( ولِلِّهِ العِزّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلمُؤْمِنِينَ ).
    إنّ المسلم الذي يعلن بين الملأ قول « لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله » ، ثمّ يجترئ على أوامر الله فيتخلّى عن واجباته ، أو يقدم على ارتكاب المحظورات ... لايحقّ أن يكرم بالتساوي مع الصادقين ولا يمكن أن تشمله المحّبة في الدين ، بل يجب أن يجد الغلظة من المؤمنين وأن يسمع التقريع والتوبيخ ، وأن يُطْلب الابتعاد عنه ، وأن يُعْلَنَ البراءة منه ، ويُقلَّلَ التعامل معه حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت ، ولايجد ملجأ من الله إلاّ إليه ، فأمّا أن يشرح الله صدره للإسلام ، وأن يفتح قلبه للإيمان وأن يسخّر أعضاءه للعبادة ، وأن يباعد بينه و بين المعصية فيتوب ممّا ارتكب ويعود إلى حظيرة الإسلام بالعمل الصالح ، والجهاد المتواصل ، جهاد النفس و الهوى ، فترتبط أواصره حينئذ بأواصر الناس ، ويصبح بعد الهداية و التوفيق أخاً في الله.
    وأمّا أن يرتكس إلى الشيطان ، ويصّر على العصيان ، ويبتعد عن محاسبة النفس ، ويستمرّ في الغواية والضلال ، وحينئذ لايمكن لأولياء الله أن يحبّوا عدوّالله ، ولا أن يرضوا عمّن جاهره بالمعصية ، وانّ القلوب المؤمنة لتستحي أن تّتجه إلى المليك الديّان لتطلب منه الرحمة والغفران ، لعبيد الشهوات و أغوياء الشيطان.
    إنّ العصاة الذين يصرّون على ما فعلوا ويجاهرون الله والناس بما ارتكبوا ، انفصلوا بكبريائهم عن ربّهم ، وابتعدوا عن محّبة إخوانهم ، وحادوا الله ورسوله.

( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادً اللهَ وَ رَسُولَهُ .... ) (1) . ( إنَّ الَّذِينَ يُحادٌّونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ أُوْلئِكَ فِى الأذَلِيْنَ ) (2) . ( إنَّ الَّذِينَ يُحادٌّونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (3) .
    إنّ المجتمع الاسلامي أنظف من أن تقع فيه المعصية من مسلم ، ثم يسكتون عنه ، فيدعونه فيهم محبوباً قبل أن يبادر إلى التوبة والاستغفار والتكفير إن كانت المعصية ممّا يتحلّل منه بالتكفير.
    إنّ هذه القضيّة من القضايا التي يكاد ينفرد بها الاباضية (4) عن غيرهم من الفرق الإسلامية فلم يساووا بين مؤمن تقيّ وعاص شقيّ في المعاملة ، وقالوا : يجب على المجتمع المسلم أن يُعْلِنَ كلمة الحق في كلّ فرد من أفراده ، وأن يتولّى تهذيب الناشزين ، وتقويم المنحرفين وتربية المتذرّعين بالوسائل التي شرعها الإسلام للتربية الجماعية من أمر بمعروف و نهي عن منكر ، واعراض عمّن يتولّى عن الله.
    وليس من الحق أبداً أن نتغاضى عن اُولئك الذين يرتكبون المعاصي ، ونضعهم في صفّ واحد مع المؤمنين الموفين ، بل يجب أن نزجر العاصي عن معصيته ، وأن نعالِنَه بالعداوة ، مادام منحرفاً عن سبيل الله ، وأن لانساوي في المعاملة بينه و بين الموفي ، وأن لانعطيه من المحبّة وطلب المغفرة ، وحسن التعامل ، مانعطيه للذي يراقب الله في الخفاء والعلانية ، ويرجع إليه في كلّ كبيرة وصغيرة ، ويقف عند حدوده التي رسمها لايتخطّاها ، ( وَلِيَجِدُوا فِيْكُمْ

    1 ـ المجادلة : 22.
    2 ـ المجادلة : 20.
    3 ـ المجادلة : 5.
    4 ـ ستعرف ضعفه و انّه ممّا أصفقت عليه الاُمّة الإسلامية اجمالا ، نعم انفردت الاباضية بالغلظة والشدّة في المسألة.

غِلْظَة ) ، والاباضية لايخرجون العصاة من الملّة ولايحكمون عليهم بالشرك ، ولكن يوجبون البراءة منهم و بغضهم و اعلان ذلك لهم حتى يقلعوا عن معصيتهم ويتوبوا إلى ربّهم (1) .
    هذا عصارة ماذكروه في هذه المسألة ، أي الولاية والبراءة والوقوف.
    يلاحظ عليه : لاأظنّ أنّ من أحاط بالكتاب والسنّة أو ألمَّ بهما أن ينكر وجوب التولّي والتبرّي فإن المصدرين الأساسيّين مملوءان بالأمر بتولّي الرسول ، والمؤمنين ، والتبرّي من المشركين وأهل الكتاب والعصاة ، وإليك رشحة من ذلك فيكفي فيه قوله سبحانه : ( لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ) (2) و قوله عزّوجلّ : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَ المُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْض ) (3) وقوله عزّوجلّ : ( فَإن لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإخْوانُكُمْ فِي الدَّينِ وَ مَواليِكُمْ ) (4) وقوله عزّوجلّ : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ ولَو كانُواْ آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُم أَوْ إخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ ويُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رضُوا عَنْهُ أُوْلِئكَ حِزْبُ الله ألا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ ). (5)
    وأمّا السنّة فيكفي في ذلك الأحاديث التالية :
    قال علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) : من ترك انكار المنكر بقبله و لسانه

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحقلة الاُولى 83 ـ 87.
    2 ـ آل عمران : 28.
    3 ـ التوبة : 71.
    4 ـ الأحزاب : 5.
    5 ـ المجادلة : 22.

فهو ميّت بين الأحياء (1) .
    وقال ( عليه السَّلام ) : أمَرَنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهَّرة (2) .
    وقال ( عليه السَّلام ) : أدنى الانكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهّرة.
    وعن الإمام جعفرالصادق ( عليه السَّلام ) : حسب المؤمن غيرة إذا رأى منكراً أن يَعْلَم الله عزّوجلّ من قلبه انكاراً. (3)
    إنّ الحب والبغض من الظواهر والحالات النفسية ، ولهما آثار على الأعضاء والجوارح في حياة الإنسان ، فلقاء أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة من آثار تلك الظاهرة ، هذا كلّه ممّا لااشكال فيه.
    إنّما الكلام في موضع آخر يجب إلفات النظر إليه وهو أنّ التبرّي من عصاة المسلمين ليس شيئاً مطلوباً بالذات ، وإنّما الغاية منه ارجاع العاصي إلى حظيرة الطاعة ، وإلحاقه بأصفياء الاُمّة ، وعلى ذلك فهو من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيدور وجوبه مدار وجود شرائطهما : منها كون التبرّي مؤثّراً في كبح جماح العاصي وتماديه في الغي ، ولأجل ذلك جوّز الإسلام غيبة المتجاهر بالفسق وربّما أوجب الوقيعة في أهل البدع ، واكثارالوقيعة فيهم ، وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « أربعة ليس غيبتهم غيبة : الفاسق المعلن بفسقه ، والإمام الكذّاب إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر ، والمتفكّهون بالاُمّهات ، والخارج من الجماعة الطاعن على أمّتي ، الشاهر عليها بسيفه » (4) .
    وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « لاغيبة لثلاث : سلطان جائر ، وفاسق معلن ،

    1 ـ الحرّ العاملي : وسائل الشيعة 11/404.
    2 ـ المصدر نفسه : 11 / 409.
    3 ـ المصدر نفسه : 11 / 413.
    4 ـ حسين النوري : المستدرك ، الجزء 9 ، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 2.

وصاحب بدعة » (1) .
    فعلى ذلك فوجوب التبرّي رهن شروط نشير إليها :
    1 ـ أن يحتمل كون التبرّي مؤثّراً في ارجاعه عن المعصية كما عرفت ، وإلاّ فلايجب كما هو الحال في جميع مراتب الأمر بالمعروف.
    2 ـ إن لايكون اظهار التبرّي موجباً لتماديه في الغي ، وانكبابه على الإثم ، فإنّ إيجاب التبرّي في ذلك ينتج نقيض المطلوب.
    3 ـ يكفي في التبرّي ، الاعراب عمّا في ضمير المتبرّي من كونه كارهاً لعمله ، بلا حاجة إلى اعمال الغلظة والشدّة كما في كلام القائل.
    ثمّ الآيات والروايات الدالّة على التبرّي واردة في حقّ الكفّار والعصاة المتمادين في الغي ، لامن عصى مرّة واحدة ويبدو أنّه سوف يرجع ويستغفر.
    وأمّا ما ذكره القائل في كيفية التبرّي فليس عليه دليل بل الدليل على خلافه ، لأنّ المعاملة مع العصاة على النحو الذي ذكره القائل لم يكن رائجاً في عصر الرسول ، إلاّ في حقّ العتاة المتمادين في الغي ، أو المتخلّفين عن الزحف ، وقد ورد في حقّهم قوله سبحانه : ( وَ علَى الثَّلاثّةِ الَّذِينَ خُلَّفُوا حَتّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لامَلْجَأ مِنَ اللهِ إلاّ اِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا اِنَّ اللهِ هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ ) (2) .ترى أنّ الغلظة والشدّة كانت في حقّ هؤلاء الثلاثة الذين تخلّفوا عن الجهاد في الوقت الذي كان الرسول في أشدّ حاجة إلى المجاهد الصادق ، فنزل الوحي بالضغط وايجاد الضيق عليهم حتى يصلوا إلى مرتبة تضيق عليهم أرض المدينة بما رحبت.
    وأمّا المعاملة لكلّ عاص ولو مرّة واحدة بهذا النحو والضغط عليه حتى

    1 ـ حسين النوري : المستدرك ، الجزء 9 ، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث 1.
    2 ـ التوبة : 118.

تضيق عليه الأرض ، فهو بعيد عن سماحة الإسلام ، كيف وقد قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش الذين يستغفرون للذين تابوا واتّبعوا سبيله : ( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شىْء رَحْمَةً ) (1) وقال سبحانه : ( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ اِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ اِلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ ) (2) وقال سبحانه : ( قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ اِلاّ الضّالُّونَ ) (3) وقال سبحانه : ( قُلْ يا عِبادِىَ الَّذِينَ اَسْرَفُوا عَلى اَنْفُسِهِمْ لا تَقنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِ نَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعاً اِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيِمُ ) (4) .
    فأين هذه الوعود ودعوة العصاة إلى حظيرة الغفران والنهي عن اليأس من روح الله ممّا جاء في كلام هذا القائل؟ فالاباضية وإن كانوا غير متطرّفين في مسلكهم لكن في التبرّي عن العاصي في جميع الأحوال والظروف على النحو الذي سمعت نوع تطرّف كما لايخفى.
    على أنّ هذا النحو من التبرّي الوارد في كلام القائل يناسب العيشة القبلية ، والاجتماعات الصغيرة ، ولايتمشّى أبداً مع الاجتماعات الكبيرة التي تضم الفسّاق ، إلى العدول في جميع الأندية والمجالس كما لايخفى.

اكمال :
    ثمّ إنّه لو ثبت كون رجل عدوّاً من أعداء الله لارتكابه الكبائر أو لإرتداده عن الدين ، فليس لآحاد الاُمّة القيام بإجراء الحدّ عليه ، وإنّما واجب الآحاد هو التبرّي منه ، ومن فعله ، روحاً وجسداً ، وأمّا إجراء الحدّ عليه فإنّما هو على

    1 ـ غافر : 7.
    2 ـ يوسف : 87.
    3 ـ الحجر : 56.
    4 ـ الزمر : 53.

القويّ المطاع في الاُمّة وهو الحاكم الإسلامي ، ولأجل ذلك ينقسم الأمر بالمعروف الى قسمين : قسم يُعَدُّ واجباً فردّياً ، يقوم به آحاد الاُمّة ، وقسم يعدّ رسالة اجتماعية تقوم به القوّة التنفيذية في الدولة الاسلامية ، وهنا كلمة قيّمة للإمام الصادق ( عليه السَّلام ) نذكرها :
    سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال : لا. فقيل له : ولم ؟ قال : إنّما هو على القويّ المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لاعلى الضعيف الذي لايهتدي سبيلا إلى أيٍّ ، مِنْ أيّ؟ يقول من الحق إلى الباطل ، والدليل على ذلك من كتاب الله عزّوجلّ قوله : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ اُمَّة يَدْعُونَ اِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاصّ غير عام. (1)

8 ـ آراء الاباضية في الصحابة :
    قد طرحنا مسألة عدالة الصحابة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد أهل الحديث ، والمعروف بين كتّاب الفرق انّ الاباضية يحبّون الشيخين ويبغضون الصهرين ، غير أنّ كتّاب الاباضية في هذا العصر ينكرون هذه النسبة ويقولون إنّ الدعاية التي سلّطها المغرضون على الاباضية نبذتهم بهذه الفرية ، وذهب علي يحيى معمّر في نقد النسبة وتزييفها إلى نقل الكلمات التي فيها الثناء البالغ على الصهرين ، ينقل عن أبي حفص عمرو بن عيسى قوله :

وعلى الهادي صلاة نشرها وسلام يتوالى وعلى سيما الصديق والفاروق والجامع
 

 
 

عنبرٌ ماخبّ ساع ورمل آله والصحب ما الغيث هطل القرآن والشهم البطل

    1 ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة 11/400. والآية من سورة آل عمران : 104.

    وينقل عن ديوان البدر التلاتي مايلي :

بنت الرسول زوجها وابناها رضى إلاله يطلب التلاتي
 

 
 

أهل لبيت قد فشى سناها لهم جميعاً ولمن عناها (1)

    نحن نرحّب بهذا الود الذي أمر الله سبحانه به في كتابه بالنسبة إلى العترة الطاهرة إذ قال : ( قُلْ لااَسْأَلُكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (2) .
    ولكن لايمكننا التجاهل بأنّهم يحبّون المحكّمة الاُولى ، ويعتبرونهم أئمّة ، وهم قُتلوا بسيف علي ، وهل يمكن الجمع بين الحبّين والودّين؟ قد قال الله سبحانه : ( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَيْنِ فِىْ جَوْفِهِ ) (3) وهل يجتمع حبّ علي وودّه وحبّ من كان يكفّر عليّاً ويطلب منه التوبة؟ كيف وهؤلاء هم الذين قلّبوا له ظهر المجنَ وضعّفوا أركان حكومته الراشدة.
    نرى أنّ الاباضية يعدّون عمران بن حطان من القعدة ، وهو إمام لهم بعد أبي بلال ، وهو القائل في حق عبدالرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، قوله :

ياضربة من تقي ما أراد بها إنّى لأذكره يوماً فأحسبه
 

 
 

إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا أوفى البريّة عندالله ميزانا (4)

    ومع هذا السعي لكتمان الحقيقة فالظاهر أن للشهرة حقيقة : أمّا حبّهما للشيخين فليس مجال شك وأمّا بغضهما للصهرين فقد وقفت في الفصل التاسع على نظر قدمائهم في حق الإمام علي ( عليه السَّلام ) وإليك نظرهم في حق عثمان ، ليعلم

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 2/50.
    2 ـ الشورى : 23.
    3 ـ الاحزاب : 4.
    4 ـ مرّ مصدر البيتين.

مدى صحّة النسبة :
    فإن قال : فما قولكم في عثمان بن عفان؟ قلنا له : في منزلة البراءة عند المسلمين.
    فإن قال : من أين وجبت البراءة من عثمان بن عفان وقد تقدمت ولايته وصحّت عقدة إمامته مع فضائله المعروفة في الإسلام ، وفي تزويج النبي له ( عليه السَّلام ) بابنتيه واحدة بعد واحدة؟ قلنا : إن الولاية والبراءة هما فرضان في كتاب الله لا عذر للعباد في جهلهما ، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نحكم وندين له في عباده بما يظهر لنا في اُمورهم ولم يكلّفنا علم الغيب. ثم وجدنا أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قد قدّموا عثمان إماماً لهم بعد عمر بن الخطاب ـ رحمه الله ـ ، ثم قصدوا إليه فقتلوه على ما استحقّ عندهم من الأحداث التي زايل بها الحق وسبيله ، فمن قال إنّ عثمان قتل مظلوماً كان قد أوجب على أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) البراءة بقتلهم لعثمان بن عفان وألزام البراءة من علي بن أبي طالب لأنّه وضعه المسلمون بعد عثمان إماماً لهم.
    وعلى الإمام إقامة الحدود و لم يغيّر ذلك علي بن أبي طالب ولم ينكره ولم يقم الحد على من قتل عثمان ، وحارب من طلب بدمه و هو طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام ، ولو لم يكن مستحقاً للقتل وأنّه مظلوم لكان علي قد كفر لقتاله لمن طلب بدم عثمان بن عفّان. فلما قاتل علي والمسلمون من طلب بدم عثمان وصوّبوا من قتله وأقرّهم علي بين يديه وكانوا أعوانه و أنصاره ، كان دليلا على أنّهم محقّون في قتله لأنّ إجماعهم على ذلك حجّة لغيرهم ودليل. وأمّا قولك زوّجه النبي بابنتيه واحدة بعد واحدة فإنا لاننكر ذلك ولايكون عثمان مستوجباً للولاية بتزويج النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) له بابنتيه. ولو كان عقد النبي له بالنكاح موجباً للرجل المشرك الذي كان النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم )

قد زوّجه بابنته زينب قبل التحريم بين المسلمين والمشركين مع قوله الله تبارك وتعالى : ( إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) (1) ، فهذا مبطل لاحتجاجك علينا بتزويج النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) له بابنتيه.
    وأمّا قولك : إنّه كانت له فضائل في الإسلام متقدّمة ، فإن الأعمال بالخواتم في الآخرة ، لابالفضائل الاُولى (2) .
    وعلى كل تقدير فما يذكره هذا الكاتب وغيره هو الحق الذي يجب أن تمشي عليه الاباضية في حياتهم الدينية ويجب علينا احترام الصحابة وودّهم على الموازين التي وردت في الكتاب والسنّة ، ولا أظنّ مسلماً على أديم الأرض يبغض الصحابي بما هو صحابي أو بما أنّه رأى النبي أو بما أنّ له صلة به ، ولو كان هناك استنكار فانّما لبعض الصحابة أمثال المغيرة بن شعبة وبسر بن أرطاة ، وعمرو بن العاص ، وسمرة بن جندب لما قاموا به من سفك الدماء البريئة والظلم في الأحكام ، والطلب الحث بلذائذ الدنيا ، كيف لايصحّ التبرّي منهم؟ وقد قال عمرو بن العاص لمعاوية عندما دعاه للمشاركة في الحرب ضدّ علي أبياتاً أوّلها :

معاوية لا اعطيك ديني ولم أنل فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة
 

 
 

به منك دنياً فانظرن كيف تصنع أخذتَ بها شيخاً يضرّ وينفع (3)

    1 ـ النساء : 48 و 116.
    2 ـ السير و الجوابات لعلماء وأئمة عمان 1/374 ـ 375 طبع وزارة التراث القومي والثقافة ، تحقيق سيدة إسماعيل كاشف.
    3 ـ الطبري : التاريخ 3/558. اليعقوبي : التاريخ 2/175 طبع النجف الاشرف.

الفتاوى الشاذّة عن الكتاب والسنّة

    المذهب الاباضي يدّعي أنّه يعتمد في اُصوله على الكتاب والسنّة ويتّفق في كثير من اُصوله وفروعه مع مذاهب أهل السنّة ، ولا يختلف معها إلاّ في مسائل قليلة اختلاف مذاهب السنّة نفسها في ما بينها.
    وما كان اعتماد المذهب الاباضي على الكتاب والسنّة وعدم تباعده عن مذاهب السنّة إلاّ لأنّ مؤسّسه جابر بن زيد قد أخذ عن الصحابة الذين أخذ عنهم أصحاب هذه المذاهب من الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنابلة ، بل أنّه يمتاز على أصحاب هذه المذاهب في أنّه أخذ عن الصحابة مباشرة بينما هم لم يأخذوا في معظمهم إلاّ من التابعين.
    كما أنّ الأحاديث التي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجمّاع الأحاديث من الاباضية كالربيع بن حبيب و غيره ، ليست إلاّ أحاديث وردت عن البخاري ومسلم وغيرهم من أئمّة الحديث كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني والطبراني والبيهقي وغيرهم من أهل السنّة والجماعة.

    إنّ الاباضية لا يعترفون بالتقليد فيما يأخذون أو يدّعون حتى لفقهائهم أنفسهم ، والمشهور عنهم أنّهم يقولون : إنّهم رجال تقييد لاتقليد ، أي أنّهم يتقيّدن بالكتاب والسنّة ، وبما تقيّد والتزم به السلف الصالح ، ولايقلّدون أصحاب المذاهب أو أصحاب الأقوال إلاّ إذا كانت أقوالهم موافقة للكتاب والسنّة (1) .
    إنّ المذهب الاباضي كما وصفه الكاتب يستند إلى الأدلّة الشرعية والعقلية ، فالعقل عندهم حجّة كالكتاب والسنّة ، وليس ذلك أمراً خفيّاً على من سبر كتبهم العقائدية والفقهية ، وقد كان ذلك معروفاً عنهم في القرون الاُولى حتى بين مخالفيهم على وجه قالوا : باغناء العقل عن السمع في أوّل التكليف. يقول المفيد شيخ الشيعة في القرن الرابع :
    « اتفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج في علمه ونتائجه إلى السمع وأنّه غير منفك عن سمع ينبّه الغافل على كيفيّة الاستدلال ، وأنّه لابدّ في أوّل التكليف وابتدائه في العالم من رسول ، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك ، وزعموا أنّ العقول تعمل بمجرّدها من السمع و التوقّف ، إلاّ أنّ البغداديين من المعتزلة خاصّة يوجبون الرسالة في أوّل التكليف » (2) .
    وهذا النحو من الاعتماد على العقل يعد نوع مغالاة في القول بحجيّته إلاّ في مورد لزوم إصل المعرفة ، لاستقلاله عليه دفعاً للضرر المحتمل وغيره ما حرّر

    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب وعلاقتهم بأباضية عمان والبصرة : 58 ـ 61.
    2 ـ الشيخ المفيد (336 ـ 413 هـ) : أوائل المقالات 11 ـ 12.

في محلّه (1)
    إنّ القول بحجّية العقل لايعني منها إلاّ حجّيته في موارد يستقلّ بحكمها العقل على وجه اللزوم والقطع كالملازمات العقليّة ، مستقلّة كانت أو غير مستقلّة ، والأوّل كاستقلاله بالبراءة عن أيّ تكليف فيما إذا لم يرد من الشارع فيه بيان ، ولزوم الفحص عن بيّنة مدّعي النبوّة ، والنظر في دعواه وبرهانه ، والثاني كالمسائل المعروفة بباب « الملازمات العقلّية » في اُصول الفقه ، كادّعاء الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، أو نقيضه (الضد العام) إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه ، ولا يحتجّ به الاّ فيما إذا لم يرد من الشرع حكم في مورده ، وإلاّ فلا يقام له وزن ، ولأجل الغلوّا الموجود في كلماتهم التي ترتبط بالعقل نجد لهم فتاوى فقهية لاتوافق الكتاب و السنّة ، وقد أعطوا للعقل العاطفي فيها قيمة أكثر ممّا أعطوه للكتاب والسنّة ، فقدّموا حكم العقل الظنّي على الحكم الشرعي القطعي ، وإليك نماذج :
    1 ـ قد بلغت السماحة وحب السلام لدى الاباضية أنّ فقهاءهم فضّلوا الصلح بين أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما ، وأنّه لاينبغي لأحد أن يفضّل أيّ فئة منهما على الاُخرى ، حتى لاتحدث فتنة ، وفي ذلك قال أحد شيوخهم من المغاربة : « إنّه إذا وقعت الفتنة بين فئتين من المؤمنين فالأحبّ إليّ أن يصطلحوا ، فإن لم يفعلوا فالأحبّ إليّ أن لاتغلب فئة فئة ، فإنّ من أحبّ أن تغلب أحدهما الاُخرى فقد دخل في الفتنة ولزمه ما لزمه أهل تلك ، وكان سيفه يقطر دماً ، والسلامة عندي أن يكونا في البراءة سواء ، لايرجّح احدى الطائفتين ، فإنّه متى رجّح اُثم » (2) .

    1 ـ لا حظ محاظراتنا في الالهيات بقلم الشيخ حسن مكّي العاملي 1/24.
    2 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 61 ، نقلا عن الدرجيني : طبقات المشايخ بالمغرب 2/491.

    لاشك انّ هذه الفتوى صدرت عن عاطفة القائل وكونه محبّاً للوئام والسلام ، لكنّها عاطفة في غير محلّها وربّما تتم لصالح الظالمين والفئات الباغية ، والذكر الحكيم يصرّح بخلافه وانّه يجب مقاتلة الباغي إن لم يرجع إلى أمر الله ، قال سبحانه : ( وَ إنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِيِنَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلَى الاُخْرَى فَقاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ اِلَى أَمْرِاللهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (1) .
    وعلى ضوء ما ذكره القائل ، فالواجب على المسلمين في الفتنة التي أثارها طلحة والزبير في خلافة علي ( عليه السَّلام ) أو الفتنة التي أثارها ابن أبي سفيان بعد حرب الجمل ، أن لاتفضّل أي فئة على الاُخرى حتى لاتحدث فتنة ، وهذا النوع من حبّ الصلح والسلام أشبه بالخضوع لعاطفة عشواء ولو كان في ذلك ركوب الباطل.
    2 ـ اتّفقت الاُمّة الإسلامية على أنّ الزنا بمجرّده لاينشر الحرمة بين الفاعلين إلاّ في موارد خاصّة كما إذا كانت الزانية مزوّجة ، ويسمى في مصطلح الفقه« الزنا بذات الاحصان » وروت عائشة : أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال الحرام ، لا يحرّم الحلال.
    ومع ذلك فقد جاءت الاباضية بفتوى شاذّة حسبها أنّها صيانة لكرامة المرأة حتى أنّ بعض المتأخّرين منهم صاغها في قالب اجتماعي حسب أنّه ينطلي على أصحاب الفقه ، قال :
    « لقد كانت بيئة الحياة في الاُمّة المسلمة لا تبيح للمرأة أن تخلى برجل أجنبي ولا تبيح لرجل أن يختلي بامرأة اجنبية عنه ، وذلك خوفاً من الفتنة ، لأنّ الدوافع الجنسية قد تتغلّب على النفس عند الرجل أو عند المرأة وهما مختليان ،

    1 ـ الحجرات : 9.

فيصلان إلى المحذور ، ويقع السوء الذي منه يحذران. ولقد درس الاباضية هذه المشكلة منذ خير القرون وانتهوا فيها إلى رأيهم الذي ينفردون به فيما أعرف ، فحرّموا الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم ، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الذي يحارب الفاحشة.
    روت اُمّ المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنهاـ عن رسول الله أنّه قال : « أيّما رجل زنا بامرأة ثم تزوّجها فهما زانيان إلى يوم القيامة » (1) .
    يلاحظ عليه أوّلا : انّ الخضوع للعاطفة والتمسّك بهذه الذرائع إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة دليل من الشرع وإلاّ فيضرب بها عرض الجدار ، وإن نبع عن مبدأ عقلي!!! أو عاطفي ، فإذا كان الكتاب والسنّة واجماع الاُمّة حاكماً بجواز التزويج فلايسوغ لنا التمسّك بهذه الوجوه ، ويكفي في ذلك اطلاق قوله سبحانه : ( وَ أَُحِلَّ لَكُمْ ماوَرآءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتْغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِين ) (2) ، نعم عن بعض الفقهاء اشتراط الجواز بالتوبة ، وعلى كلّ تقدير فليس في الاُمّة من يحرّم إلاّ الحسن البصري ، وقوله شاذّ مخالف للكتاب واتّفاق الاُمّة.
    قال الشيخ الطوسي : إذا زنى بامراة جاز له نكاحها فيما بعد ، وبه قال عامّة أهل العلم ، وقال الحسن البصري : لايجوز ، وقال قتادة ومحمّد (وفي نسخة أحمد) : إن تابا جاز وإلاّ لم يجز ، وروي ذلك في أخبارنا (3) .
    وقال ابن قدامة : « وإذا زنت المرأة لم يحل لمن يعلم ذلك نكاحها إلاّ بشرطين :

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 111 ـ 112 ـ
    2 ـ النساء : 24.
    3 ـ الشيخ الطوسي : الخلاف ج 2 ، كتاب النكاح ، المسألة 71 ص 378.

    1 ـ انقضاء العدّة.
    2 ـ التوبة : وإذا وجد الشرطان حلّ نكاحها للزاني وغيره في قول أكثر أهل العلم ، منهم : أبوبكر وعمر و ابنه و ابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة والزهري والثوري والشافعي و ابن المنذر و أصحاب الرأي ، وروي عن ابن مسعود والبّراء بن عازب وعائشة : انّها لاتحلّ للزاني بحال ، ويحتمل انّهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة أو قبل استبرائها فيكون كقولنا ، فأمّا تحريمها على الاطلاق فلايصحّ لقول الله تعالى : ( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ماوَراءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِاَمْوالِكُمْ ... ) ، لأنّها محلّلة لغير الزاني فحلّت له كغيرها (1) .
    ثانياً : إنّ صيانة كرامة المرأة إنّما هو في تجويز الزواج لافي التحريم لأنّ الزواج ـ بعد الإثم ـ يغطّي الفاحشة التي صدرت منهما عن جهالة ، ويصير الفاعلان في المجتمع الإسلامي كزوجين شرعيّين يتعامل الناس معهما معاملة صحيحة وواقعية ، وأمّا إذا أفتينا بحرمة الزواج ، فالمرأة المخدوعة المحكومة بحكم العاطفة ربّما تلتحق بالغانيات إذا انتشر أمرها وظهر سرّها ، ورغب عنها كلّ شابّ غيور.
    3 ـ « قد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الاستجداء والمسألة ، واعتمد الاباضية تلك الأحاديث الشريفة فمنعوا المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال ، فإذا هانت عليه كرامته ، وذهب يسأل الناس الزكاة ، حرم منها عقاباً له على هذا الهوان ، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس ، والاعتماد على الكفاح » (2) .
    لاشك انّ السؤال و الاستجداء حرام شرعاً ومكروه في بعض الموارد ،

    1 ـ عبد الله بن قدامة : المغني 7 / 64 ـ 65.
    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 116.

غير أنّ الافتاء بتحريم الزكاة بحجّة صيانة ماء وجه السائل فتوى على خلاف الكتاب والسنّة ، ولو كان ذلك موجباً للتحريم لصدر فيه نصّ عن رسول الله لكثرة الابتلاءبها.
    أضف إلى ذلك انّه سبحانه يأمر باعطاء السائل وعدم نهره ، يقول سبحانه : ( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَ الَمحْرُومِ ) (1) .
    وقال سبحانه : ( وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) (2) .
    وقال سبحانه : ( وَ آتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامى وَالمَسَاكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ ) (3) ، والآية مطلقة تعم مورد الزكاة وغيره لولم نقل بورودها فيها.

    1 ـ المعارج : 24 ـ 25.
    2 ـ الضحى : 10.
    3 ـ البقرة : 177.

خاتمة المطاف

    قد تعرّفت في ماسبق على عقائد الاباضية وخصائصهم وقد اخترنا منها أموراً ثمانية بقي هنا أمرٌ يطيب لنا أن نلفت نظر القارىء إليه :
    أ ـ إنّ الاباضية لتجويزهم التقيّة جعلوا مسالك الدين أربعة تنتهي في المرحلة الرابعة إلى الكتمان المساوق للتقيّة ، فقالوا : مسالك الدين أربعة :
    1 ـ الظهور 2 ـ الدفاع 3 ـ الشراء 4 ـ الكتمان.
    إنّ للاباضية لجنة تقوم بالاشراف الكامل على شؤون المجتمع الاباضي تسمّى بـ « العزّابة » ولأجل ايقاف القارىء على خصوصيّات وصلاحيّات هذه اللجنة وشؤونها نأتي بنصّ كتابهم ، فإليك البيان :

مسالك الدين عند الباضية :
    إنّ المجتمع الإسلامي إمّا أن يكون ظاهراً على أعدائه ، حرّاً في أراضيه ، مستقّلا بأحكامه ، عاملا بكتاب الله وسنّة رسوله ، منفّذاً لأحكام الدين ، لايخضع

لأجنبيّ بوجه من الوجوه ، ولايستبدّ به حاكم ، ولا يطغى عليه ذو سلطان ، فهذه الحالة هي حالة الظهور ، وهي أكمل الحالات للمجتمع المسلم ، و عليها يجب أن تكون الاُمّة ، لأنّها المنزلة التي ارتضاها الله للمؤمنين ( وَ لِلَّهِ العِزَّة وَ لِرَسولِهِ وِ للمؤمِنينَ ). فإذا انحدر المسلمون عن هذا المقام ، وتضاءلوا عن هذا الشرف ، ونزلوا عن هذه المرتبة التي رفعهم إليها الإيمان بالله ، والثقة فيه ، فيجب أن لايهادنوا الظلم ، وأن لايستكينوا للطغيان ، وأن لايسمحوا للأيدي العابثة ، أن تعبث بمقدّرات الاُمّة ، فتنتهك حرماتهم ، وتحول دون اُمور دينهم ، وتتحكّم في أعمالهم وعباداتهم ، وتتصرّف في أموالهم بغير التشريع الذي وضعه عالم الغيب والشهادة ، والهدى الذي تركه محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) لأبناء الإسلام.
    إذا انحدرت الاُمّة إلى هذه الوهدة ، فيسيطر عليها عدوّ أجنبي ، أو تخلّى ـ من أولته الاُمّة ثقتها ، وأسلمته مقاليدها ، ووضعت بين يديه رعايتها ـ عن الأمانة ، وحاد بها عن الطريق ، وخان الله ورسوله والمسلمين فيما وضع بين يديه ، وجب حينئذ أن يقف المسلمون في طريق تلك الدولة الباغية ، يأمرونها بالمعروف ، وينهونها عن المنكر ، ويلزمونها أن تسلك بهم طريق الصواب ، فإذا اعتزّت بالإثم ، واستمرأن طعم الظلم ، واستكبرت أن تخضع لأمرالله ، وأن ترجع إلى سبيل الله ، فحينئذ يأتي القسم الثاني من التنظيم الإسلامي وهو الدفاع ، والدفاع في مسالك الدين يرادف ما يعبّر عنه في العصر الحاضر بالثورة ... الثورة على الاستعمار الأجنبي ، أو الثورة على الاستعمار الداخلي : كالثورة على الظلم ، والثورة على الاقطاع ، والثورة على الفساد ، والثورة على الانحراف عن دين الله في كلّ مظاهره وأشكاله. والزعيم الذي يقود هذه الثورة يسمّى « إمام الدفاع » وله على الاُمّة الثائرة حق الطاعة والامتثال ، مادامت

الثورة قائمة ، فاذا استقرّت الاُمور ، ورجعت إلى الهدوء والاستقرار ، أصبح واحداً من أفراد الاُمّة ، له حقوقهم ، وعليه واجباتهم ، ورجوع الاُمور إلى نصابها يكون بأحد أمرين : إمّا نجاح الثورة ، وإمّا فشلها ، ونجاحها يكون بأحد أمرين : إمّا استجابة الدولة لمطالب الاُمّة ، ورجوعها إلى أحكام الله ، وفي هذه الحالة ينتهي عمل الثورة إلى هذا الحد. وإمّا الإطاحة بالنظام الفاسد ، وقلب الحكم الظالم ، وتغييره إلى نظام إسلامي ، يتمشّى مع التشريع الذي جاء به كتاب الله الكريم ، وعندئذ أيضاً لايكون لزعيم الثورة أو أمير الدفاع ، أيّ حق في الحكم ، إلاّ إذا اختارته الاُمّة ، لشروط توفّرت فيه بعد الهدوء والاجتماع و التفكير والمفاضلة ، حسب الشروط المتبعة في اختيار أمير للمؤمنين.
    فإذا ضعف المسلمون حتى عن هذا الموقف ، وأصبحوا لايستجيبون لداعي الثورة ، ويفضّلون طريق السلامة ، ويركنون إلى الدعة والاستراحة ، جاء المسلك الثالث من مسالك الدين ، وهو الشراء : فحق لقلّة منهم إذا بلغوا أربعين شخصاً أن يعلنوا الثورة على الفساد ، وبما أنّ هذه الثورة التي يقوم بها عدد قليل ، لايتوقّع لها النجاح في كفاحها ضدّ دولة ظالمة مسلّحة ، واُمّة مسالمة راضية بالذل ، فإن هذا التنظيم يشبه أن يكون شغباً على دولة ظالمة حتى لاتطمئنّ إلى تنفيذ خططها الجائرة ، وقد لاتكون لها نتائج غير هذا القلق الذي يخيّم على الظالمين ، والتوجّس والخوف الذي يسود أعمالهم وحركاتهم ، ولذلك فقد اشترط لهذا التنظيم ، شروط قاسية لايقبلها إلاّ الفدائيّون ، الذين وهبوا حياتهم لحياة الاُمّة ، وذلك أنّه لايحلّ لهم بعد أن ينخرطوا في هذه المؤسّسة ، أن يعودوا إلى بلادهم ، أو يستقرّوا في أمكنتهم ، أو يتخلّوا عن رسالتهم ، حتى ينتهي بهم الأمر إلى النجاح أو القتل ، والقتل أقرب الأمرين إليهم ، وعندما تضطرّ الظروف أحدهم إلى منزله لشأن من شؤون تمديد الثورة ،

كالتزوّد ، فإنّه يعتبر في منزله غريباً مسافراً يقصر الصلاة. ولكنّه عندما يكون في شعف الجبال ، أو بطون الأدوية ، يقطع المواصلات على الطغاة ، أو يهدم الجسور التي تمرّبها القطر الظالمة ، أو يقتلع اُسس القلاع التي تجمع ذخيرة الجبابرة ، حينئذ يعتبر في منزله وبين أهله ، وهم في كلّ ذلك لايحلّ لهم أن يروّعوا الآمنين ، أو أن يسيئوا إلى المسالمين. إنّه تنظيم رائع للفدائية في الإسلام عندما يتحكّم الظلم ، ويستعلي عبيد الشيطان ، وتعطّل أحكام الله بأحكام الإنسان ، يقول أبو إسحاق : « الشراء من أخص أوصاف الاباضية ».
    فإذا رضيت الاُمّة بالذل ، واستسلمت للظلم ، وجرى عليها حكم الطغاة ، ولم يقم فيها من يثور لكرامة الإسلام المهدرة ، ولالشرف الرسالة التي أعزّت الإنسانية ، وتغلّب حبّ الدعة على كلّ فرد ، وركن الجميع إلى الراحة ، فلم تتكوّن حتى الفدائية التي تقضّ مضاجع الظالمين ، وتذكّرهم أنّ حكمهم لن يقر ، وأنّ كراسيهم لن تستقر ، وأنّ المقاومة لاتزال هي أمل المؤمنين ، وانّهم سوف يحاسبون أمام الله ، والاُمّة حساباً عسيراً.
    إذا ضعفت الاُمّة حتى عن هذه المرتبة ، أصبحت تحت التنظيم الأخير ، تنظيم الكتمان. وعندئذ يجب أن يبتعد المؤمنون عن مساعدة الظالمين بتولّي الوظائف الظالمة ، وأن تتولّى شؤونهم جمعيات تبثّ فيهم هداية الله ، وتملأ قلوبهم بالإيمان بالله ، وتنشر فيهم المعرفة والثقافة الاسلامية التي تبصّرهم بدين الله ، فلاتكون علاقتهم بالظالمين إلاّ في أيسر طريق ، وأضيق مجال ، فيما يتعلّق بجباية الأموال المفروضة عليهم للحاكمين ، وهي الجمعيّات ، أو ما يسمّى في التنظيم الاباضي « بحلقة العزّابة » (1) .

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 93 ـ 96.

 

العزّابة :
    تعريف العزّابة : العزّابة هيئة محدودة العدد ، تمثّل خيرة أهل البلد علماً وصلاحاً ، وهذه الهيئة تقوم بالاشراف الكامل على شؤون المجتمع الاباضي ، الشؤون الدينية ، والشؤون التعليمية ، والشؤون الاجتماعية ، والشؤون السياسية. وهي في زمن الظهور والدفاع تمثّل مجلس الشورى للإمام أو عامله ومن ينوب عنه. أمّا في زمني الشراء أو الكتمان فهي تمثّل الإمام وتقوم بعمله.
    تختار هيئة العزّابة من بينها شيخاً يسمّى « شيخ العزّابة » يكون أعلمهم وأكثرهم كفاءة ، ولايشترط فيه أن يكون أكبر هم سنّاً ، والشيخ يرأس الهيئة في جلساتها ، ويمثّلها في جميع أعمالها ، ويتكلّم باسمها ، وينفّذ قراراتها ، ويتولّى الاشراف المباشر على جميع شؤون البلد أو الاُمّة ، ويجب أن تعرض عليه جميع المشاكل والأحداث ، وحكمه بعد قرار الهيئة نافذ في جميع الأحكام.
    اشتقاق كلمة العزّابة : اشتقّت هذه الكلمة من العزوب أو العزابة ، وهي تعني العزالة ، والغربة ، والتصوّف والتهجّد ، والانقطاع في رؤوس الجبال ، ويقصد بها في هذا الاستعمال الانقطاع إلى خدمة المصلحة العامة ، والاعراض عن حظوظ النفس ، والبعد عن مشاغل الحياة ، من أهل ومال وولد ، فإنّ العزّابي لايعطي لهؤلاء من جهده ووقته إلاّ القليل ، أمّا أعظم طاقته فيجب أن يصرفها لله في خدمة المسلمين ، دون مقابل يتقاضاه على عمله ، أو أجر يرجوه منهم ، لأنّ أجره وحسابه على الله.

معنى كلمة الحلقة : كلمة الحلقة استعمال ثان يقصد به هيئة العزّابة ، فهي مرادفة لها ، وقد اُخذت هذه الكلمة من التحليق ، وهو الاستدارة ، وذلك انّ العزّابة في اجتماعاتهم الرسمية يجلسون على هيئة حلقة أو دائرة ، وهو أنسب وضع لتبادل الآراء ، ودارسة وجهات النظر المختلفة.

    كما أنّ الجلوس على هذا الوضع أفضل حال عند الدراسة ، أو تلاوة القرآن الكريم ، والاّتجاه إلى الله بالدعاء.

مقرّ العزّابة : المقرّ الرسمي للعزّابة يكون في المسجد ، ولذلك فلزام أن يكون في جانب من جوانب المسجد بيت خاص بالعزّابة ، ويستحسن أن يكون بعيداً عن مجالس الناس ، حتى لاتسمع المداولات التي تجري فيه ، وهذا البيت الخاص بهم لايجوز لغيرهم الدخول إليه مطلقاً ، ويتحتّم على الجدد منهم أن يقوموا بتنظيفه ومراقبته وفرشه وملاحظة جميع مايلزمه ، وفيه تحفظ وثائقهم فلايطّلع عليها أحد غيرهم. وجميع المداولات والمناقشات والمباحث التي تجري داخله تعتبر سرّيّة ، لايجوز اخراجها وافشاؤها لأيّ سبب من الأسباب ، ماعدا القرارات التي تّتخذ للتنفيذ فيتولّى الشيخ اعلانها ، وقد ينوب عنه أحد الأعضاء الآخرين ، ولايجوز للعزّابة أن يناقشوا أي موضوع في غيرمقرّهم الرسمي ، وبعد أن ينتهوا إلى قرار في أي موضوع يحق لهم أن ينتقلوا إلى مكان آخر لتنفيذ ذلك القرار ، إذا كان تنفيذه يقتضي منهم الانتقال ، وإذا أصدروا أمراً في شأن من الشؤون الاجتماعية للبلد ، كتحديد المهور ، أو تحديد الأسعار ، أوبدء العمل في المواسم الزراعية ، أو ما شاكل ذلك ، فلم يستجب الجمهور لقرارهم ، اعتصموا في مقرّهم ، ولزموا المسجد دون أن يقوموا بأعمالهم المعتادة ، وامتنعوا من دخول الأسواق والبلد ، حتى يستجيب الناس للحكم ، ويقوموا بتنفيذ الأمر ، ولم تحدث مثل هذه الحالة عند الاباضية في ليبيا ، إلاّ عدداً قليلا من المرّات ، استجاب فيها الناس لأمر العزّابة بأسرع مايمكن ، بل لقد كان الناس يسارعون حين يسمعون بمثل هذا الموقف من العزّابة ، فيقنعون بعضهم ، ويبلّغون موافقتهم إلى المجلس قبل حضور وقت الصلاة الثانية ، فتسيرالاُمور في معتادها.

عدد أعضاء الحلقة : يتراوح عدد أعضاء الحلقة بين عشرة أعضاء وستة عشر عضواً ، يوزّع عليهم العمل كما يأتي :
    1 ـ شيخ العزّابة : ويكون أعلم القوم ، وأقواهم شخصية ، وأقدرهم على حلّ المشاكل.
    2 ـ المستشارون : ويكون عددهم أربعة لايزيدون ولاينقصون ، ويلزمون الشيخ ، ولايقطع أمراً دون موافقتهم.
    3 ـ الإمام : شخص واحد ، يقوم بصلاة الجماعة ، ويجوز أن يكون أحد الأربعة المستشارين.
    4 ـ المؤذّن : وهو شخص واحد مسؤول عن تحرّي أوقات الصلاة ، والقيام بمهمّة الأذان ، ويصحّ أن يكون أحد الأربعة المستشارين.
    5 ـ وكلاء الأوقاف : يخصّص عضوان للاشراف على الأوقاف ، وعلى ميزانيّة الحلقة ، وضبط الواردات والصادرات ، وطريقة اصلاح وتنمية الأوقاف ، ويشترط في هذين العضوين بالاضافة إلى الشروط العامّة لأعضاء الحلقة ، أن لايكونا من الأغنياء المكثرين ، ولامن الفقراء المعوزين ، ولكن من متوسّطي الحال المستورين.
    6 ـ المعلّمون : يخصّص ثلاثة أعضاء أو أكثر أو أقلّ حسب الحاجة ، للاشراف على التربية والتعليم ، وتنظيم الدراسة ، ومراقبة التلاميذ في المحاضر ، وهي دور التعليم ، أو في الأقسام الداخلية ، وما إلى ذلك من شؤون التعليم.
    7 ـ حقوق الموتى : يخصّص أربعة أعضاء أو خمسة للاشراف على حقوق الموتى ، فيتولّون الاشراف على غسلهم ، وتجهيزهم ، والصّلاة عليهم ، ودفنهم ومراقبة تنفيذ وصاياهم ، وتقسيم تركاتهم حسب الفرائض في أحكام

الإسلام.
    وإذا توفّي شخص وهو في براءة المسلمين بأن مات على معصية ، فإنّ هؤلاء العزّابة لايقومون بحقوقه ، لأنّ العاصي لاحقّ له على المؤمنين ، ولكنّهم يسمحون لمن شاء من غير أعضاء الحلقة أن يقوم بتلك الحقوق ، ذلك أنّ القيام باُمور الميّت فرض على الكفاية ، إذا قام به البعض أجزى عن الباقين.

شروط العضوية : يشترط في أعضاء العزّابة عدّة شروط ، منها :
    1 ـ أن يكون حافظاً لكتاب الله.
    2 ـ أن يمرّ بمراحل الدراسة مرحلة مرحلة ، ويستوفي الدراسة فيها.
    3 ـ أن يكون محافظاً على الزّي الرسمي للطلبة عندما كان في الدراسة ، وللزّي الرسمي للعزّابة عندما يدخل الحلقة.
    4 ـ أن يكون أديباً كيّساً فطناً ، ذا لباقة ومهارة في تصريف الاُمور.
    5 ـ أن يكون محبّاً للدراسة راغباً فيها ، مواصلا للتعلّم والتعليم.
    6 ـ أن لاتكون له مشاغل دنيوية كثيرة تحمله على كثرة التردّد على الأسواق ، والاختلاط بالعامّة والسَوَقة ، اختلاطاً يزري بمقامه ، ويذهب بهيبته.
    7 ـ أن يغسل جسده بماء ويغسل قلبه بماء و سدر ، وهذه عبارة اصطلاحية ، يقصد منها أن يكون الإنسان نظيف اليد ، والبطن ، والعين من أموال الناس ، وأن يكون نظيف القلب من جميع أمراض القلوب ، أي أن يكون طاهر الباطن والظاهر.
    وقد شرح أبو عمار عبد الكافي هذه العبارة ، بقوله : « أمّا الجسد فيغسله من الدنس في الناس ، وأمّا القلب فيغسله من الغش والتكّبر وما أشبه ذلك ممّا يوجب حبط العمل » والعبارة كماترى في غاية الدقّة ، وهي تحتمل أكثر ممّا أشرت إليه وأشار إليه العلاّمة أبو عمار فتأمّلها ، فكلّما تأمّلتها وجدت فيها

معنى جديداً ....
    ولقد شدّد المشايخ في تنظيف المؤمن لقلبه ، لأنّ أدران القلوب أشدّ قذارة من أدران الأبدان ، ولذلك أوجبوا عليه أن يغسل جسده بالماء ، وأن يغسل قلبه بماء وسدر ، وهي كناية تفيد الحرص الشديد على نظافة الباطن أكثر من نظافة الظاهر ، فإنّ من طهرت سريرته حسنت سيرته ، واستقامت اُموره ، وكثرت محاسبته لنفسه ، ورعايته لسلوكه ، وفي ذلك النجاح.

واجبات الحلقة : على هيئة العزّابة واجبات أكيدة هي مسؤولة عنها باعتبارها هيئة ، وتتلخّص هذه الواجبات فيما يلي :
    1 ـ الاشراف على التعليم وتهيئة الوسائل لذلك ، وتيسير السبل أمام جميع الأطفال لينالوا قسطاً من الدراسة ، ويتعلّموا جزءاً من القرآن الكريم وما يعرفون به اُمور دينهم ، وهذا أقل ما يمكن أن يتاح للطفل ، فإذا كانت اُسرة الطفل فقيرة بحيث لاتستغني عن مجهوده الضعيف ، أو ليس لها ما تموّنه به أوقات الدراسة ، وجب أن تقدّم له مساعدة ، وذلك بالانفاق عليه.
    2 ـ مراعاة الحالة الاجتماعية للناس ، وتيسير سبل الحياة للفقير والضعيف وايجاد العمل للجميع ، وذلك بمطالبة الأغنياء وأصحاب اليسار أن يستعينوا بالفقراء في انجاز أعمالهم مقابل اُجور ، كثيراً ما يعيّنها أعضاء العزّابة.
    3 ـ حلّ المشاكل التي تنجم بين الناس ، والفصل في قضاياهم ، والحكم بينهم في خصوماتهم وايصال الحقوق إلى أصحابها.
    4 ـ الاشراف على أوقاف المساجد ، وعلى ميزانية الحلقة أو ضبط الصادر والوارد ، وانفاق جميع ذلك في وجوهه ، والعمل على تنمية الأوقاف الثابتة ، واصلاحها ، واستغلالها أحسن استغلال.
    5 ـ حفظ الأسواق ومراقبتها من أن تقع فيها معاملات لايبيحها الشرع ، أو

أن ترد إليها أموال مسترابة أو مشبوهة.
    6 ـ تنظيم الحراسة البلدية على أموال الناس من زراعة وماشية حتى لاتصل إليها أيدي الغارة والسرقة والاضرار.
    7 ـ الحكم على العصاة والمجرمين وتأديبهم ، واعلان البراءة منهم ، وقطع التعامل معهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله.
    8 ـ القيام بالعلاقات الخارجية وتنظيمها ، سواء كانت علاقات حرب أو سلام.
    هذه بعض المهام التي تناط بمجلس العزّابة باعتباره هيئة مسؤولة عن المجتمع أمام الله وأمام الناس ، وعلى الهيئة أن توزّع الأعمال على الأعضاء حسب الكفاءة والمقدرة ، والذي يقوم بذلك إنّما هو الشيخ بعد اتّفاق الحلقة.

أين تنشأ حلق العزّابة : تنشأ حلق العزّابة في كل بلد أو قرية ، وحلقة العزّابة هم الذين يشرفون على اُمور البلد أو القرية الخاصّة ، فإذا كان هنالك أمر هام ، أو حدث أكبر من مستوى القرية أو البلد رفع إلى المجلس الأعلى للعزّابة الذي يرأسه الشيخ الأكبر ، أو حاكم الجبل حسبما كان في جبل نفوسة ، وذلك كمسائل ايقاع الحدود ، وما يتعلّق بالأمن العام ، وما إلى ذلك من المشاكل التي تكون أكبر من المستوى المحلّي للقرية ، والهيئة الكبرى للعزّابة أو الهيئة العامة لهم هي الهيئة التي يرأسها الشيخ الأكبر ، ولابدّ أن يكون شيخاً للعزّابة في بلده ويقوم مقام الإمام في أزمنة الكتمان ، أمّا أعضاء العزّابة الذين يكونون معه فهم المستشارون ، ويكونون من شيوخ حلق العزّابة في بلدانهم. ومقرّهم هو مركز البلاد وعاصمتها ، ولهم مع الشيخ اجتماعات دورية ، مرة في كلّ ثلاثة أشهر ، ومتى دعت الحاجة. وأحكام هذا المجلس نافذة على جميع البلاد ، وكل الحلق خاضع مادّياً وأدبيّاً لهذا المجلس ، ويعتبر السلطة الحقيقية للمجتمع

الاباضي ، أمّا بقية الحلق فهي مساعدة له ، منفّذة لأعماله ، ويجب على الشيخ الأكبر للعزّابة ان يكون مقر حكمه في مركز البلاد ، فإذا اختار السكن في غير ذلك المكان فعليه أن يباشر الأحكام في مركز الحكم لا في محل السكن كما كان يفعل أبو هارون موسى بن هارون ، وأبو عبدالله بن جلداسن اللالوتي ، وأبو يحيى الارّجاني ، وغيرهم.
    إنّ شيخ العزّابة في المجتمع الاباضي يمثّل سلطة الإمام العادل ، ويقوم بجميع مهامه في النطاق الذي تسمح به ظروف الحياة في زمن كل واحد منهم. وهو مقيّد بمجلس الشورى الذي لايحق له أن يصدر رأياً قبل موافقته ، اللّهمّ إلاّ في الأحكام الثابتة في الدين الإسلامي ، وله أن يستعين بشخص يقوم له مقام المفتي ، والقصد من هذا المفتي هو تحرير نصوص الحكم المستمدّة من الشرع الشريف ، أو المساعدة على ترجيح الأقوال في المسائل الخلافية التي تتعدّد فيها وجهات أنظار الفقهاء. وليس المقصود من وجود المفتي أن يبصر الشيخ باحكام لا يعرفها ، لأنّ شيخ العزّابة يشترط فيه أن يكون من أعلم المشايخ ، إذا لم يكن أعلمهم.
    وفي الاجتماعات الدورية التي تعقد في ثلاثة أشهر ، أو في ستّة أشهر ، يحضر ممثّلون عن جميع حلق العزّابة ، ويستعرضون ما لديهم من مشاكل ، ويدرسون معاً وضع المجتمع ، ويتّخذون في ذلك القرارات اللازمة ، يرسمون خطط السير في المستقبل ، على أنّه يحق لكل حلقة أن تتّصل بالمجلس الأعلى وتدعوه للانعقاد إذا كانت هنالك أسباب تدعو إلى ذلك ، كما أنّ لها الحق أن تعرض مشاكلها الخاصة على الشيخ الأكبر ، وتقتبس منه الرأي والنصيحة.
    ويمثّل كلّ حلقة من حلق العزّابة شيخها وبعض مستشاريه ، إلاّ في أحوال الضرورة التي يتعذّر فيها عليه أن يقوم بهذه المهمّة.

اختيار أعضاء الحلقة : يراعى في اختيار العزّابة بالاضافة إلى الشروط التي يجب أن تتوفّر في كل شخص أن يكونوا ممثّلين للقبائل أو الجهات التي يشتمل عليها البلد ، ولايشترط تساوي العدد ، كما أنّه إذا لم يوجد في قبيلة ما ، من تتوفّر فيه الشروط الشخصية اُخذ من غيرها ، وعندما يحتاج العزّابة إلى اضافة عضو جديد إلى الحلقة يأخذونه عن أحد طريقين :
    إمّا أن يطلبوا من القبيلة التي يراد أخذ العضو منها أن ترشّح عدداً ممّن تتوفّر فيهم شروط العضوية والكفاءات المطلوبة مع الشهرة بالصلاح ، والتقوى ، والعفاف ، والنزاهة ، وحب الخير ، والايثار ، والتضحية ، والعمل للصالح العام ، فتختار الهيئة واحداً منهم ، وإمّا أن يطلبوا إلى منظمة « إيرْوان » أن يقدّموا إليهم واحداً ممّن يملأ ذلك الفراغ.
    حين يتعيّن العضو لأن يشغل مركزاً في العزّابة ، يدعى إلى مقرّهم الرسمي ويتولّى الشيخ تعريفه بالسيرة التي يجب عليه أن يسيرها ، وبالأدب الذي يلتزمه ، ويؤكّد عليه أن يعرف انّ من أوكد الواجبات عليه أن يحافظ على آداب الإسلام ، ويتخلّق بأخلاقه الحميدة ، من الاستقامة والنزاهة ، والعفّة ، والانقطاع إلى خدمة الاُمّة ، والتزام المسجد ، والاعراض عن حظوظ الدنيا إلاّ بمقدار الضرورة ، والاجتهاد في العبادة ، والتواضع للمؤمنين ، والغلظة على العصاة والمجرمين ، وأن يكون قدوة حسنة للناس في قوله وفي عمله ، وأن يتحرّى في رزقه التحرّي الكامل ، ويختار له أن يكون مجال احترافه الزراعة ، لأنّ التجارة تسبّب له احتكاكاً مباشراً بالناس ، فيغلب أن لايسلم منها بالحق أو بالباطل ، وهم يلخّصون هذا الموقف في عبارة مشهورة متداولة هي :
    « أن لايكون في مسجده ، أو حقله أو بيته » وبعد أن يعرّف بجميع ما يترتّب عليه من حقوق وواجبات ، وما يلقى عليه من مهام ومسؤوليات ، يطلب

إليه أن يعلن عن قبوله أو رفضه ، فإذا أعلن قبوله ـ وهذا ما يحدث فعلا ـ اُسندت إليه المهامّ العملية ، كأن يقوم بالتدريس أو وكالة المسجد ، أو الاشتراك في الاشراف على حقوق الموتى ، ثمّ اعلم انّه يعتبر أصغر العزّابة ، ولو كان أكبر من بعضهم سنّاً ، وعليه أن يتولّى خدمتهم ، ويطلب إلى سلفه ـ أي العزّابي الذي كان أصغرهم قبل هذا العضو الجديدـ أن يبقى معه ثلاثة أيّام ، يدرّبه فيها على آداب خدمة العزّابة ، لأنّه يعتبر رئيسه المباشر ، وعندما يجلس العزّابة يتحتّم أن يكون مجلسه بعده ... وترتيب مجالس العزّابة ضروري ، فلايجوز للمتأخّر أن يسبق المتقدّم ، والعزّابي يعتبر رئيساً في أي مكان يوجد فيه ، وله وحده حق افتتاح الكلام في المجالس العامّة ، وكذلك اختتامه ، وادارة المناقشات ، وما إلى ذلك ، فلايجوز لتلميذ أو عامي أن يتولّى شيئاً من ذلك إلاّ بإذنه.

عقوبة العزّابي :
    المطلوب من العزّابي أن يكون قدوة ومثلا للاستقامة ، ولذلك فإنّ ما يعتبر من غير أخطاء صغيرة يعتبر منه أخطاء كبيرة يجب عليه الاحتراس منها ، والابتعاد عنها ، وهذا حتى في مكارم الأخلاق ، ومعاملة الناس ، فإذا قدّر عليه فأخطأ ، نظر مجلس العزّابة في موضوعه :
    فإن كان الخطأ كبيراً يتّصل بمعصية الله ، ويسىء إلى سمعة العزّابة ، أو يلحق إهانة بالمسجد أو استخفافاً بالحق ، أو ما أشبه ذلك ، وجب عليهم أن يحكموا عليه بالبراءة على الأشهاد ، كما يقع بالنسبة لغيره من الناس ، ولايرفع عنه حكم البراءة حتى يتوب علناً ، وليس له بعد ذلك حق الرجوع إلى مجلس العزّابة أبداً ، فإنّ من اُخرج من هذا المجلس بطريق البراءة لايحق له دخوله مرّة

ثانية ، وإن تاب ونصحت توبته ، ويبقى كسائر المسلمين له حقوقهم وعليه واجباتهم.
    أمّا إذا كان الخطأ صغيراً لايقتضي التوبة ، فإنّهم يعقدون له مجلس تأديب سرّي ، وقد يحكمون عليه بالابعاد عن مجلس العزّابة لمدة طويلة أو قصيرة حسب الخطأ الذي ارتكبه ، وستروا عليه ذلك عن الناس.
    وبسبب هذا الحكم كان العزّابة من أشد المحافظين على الإسلام وآدابه ، وقد لخّص أحد المشايخ هذه السيرة في عبارة لطيفة فقال : « إنّ متولّي الناس مثل اللبن يغّيره أي شيء يقع عليه ».

كيف تكون نظام العزّابة :
    في أواخر القرن الثالث الهجري وقعت حادثتان كبيرتان ، وكان لهما أثر كبير على الاباضية ، في ليبيا و تونس والجزائر :
    الاُولى : الحرب الطاحنة بين الأغالبة والاباضية في قصر مانو ، وقد تلقّى فيها الاباضية ضربة عنيفة من يد الطاغية أحمد بن الأغلب.
    أمّا الثانية : فهي تغّلب الشيعة على الدولة الرستمية في الجزائر ، وقضائهم على هذه الدولة.
    وإذا كانت كلتا الدولتين الأغلبية والشيعية لاتتبعان أحكام الإسلام ، ولاتعملان بها ، فقد فكّر علماء الاباضية في جعل نظام يسيرون عليه ، يحفظون به أحكام الله في مواطنهم ، ويسيّرون به الاُمّة في الوجهة الصالحة ، دون أن يلتجئوا إلى اعلان دولة جديدة ، أو يتعلّقوا بدولة ظالمة مستبدّة.
    فاهتدوا إلى وضع هذا النظام ، وقد كان في أوّل الأمر عرفاً يسير عليه الناس ، حتى جاء الإمام الكبير أبو عبدالله محمد بن بكر في أواخر القرن الرابع ، (301)

فحرّره على شكل قانون يشتمل على مواد ، ثمّ طبّقه تطبيقاً كاملا في مواطن الاباضية ، في ليبيا ، ثمّ في تونس ، ثمّ في الجزائر ، حيث لايزال يطبّق بدقّة ، وعلى هذا الأساس اعتبر المؤرّخون أنّ الإمام أبا عبدالله هو واضع نظام العزّابة ، والحق أنّه يعتبر واضعاً لهذا النظام ، فلولاه لما وصل إلينا على تلك الطريقة المنسّقة ، وقد جاء بعد أبي عبدالله عدد من العلماء الكبار عنوا بدراسة هذا النظام عناية خاصّة ، وأضافوا إليه بعض المواد ، وأطلق عليه بعضهم لفظ « سيرة العزّابة » ومن العلماء الذين عنوا به ، وكتبوا عنه : أبو زكريا يحيى بن بكر ، وأبو عمّار عبدالكافي ، وأبو الربيع سليمان بن يخلف المزاتي ، وقد حرص المتأخّرون منهم أن يضيفوا إليه جملا في آداب العالم والمتعلّم ، وآداب حلقة العزّابة وما يجب أن تتنزّه عنه.
    والذي يدرس هذا النظام كما شرحه اُولئك الأئمّة الأعلام يخرج بقانون فذّ لنظم التربية والتعليم من جهة ، وللسيرة الصالحة التي يجب أن يسير عليها المسلمون ، فتحفظ عليهم خلقهم ودينهم ، عندما تسيطر عليهم دول البغي والعدوان.
    هذا ملخّص يسير مختصر عن نظام العزّابة الذي بقى يسير به الاباضية في المغرب الإسلامي مُدّة طويلة.
    وقد ارتفع حكم العزّابة من مواطن الاباضية ، في ليبيا وتونس في القرن الأخير ، ومنذ ارتفع نظام العزّابة في هذه المواطن تسرّب الفساد إلى المجتمع ، ولن يستطيع الاباضية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه من دين وخلق واستقامة مالم يعودوا إلى الاستمساك بدين الله واللياذ به ، وانّ المسلمين جميعاً ما اُصيبوا به إلاّ لانحرافهم عن دين الله ، وخروجهم عن منهاجه.
    ولن يصلح آخر هذه الاُمّة إلاّ بما صلح به أوّلها.

نصيحة للاباضية

    أظن أنّ العالم الاباضي إذا قرأ فصول هذا الجزء لايرمينا بالبخس لحقّه ، والتجاهل لمذهبه ، والتساهل في نقل عقائده بعدم الرجوع إلى المصادر الأصيلة لهم ، كما اتّهم به غيرنا من كتّاب المقالات (1) .
    وذلك لأنّا كما رجعنا إلى كتب المخالفين رجعنا إلى مصادرهم أيضاً ، ولنا هنا موقف خاص و هو موقف الناصح الشفيق لاخوانه في الدين ، لايريد من القاء هذا النصح سوى وجه الله ـ تبارك و تعالى ـ ودعم وحدة الاُمّة وقطع جذور الاختلاف بقدر الامكان.
    إنّ كتّاب الاباضية اليوم وأمس خرجوا بهذه النتيجة أنّه لافرق بينهم وبين جميع فرق المسلمين إلاّ في أمرين :
    1 ـ تخطئة التحكيم.
    2 ـ نفي لزوم القرشيّة في الإمام.

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/19 ـ 20.

    وأمّا سائرالاُصول التي يعتقدون بها فهم يلتقون فيها مع بعض الفرق الإسلامية ، مثلا يلتقون في القول بعدم زيادة صفاته على ذاته ، وامتناع رؤية الله سبحانه في الآخرة ، وتنزيهه سبحانه عن وصمة التشبيه بتأويل الصفات الخبرية تأويلا تؤيّده قواعد الأدب والمحاورة وحدوث القرآن ، ففي هذه الاُصول يلتقون مع المعتزلة والشيعة الإمامية ، وفي تفسير الشفاعة بمعنى ترفيع الدرجة ، أو سرعة الدخول إلى الجنّة وخلود أهل المعاصي في النار يلتقون مع المعتزلة ، وفي تفسير القدر و كون أفعال الانسان مخلوقة لله سبحانه فهو خالق و العبد كاسب يلتقون مع الأشاعرة (1) .
    إذا سلّمنا أنّ هذه الاُصول من عقائدهم وسلّمنا أنّ ما كتبه كتّاب الفرق ورموهم به فرية بلامرية ، نرى أنّ من الواجب أن تقوم الطائفة الاباضية بالاُمور التالية حتى يدعم الوئام ويملأ الفراغ وتصبح الاُمّة يداً واحدة ، وهي :
    1 ـ إنّ الإيمان بصحّة كل ما يكتبونه عن منهجهم ويفسّرون به عقائدهم مشكلٌ جدّاً لما وافاك من أنّ لهم في تبيين الدين مسالك أربعة ومن بين تلك المسالك : « الكتمان والسر » فعندئذ انّه من المحتمل أن تكون كل هذه المناشير مستقاة من هذا المبدأ وأنّها دعايات برّرتها التقيّة ، وسوّغتها المصالح الزمنيّة.
    فلأجل استقطاب قلوب الناس ، حان حين الشطب على هذه المسالك في تبيين الدين ، خصوصاً انّ القوم يعيشون في عصر الحريّة ، وعندئذ لامبرّر لهم للتقّية لأنّ التقيّة شأن من يخفي عقيدته من مخالفه ، ويخاف من ابداء موقفه من الهجوم والقتل والضرب ، وأنتم بحمدالله أيّها الاباضيّون ملتقون مع الفرق الإسلامية في جميع المسائل إلاّ مسألتين غير هامّتين ، فأجهروا بالحقيقة واشطبوا على هذه المسالك واتّخذوا مسلكاً واحداً.

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/289 ـ 297.

    2 ـ إذا كان الحدّ الفاصل بينكم وبين سائر المسلمين هو الأمران المذكوران ، فمن الجدير شطب القلم على هذين الأمرين ايضاً : أمّا مسألة القرشية فلو كان شرطاً فإنّما هو شرط في الخلافة الإسلامية والإمامة الدينية ، وأين المسلمون من هذه المنى؟ وأين هم به من إقامة صرح الإمامة ، وهم يعيشون في سحيق القومية البغيضة النامية في أقوام المسلمين ، والعجب انّ الشيخ علي يحيى معمّر قد تنّبه بما ذكرنا ، وقال :
    « والآن قد ألغت الحياة بعض تلك الاعتبارات التي أدخلتها السياسة على الموضوع ، واتّضح للناس جميعاً انّ الصراع الذي وقع بسبب اشتراط الوصية ، أو الهاشمية أو القرشية ، أو العروبة أو اعتبار الإمام معصوماً ، أو لايجوز اسقاطه ولو كان منحرفاً ، كل هذه الجوانب التي كان الخلاف بسببها بين فرق الاُمّة ثبت اليوم أنه صراع على تفصيلات لاتدخل في أصل الموضوع » (1) .
    إنّ فيما ذكره و إن كان إغراقاً حيث انّ البحث عن الوصاية ليس بالمرتبة التي تخيّلها ، لأنّه كان يجب على المسلمين بعد رحلة النبي أن يبحثوا عن كيفيّة الاستخلاف وانّه هل هو أوصى برجل أو أدلى الأمر إلى الاُمّة ، ولكن وراء ذلك كلّه مشاغبات حدثت بين المسلمين ، لاتمت إلى الإسلام بصلة ، فإذا كان شرط القرشية وعدمها هذا فما هو المبرّر لجعله أصلا دينياً.
    أما مسألة التحكيم ، فقد عرفت الحقّ فيه ، ولكنّه ليس أصلا من اُصول الدين يناط به الإسلام و الإيمان وقد عاش المسلمون في عصر النبي وبعده إلى أواسط خلافة الإمام علي ( عليه السَّلام ) ولم تكن هذه المسألة مطروحة. أفهل يصحّ أن نتّخذه شعاراً وأصلا أصيلا من الاُصول كالتوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، وما جاء به النبي في مجال المعاش والحياة؟

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 2/150.

 

    إنّ مسألة التحكيم مسألة تاريخية اختلف فيها الناس من حيث التصويب والتخطئة ، فإذا لم تكن الإمامة عند أهل السنّة ، أصلا من الاُصول فكيف يكون فرعه اصلا منها؟ وأقصى ما عند أهل السنّة قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » وهو لايدل على أزيد من لزوم معرفة الإمام الحي ، فالاعتقاد بوصف فعل الإمام (صحّة التحكيم وعدمه) الذي مضى قبل أربعة عشر قرناً لايكون أصلا من الاُصول حتى تلزم الاُمّة بالاعتقاد بأحد الطرفين. نعم إنّ ذلك لايمنع عن طرح الموضوع على بساط البحث بين العلماء وبين المدارس والصفوف العلمية من دون أن يكون تحيّز كل فئة في المسألة سبباً للتفرقة.
    3 ـ إنّ الاباضية يثنون على المحكّمة الاُولى كعبدالله بن وهب ، وحرقوص بن زهير السعدي ، وزيد بن الحصين الطائي ، ومن لفّ لفّهم من المحكِّمة الاُولى ولايذكرون عنهم شيئاً سوى أنّهم خالفوا التحكيم ، وانّ عليّاً حكَّم الرجال في موضوع له حكم في الكتاب والسنّة وهو قتال أهل البغي ...
    يذكرون ذلك ويطرون عليهم ولايذكرون من عملهم الإجرامى شيئاً وهو أنّ هؤلاء هم الذين فرضوا التحكيم على الإمام ، وانّ زيد بن الحصين الطائي جاء مع زهاء عشرين ألف رجل مقّنعين في الحديد ونادوا الإمام باسمه لابإمرة المؤمنين ، وقالوا له : لابد من الموافقة على وضع الحرب ، وإلاّ نقتلك كما قتلنا عثمان ، فاضطرّ الإمام إلى التنازل والموافقة بعد ما خالفهم واحتجّ عليهم بأنّ رفع المصاحف خدعة ومكيدة ، وانّه يعرف هؤلاء وانّهم كانوا شرّ أطفال فصاروا شرّ رجال.
    هذا هو زيد بن الحصين الطائي فهو بعد فترة قصيرة أصبح مخالفاً للتحكيم إلى حدّ كان هو المرشَّح الأوّل للخوارج في قضية سوق المحكّمة إلى النهروان ،

ولمّا امتنع من قبول القيادة اقترح على حرقوص بن الزهير السعدي ، ثمّ على غيره فقبل القيادة في النهاية عبدالله بن وهب الراسبي (1) .
    فكيف يتولّون جماعة متسرّعين في القضاء تسمّونهم أئمّة وشهداء ولاتذكرون من عملهم الاجرامي شيئاً؟! شهد الله انّي لم أر كلمةً في كتبهم تذكر عملهم الإجرامي في أمر التحكيم.
    4 ـ إنّ الاباضية وصلت في ضوء الاجتهاد المطلق مرتبة جديرة بالذكر وآية ذلك انّهم التقوا في مسألة الرؤية ، وعينيّة الصفات ، وحدوث القرآن ، وتفسير الصفات الخبرية ، مع أهل الوعي والعقل والتفكير من المسلمين ، ولاشكّ إنّهم وصلوا إلى هذه الاُصول بعد موت عبدالله بن اباض ، وجابر بن زيد ، ومسلم بن أبي كريمة ، والربيع بن حبيب ، لأنّ هذه الاُصول إنّما صفت وتنوّرت وتلألأت بفضل البحوث الجبّارة من أهل الفكر و التحقيق و من فضل ماورث علماء أهل البيت من خطب الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) حتى صقلوها ببراهينهم الجليّة ، فإذا كان هذا حال مذهبهم فلأي مبرّر يسندون مذهبهم إلى واحد من التابعين كعبدالله بن اباض وجابر بن زيد وتلاميذه؟ مع أنّهم لم يكونوا بالنسبة إلى هذه المسائل في حلّ ولامرتحل.
    أضف إلى ذلك أنّ الرجلين كانا من التابعين أخذوا عن الصحابة وبلغوا إلى ما بلغوا من العلم ، ولكن بين علماء الاُمّة من كان أعلم منهما أعني اُستاذه ابن عباس ، ذلك البحر الموّاج ـ حسب تعابير القوم ـ ، بل وبينهم الإمامان الحسن و الحسين ، وباقر العلوم ، وجعفر الصادق (عليهم السلام) وغيرهم فلوكان هناك ملزم للانتساب ، فالانتساب إلى الأعلم والأتقى ومن نصّ الكتاب على وجوب ودّه ، أولى وألزم ، فإن كان هذا الانتماء غير ممكن فالانتماء إلى

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/5.

جميع الصحابة والتابعين بلا رفع واحد و خفض آخر ، أولى وأحق.
    5 ـ إذا كان الكتاب و السنّة هما المصدران الرئيسيان لدى المسلمين ولديكم فنحن نحبّذ لكم دراسة حال حياة الإمام علي ( عليه السَّلام ) ومناقبه الواردة في السنّة النبوية ، ولعلّكم عند ذلك سترجعون عن ولاء المحكّمة الاُولى ، وتخطّئون منهجهم وأعمالهم.
    هذه أمنيتي واُمنية كل ناصح مشفق ، عسى الله أن يجمع كلمة المسلمين ويلمَّ شعثهم ، ويجعلهم يداً واحدة قبال المعتدين والمستعمرين ، والله رؤوف رحيم.


source : http://aqedaty.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :
بعض مصادر حديث ( لا فتى إلا علي .... )
مسألة عدالة الصحابة باختصار
الآيات النافية لاِمكان الرؤية
إجتهاد عمر في آيات الخمر

 
user comment