عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

التّخطيط السّياسي في السّيرة النّبويّة

إن سلوك النبي (ص) في مكة وفي المدينة المنورة، ينم عن تخطيط سياسي دقيق يستهدف القضاء على السلطة الحاكمة والاستيلاء على الحكم، فيما يستهدف من عملية تغيير للحياة الجاهلية بكل أبعادها وأجزائها.

سِرّيّة العمل:
وقد تضمن هذا التخطيط مرحلتين من العمل السياسي التغييري تفصل بينهما الهجرة.
ففي المرحلة الأولى، حيث تبدأ الرسالة ممارسة مسؤولياتها التغييرية في مكة، بدأ النبي (ص) بإعداد الطلائع المؤمنة لتحمل هذه المسؤولية والقيام بها في سرّيةٍ وخفاء، فلم يعلن النبي (ص) الرسالة إعلاناً، وإنما كان يتكتم بها، ولم يمارس عمله إلا في كتمان وحذر شديدين حرصا على الرسالة التي لم تترسخ بعد في المجتمع الجاهلي، ولم تقطع بعد شوطاً من الطريق الطويل أن تتعرض لأذى المشركين ومعارضتهم التي كان يقدر صاحب الرسالة أن تكون قوية وشديدة، وتحمل كل أحقاد الجاهلية وأضغانها.
فلم تكن الدعوة في هذه المرحلة من وجودها تتحمل معارضة قوية، كتلك المعارضة التي أعلنتها قريش في وجه الرسالة الجديدة بعد إعلانها، وكان من الحكمة أن يتحفظ النبي (ص) ما أمكنه التحفظ من أن يعرض هذا الدين لضغط من جانب قريش أو حرب من جانب اليهود.
وتوفر لهذا الدين ـ خلال فترة سرية العمل ـ العدد الكافي من الطلائع التي تحمل مسؤولية هذه الرسالة بجدارة وقوة، وفي إيمان وإخلاص كبيرين، وكان محل اجتماع هذه الطليعة بقائدها خلال هذه الفترة في الغالب، دار أرقم بن أبي الأرقم، الذي جعل من بيته مهداً لالتقاء النبي القائد (ص) بطلائعه المؤمنين به، وفي هذه الدار كان النبي (ص) يوجه أصحابه ويخطط لهم العمل، ويوزع عليهم المسؤوليات في حدود ما تقتضيه المرحلة من عمل، ثم ينتشرون في مكة قاعدة الدعوة الأولى ليمارسوا مهامهم ومسؤولياتهم.

إعلان الدّعوة:
وإذ وجد النبي (ص) العدد الكافي الذي يضطلع بهذه المهمة، ويحمي الرسالة ويدافع عنها، بإعلان الدعوة في مكة بالتدريج، وبدأ بتسفيه قريش فيما يعملون من عبادة الأصنام وفي أعرافهم وتقاليدهم.
وقد أثار ذلك موجة من النقد العنيف في وجه النبي (ص) وأصحابه، وعرضهم لأذى قريش وتعذيبها، وكانت قريش قد لمحت في هذا الوقت خطر هذه الرسالة على كيانها ووجودها، مما دعاها إلى أن تقف بكل قوة في وجه الرسالة الجديدة للقضاء عليها قبل أن تترسخ في مجتمع مكة.

سياسة اللاّعنف:
ولم يكن من الحكمة في هذه المرحلة أن يرد النبي (ص) الأذى بالمثل والقوة بالقوة. والعنف بالعنف، فقد كانت الرسالة لا تزال تقطع بدايات الطريق، ورغم أنها كانت قد قطعت شوط السرية في العمل، فإنها لم تكن تقوى على مواجهة العنف بالعنف، وتصعيد المواجهة والحرب مع قريش.
ولم يجد النبي (ص) بدّا من أن يردهم باللين ويتغاضى عما يصيبه من الأذى، ويأمر أصحابه بالصبر واللين والتغاضي.
وكانت هذه السياسة ـ سياسة اللاّعنف في مواجهة العنف الذي كان تستعمله قريش ـ تؤذي قريش وتربكها أكثر من أي شيء آخر، وتقطع عليها سبيل العنف والمقاومة المسلحة.
ورغم كل ذلك، فقد كانت قريش تصعد المقاومة، وتعرض أصحاب النبي (ص) للتعذيب والأذى أكثر من ذي قبل.
وقد بلغت هذه المواجهة قمتها في مقاطعة قريش للنبي (ص) وأهل بيته وأصحابه فترة طويلة من الزمن، تحمل المسلمون خلالها كثيراً من الأذى والعنت.

التّخطيط لإعداد قاعدة جديدة:
وكل ذلك دعا النبي (ص) أن يخطط لإعداد قاعدة جديدة للدعوة، حتى إذا ما اشتدت الأزمة، وتعرضت الرسالة لخطر جدي، ينتقل إليها ويجعلها قاعدة لعمله ومنطلقاً للرسالة، فتوجه النبي (ص) إلى الطائف ليبشر فيها برسالته، وليجد فيها أنصاراً وأعواناً يهيئون المنطقة لتكون قاعدة الجديدة التي كانت تشغل تفكير النبي القائد (ص) في هذه الفترة.
وإذ لم يقدر للنبي (ص) أن يجد في هذه المنطقة غايته وجه جمعاً من أصحابه إلى الحبشة، ليهيئوا هذه المنطقة، لتكون المنطلق الجديد للدعوة.
ولم تكن الغاية من هذه الهجرة أن يريح النبي (ص) أصحابه من أذى قريش وتعذيبهم، كما يحسب المؤرخون لسيرة النبي (ص)، فقد بعث النبي (ص) جمعاً من كبار أصحابه، وممن كانت تحميهم عشائر ومكانتهم في مكة من ملاحقة قريش وأذاها من أمثال جعفر بن أبي طالب وغيره، وأبقى في مكة آخرين من الضعفاء الذين لم تكن تحميهم عشيرة أو مكانة.
وقد أدركت قريش ما كان يريده النبي (ص) من وراء هذه الهجرة، فبعثت إلى الحبشة نفراً منهم بهدايا يحملونها إلى ملك الحبشة لإحباط المهمة التي بعث النبي (ص) أصحابه من أجلها.
ولم يهدأ النبي (ص) مع ذلك فقد كانت فكرة الإنتقال بالدعوة إلى قاعدة جديدة تشغل تفكير النبي (ص)، فقد وجد (ص) أن مكة لا تصلح أن تكون القاعدة الحصينة التي تتطلبها الدعوة، ولابد لهذه الرسالة من قاعدة جديدة تتمتع بالحصانة الكافية، ولا تجد قريش إليها سبيلاً.
فمكة قد شعرت بالخطر بوضوح، وهي على وشك أن تنقض على الدعوة بكل قواها وإمكاناتها.
والإسلام قد اتسعت رقعة نفوذه ووجد العدد الكافي من المؤمنين برسالته والرصيد الكافي لإقامة المجتمع الإسلامي الذي كان يخطط له النبي (ص) ضمن هذه المرحلة في صبر وحكمة، وإذا كانت مكة لا تصلح أن تكون القاعدة المطلوبة، فلابد من التفكير في قاعدة جديدة ينتقل إليها القائد برسالته وعمله وأنصاره، فأخذ النبي (ص) يعرض نفسه للحجاج الذين يأتون لحج بيت الله الحرام في موسم الحج من كل سنة، ويعرض عليهم الرسالة بمفاهيمها وأفكارها الجديدة، ويدعوهم إلى الإيمان بها.
ولم يكن الغرض من هذه المحاولة فقط أن يكسب النبي (ص) أنصاراً جدداً للرسالة، وإنما كان النبي (ص) يبتغي أيضاً من وراء هذه المحاولة أن يجد القاعدة الجديدة التي كان يفكر بها خارج مكة.

الهجرة:
وقد قدر الله لرسوله بعد كل هذه المحاولات أن يجد في حجاج يثرب وفي يثرب غايته التي كان ينشدها.
فانتقل النبي (ص) إلى يثرب برسالته وأصحابه بعد أن مهد لذلك، وفي يثرب أقام النبي (ص) المجتمع الإسلامي الذي يخطط له الإسلام ويحكمه، وهنا تبدأ المرحلة الثانية في حياة النبي (ص) وجهاده، وهي مرحلة تختلف كل الاختلاف عن المرحلة الأولى من حياة النبي (ص) وعمله، ففي هذه المرحلة تدخل الدعوة مرحلة استلام الحكم، ويستلم النبي (ص) كقائد أول لهذه الدعوة زمام الحكم في المجتمع الجديد، بكل ما يرتبط بالحكم من شؤون القضاء والإدارة والسياسة والمال والإقتصاد والجيش، ويدخل المدينة حاكماً يقرّ له المجتمع بهذا الحق وينقاد له.
وكان هذا إعلاناً بانتهاء فترة وبدء مرحلة أخرى من العمل وإعلانا لطبيعة هذه الدعوة وأصالة الحاكمية فيها ورأيها في الحكم، وأنّ:
{... وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فأُوْلئِكَ هُمُ الكَافِرُون} (سورة المائدة: الآية 44).
وقد كان هذا المعنى واضحاً للمسلمين من المهاجرين والأنصار الذين أقاموا هذا المجتمع، فلم يستغرب أحد منهم أن يقيم النبي (ص) دولة، وأن يتولى في هذا المجتمع شؤون الحكم والإدارة والسياسة والحرب.
وكان واضحاً لغير المسلمين أيضاً، فقد عرفوا من طبيعة هذه الرسالة أنها رسالة حاكمة، وأن النبي (ص) إذا ما تحول إلى المدينة فسيدخلها حاكماً، ويستلم فيها زمام الحكم والإدارة والحرب والسلم والمال.

الموقف الجديد:
وقد تغير شيء كثير من موقف هذا الدين تجاه أعدائه ومناوئيه، فبينما كان الموقف في مكة يتسم بكثير من اللين والمرونة من جانب المسلمين، تحول الموقف في المدينة إلى موقف القوة ورد العنف بالعنف والاعتداء بمثله، وكان من الطبيعي جداً أن ينطوي التخطيط النبوي على هذا التفكيك في المرحلة من حيث موقف المسلمين إزاء أعدائهم ومناوئيهم، فقد كان المسلمون في مكة ضعفاء ولا يقوون على مواجهة الاعتداء بمثله، وأيّ عنف في المواجهة من جانب المسلمين كان يؤدي إلى احتدام الصراع بين الرسالة الجديدة والجاهلية الحاقدة، وإلى القضاء على الطليعة المؤمنة التي كانت تحمل مسؤولية الرسالة في هذه المرحلة من حياة النبي (ص).
وحينما تحول المسلمون إلى المدينة، تغير الوضع وأصبح المسلمون يشكلون قوة في الجزيرة العربية، إذن فلابد أن يتغير الموقف من لين إلى عنف، ومن ضعف إلى قوة، ولابد أن يتكيف المسلمون بالوضعية الجديدة التي تتطلبها المرحلة.
فليس من رسالة الإسلام في شيء استعمال العنف في الوصول إلى غاياته وأهدافه، بل الإقناع هو الأداة المفضلة لهذه الرسالة في تحقيق الشخصية الإسلامية والمجتمع الإسلامي، إلا أنه إذا قدر لهذا الدين أن يصطدم بعقبة من العقبات التي تضعها الجاهلية في طريق هذه الرسالة وبمشكلة من المشاكل التي تسببها الجاهلية لهذا الدين، فإن الدعوة لا تتردد في إزاحة هذه العقبة عن طريقها وتذليل هذه المشكلة بكل ما لديها من قوة، وبكل ما تملك من عنف، فقد كانت الجاهلية تريد أن تزاحم كلمة الله وحكمه وسلطانه في المجتمع، وتتحكم في مصير المجتمع وعلاقاته، وتأخذ بيدها زمام المبادرة في ذلك كله.
وأيّ لين أو مرونة في مواجهة العدو في هذه المرحلة يؤدي من دون ريب إلى فسح المجال له بمصادرة الغايات والأهداف التي يتوخاها هذا الدين في تحكيم كلمة الله وتحكيم شريعته ودينه على وجه الأرض.
ولذلك فقد كان الإسلام في هذه المرحلة جدياً في مواجهة المشركين واليهود، وفي تفويت الفرص عليهم، وفي تصفية قواعدهم. فقد كانت مسألة الحكم صراعاً بين الإسلام الجاهلية، وكان لابُدّ في هذا الصراع من شيء كثير من القوة ومن الجدية ومن العف أيضاً حينما كان الأمر يتطلب العنف والجد.

التّخطيط العسكري:
وقد كانت الحروب التي خاضها النبي (ص) في مواجهة قريش واليهود والقبائل العربية الموالية لهما في الجزيرة، آية في التخطيط العسكري، وقمة في القيادة والتخطيط، مما يدل على أن مسألة القيادة والحكم والتخطيط والإدارة، مسائل جوهرية في هذا الدين، وأن القيادة والحكم جزءان أصيلان من منهج هذا الدين.
فقد بدأ النبي (ص) يخطط للاستيلاء على الجزيرة، وتحكيم شريعة الله فيها منذ أن دخل المدينة، وكانت قريش تشكل عقبة كبيرة في سبيل تحقيق هذه الغاية، كما كان اليهود يشكلون العقبة الثانية، وكان يلتف حول قريش بعض القبائل المحالفة لها.
فبدأ النبي (ص) بالعمل على تصفية قواعد العدو، وكانت مكة من أقوى هذه القواعد التي كانت تصمد في وجه النبي (ص).

الحصار الإقتصادي:
وللقضاء على صمود مكة وقوتها، بادر النبي (ص) بتهديد الطرق التجارية التي كانت تربط مكة بالشام، والتي كانت تقع على ساحل البحر الأحمر. وقد كان هذا الطريق هو العصب الذي يمد بمكة بكل ما تريده من متطلبات الحياة في ذلك الوقت، ومن سلاح وعتاد وتجارة، وقد كانت تجارة قريش تعتبر مورداً مادياً ومعنوياً لها في أوساط الحجاز، فقد كانت القبائل العربية المحيطة بمكة تقصد مكة بما لديها من مال ومحصولات زراعية ومواشي لتشتري من مكة ما تحتاجه من سلاح وبضائع مستوردة من الشام.
وحين خطط النبي (ص) لتهديد هذا الطريق وتهديد تجارة قريش، كان يعلم أنه قد وجه بذلك ضربة قوية لشخصية قريش من الناحية المادية والمعنوية، وفعلاً نفذ النبي (ص) هذا التخطيط في حرب بدر، ونجح المخطط في تهديد تجارة قريش.
ولئن عادت قريش في عام مقبل لاستعادة مكانتها وإعادة الأمن إلى تجارتها، وأصيب المسلمون ببعض الخسارة في هذه الجرب (حرب أحد) فإن الطريق لم يعد لقريش، ولم تسلم قريش على تجارتها، وتحطمت قريش اقتصادياً ومعنوياً، حيث انقطعت عنها البضائع التي كانت تأتي بها تجارتها من الشام، وفقدت أسواق مكة مركزيتها التجارية.
ولئن لم ينتبه المسلمون يومذاك إلى أهمية العمل الذي قام به النبي (ص) من ناحية سياسية وعسكرية، وتأثيره الكبير في شل الحياة الاقتصادية لمكة، فقد عرفت أوربا بعد قرون أهمية هذا العمل في إحراج العدو وإرهاقه ومباشرة الضغط عليه اقتصادياً، وعرفت هذه العملية بعد ذلك بـ (الحصار الاقتصادي)، واستعملها نابليون ضد بريطانيا، كما استعملت مرات أخرى من قبل القادة العسكريين في الحروب.

تصفية قواعد المشركين واليهود:
وبعد أن تم للنبي (ص) إرهاق العدو وإذلاله، وبعد أن فشلت آخر محاولة للعدو في التجمع للقضاء على المعسكر الإسلامي في حرب (الأحزاب)، بدأ بضرب قاعدة العدو، وتصفية ما تبقى له من النفوذ في الجزيرة، وسقطت القاعدة أمام الزحف الإسلامي.
وصفح النبي (ص) عن كل جرائم قريش وعدوانها في كرم ونيل، واستمر الزحف على سائر مراكز تجمع العدو في أطراف الجزيرة، وانهارت هذه المراكز واحداً بعد آخر أمام الجيش الإسلامي الفاتح، واستسلمت الجزيرة للدين الجديد، وفرضت الدعوة سلطانها على أطراف الجزيرة.

تحصين القاعدة الإسلامية:
وفي خلال هذه الأعمال كان النبي (ص) يعمل لتحصين المدينة بتطهيرها من العناصر المخربة والمنافقين واليهود الذين كانوا يكيدون للإسلام وللمسلمين.
فكان النبي (ص) يعمل في وقت واحد لضرب معاقل العدو وقواعده في الجزيرة، ولتحصين القاعدة الإسلامية في الجزيرة وتطهيرها من المنافقين واليهود، ويمارس خلال هذه المهمة، وتلك مسؤولياته الرسالية في الدعوة، وتربية الشخصية الإسلامية، وتكوين المجتمع الإسلامي، وترسيخ العقيدة الإسلامية في النفوس.
واستطاع النبي (ص) بعد هذا الشوط الطويل الذي قطعه في ثلاث وعشرين سنة بعد البعثة من إخضاع الجزيرة كلها لشريعة الله، والاستيلاء فيها على زمام الحكم وإدارة المجتمع بما في ذلك من شؤون الإدارة والمال والجيش والقضاء.
وانقادت الجزيرة بكل أطرافها للدعوة، واستسلمت لها في انقياد، وانتظمت في مجتمع واحد يحكمه الإسلام.
هذا إجمال من تفصيل عن الجانب القيادي من حياة النبي (ص) والتخطيط الذي امتد على مدى ربع قرن من حياته (ص).
والذي يدرس السيرة النبوية والأعمال التي قام بها النبي (ص) بإمعان ودقة في مكة وفي المدينة، يجد إنها كانت تنتظم جميعاً في مخطط واحد، وينتهي هذا المخطط إلى استسلام الحكم في الجزيرة، وتحكيم شريعة الله فيها، وإشاعة الدعوة الإسلامية وترسيخها في نفوس الناس.
ويرى إن مسألة الحكم كانت مسألة جوهرية في هذه الرسالة، وليست مسألة مؤقتة أو أمراً هامشياً في هذا الدين.
وإن هذا الدين لا تنتهي رسالته عند دعوة الناس وإبلاغهم شريعة الله وأحكامه، وردعهم عن الخضوع للأوثان والعبادة لغير الله.
بل إن من صميم هذه الرسالة أن يتولى المنهج الإلهي الحكم في حياة الناس، وليس هذا الدين مجموعة من (الاقتراحات الطيبة) و(النصائح والمواعظ الدينية) التي تلقى على المنابر ويتلقاها الطيبون من الناس بالقبول، ويعرض على غيرهم من الناس في سلام وإنما هو منهج في التشريع ومشروع للتنفيذ، ومخطط للتحكيم ودعوة ودولة، وقوة وصلابة في تحقيق ذلك كله.

الدعوة والدولة في هذا الدين:
وإذا كانت (الدعوة) قد سبقت (الدولة) في حياة النبي (ص)، فإنه ذلك لا يعني أن الدولة لم تكن حاجة أساسية في هذا الدين، وإنما جاءت عرضاً وبالصدقة، فإن كل شيء في حياة النبي (ص) يشهد بأن هذه الدعوة كانت ملتحمة بفكرة الدولة، وأن هذه الدعوة لم يتأت لها أن تغزو جزءاً كبيراً من الأرض، وأن تنشر النور والوعي في كل مكان لولا أن كانت دولة تسندها.
وقد كان من ضمن المخطط الكبير أن يسبق الدعوة وجود الدولة، وأن يسبق هذه الدولة تغيير عسكري عميق، وبناء للشخصية الإسلامية، على أسس عقائدية متينة، لتكون الدولة دولة عقائدية هادفة، ذات رسالة إلهية في تاريخ هذا الإنسان.
فلولا الدعوة لم تكن الدولة التي أقامها هذا الدين قادرة على تحقيق رسالة الله على وجه الأرض، ولم تكن هذه الدولة ذات رسالة تغييرية في حياة الإنسان، ولم تكن إلا شيئاً من هذه الحكومات التي تتعاقب على الحكم، ولا تترك في الحياة الاجتماعية غير هذا الصخب والضجيج والعبث بمصالح الناس.
فقد عاشت الدعوة في مكة ثلاث عشر سنة من دون دولة، فلم يؤمن بها غير قلة في مكة، وعاشت هذه الفترة في أزمة قاتلة ومحنة قاسية، ولم تنتقل الدعوة إلى المدينة، حيث وجدت الفرصة الكافية لإقامة الدولة، حتى استجابت الجزيرة كلها للدعوة، وانطلقت رسل الدعوة إلى خارج الجزيرة، ولم يمر عليها قرن حتى انفتحت للدعوة أقطار واسعة في آسيا وأفريقيا وأوربا أيضاً.
وليس ذلك إلا لهذا الإلتحام الوثيق بين الدعوة والدولة في الإسلام، وإلا لأن أمر الدولة والحاكمية من صميم هذا الدين وجوهره، وليس شيئاً طارئاً عليه، حصل صدفة في حياة النبي (ص) وبعده، دون أن يكون هناك مخطط واسع لتحقيق هذه الدولة. 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الجنة لمن زارها
لـمـــاذا كــــتـم جـمـــاعـــــة مــن ...
غزة
من وصايا الإمام الباقر (عليه السلام)
منزلة القرآن الكريم في خطب أمير المؤمنين في نهج ...
آراء المستشرقين ومواقفهم من القرآن
فضلِ السَّخاء و الجود
من هم الذين يحبهم الله؟
الحسد والسعایة
حجّ الإمام الكاظم(عليه السلام)

 
user comment