عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

مقتطفات من تفسير الميزان لسورة آل عمران

 ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ ) .

سورة آل عمران : آية : 7 .

  الإحكام غير الإحكام والتشابه غير التشابه :

لمّا كان قوله : ( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه ، عِلْمنا به أنّ المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ) .

سورة هود : آية : 1 .

وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله : ( كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) .

سورة الزمر : آية : 23 .

وقد وصف المحكمات بأنّها أُمّ الكتاب ، والأُم بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء ، وليس إلاّ أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها ، فالبعض من الكتاب وهي : المتشابهات ، ترجع إلى بعض آخر وهي : المحكمات .

تفسير الميزان : السيد الطباطبائي : ج3 ، ص 20 .

شيء عن المحكمات والمتشابهات :

في إفراد كلمة الأُم من غير جمع دلالةٌ على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها ، بل هي متّفقة مؤتلفة . وقد قُوبلتْ المحكمات في الآية بقوله : ( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) والتشابه توافق أشياء مختلفة واتحادها في بعض الأوصاف والكيفيّات ، وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن بهذا الوصف حيث قال : ( كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) سورة الزمر : الآية : 23 .. والمراد به ـ لا محالة ـ كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم وإتقان الأسلوب وبيان الحقائق والحكم والهداية إلى صريح الحق ، كما تدلّ عليه القيود المأخوذة في الآية ، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب ، وأمّا التشابه المذكور في هذه الآية أعني قوله : ( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) فمقابلته لقوله : ( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) .

وذكر اتّباع الذين في قلوبهم زيغ لها ؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل ، كل ذلك يدلّ على أنّ المراد بالتشابه : كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرّد استماعها ، بل يتردّد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب ، فتعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة ، والآية المحكمة محكمة بنفسها ، كما أنّ قوله : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) سورة طه : الآية : 5 .. يشتبه المراد منه على السامع أوّل ما يسمعه ، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) سورة الشورى : الآية : 11 .. استقرّ الذهن على أنّ المراد به التسلّط على الملك والإحاطة على الخلق ، دون التمكّن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسّم المستحيل على الله سبحانه ، وكذا قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) سورة القيامة : الآية : 23 . إذا أُرجع إلى مثل قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) سورة الأنعام : آية : 103  . عُلم به أنّ المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسّي ، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبيّن أنّ المراد بها حكم محدود بحدّ الحكم الناسخ ، وهكذا .

فهذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه ، ويتلقّاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) .. فإنّ الآية محكمة بلا شك ، ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً ، ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدلّ عليه قوله : ( مِنْهُ آيَاتٌ ) .. إلخ ، وبطل العلاج الذي يدلّ عليه قوله : ( هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) .. ولم يصدّق قوله : ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً ) سورة فصلت : الآية : 3 ـ 4 .. ولم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) سورة النساء : الآية : 82 .. إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن نور وهدى ، وتبيان وبيان ومبين وذِكْر ونحو ذلك .

على أنّ كلّ مَن يرعى نظره في آيات القرآن من أوّله إلى آخره ، لا يشك في أنّ ليس بينها آية لها مدلول ، وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها ، بل ما من آية إلاّ وفيها دلالة على المدلول : إمّا مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام ، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض ، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حقّ المراد بالضرورة ، وإلاّ بطلت الدلالة كما عرفت ، وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيّاً عن الأصول المسلّمة في القرآن ، كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك ، بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه ، وتعيّن المراد الحق من بين المداليل المتعدّدة المحتملة ، فالقرآن بعضه يبيّن بعضاً ، وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر .

ثمّ إنّ هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى : ( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .. لم يشك في أنّ المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمّنة للأصول المسلّمة من القرآن ، وبالمتشابهات الآيات التي تتعيّن وتتّضح معانيها بتلك الأصول .

  معنى الزيغ وملازمة اضطراب القلب له :

مقابلة زائغ القلب للراسخ في العلم :

قال تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) .

الزيغ : هو الميل عن الاستقامة ، ويلزمه اضطراب القلب وقلقه ؛ بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) .. فإنّ الآية تصف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه ، وأنّ منهم مَن هو زائغ القلب ومائله ومضطربه ، فهو يتبع المتشابه ابتغاءً للفتنة والتأويل ، ومنهم مَن هو راسخ العلم مستقر القلب ، يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتّبعه ، ويسأل الله تعالى أنْ لا يزيغ قلبه بعد الهداية .

  المراد من اتّباع المتشابه وابتغاء الفتنة :

ومِن هنا يظهر أنّ المراد باتّباع المتشابه اتباعه عملاً لا إيماناً ، وإنّ هذا الاتّباع المذموم اتّباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم ، إذ على هذا التقدير يصير الاتّباع اتّباعاً للمحكم ولا ذمّ فيه .

والمراد بابتغاء الفتنه طلب إضلال الناس ، فإنّ الفتنة تقارب الإضلال في المعنى ، يقول تعالى : يريدون باتّباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه ، وأمراً آخر هو أعظم من ذلك وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ، ومآخذ أحكام الحلال والحرام ، حتى يستغنوا عن اتّباع محكمات الدين فيُنْتَسخ بذلك دين الله من أصله .

  التأويل :

التأويل من الأوّل وهو الرجوع ، فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه ، وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه .

وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه : ( ولقد جئناهم وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) . سورة الأعراف : الآية : 53 . أي بالحق فيما أخبروا به وأنبأوا أنّ الله هو مولاهم الحق ، وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل ، وأنّ النبوّة حق ، وأنّ الدين حق ، وأنّ الله يبعث من في القبور ، وبالجملة كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها .

( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ) . إلى أي شيء يرجع الضمير في قوله : ( تَأْوِيلَهُ ) : ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه ؛ لقربه كما هو الظاهر ، أيضا في قوله : ( وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) . وقد عرفت أنّ ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة ، ومن الممكن أيضاً رجوع الضمير إلى الكتاب ، كالضمير في قوله : ( مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) . ظاهر الحصر يفيد قصر العلم عليه سبحانه ، ولا ينافي استثناء ذلك في آيات أُخر .

وظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصوراً عليه سبحانه ، وأمّا قوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) . فظاهر الكلام أنّ الواو للاستئناف ، بمعنى كونه طرفاً للترديد الذي يدلّ عليه قوله في صدر الآية : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) . والمعنى أنّ الناس في الأخذ بالكتاب قسمان : فمنهم مَن يتّبع ما تشابه منه ، ومنهم مَن يقول إذا تشابه عليه شيء منه : ( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا  ) . وإنّما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب ورسوخ العلم .

على أنّه لو كان الواو للعطف وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل ، كان منهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو أفضلهم ، وكيف يتصوّر أنْ ينزّل القرآن على قلبه وهو لا يدرى ما أُريد به ، ومن دأب القرآن إذا ذكر الأُمّة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْ يفرده بالذكر أوّلاً ويميّزه بالشخص ؛ تشريفاً له وتعظيماً لأمره ، ثمّ يذكرهم جميعاً كقوله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) سورة البقرة : الآية : 285 . وقوله تعالى : ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) سورة التوبة : الآية : 26 . وقوله تعالى : ( لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ ) سورة التوبة : آية : 88 . وقوله تعالى : ( وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ) سورة آل عمران : آية : 68 . وقوله تعالى : (  لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) سورة التحريم : آية : 8 . إلى غير ذلك .

فلو كان المراد بقوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أنّهم عالمون بالتأويل ـ ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم قطعاً ـ كان حق الكلام كما عرفت أنْ يقال : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، هذا وإنْ أمكن أنْ يُقال إنّ قوله في صدر الآية : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ  ) إلخ ، يدلّ على كون النبي عالماً بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانياً .

فالظاهر أنّ العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ، ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه ، كما أنّ الآيات دالّة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) سورة الجن : الآية : 27 . ولا ينافيه أيضاً كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم ؛ إذ لا منافاة بين أنْ تدل هذه الآية على شأن من شؤون الراسخين في العلم ، وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان والتسليم في مقابل الزائغين قلباً ، وبين أنْ تدلّ آيات أُخَر على أنّهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجيء بيانه .

تفسير الميزان : السيد الطباطبائي : ج 3 ، ص 27 .

  إفراد الرسول (ص) بالذكر تشريفاً له :

من دأب القرآن إذا ذكر الأُمّة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْ يُفرده بالذكر أوّلاً ، ويميّزه بالشخص تشريفاً له وتعظيماً لأمره ثمّ يذكرهم جميعاً ، كقوله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) سورة البقرة : الآية : 285 . وقوله تعالى : ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) سورة التوبة : الآية : 26 . وقوله تعالى : ( لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ ) سورة التوبة : الآية : 88 . وقوله تعالى : ( وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ) سورة آل عمران : الآية : 68 . وقوله تعالى : ( لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ ) سورة التحريم : الآية : 8 . إلى غير ذلك ، فلو كان المراد بقوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) . إنّهم عالمون بالتأويل ـ ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم قطعاً ـ كان حق الكلام كما عرفت أنْ يُقال : وما يعلم تأويله إلاّ الله ورسوله والراسخون في العلم ، هذا وإنْ أمكن أنْ يقال إنّ قوله في صدر الآية : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) إلخ ، يدل على كون النبي عالماً بالكتاب ، فلا حاجة إلى ذكره ثانياً .

تفسير الميزان : السيد الطباطبائي : ج 3 ، ص 28 .

لا مانع من ورود حصر في آيات واستثناء من ذلك الحصر في آيات أُخر :

( مَنِ ارْتَضَى ) و ( الراسخون في العلم ) .

فالظاهر أنّ العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى , ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه ، كما أنّ الآيات دالّة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) سورة الجن : الآية : 27 .

ولا ينافيه أيضاً كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم ؛ إذ لا منافاة بين أنْ تدلّ هذه الآية على شأن من شؤون الراسخين في العلم وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان والتسليم في مقابل الزائغين قلباً ، وبين أنْ تدل آيات أُخر على أنّهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجيء بيانه .

تفسير الميزان : السيد الطباطبائي : ج3 ، ص28 .

  من أوصاف الراسخين بالعلم :

لهم علم بالله لا يداخله ريب ، وعلمهم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل .

( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) : الرسوخ هو أشدّ الثبات ، ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ، ثمّ توصيفهم بأنّهم : ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) يدل على تمام تعريفهم ، وهو أنّ لهم علماً بالله وبآياته لا يدخله ريب وشك ، فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل وهم يؤمنون به ويتّبعونه أي يعلمون به ، وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ ، بل آمنوا بها وتوقّفوا عن اتباعها عملاً .

وفي قولهم : ( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) ذكر الدليل والنتيجة معاً ، فإنّ كون المحكم والمتشابه جميعاً من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكل : محكمه ومتشابهه ، ووضوح المراد في المحكم يوجب اتّباعه عملاً والتوقّف في المتشابه من غير ردّه ؛ لأنّه من عند الله ولا يجوز اتّباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم ، فيجب أنْ يتّبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم ، وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله : ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) بمنزلة الدليل على الأمرين جميعاً أعني : الإيمان والعمل في المحكم ، والإيمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم .

تفسير الميزان : السيد الطباطبائي : ج 3 ، ص 28 .

التذكّر :

( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ ) .

التذكّر : هو الانتقال إلى دليل الشيء لاستنتاجه ، ولمّا كان قولهم : ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) كما مرّ استدلالاً منهم وانتقالاً لِمَا يدلّ على فعلهم ، سمّاه الله تعالى تذكّراً ومدحهم به .

  مَن هم أولوا الألباب ؟

والألباب جمع لُب وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب ، وقد مدحهم الله تعالى مدحاً جميلاً في موارد من كلامه ، وعرّفهم بأنّهم أهل الإيمان بالله والإنابة إليه واتّباع أحسن القول ، ثمّ وصفهم بأنّهم على ذِكْر من ربّهم دائماً ، فأعقب ذلك أنّهم أهل التذكّر أي الانتقال إلى المعارف الحقّة بالدليل ، وأهل الحكمة والمعرفة ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ) سورة الزمر : الآية : 17 ـ 18 . وقال تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ) سورة آل عمران : الآية : 191 . وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلّل والخضوع ، هو الإنابة الموجبة لتذكّرهم بآيات الله ، وانتقالهم إلى المعارف الحقّة ، كما قال تعالى : ( وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ ) سورة غافر : الآية : 13 . وقد قال : ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الأَلْبَابِ ) سورة البقرة : الآية : 269 ، سورة آل عمران : الآية : 7 .

تفسير الميزان : السيد الطباطبائي : ج 3 ، ص 29 .

ــــــــــــــــــ

* اقتباس شبكة الإمامين الحسنين (ع) من كتاب : مقتطفات من تفسير الميزان لسورة آل عمران / مؤمل المؤمن.


source : شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام)للتراث و الفكر الإسلامي
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

لهفي عليك.. يا أبا عبدالله
القرآن و القواعد
التعامل مع القرآن بين الواقع والمفروض
علاج الامراض النفسیة بذکر الله
هدم قبور البقيع ..............القصة الكاملة
الحرب العالمية في عصر الظهور
الإمام الحسن العسكري (ع) والتمهيد لولادة وغيبة ...
إنّ الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة ...
الإمام موسى الكاظم عليه السلام والثورات العلوية
زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)

 
user comment