عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الإمامة

 

 


 

 

 


تمهيد

قضية الإمامة قضية فرضت نفسها على واقع المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، ومنذ اجتماع السقيفة الذي تمخض عن ظهور الخليفة أبي بكر والذي لم يحسم الخلاف حول هذه القضية بل زاد في تعقيدها ليتمخض في النهاية عن ظهور الملكية التي أصبحت سمة الحكم في بلاد المسلمين حتى اليوم.

لقد قامت فكرة الخلافة على أنقاض فكرة الإمامة في محاولة لتحل محلها وتكون بديلة عنها. إلا أن فكرة الإمامة ظلت باقية وتنادي بها اتجاهات أخرى خارج دائرة أهل السنة.

ومثل هذا الخلاف المحتدم حول هذه القضية إنما يشير إلى أهميتها وخطورتها وفاعليتها في محيط الإسلام. ولو كانت مجرد قضية هامشية ما حظيت بكل هذا الاهتمام والجدل من قبل المسلمين طوال عصور الإسلام.

وهذه القضية هي محور الخلاف بين السنة والشيعة، وعليها تنبني كل القضايا الخلافية الأخرى وتتفرع منها.

فموقف الشيعة من الصحابة ينبني عليها.

وموقف السنة من الإمامة ينبني عليه تعديله لجميع الصحابة.

وموقف الشيعة من الأحاديث التي روتها السنة ينبني عليها.

وموقف السنة في قضية التوحيد ينبني على هذه الأحاديث.

وموقف الشيعة من الحكام ينبني عليها.

وموقف السنة منهم ينبني على أساس فكرة الخلافة.

فموقف الشيعة المتبي لقضية الإمامة انبنت عليه قضايا وأحكام.

وموقف السنة الرافض بهذه القضية انبنت عليه قضايا وأحكام.

والخلاصة أن الشيعة تعتبر الإمامة أصلا من أصول الدين.

بينما يعتقد أهل السنة أن الإمامة مسألة لا صلة بها بأصول الدين.

 

 


الإمامة عند أهل السنة

تعتبر فكرة الإمامة عند أهل السنة فكرة عائمة غير محددة بشخص معين، فيمكن أن تطلق على الحاكم كما يمكن أن تطلق على الفقيه ومن يصلي بالناس.

وما سوف نتناوله بالبحث هنا هو الإمام الحاكم، فهو المتعلق بموضوع البحث. والإمام أو الخليفة أو أمير المؤمنين ثلاثة ألفاظ تطلق على الحاكم عند السنة. وليست هناك أية أبعاد شرعية تعطي خصوصية للإمام عندهم، فهو فرد كبقية أفراد الرعية، تقوده الظروف إلى الحكم بطريق السيف أو الوراثة أو الاختيار من قبل أهل الحل والعقد، فيصبح إمام الأمة ويجب على جميع المسلمين أن يدينوا له بالسمع والطاعة حتى وإن كان فاجرا ظالما (1).

·  اختيار الإمام:

وعند السنة نصب الإمام واجب حسما للفتنة. وطريق وجوبها السمع والعقل. وتنصيبه يكون عن طريق أهل الاجتهاد أو الحل والعقد الذين يختارون من تتوافر فيه شرائط الإمامة.. (2).

إلا أن الراصد لحركة تنصيب أئمة الحكم في واقع المسلمين منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وحتى يومنا هذا لا يجد أثرا لأهل الاجتهاد هؤلاء ولا دورا. إنما يجد صورا مختلفة لتنصيب الحاكم تخرج الباحث في النهاية أنه ليست هناك صورة محددة لاختيار الحاكم ولشكل الدولة في الإسلام..

____________

(1) أنظر العقيدة الطحاوية والعقيدة الواسطية والأحكام السلطانية وشرح المقاصد للتفتازاني والتمهيد للباقلاني ومنهاج السنة لابن تيمية.

(2) أنظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى.

 

 


والحق أن مثل هذه النتيجة إنما تولدت من خلال الممارسات المنحرفة للحكم في التاريخ، والتي اختفت فيها صورة الشورى والاختيار الحر.

ومثل هذه الحكومات التي قامت بالغصب والوراثة لا يصح أن تتخذ مقياسا للتطبيق الإسلامي الصحيح، وإن كان الفقهاء قد اعترفوا بهذه الحكومات وأضفوا عليها الشرعية. وقد عمل أهل السنة على حصر الإمامة في قريش وهو الشعار الذي رفعه الجناح القرشي بقيادة أبي بكر وعمر في مواجهة الأنصار (الأوس والخزرج) عند اشتداد النزاع على الحكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله.

وقال أبو بكر: إن العرب لا تدين إلا بهذا الدين من قريش.. (1).

ونقلوا قول الرسول صلى الله عليه وآله: \" إن هذا الأمر (الحكم) في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين \" (2).

وقول الرسول صلى الله عليه وآله: \" لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان \" (3).

إلا أن هذه القاعدة شذ عنها بعض الفقهاء في مقدمتهم ابن خلدون الذي اعتبر أن قريشا كانت مركز العصبية في العرب آنذاك وأن العصبية من الممكن أن تنتقل منها إلى مناطق أخرى، وبالتالي يصبح وجود إمام من خارج قريش أمرا مقبولا شرعا، هذا لكون أن كثيرا من حكام المسلمين ليسوا من قريش كالعثمانيين والمماليك من قبلهم (4).

____________

(1) أنظر أحداث السقيفة في كتب التاريخ.. انظر لنا السيف والسياسة.

(2) رواه البخاري.. كتاب الأحكام.. ويذكر أن راوي هذا الحديث هو معاوية بن أبي سفيان في معرض الهجوم على عبد الله بن عمرو بسبب أنه حدث أنه سيكون ملك من قحطان، ولعل معاوية رأى في رواية ابن عمرو تهديدا لسلطانه.. انظر فتح الباري: 13 / 114.

(3) البخاري كتاب الأحكام.

(4) وهذه نظرة تبريرية في مواجهة النصوص.. انظر مقدمة ابن خلدون.. ويذكر أن المماليك بداية من عصر الظاهر بيبرس أرادوا تطبيق حديث الأئمة في قريش حتى يضفوا على حكمهم الشرعية فقاموا باستجلاب بقية العائلة العباسية الفارة من وجه التتار إلى مصر وأحيوا الخلافة العباسية وجعلوا القاهرة مقرا لها.. غير أن خلفاء بني العباس في مصر لم يكونوا سوى صورة أو لافتة توضع وتنزع وتستبدل حسب أهواء المماليك.

 

 


من هنا اشترط الفقهاء في الإمام أربعة شروط هي:

- أن يكون قرشيا من الصميم.

- أن يكون حرا عاقلا بالغا عالما.

- أن يقوم بأمر الأحكام الحدود والحرب والسياسة.

- أن يكون أفضل القوم علما ودينا (1).

ويقرر الفقهاء أن من غلب المسلمين بالسيف حتى صار خليفة وسمي بأمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن بييت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا فهو أمير المؤمنين (2).

واختلفوا في الخليفة الذي يداوم على السكر واللهو والغلول (مصادرة الغنائم لنفسه) هل يجوز الجهاد معه أم لا..؟ (3).

وتنص عقيدة أهل السنة على أن الجهاد ماض وراء كل أمير برا كان أو فاجرا (4).

وقد أفرد الفقهاء أبوابا في كتب الفقه تدور حول أهلية الإمام واستمراريته في الحكم لو فقد يده أو عينه أو رجله أو أصابه خرس أو مرض أو ما شابه ذلك (5).

والمتأمل في مثل هذه الأمور التي ربطها أهل السنة بمسألة الإمامة يتبين له أنها تفوح منها رائحة السياسة.

ويبدو هذا الأمر بوضوح في تحديد الفقهاء لطريقين اثنين لانعقاد الإمامة هما:

- اختيار أهل الحل والعقد.

____________

(1) الأحكام السلطانية.

(2) المرجع السابق.

(3) أنظر تفاصيل هذا الخلاف في كتب العقائد.

(4) أنظر العقيدة الطحاوية والعقيدة الواسطية.

(5) أنظر الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية لابن تيمية وكتب العقائد والفرق.

 

 


- العهد أو الوصية من سابقه.

فبالنسبة للأمر الأول استنبطوه من فعل السقيفة.

وبالنسبة لأمر الثاني (الوصية) استنبطوه من فعل أبي بكر حين أوصى لعمر.

وبالنسبة للعهد فقد استنبطوه من فعل بني أمية وبني العباس (1).

وتبدو السياسة بصورة أكثر وضوحا حين يقرر أهل السنة أن من أصول الاعتقاد أن الخليفة بعد الرسول أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي هكذا بالترتيب.

ومع أن المتأمل في أحداث السقيفة واختيار أبي بكر يجد أن المسألة قد جانبت الشورى وطغت فيها القبلية وافتقدت فيها النصوص القاطعة بخلافته (2).

أما خلافة عمر فقد جاءت بوصية من أبي بكر ولم تكن بمشورة المسلمين، وقد عاضها كثير من الصحابة وقتها (3).

أما خلافة عثمان فقد جاءت باختيار من وسط ستة من أفراد حددهم عمر، تحالف أربعة منهم مع عثمان ضد السادس وهو الإمام علي (4).

____________

(1) أنظر لنا فقه الهزيمة.

(2) أنظر أحداث السقيفة في كتب التاريخ وفي كتابنا السيف والسياسة.

(3) أنظر كتب التاريخ.. وقد قال بعضهم لأبي بكر: أتولي علينا غليظ القلب؟

(4) أنظر كتب التاريخ.. والأربعة هم سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير.. وقال عمر: إذا اجتمع ثلاثة على رأي وثلاثة على رأي.. أي استقر رأي اثنين على واحد.. والاثنين الآخرين على واحد - فحكموا عبد الله بن عمر.

وعبد الله هذا هو الذي قال فيه أبوه حين أشار عليه أحدهم باستخلافه: قاتلك الله.. والله ما رأيت الله بهذا.. استخلف من لم يحسن أن يطلق امرأته.

وقال عمر للستة: ليحل هؤلاء في بيت (للتشاور) فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالف فاضربوا عنقه. وقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي. وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. وانسحب ابن عوف فأصبح سعد مع عثمان. ثم فصل الأمر ابن عوف بأن رفع يد عثمان وبايعه..

والغريب أنه قبل أن يستقر الأمر لعثمان قال عمر والقوم يتشاورون: إن تولوها الأجلح (علي) يسلك بهم الطريق فقال له ابنه: ما يمنعك يا أمير المؤمنين منه..؟

=>

 

 


وخلافة علي لم يجتمع عليها القوم حتى أن بعض الفقهاء اعتبرها غير كاملة المشروعية، وقد اعترف بها القوم من باب التستر على أخطاء وتجاوزات الثلاثة الذين سبقوه، وحتى لا ينكشف انحيازهم الكامل للخط القبلي (1).

تقول العقيدة الطحاوية: ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب، ثم لعثمان، ثم لعلي بن أبي طالب. وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون (2).

ويقول ابن تيمية: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع وصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: \" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الإمام \" (3).

وقد استدل بعضهم بقوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) على وجوب نصب الإمام. يقول القرطبي: هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة.. وعندنا النظر طريق إلى معرفة الإمام.

____________

<=

قال أكره أن أتحملها حيا وميتا.

وفي رواية: أن ابن عوف طلب من علي أن يبايع على كتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين فقال أبايع على كتاب الله وسنة رسوله وأجتهد برأيي.. فقال لعثمان أتبايع على كتاب الله وسنة رسوله . سنة الشيخين قال نعم.. فبايعه. والطريف هنا أن عثمان بعد أن تولى خرج عن كتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين.. انظر تفاصيل اختيار عثمان - فتح الباري: ج 7 / 61. 69 كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عمر.

(1) أنظر كتب التاريخ.. ويبرر هذا الموقف من خلافة الإمام عند أهل السنة أن الصحابة لم يجمعوا عليه وقد وقف منهم قطاع مع معاوية ضده بينما آثر قطاع الحياد وفي مقدمتهم ابن عمر. انظر لنا السيف والسياسة وتأمل اعتبارهم عثمان قتل مظلوما بينما اعتبر بعضهم قاتل الإمام متأولا.. ولم يذكر في كتب أهل السنة أن الإمام قتل مظلوما.

والبخاري روى لعمران بن حطان شاعر الخوارج الذي أنشد يمدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام..

(2) أنظر العقيدة الطحاوية والواسطية وجوهرة التوحيد وكتب العقائد.

(3) العقيدة الواسطية.

 

 


وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضا إليه.. وليس في العقل ما يدل على ثبوت الإمامة لشخص معين. وكذلك ليس في الخبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين. واختلف فيما يكون به الإمام إماما وذلك على ثلاثة طرق أحدها: النص وقال به جماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري والحنابلة وغيرهم.

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالإشارة. وأبو بكر على عمر. فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل أبو بكر أو على جماعة كما فعل عمر وهو الطريق الثاني. ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة في تعيين عثمان.

الطريق الثالث: إجماع أهل الحل والعقد. وذلك إن الجماعة في مصر من الأمصار إذا مات إمامهم، ولم يكن له إمام ولا استخلف، فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضره الإمام وموضعه إماما لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه، فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام، إذا لم يكن الإمام معلنا بالفسق والفساد لأنها محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما لإقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين.. فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد، فذلك ثابت ويلزم الغير فعله.. فإن تغلب من له أهلية الإمامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقا رابعا.. قال أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر وهذا مجمع عليه..

وقال ابن خويز منداد: لو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة..

وقال القرطبي: إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة.. (1).

ويقول الماوردي: وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما:

____________

(1) الجامع لأحكام القرآن: ج 1 / 185 وما بعدها. بتصرف ط. بيروت - دار الكتب العلمية.

 

 


أحد هما أن أبا بكر عهد بها إلى عمر فأثبت المسلمون إمامته بعده.

والثاني أن عمر عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها وهم أعيان العصر اعتقادا بصحة العهد بها (1).

ويقول ابن خلدون: ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر بعد ذلك، ولم يترك الناس في عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام.. (2).

ويقول النسفي: المسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدود هو سد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطرق وإقامة الجمع والأعياد وقطع المنازعات الواقعة بين العباد وقبول الشهادات القائمة على الحقوق وتزويج الصغار والصغائر الذين لا أولياء لهم وقسمة الغنائم ونحو ذلك من الأمور التي لا يتولاها آحاد الأمة (3).

وقد أجمع فقهاء السنة على أن نصوص القرآن والسنة أوجبت إقامة إمام للجماعة الإسلامية لكنهم يعتبرون هذا الوجوب ليس من باب الفريضة التي تجعل من مسألة الإمامة أصلا من أصول الإسلام أو جزءا من الاعتقاد وإنما جعلوا الإيمان بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي جزءا من الاعتقاد.

ورغم اعتقاد أهل السنة بخلافة الإمام علي وحساسيتهم الشديدة تجاه من يسمون الخلفاء الثلاثة بشئ من النقد إلا أن محاولتهم رفع مقام معاوية واختراع المناقب وتبرير تجاوزاته معه واتنهاكاته لحقوقه كإمام وكذلك تبرير تجاوزات الآخرين.. محاولتهم هذه تتناقض مع هذا الاعتقاد الذي تفوح منه رائحة التحيز للثلاثة.

____________

(1) الأحكام السلطانية.

(2) المقدمة، لابن خلدون.

(3) العقائد النسفية شرح التفتازاني.

 

 


ولا يمكن لعاقل أن يدعي أن مساواة معاوية بالإمام علي لا تعني مساسا بشخص الإمام، فهذه المساواة تعني توثيق معاوية، توثيق معاوية يعني إضعاف الثقة بالإمام علي والشك في شرعيته.

وهذا الموقف يتخذه أهل السنة من معاوية في الوقت الذي يعتبرون فيه الخارجين على عثمان والثائرين عليه من البغاة مع أن فيهم الصحابة (1).

- وظيفة الإمام:

يبدو لنا من خلال استعراض النقاط السابقة أن أهل السنة يقرون التعايش مع أي حاكم. ما دام يحمي بيضة الإسلام فهو إمام المسلمين..

سلوكه الشخصي ليس مهما..

ومستواه العلمي ليس مهما..

وصل إلى الحكم بالغصب أو بالوراثة ليس مهما..

فسلوكه الشخصي أمر يتعلق به وليس الإمامة، وقد سئل ابن حنبل: الإمام الفاجر القوي أفضل أم الإمام التقي الضعيف؟ فأجاب: الفاجر القوي، لأن فجوره على نفسه وليس على الرعية، أما الآخر فتقواه لنفسه وضعفه على الرعية.

وقد نسي ابن حنبل أن الإمام الفاجر لا بد أن ينعكس فجوره على الرعية.

أما مستواه العلمي فأكثر أهل السنة على اشتراط العلم، والاجتهاد في الإمام نظريا فقط، وموقفهم عمليا إنما هو موقف مساير لحكام زمانهم من الأمويين والعباسيين وغيرهم الذين لم يكن لديهم وقت للعلم وفهم أحكام الدين. فهي مسألة لا تعنيهم من الأصل ما دامت السلطة التنفيذية والسياسية في أيديهم والسلطة الدينية في يد الفقهاء التابعين لهم فما حاجتهم للعلم إذن؟

والفقهاء بهذا التصور إنما يؤكدون فكرة فصل الدين عن الدولة وإيجاد سلطة دينية وسلطة سياسية تتناقض كل منهما مع الأخرى.

____________

(1) أنظر كتب التاريخ.. وانظر لنا السيف والسياسة.

 

 


وبالطبع لم يكن أمام الفقهاء سوى اختيار هذا الطريق إذ أن اشتراطهم العلم والاجتهاد في الحاكم سوف يؤدي إلى صدامهم مع حكام زمانهم ورفضهم، لكنهم قبلوا الاعتراف بالحكام الجهال كما قبلوا الاعتراف بالحكام الفجار ومغتصبي السلطة.

ويعتبر أهل السنة أن الذي يغتصب السلطة يجب إقراره وطاعته لأن رفضه والخروج عليه يعتبر مفسدة أعظم من مفسدة حكمه.

وهذا الموقف نابع من معايشة الفقهاء للأنظمة الوراثية الأموية والعباسية وغيرها والتي قتلت في ظلها روح الشورى وجعلت القتل والتآمر وسيلة الوصول إلى الحكم.

وليس هناك من حرج في هذا، فالفقهاء على الأبواب ينتظرون نتيجة أي صراع داخل العائلة الحاكمة أو خارجها ليباركوا المنتصر ويضفوا عليه الشرعية ويدعوا الرعية إلى طاعته وعدم السعي لإعادة المغلوب لأن في ذلك مفسدة أكبر.

فلا يجوز إذن إن يخلع الإمام بسبب الظلم أو الفسق أو غصب الأموال وضرب الابشار وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود، فهذا أمر قد أقره جمهور الفقهاء، فمن ثم يعد من الإجماع الواجب التقيد به واعتقاده (1).

وهناك رواية على لسان الرسول صلى الله عليه وآله توجب طاعة الإمام وإن جلد ظهرك وأخذ مالك (2).

وإذا كان الأمر كذلك فما هي وظيفة الإمام إذن..؟

إن مثل هذا الاعتقاد عند أهل السنة إنما هو أحد الموروثات السياسية التي لا سند لها من النصوص القطعية وإنما سندها الوحيد هو الأحاديث المخترعة (3).

____________

(1) أنظر الأحكام السلطانية والتمهيد للباقلاني.

(2) أنظر مسلم كتاب الإمارة.

(3) أنظر لنا أحاديث نبوية اخترعتها السياسة.

 

 


يقول الشيخ جعفر السبحاني: وعلى هذا الأساس تسلط أصحاب السلطة من الأمويين والعباسيين على أعناق الناس وأراقوا الدماء واستباحوا الأعراض وانتهبوا الأموال، وصار أصحاب الحديث يبررون سلوكهم في عدم جهاد الطواغيت بهذه العلة التافهة (المفسدة الأعظم) التي لو أخذنا بها لاندرس من الدين حتى الاسم وهؤلاء المساكين لا يدرون أنه إنما قام للإسلام عمود واخضر له عود بمجابهة المخلصين من المسلمين عن طريق ثوراتهم وأعمالهم على السلطات الجائرة حتى استشهد كثير منهم وسقوا شجرة الإسلام بدمائهم الطاهرة فبقيت مخضرة تؤتي أكلها كل حين (1).

ويحدد بعض الفقهاء وظيفة الإمام في الأمة في عشرة أمور هي:

- حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها السلف.

- تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بينهم.

- حماية البيضة والذب عن الحوزة (الدفاع عن البلاد وتأمينها).

- إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك.

- تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة.

- جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.

- جباية الفيئ والصدقات.

- تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال.

- استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء.

- أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال (2).

وهذه المهام العشر إذا ما حاولنا مطابقتها على واقع الحكام الذين ملكوا السلطة في تاريخ المسلمين فسوف نجد مفارقة كبيرة.

____________

(1) مفاهيم القرآن: ج 5 / 200 ط. بيروت.

(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى.

 

 


فلن نجد حاكما واحدا حفظ الدين على وجهه الصحيح. أما حفظ الدين حسب منهج بني أمية وبني العباس الذي أقره السلف فهو أمر قد تحقق بالفعل ولا يزال متحققا على أيدي آل سعود وحكام النفط وغيرهم.

أما تنفيذ الأحكام وقطع الخصام هذه مهمة تكبرهم بكثير لأنهم كانوا جهلاء لا شأن لهم بالعلم الشرعي ولا يملكون آلة الاجتهاد، والمنفذ الفعلي لهذه المهمة هم القضاة، وحماية البلاد وتأمينها قام بها البعض وتقاعس آخرون.

وإقامة الحدود على أيديهم غير أمر معهود لجهلهم أولا.. واستحقاق إقامة الحدود عليهم ثانيا.

وتحصين الثغور والجهاد قام به الرعية والجنود وليس للحكام فضل في هذا. أم جباية الفيئ والصدقات فهو أمر قد تفانوا فيه وبذلوا فيه غاية الجهد حتى يضمنوا لأنفسهم رغد العيش والحياة في القصور والتسلي مع الحور.

واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء ومباشرة الأمور فلا أظن أن هناك عاقلا يقول إن هذه من مهمات الحكام.

فلو أحاط الحكام أنفسهم بالأمناء وقلدوا الأمور للنصحاء وباشروا أمور الرعية بما يرضي الله لقاموا بوظيفتهم، لكن شيئا من ذلك لم يحدث إلا في النادر.

ومما سبق يتبين لنا أن الإمام أو الخليفة أو أمير المؤمنين في نظر أهل السنة من السهل عليه أن يحكم ومن السهل عليه أن يطاع دون أن يؤدي وظيفته.

ومنهج أهل السنة يقوم على أساس إحسان الظن بالإمام (الحاكم) وتبرير ممارساته ومواقفه المتناقضة مع الشرع.

ويروى عن أبي يوسف: أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ وصلى بالناس فقيل لأبي يوسف: أصليت خلفه؟

قال: سبحان الله. أمير المؤمنين. يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع (1).

-

____________

(1) العقيدة الطحاوية.

 

 


وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد. وليس عليه أن يطيع اتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية (1).

ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم. ونرى طاعتهم لله عز وجل فريضة.. ما لم يأمروا بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة (2).

وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من الفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم. بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا (3).

يروي البخاري وغيره عشرات الأحاديث التي توجب طاعة الحكام حتى وإن ظلموا وفجروا وأكلوا أموال الناس وجلدوا ظهورهم ما داموا يقيمون الصلاة (4).

____________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع السابق.

(4) يروي مسلم: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم.. قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا. ما أقاموا فيكم الصلاة.. إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله..

فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعته.

ويروي البخاري: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله.. ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني.. وفي مسلم والبخاري على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره.. من رأى من أميره شيئا فليصبر، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية.. وفي رواية فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

ومثل هذه الروايات هي التي أسهمت بفضل فقهاء السلاطين في الحفاظ على ملك بني أمية وبني العباس وحتى المماليك العبيد. انظر مسلم كتاب الإمارة وشرحه للنووي..

 

 


وتنص عقيدة أهل السنة على أن الحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين بارهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلها شئ ولا ينقضها (1).

وينقل الباقلاني قول جمهور السنة من أهل الإثبات والحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الابشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود. ولا ينخلع بهذه الأمور ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شئ مما يدعو إليه من معاصي الله، واحتجوا لذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبي والصحابة في وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا بالأموال (2).

ويقول التفتازاني: وإذا مات الإمام وتصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير استخلاف.. وقهر الناس بشوكته.. انعقدت الخلافة له، وكذا إذا كان فاسقا أو جائرا على الأظهر، إلا أنه يعصى بما فعل، وتجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلا أو جائرا.. ولا ينعزل الإمام بالفسق (3).

____________

(1) العقيدة الطحاوية.

(2) التمهيد للباقلاني.

(3) العقائد النسفية.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علماء السنة يجيزون لعن يزيد بن معاوية
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمام
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
اليوم الآخر في القرآن الكريم
الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :

 
user comment