عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

حكم الإمامة

ثانياً:حكم الإمامة

وحكم الإمامة أو الخلافة (1) في الإسلام الوجوب، قال الإمام علي رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة في نهج البلاغة: وإنما الأئمة قوام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه.

وعندما نادى الخوارج بمقولتهم المشهورة لا حكم إلا بالله، رد عليها سيدها الإمام علي عليه السلام، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمير، بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر (2).

____________

(1) الخلافة: لغة مصدر خلف، يقال: خلفه خلافة، كان خليفته وبقي بعده، والجمع خلائف وخلفاء (القاموس المحيط 3 / 142 - القاهرة 1952)، وفي تفسير النسفي: الخليفة من يخلف غيره - على وزن فعيلة بمعنى فاعلة، وزيدت للمبالغة، وفي تفسير قوله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * المعنى خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض، فخلفهم فيها آدم وذريته، ولم يقل خلائف أو خلفاء، لأنه أريد بالخليفة آدم، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه، كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك مضر وهاشم، أو أريد من يخلفكم، أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك، أو خليفة مني، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي، قال تعالى: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * (تفسير النفسي 1 / 40).

(2) شرح نهج البلاغة 2 / 307.

 

 


وقال الإمام أحمد بن سليمان في كتاب حقائق المعرفة: إعلم أنه لما كانت النبوة لا تحصل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى قد ختم به الرسل، وكان الناس محتاجين إلى من يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ينفذ الأحكام، ويحل الحلال، ويحرم الحرام، ويكفل الضعفاء والأيتام، وينصف المظلوم، ويدعو إلى عز الإسلام، ونيل المكارم، ويدفع كل خائن وغاشم، ويدعو إلى الجهاد في سبيل رب العالمين، ويعز المؤمنين، ويذل الفاسقين، فإن العقل يحكم بوجوب قيام إمام من المؤمنين لصلاح الإسلام والمسلمين.

ويحكم العقل إنه لم يقم، فإن الإسلام يضعف، وأن الكفر يقوى، وأن الفساد يلحق جميع الناس، فوجب قيام الإمام، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا مات الإمام أو قتل، يجب قيام إمام بعده، ويحكم العقل بأن الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن لا يكون في الأمة من هو أجمع منه للمحامد.

ويجب على كل المسلمين في كل عصر، إعانة من يصلح لها، من أجل حفظ بيضة الإسلام، ودفع التظالم، وإنصاف المظلومين، وإقامة الحدود، ولا يختص بذلك وقت، دون وقت (1).

ويقول إمام الحرمين الجويني: وأما نصب الإمام عند الإمكان فواجب، وقد ذهب عبد الرحمن بن كيسان (2) إلى أنه لا يجب، ويجوز ترك الناس أخيافاً (أي مختلفين)، يلتطمون ائتلافاً واختلافاً، لا يجمعهم ضابط، ولا يربط شتات

____________

(1) أحمد صبحي: المذهب الزيدي ص 42 - 43 (الإسكندرية 1981).

عبد الرحمن بن كيسان - الأصم المعتزلي - غير حاتم الأصم الصوفي، وقد ذكره السيد (علي بن محمد 740 - 816 هـ‍/ 1339 - 1413 م) في شرح المواقف بلقب أبي بكر، وجمع أحمد بن يحيى المرتضى (ت 1039 هـ‍/ 1930 م) بين اسمه ولقبه فقال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم (محمد عمارة: المرجع السابق ص 238، وانظر كتاب: المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل ص 32 - ط حيدر آباد 1316 هـ‍)، وكان عبد الرحمن بن كيسان - الملقب بالأصم - يعرف أيضاً بتلميذ العلاف (تاريخ بغداد 2 / 192، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1 / 448).

 

 


رأيهم رابط، وهذا الرجل هجوم على شق العصا، ومقابلة الحقوق بالعقوق، لا يهاب حجاب الإنصاف، ولا يستوعر أصواب الاعتساف، ولا يسمى إلا عند الإنسلال عن ربقة الإجماع، والحيد عن سنن الاتباع.

وهو مسبوق بإجماع من أشرقت عليه الشمس شارقة وغاربة، واتفاق مذاهب العلماء قاطبة. أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأوا البدار إلى نصب الإمام حقا، فتركوا لسبب التشاغل به، تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنه، مخافة أن تتغشاهم هاجمة محنة. ولا يرتاب من معه مسكة من عقل، أن الذب عن الحوزة، والنضال دون حفظ البيضة محتوم شرعاً، ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تفنن الآراء، وتفرق الأهواء، لانتشر النظام، وهلك العظام، وتوثبت الطغام والعوام، وتحزبت الآراء المتناقضة، وتفرقت الإرادات المتعارضة، وملك الأرذلون سراة الناس، وفضت المجامع، واتسع الخرق على الراقع، وفشت الخصومات، واستحوذ على أهل الدين ذوو العرامات (أي أهل الشراسة والقسوة)، وتبددت الجماعات، ولا حاجة إلى الإطناب بعد حصول البيان، وما يزع الله بالسلطان، أكثر مما يزع بالقرآن (1).

ويقول الأستاذ محمد جواد مغنية: اختلف المسلمون في وجوب نصب الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم وجوبه، وافترقوا في ذلك إلى فرق.

قالت الشيعة: يجب على الله تعالى أن ينصب إماماً للناس، وقالت السنة:

لا يجب ذلك على الله، ولكن يجب على الناس، وقالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام مطلقاً، لا على الله، ولا على الناس.

وقال القوشجي (ت 879 هـ‍) - من علماء السنة - في كتاب شرع التجريد: استدل أهل السنة على قولهم بإجماع الصحابة - وهو العمدة - حتى

____________

(1) الجويني: الغياثي ص 22 - 24.

 

 


جعلوا ذلك أهم الواجبات، واشتغلوا به عن دفن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكذا عقيب موت كل إمام، روي أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، خطب أبو بكر فقال: يا أيها الناس، من كان يعبد محمداً، فإن محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد رب محمد، فإنه حي لا يموت، لا بد لهذا الأمر من يقوم به، فانظروا، وهاتوا آراءكم، رحمكم الله، فبادروا من كل جانب، وقالوا: صدقت، لكننا ننظر في هذا الأمر، ولم يقل أحد أنه لا حاجة إلى إمام (1).

وقال البغدادي: وقالوا - أي أهل السنة والجماعة - إن الإمامة فرض واجب على الأمة، لأجل إقامة إمام، ينصب لهم القضاة والأمناء، ويضبط ثغورهم، ويغزي جيوشهم، ويقسم الفئ بينهم، وينتصف لمظلومهم من ظالمهم (2).

والوجوب ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:

فأما الكتاب، فلقد قال الله تعالى: * (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) * (3) وقال تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) * (4) وقال تعالى: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق) * (5).

ويقول القرطبي في تفسيره لآية البقرة (30) * (وإذ قال ربك للملائكة إني

____________

(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 333 - 334.

(2) عبد القادر بن طاهر بن محمد البغدادي - الفرق بين الفرق - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ص 349 (دار المعرفة - بيروت).

(3) سورة البقرة: آية 30، وانظر: تفسير الطبري 1 / 439 - 480، تفسير ابن كثير 1 / 106 - 111، تفسير النسفي 1 / 40، تفسير المنار 1 / 210 - 218، تفسير القرطبي ص 223 - 234.

(4) سورة النور: آية 55.

(5) سورة ص: آية 26.

 

 


جاعل في الأرض خليفة) *: إن هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة، إلا ما روي عن الأصم، حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله، واتبعه على رأيه ومذهبه، قال: إنها غير واجبة في الدين، بل يسوغ ذلك وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيها بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفئ والصدقات على أهلها، و أقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزاهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولى ذلك.

ودليلنا على إقامة إمام، قول الله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * وقوله تعالى: * (يا داود إنا جعلناك في الأرض خليفة) *، وقوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) *، أي يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآي (1).

ويقول ابن كثير: وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية (آية البقرة: 30) على وجوب نصب الإمام (الخليفة)، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها، إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب (2).

2 - وأما السنة: فلقد روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن محمد عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع - حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية - فقال: إطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم،

____________

(1) تفسير القرطبي 1 / 226.

(2) تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم - بيروت 1986) 1 / 110.

 

 


يقول: من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية (1).

وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقي، فإن أمر بتقوى الله عز وجل، وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره، كان عليه منه (2).

وروى الشوكاني (محمد بن علي بن محمد - ت 1255 هـ‍) في نيل الأوطار - شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار (باب وجوب نصب ولاية القضاء والإمارة وغيرهما) عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض، إلا أمروا عليهم أحدهم قال: رواه أحمد.

وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا عليهم أحدهم - قال: رواه أبو داود، وله من حديث أبي هريرة مثله.

هذا وحديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي سعيد، قد أخرج نحوهما البزار بإسناد صحيح من حديث عمر بن الخطاب بلفظ إذا كنتم ثلاثة من سفر، فأمروا أحدكم، ذاك أمير، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج البزار أيضاً بإسناد صحيح، من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً، بلفظ إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم - وأخرجه بهذا اللفظ الطبراني من حديث ابن مسعود، بإسناد صحيح، وهذه الأحاديث يشهد بعضها لبعض (3).

____________

(1) صحيح مسلم بشرح النووي - دار الكتب العلمية - بيروت 1983) 12 / 240.

(2) صحيح مسلم 12 / 230.

(3) محمد بن علي بن محمد الشوكاني: نيل الأوطار - شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار 8 / 255 - 256 (دار الكتب العلمية - بيروت - نسخة قوبلت على طبعة المطبعة الأميرية القاهرة 1297 هـ‍).

 

 


هذا وقد سكت أبو داود والمنذري عن حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وكلاهما رجالهما رجال الصحيح، إلا علي بن بحر، وهو ثقة، ولفظ حديث أبي هريرة إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم، وفيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعداً، أن يؤمروا عليهم أحدهم، لأن في ذلك السلامة من الخلاف، الذي يؤدي إلى التلاف، فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه، ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يقل الخلاف، وتجتمع الكلمة.

وبديهي أنه إذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون، فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار، ويحتاجون لدفع التظالم، وفصل التخاصم، أولى وأحرى، ومن ثم ففي هذا دليل لقول من قال: إنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام.

هذا وقد ذهب الأكثر إلى أن الإمامة واجبة، لكنهم اختلفوا: هل الوجوب عقلاً أم شرعاً؟ فعند العترة، وأكثر المعتزلة والأشعرية، تجب شرعاً، وعند الإمامية تجب عقلاً فقط، وعند الجاحظ، والبلخي، والحسن البصري، تجب عقلاً وشرعاً، وعند ضرار، والأصم، وهشام القوطي والنجدات لا تجب (1).

ويقول الإمام علي رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة في رده على الخوارج - كما أشرنا من قبل - أنه لا بد للناس من أمير - بر أو فاجر - يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، أو يستراح في فاجر.

وقال: أما لإمرة البرة فيعمل فيها التقي، وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي، إلى أن تنقطع مدته، وتدركه منيته (2).

____________

(1) نيل الأوطار 8 / 256.

(2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2 / 307 (دار الفكر - بيروت - الطبعة الثالثة - 1973).

 

 


ويقول القرطبي: إن الإمام إنما نصب لدفع العدو، وحماية البيضة، وسد الخلل، واستخراج الحقوق وإقامة الحدود، وجباية الأموال لبيت المال، وقسمتها على أهلها (1).

ويقول ابن تيمية: يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس (2)، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا خرج ثلاثة من سفر، فليؤمروا أحدهم - رواه أبو داود عن نافع عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري - (3).

وروى أبو داود أيضاً عن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم، قال نافع: فقلنا لأبي سلمة: فأنت أميرنا (4).

ومن ثم فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه - من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم - وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة.

ومن ثم فقد روى أن السلطان ظل الله في الأرض (5)، كما قيل: ستون

____________

(1) تفسير القرطبي ص 232.

(2) ابن تيمية: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 160 (مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - 1379 هـ‍/ 1960).

(3) سنن أبي داود 2 / 34 (ط الحلبي - القاهرة 1952).

(4) سنن أبي داود 2 / 34.

(5) يجب أن يكون واضحاً أن هذا لا يعني أبداً، أن الخلافة الإسلامية إنما كانت تمثل حكومة ثيوقراطية (دينية)، كما أنها لم تكن حكومة أرستقراطية (حكومة الخاصة) ولا حكومة ديمقراطية

=>

 

 


سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف - كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان (1).

ويقول ابن حزم الأندلسي (384 - 456 هـ‍/ 994 - 1064 م) - من أئمة الظاهرية - اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل، يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة، التي أتى بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حاشا النجدات من الخوارج (أصحاب نجدة بن عامر الحروري - أحد بني حنيفة) (2)، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمام، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم،

____________

<=

(حكومة الشعب)، وإنما كانت حكومة شورى، والخليفة فيها حاكم سياسي يجمع بين السلطتين الزمنية والدينية أو الروحية، ولا تتعدى وظيفته الدينية المحافظة على الدين، ويستطيع باعتباره حامي الدين أن يعلن الحرب على الكفار، ويعاقب الخارجين على الدين، ويؤم الناس في الصلاة، ويلقي خطبة الجمعة، كما أن الخليفة لم يكن يستمد سلطة الحكم من الله تعالى، بل من الذين بايعوه، وقد انقضى نزول الوحي، منذ اختار الله رسوله إليه، وبقي كتاب الله بين المسلمين هدى لهم جميعاً وحجة عليهم جميعاً، فهو ميثاقهم الذي آمنوا به وارتضوه، وهو دستور الحكم، يسير الحاكم في حدوده لا يتعداه، فإن فعل وجبت طاعته، وإلا فلا طاعة له على مسلم.

وهكذا فحكومة الإسلام لم تعرف السلطان المطلق، ولم يكن للكهنة وجود فيها، ولا يمكن أن تكون حكومة ثيوقراطية اللون، وهي لم تكن حكومة أستقراطية، ولم يكن استئثار المهاجرين والأنصار باختيار الخليفة من الأستقراطية في شئ، فقد كان هؤلاء رجالات من طبقات شتى، وهم إنما استأثروا بالأمر، صوناً للنظام القائم، ودفاعاً عنه: ثم إنهم كانوا طبقة مؤقتة تزول بزوال أفرادها، لا يرثها أحد، ولا تقوم مقامها طبقة أخرى، كما أنها لم تكن حكومة ديمقراطية (حكومة الشعب) لأن الشعب لا يملك أن يقرر ما يشاء، إن كان ما يشاء يتعارض مع كتاب الله، وسنة رسوله، ومن ثم فهي حكومة شورى بين المسلمين، الناس فيها سواسية كأسنان المشط، ورأسها الأعلى يعلن أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم (حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي 1 / 429 د محمد حسين هيكل الصديق أبو بكر ص 335، 337).

(1) ابن تيمية: السياسة الشرعية ص 160 - 161.

(2) البغدادي: الفرق بين الفرق (أنظر عن النجدات ص 87 - 90).

 

 


وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد، وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي، القائم باليمامة (1).

ويقول ابن خلدون: أن نصب الإمام واجب، قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند وفاته، بادروا إلى بيعة أبي بكر، رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعاً، دالاً على وجوب نصب الإمام.

وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل، وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه، قالوا: وإنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر، واستحالة حياتهم، ووجودهم منفردين، ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض، فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم، مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية، وهذا المعنى هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبوءات في البشر، وقد نبهنا على فساده، وأن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بسطوة الملك، وقهر أهل الشوكة، أو لم يكن شرع، كما في أمم المجوس، وغيرهم ممن ليس له كتاب، أو لم تبلغه الدعوة.

أو نقول يكفي في دفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه، بحكم العقل، فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هنا، ونصب الإمام هنا غير صحيح، بل كما يكون بنصب الإمام، يكون بوجود الرؤساء وأهل الشوكة، أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم، فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة، فدل على أن مدرك وجوبه إنما هو بالشرع، وهو الإجماع الذي قدمناه.

____________

(1) ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 106.

 

 


وقد شذ بعض الناس، فقال بعدم وجود هذا النصب رأساً، لا بالعقل ولا بالشرع، ومنهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند هؤلاء، إنما هو إمضاء لحكم الشرع، فإذا تواطأت الأمة على العدل، وتنفيذ أحكام الله تعالى، لم يحتج إلى إمام، ولا يجب نصبه، وهؤلاء محجوجون بالإجماع (1).

هذا ويقول القلقشندي (756 - 821 هـ‍): اختلف العلماء في أصل وجوب الإمامة (2)، فذهب قوم إلى أن وجوبها ثابت بالعقل، لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم عند التنازع، ولو لا ذلك لكانوا فوضى مهملين، وقد قال الأفوه الأودي - وهو شاعر جاهلي -:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جهالهم سادوا (3)

وذهب آخرون إلى أنها إنما وجبت بالشرع، ولا أثر للعقل في ذلك، لأن الإمام إنما يقوم بأمور شرعية، كان يجوز في العقل أن لا يرد التعبد بها، فلم يكن العقل موجباً لها.

____________

(1) مقدمة ابن خلدون ص 191 - 192 (دار القلم - بيروت 1981).

(2) القلقشندي: هو القاضي شهاب الدين أحمد بن علي بن أحمد القلقشندي الشافعي، ولد في عام 756 هـ‍(1353 م) في قرية قلقشندة مركز قليوب بمحافظة القليوبية، واشتغل بالفقه وغيره، ومهر في الأدب، وبرع في العربية نظماً ونثراً وكتب في الإنشاء، وناب في الحكم، وعاش مفضالاً وقوراً، وكان متواضعاً، ذا مروءة، إلى أن توفي يوم السبت عاشر جمادى الآخرة سنة 821 هـ‍(1418 م)، وأما أشهر مؤلفاته فهي صبح الأعشى في صناعة الإنشا، وقد أورد فيه ما يحتاجه الكاتب من الفنون والعلوم، فهو دائرة معارف تنتظم كل ما كان يعرفه معاصروه، وله قيمته الكبيرة فيما يتصل بتاريخ مصر والشام وجغرافيتهما، كما ألف القلقشندي أيضاً نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب ثم كتابه الذي نرجع إليه الآن في موضوع الخلافة وعنوانه مآثر الإنافة في معالم الخلافة، وقام بتحقيقه عبد الستار أحمد فراج، ونشرته وزارة الإرشاد الكويتية في ثلاثة أجزاء - عام 1964، وأما أصل القلقشندي فهو عربي من قبيلة فزارة من ذبيان من غطفان، وانظر عنه (عبد اللطيف حمزة: القلقشندي (رقم 12 من أعلام العرب)، شذرات الذهب 7 / 149، مقدمة كتبه).

(3) ديوان الأفوه: الطرائف الأدبية ص 12.

 

 

 

 


وقد احتج لذلك بأنه لا بد للأمة من إمام يقيم الدين، وينصر السنة، وينصف المظلومين من الظالمين، ويستوفي الحقوق، ويضعها مواضعها، يقول الماوردي: وهي فرض كفاية، كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها على كافة الناس، لأن فرضها على الكفاية، وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان، أحدهما: أهل الاختيار، حتى يختاروا للناس إماماً، والثاني: أهل الإمامة، حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة جرح ولا مأثم (1).

وقال النووي في روضته فإن لم يكن من يصلح، إلا واحد، تعينت عليه، ولزمه طلبها، إن لم يبتدوه (2).

ومن هنا تنكشف الضرورة الملحة في نصب الإمام بما ذكر من حكم العقل، ومن ثم فقد بادر الأصحاب إلى نصب الخليفة، فقالت الأنصار: منا الخليفة، واحتج المهاجرون عليهم بالقرابة، كما بادر قسم آخر من الأنصار، وقالوا: منا أمير، ومنكم أمير، وقال بنو هاشم - ويؤيدهم جمع كبير من المسلمين -: ليس لها إلا أبو حسن، الإمام علي، صاحب الوصية، وكل هذه الأقوال، إنما تكشف جميعاً عن الباعث العقلي لهم على نصب الخليفة.

هذا فضلاً عن اختلافهم كان ممن يختار الخليفة: من بني هاشم؟ أم من الأنصار؟ أم من المهاجرين؟ ولم يناقش أحد منهم ضرورة نصب الإمام، وذلك لوجود الحاجة الماسة إلى ذلك، فضلاً عن أنها ضرورة يدرك العقل مدى الحاجة الشديدة إليها.

على أن هناك من يرى أن الإمامة - أو الخلافة - ليست واجبة، وإلا ما

____________

(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 5 - 6.

(2) القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة - تحقيق عبد الستار أحمد فراج - الجزء الأول - الكويت 1964 ص 29 - 31.

 

 


تركت لاختيار الناس، يقول الشيخ الأصم - ومن تابعه على رأيه - إن نصب الإمام غير واجب في الدين، وإن كان سائغاً، فمتى استطاعت الأمة أن تقيم حجها وجهادها، وأن تتناصف فيما بينها، وأن تبذل الحق من أنفسها، وأن تقسم الغنائم والفئ والزكوات على أهلها، وأن تقيم الحدود يمكن من وجبت عليه الحدود، فإن ذلك يجزئهم، ولا يجب عليهم نصب إمام يتولى ذلك منهم (1).

وقد اعتمد بعض من رأوا أن الخلافة ليست واجبة، على أنه ليس في القرآن، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يشير إلى نظام معين في اختيار الخليفة، مما يشير إلى أن للأمة مطلق الحرية في اختيار الخليفة، ومن النظام الذي يتبع في اختياره، ما دام ذلك في إطار الدين، وفي حدود كتاب الله، وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

ومن ثم يذهب الدكتور صبحي الصالح إلى أن كل من ظن المسلمون به خيراً، لا ضير أن يتولى أمرهم، ويوجه حياتهم الدنيوية، وإن كان سرعان ما يعقب على كلامه بهذا الاستثناء، فيقول: غير أننا إذا رجعنا إلى التاريخ نستنطق فلسفة الأحداث فيه، لا حظنا أن الطريقة التي انتخب بها بعض الخلفاء، كان دون ما قصد، سبباً من أسباب استمرار الخلاف لأسباب شخصية، وأخرى قبلية، لا تزال فيها نعرة جاهلية (2).

ولعل أشهر الدراسات التي ظهرت في العصر الحديث - والتي تعارض وجوب نصب الإمام - إنما هي كتاب الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام (3) - عام 1925 م، وقد أصدره الشيخ علي

____________

(1) أحمد حسن الباقوري: مع القرآن - القاهرة 1970 ص 4.

(2) صبحي الصالح: النظم الإسلامية: نشأتها وتطورها ص 85.

(3) ربما لم يثر كتاب في العصر الحديث ضجة كالتي أحدثها كتاب الإسلام وأصول الحكم ذلك

=>

 

 


عبد الرازق - القاضي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية -.

وكانت الفكرة الجوهرية في الكتاب - بل الخطيرة - هي دعوى الشيخ علي عبد الرازق أن الإسلام دين، لا دولة، ورسالة روحية، لا علاقة لها بالحكومة والسياسة الدنيوية، وعمارة الكون، وتنظيم المجتمعات، وأن نبي الإسلام - محمداً - صلى الله عليه وسلم، لم يؤسس دولة، ولم يرأس حكومة، ولم يسس مجتمعاً، ولم يدع إلى شئ من ذلك، بل كان رسولاً فقط، ما عليه إلا البلاغ.

ولما كان الأمر كذلك، فليس للإسلام رأي - يجب علينا أن نلتمسه من مصادر الدين وأصوله - في نوع الحكومة، فلا رأي للإسلام في هذا الموضوع، وعلى المسلمين - كأمة أو أمم - أن يلتمسوا لسياستهم الحكومة الصالحة، بمعايير العقل والمصلحة والتجريب، دون أن يقيموا وزناً لدعوة القائلين

____________

<=

أن تركيا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (1298 - 1351 هـ‍/ 1880 - 1938 م) ألغت الخلافة في 22 رجب عام 1342 هـ‍(3 مارس 1924 م)، وبالتالي أصبح العالم الإسلامي - ولأول مرة في تاريخه - يخلو ممن يحمل لقب الخليفة أو حتى سلطان المسلمين، ومن ثم فقد تحركت قوى إسلامية لاحتلال المنصب، ومنها ملك مصر أحمد فؤاد (1284 - 1355 هـ‍/ 1869 - 1936 م) بغية أن يصبح الخليفة، وقامت لجان في المدن والقرى المصرية تدعو لذلك.

وفي هذا الوقت صدر هذا الكتاب، والذي لم يكن بحثاً أكاديمياً من أبحاث السياسة أو علم الكلام، وإنما كان بالدرجة الأولى جهداً سياسياً في معركة سياسية ضارية، وتحدياً لملك، ومناوئة لقطاعات عريضة وخطيرة في العالم الإسلامي كما أفسد على الاستعمار البريطاني فرصة الإفادة من لعبة الخلافة هذه.

وهكذا تحركت قوى كبرى - الملك والأزهر والاستعمار البريطاني - لمحاربة الشيخ على عبد الرازق، وفي نفس الوقت وقف معه حزب الوفد بزعامة سعد زغلول باشا (1273 - 1346 هـ‍/ 1857 - 1927 م)، والكتاب الأحرار - وعلى رأسهم عباس محمود العقاد (1306 - 1384 هـ‍/ 1889 - 1964 م) ومحمد حسين هيكل باشا (1305 - 1375 هـ‍ (1888 - 1956 م) وأحمد حافظ عوض بك (1294 - 1370 هـ‍/ 1877 - 1950 م)، وانتهت الأمور بصدور حكم هيئة كبار العلماء بالأزهر في 22 محرم 1344 هـ‍/ (12 / أغسطس 1925 م) بإخراج الشيخ عبد الرازق من زمرة العلماء، كما فصل من وظيفته، فضلاً عن عزل وزير الحقانية ورئيس حزب الأحرار عبد العزيز فهمي باشا (1287 - 1370 هـ‍/ 1870 - 1951 م) والكتاب صدر في عام 1925 م، ثم صدرت له طبعة في بيروت عام 1966 م، وفي نوفمبر 1971 م نشرت مجلة الطليعة المصرية نصه الكامل.

 

 


بحكومة إسلامية، ومن يتصورون أن هذه الحكومة الإسلامية، هي نظام الخلافة بالذات ويقول: علي عبد الرازق (1).

إن الناس لا يصلحون فوضى لا سراة لهم، ويمكن أن يقال: إن المسلمين - إذا اعتبرناهم جماعة منفصلين وحدهم - كانوا كغيرهم من أمم العالم كله، محتاجين إلى حكومة تضبط أمورهم، وترعى شؤونهم، في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع - مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو دستورية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية - ومعاذ الله أن يجعل عز هذا الدين وذله، منوطين بنوع من الحكومة، ولا بصنف من الأمراء، ولا يريد الله جل شأنه لعباده المسلمين أن يكون صلاحهم وفسادهم رهن الخلافة، ولا تحت رحمة الخلفاء (1).

ثم يذهب صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم إلى أنه لم ينعقد بين المسلمين - صحابة أو غيرهم - إجماع على وجوب نصب الإمام، بالمعنى الذي اصطلح الفقهاء على تسميته بالخليفة، وأنه في ذلك إنما يقف في صف جماعة

____________

(1) ولد علي عبد الرازق (1305 - 1386 هـ‍/ 1887 - 1966 م) في أبو جرج بمحافظة المنيا، من أسرة ذات مكانة في الغنى والعلم والنفوذ، كما كان بيت الأسرة في القاهرة ندوة لصفوة المفكرين كالشيخ محمد عبده (1266 - 1324 هـ‍/ 1849 - 1905 م) وأحمد لطفي السيد باشا (1289 - 1383 هـ‍/ 1872 - 1963 م) وغيرهم. و كان قد التحق بالأزهر، بعد حفظه للقرآن الكريم - وعندما أنشئت الجامعة المصرية عام 1908 م، التحق بها وجمع بين الدراسة في الجامعة والأزهر، وفي عام 1912 م حصل على العالمية من الأزهر، ثم سافر إلى إنجلترا على نفقته للدراسة، ولكنه عاد إلى مصر عام 1915 م بسبب الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1915 عين قاضياً شرعياً، واستمر في القضاء حتى أصدر كتابه الإسلام وأصول الحكم ففصل من عمله، حيث كان قاضياً بمحكمة المنصورة، تنفيذاً لقرار هيئة كبار العلماء، الصادر في 22 محرم عام 1344 هـ‍(12 أغسطس 1925) وعندما أصبح أخوه الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا (1302 - 1366 هـ‍/ 1885 - 1946 م) شيخاً للأزهر عام 1945 م، أعاد الأزهر للشيخ علي عبد الرازق اعتباره، فدخل ثانية في زمرة العلماء وفي 28 دسمبر 1948 م أصبح وزيراً للأوقاف، كما شغل عضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ وعين عضواً بمجمع اللغة العربية، ثم توفي في 7 جمادى الثاني 1386 هـ‍- (23 سبتمبر 1966 م) (أنظر: محمد عمارة: معركة الإسلام وأصول الحكم - دار الشروق - القاهرة 1989 م).

 

 


غير قليلة من أهل القبلة، ومن سلف هذه الأمة وعلمائها الصالحين، الذين لا يمكن الطعن في دينهم، ولا في علمهم.

ثم يقول بعد ذلك: وليس صحيحاً أننا ننكر إجماع الصحابة على أنه لا بد لأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا، بل إنه لا بد لأمة منظمة - مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها - من حكومة تباشر شؤونها، وتقوم بضبط الأمر فيها، وأن الناس لا يصلحون فوضى، لا سراة لهم ولعل أبا بكر رضي الله عنه إنما كان يشير إلى ذلك الرأي - حين قال في خطبته لا بد لهذا الدين ممن يقوم به، ولعل الكتاب الكريم ينحو ذلك المنحى أحياناً (1).

هذا ويمكن حينئذ أن يقال بحق: إن المسلمين، إذا اعتبرناهم جماعة منفصلين وحدهم، كانوا كغيرهم من أمم العالم كله، محتاجين إلى حكومة تضبط أمورهم وترعى شؤونهم، إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة - أو الخلافة - ذلك المعنى الذي يريده علماء السياسة بالحكومة، كان صحيحاً ما يقولون: من أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة بمعنى الحكومة، في أي صورة كانت الحكومة، أما إذا أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم الذي يعرفونه، فدليلهم أقصر من دعواهم، وحجتهم غير ناهضة (2).

ثم ينكر الشيخ علي عبد الرازق وجود أدلة على الخلافة في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف فيقول: إنه لعجب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شئ من أمر هذا الدين * (ما فرطنا في الكتاب من

____________

(1) محمد عمارة: معركة الإسلام وأصول الحكم - دار الشروق - القاهرة 1989 ص 25، علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم - القاهرة 1925 م ص 34 - 35، 38.

(2) علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم ص 33.

 

 


شئ) *، ثم لا تجد فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة أو الخلافة، إن في ذلك لمجالا للمقال (2).

وفي الواقع، فإن اتجاه المؤلف غير صحيح، وقد قدمنا من قبل الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة التي اعتمد عليها العلماء في وجوب نصب الإمام (3).

هذا إلى أنه حقيقة: أن في القرآن بيان كل شئ من أمور الدين وأحكام الواقع، ولكن ليس معنى هذا التبيان أنه يذكر أحكام الأشياء على وجه التفصيل، حتى إذا رجعنا إليه في قضية، ولم نجد لها حكماً مفصلاً، خالطت قلوبنا الريبة من حكمها الذي دلت عليه السنة، أو انعقد عليه إجماع أهل العلم، أو شهدت به القواعد المسلمة.

وإنما معنى تبيان لكل شئ: أنه أتى بكليات عامة، وهي معظم ما نزل به، وفصل بعض أحكام، وأحال كثيراً من آياته على بيان السنة النبوية، ثم إن الكتاب والسنة أرشدا إلى أصول أخرى، كالإجماع والقياس وغيرهما من القواعد المستفادة من استقراء جزئيات كثيرة، كقاعدة المصالح المرسلة، وقاعدة سد الذرائع، قال أبو إسحاق الشاطبي في كتابة الموافقات: تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي، لا جزئي.

وإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات ومكمل كل واحد منها، وهذا كله ظاهر أيضاً، فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة

____________

(1) سورة الأنعام: آية 38.

(2) علي عبد الرازق المرجع السابق ص 35، محمد عمارة: المرجع السابق ص 99.

(3) أنظر: (سورة البقرة: آية 30، سورة النور: آية 55 سورة ص: آية 26)، وانظر (صحيح مسلم 12 / 230، 12 / 240، نيل الأوطار للشوكاني 8 / 255 - 256، سنن أبي داود 2 / 34.

 

 


والإجماع والقياس، وجميع ذلك، إنما نشأ عن القرآن (1).

وأما قول المؤلف أننا لا نجد في الأحاديث - بعد كل ذلك - ما ينهض دليلاً لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية، وحكماً من أحكام الدين (2).

فالواقع أن العلماء ما قالوا إن الخلافة من قبيل العقائد، وأنما هي فرع من فروع الشريعة - كسائر أحكامها العملية، قال سعد الدين التفتازاني (712 - 789 هـ‍/ 1312 - 1389 م) في شرح المقاصد: إن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق، لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة، من نصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، ولا يخفى أن ذلك من الأحكام العملية - دون الاعتقادية - وقد ذكر في كتبنا الفقهية: أنه لا بد للأمة من إمام، يحيي الدين، ويقيم السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها.

ثم قال: ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة، اعتقادات فاسدة واختلافات باردة... ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام، ونقض عقائد المسلمين، والقدح في الخلفاء الراشدين... ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام (3).

وقال السيد في شرح خطبة المواقف: إن الإمامة - وإن كانت من فروع الدين - فقد ألحقت بأصوله، دفعاً لخرافات أهل البدع والأهواء، وصوناً للأئمة المهديين عن مطاعنهم، لئلا يفضي بالقاصرين إلى سوء اعتقاد فيهم - وهكذا

____________

(1) محمد عمارة: المرجع السابق ص 241 - 242، أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات 3 / 194 - 195 (المطبعة التونسية).

(2) علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم ص 18.

(3) سعد الدين التفتازاني: شرح المقاصد 1 / 199 (طبع الآستانة)، محمد عمارة، المرجع السابق ص 244.

 

 


يبدو واضحاً أن الخلافة ليست من نوع العقائد، وإنما حشروها في علم الكلام، للعذر الذي أبداه شارح المقاصد وشارح المواقف (1).

ومن ثم فقد استقر الرأي في علم الكلام الإسلامي، على أن مباحث الخلافة - الإمامة - الدولة، إنما هي من الفروع، وليست من عقائد الدين، ولا من أصوله، ومن ثم فإن الخلاف والاختلاف فيها أليق به أوصاف الخطأ والصواب، والضرر والنفع - وليس الكفر والإيمان أو الإلحاد (2) - إلخ إلخ.

يقول ابن جميع في عقيدة التوحيد: إن الإمامة مستخرجة من الرأي، وليست مستخرجة من الكتاب أو السنة (3)، ويقول إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني: إن الكلام في الإمامة، ليس من أصول الاعتقاد (4)، ويقول الإمام أبو حامد الغزالي (450 - 505 هـ‍/ 1058 - 1111 م): إن نظرية الإمام ليست من المهمات، وليست من فن المعقولات فيها، بل من الفقهيات (5). ويقول الإمام ابن تيمية (661 - 728 هـ‍/ 1263 - 1328 م): إن الإمامة ليست من الأركان الخمسة، ولا من أركان الإيمان الستة، ولا هي من أركان الإحسان (6)، وفوق ذلك، وتبعاً له، يقول الغزالي: والعلم أن الخطأ في أصل الإمامة تعيينها وشروطها وما يتعلق بها، لا يوجب شئ منه الكفر (7).

ويقول شيخ الأزهر محمد الخضر حسين (1293 - 1377 هـ‍/ 1876 -

____________

(1) نفس المرجع السابق ص 244.

(2) نفس المرجع السابق ص 204.

(3) أبو حفص عمر بن جميع: عقيدة التوحيد - القاهرة 1353 هـ‍- ص 506.

(4) الجويني: الإرشاد - القاهرة 1950 ص 410.

(5) الإمام الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد ص 134 (ط صبيح - القاهرة).

(6) ابن تيمية: منهاج السنة 1 / 70 - 72 (القاهرة 1962).

(7) الغزالي: فصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 15 (القاهرة 1907).

 

 


1958 م) في كتابه نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم: إن الخلافة ليست من نوع العقائد، والبحث فيها يرجع إلى النظر في حكم عملي، لا في عقيدة من عقائد الدين، ومن ثم فيكتفي من مسندها بالأدلة المفيدة ظناً راجحاً (1).

بقيت الإشارة إلى أن كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) إنما كان سبباً في صدور عدة دراسات جادة وهامة، حول القضية التي عالجها - علاقة الدين بالدولة - وكان من أهمها:

1 - كتاب الشيخ محمد رشيد رضا (1282 - 1354 هـ‍ / 1865 - 1935 م) الخلافة أو الإمامة العظمى، حول إلغاء الخلافة العثمانية - وقد صدر هذا الكتاب قبيل صدور كتاب الإسلام وأصول الحكم 1925 م.

2 - كتاب شيخ الأزهر الشيخ محمد الخضر حسين (1292 - 1377 هـ‍/ 1875 - 1958 م)، رداً على كتاب الشيخ علي عبد الرزاق، وعنوانه نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم وقد صدر عام 1344 هـ‍/ 1926 م.

3 - كتاب الشيخ محمد بخيت المطيعي (1271 - 1354 هـ‍/ 1854 - 1935 م) - مفتي الديار المصرية، وعنوانه حقيقة الإسلام وأصول الحكم، وقد صدر عام 1344 هـ‍/ 1926 م، رداً على كتاب الشيخ علي عبد الرازق. هذا فضلاً عن مجموعة من المقالات العلمية الجادة شارك أصحابها في هذه المعركة الفكرية مؤيدين أو معارضين - للشيخ علي عبد الرازق.

____________

(1) محمد الخضر حسين: نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم - القاهرة 1926 ص 33، وانظر ص 74 - 75.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مخالفة عائشة للرسول (ص) من كتب السنة
الوقفة الثانية سند هذا الحديث
الشعائر بنظرة رسالية دموع زين العابدين وحزن زينب
في رحاب العدالة العلويّة (1)
مختصر من حياة الشهيد المظلوم أبي عبد الله الحسين ...
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
كيف تعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع الناس
روى البخاري في صحيحه (كتاب الأحكام) قول الله ...
ولاية علي شرط الايمان
تجدد النبوة والنبوة الخاتمة (2)

 
user comment