عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

التوحيد

تمهيد

لن نناقش هنا قضية الإيمان بالله ووجوده لدى أهل السنة والشيعة فهي قضية مفروغ منها وليست محل خلاف بين الطرفين أو غيرهما من طوائف المسلمين.

إنما مرتكز البحث هنا هو موقف أهل السنة والشيعة من مسألة الوحدانية وتصورهما حولها استنادا للمراجع المعتمدة لدى كل من الاتجاهين..

وسوف نعرض لرؤية أهل السنة من خلال ثلاثة اتجاهات:

- اتجاه السلف..

- اتجاه الخلف..

- اتجاه ابن تيمية..

والسلف هم من كانوا قبل الخمسمائة. وقيل القرون الثلاثة الأولى.

الصحابة والتابعون وتابعوا التابعون. وهؤلاء ينقل عنهم أهل السنة أن لهم رؤية في الأسماء والصفات هي التي تمثل العقيدة الصحيحة الواجب الالتزام بها واتباعها..

أما الخلف فهم من كانوا بعد الخمسمائة وقيل بعد القرون الثلاثة، وهم اثنين خاضوا في الأسماء والصفات وأولوها بما ينفي التشبيه والتجسيم. فإذا ورد في القرآن والسنة. ما يشعر بإثبات الجهة أو الجسمية أو الصورة أو الجوارح عملوا على تأويل ذلك لوجوب تنزيهه تعالى عما دل عليه ما ذكر بحسب ظاهره..

أما اتجاه ابن تيمية فهو اتجاه شذ عن السلف والخلف وإن كان قد ألصق نفسه بالسلف ودعى سيره على نهجهم. وهو الاتجاه الذي تبنته الحركة الوهابية وقامت ببعثه بعد أن لفظه فقهاء السنة وحاكموه وكفروه على ما سوف نبين..

 

 


وكل الأطروحات الوهابية القديمة والمعاصرة إنما تعكس فكر ابن تيمية ومعتقداته ومن ثم فإن الحديث عن عقيدة ابن تيمية يعتبر حديثا عن عقيدة الوهابيين كذلك الحديث عن عقيدة الوهابيين يعد حديثا عن عقيدة ابن تيمية..

وقد ركزنا في هذا الباب على عقيدة ابن تيمية ووضعها عند أهل السنة.

لما لهذه العقيدة ولصاحبها من دور وتأثير على مسلمي اليوم الرين تشبعوا بهذه العقيدة تحت ضغط المد الوهابي السعودي الذي اخترق التجمعات الإسلامية في كل مكان..

وبالنسبة للشيعة فإن قضية التوحيد عندهم تنبع من مصدر واحد وهو الأئمة وعلى رأسهم إلمام علي عليه السلام. فمن ثم لا يوجد في دائرة الشيعة ذلك الخلاف والتناحر حول المسائل العقائدية المتعلقة بأسماء الله وصفاته ومكانه واسستوائه سبحانه..

 

 


التوحيد عند أهل السنة

التوحيد عند السلف:

يقول القرطبي:.. كان السلف الأول لا يقولون بني الجهة ولا ينطقون بذلك. لا نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله.

ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته. وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته.

قال مالك: الاستواء معلوم - يعني اللغة - والكيف مجهول. والسؤال عنه بدعة. وكذا قالت أم سلمة.. (1).

ويقول الغزالي: إعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف. أعني الصحابة والتابعين. وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه. فأقول: حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه سبعة أمور: التقديس والتصديق ثم الاعتراف بالعجز ثم السكوت ثم الامساك ثم الكف ثم التسليم لأهل المعرفة.. أما التقديس فأعني به تقديس الرب سبحانه وتعالى عن الجسمية وتوابعها..

وأما التصديق فهو اليمان بما قاله صلى الله عليه وآله وأن ما ذكره حق وهو فيما قال صادق وأنه على الوجه الذي قاله وأراده..

وأما الاعتراف بالعجز فهو أن يقر بأن مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته..

وأما السكوت فإنه لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه. أنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر..

____________

(1) الجامع لأحكام القرآن..

 

 


وأما الامساك فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة والنقصان منه والجمع والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الايراد والإعراب والتصريف..

وأما الكف فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر فيه..

وأما التسليم لأهله فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي على رسول الله صلى الله عليه وآله أو على الأنبياء أو على الصديقين والأولياء..

فهذه سبع وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على العوام لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شئ منها.. (1).

وسئل الشافعي عن الاستواء فقال: آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل..

واتهمت نفسي في الإدراك. أمسكت عن الخوض فيه كل الامساك.. (2).

وقال أبو حنيفة: من قال لا أعرف الله في السماء هو أم في الأرض هو، فقد كفر لأن هذا يوهم أن لله مكانا ومن توهم أن لله مكانا فهو مشبه.. (3).

ويقول ابن خلدون:.. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات وأخرى في الصفات.

أما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل..

لجواز أن تكون ابتلاء فيجب الوقف والاذعان له.. (4).

____________

(1) إلجام العوام عن علم الكلام. الرسالة الربعة من رسائل الغزالي المطبوعة تحت عنوان القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي ط. القاهرة.

(2) حل الرموز أو زيد خلاصة التصوف للعز بن عبد السلام.

(3) المرجع السابق وسئل ابن حنبل عن الاستواء، فقال: استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر..

(4) مقدمة ابن خلدون..

 

 


ويقول الفخر الرازي: حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع بها بأن مراد الله تعالى منها شئ غير ظواهرها.. ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تعسيرها.. (1).

ويقول التفتزاني في معرض كلامه عن تنزيه الله عز وجل عن مشابهته للحوادث: إن ذلك وهم محض وحكم على غير المحسوس بأحكام المحسوس والأدلة القطعية قائمة على التنزيهات. فيجب أن يفوض علم النصوص إلى الله تعالى على ما هو دأب السلف إيثارا للطريق الأسلم. أو تؤول بتأويلات صحيحة على ما اختاره المتأخرون دفعا لمطاعن الجاهلين وجذبا لطبع القاصرين سلوكا للسبيل الأحكم.. (2).

وسئل يحيى بن معاذ الرازي: أخبرنا هن الله تعالى..؟

قال: إله واحد..

فقيل كيف هو..؟

قال: إله قادر..

قيل: أين هو..؟

قال: بالمرصاد..

قيل: لم نسألك عن هذا..

قال: ما كان هذا صفة المخلوقين. فإما صفة الخالق فالذي أخبرته عنه.. (3).

ويقول ابن قائد الجندي: مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه. وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. فيثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات

____________

(1) أساس التقديس..

(2) شرح العقائد للنسفي.

(3) حل الرموز..

 

 


وينزهونه عما نزه نفسه من مماثلة المخلوقات إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل قال تعالى: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) " الشورى / 11 " (1).

وقال بعضهم: المعطل يعبد عدما. والمشبه يعبد صنما. والموحد يعبد إلها واحدا صمدا.. (2).

وحديث الجارية المشهور عند أهل السنة التي سألها الرسول صلى الله عليه وآله: أين الله؟ قالت في السماء.. يستدل به أهل السنة على أن الله في السماء. لكنهم يستدركون أن هذا لا يعني أن الله في جوف السماء وأن السماوات تحصره وتحويه. فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها. بل هم متفقون أن الله فوق سمواته على عرشه بائن عن خلقه. ليس في مخلوقاته شئ من ذاته ولا في ذاته شئ من مخلوقاته. وقد قال مالك: إن الله في السماء وعلمه في كل مكان.. (3).

ويتفق أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم أن الله لم يزل متكلما كيف شاء وإذا شاء بلا كيف يأمر بما شاء ويحكم.. (4).

وينقل عن الشافعي قوله: آمنت بما جاء عن الله على مراد الله. وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله على مراد رسول الله.. (5).

ويقول البيهقي: أما وحدانيته في ذاته سبحانه فمعناها أن ذاته العلية لا تتركب من أشياء مادية ولا عقلية ولا من أصول غير مادية فلا تحوم حول حماها المقادير والمساحات والأشكال ونحوها وقد برهنه القرآن ببيان أن له سبحانه الغنى الأكمل ووجوب الوجود لتركب في الذات واتصافها بالمقدار ولوازمه يستلزمان الحاجة إلى الغير والافتقار إلى السوي وينافيان وجوب الوجود

____________

(1) نجاة الخلف في عقائد السلف. ط. القاهرة..

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع السابق.

(4) المرجع السابق.

(5) أنظر الفتوى الحموية والرسالة المدينة لابن تيمية والشافعي لمحمد أبي زهرة..

 

 


ويقتضيان الاتصاف بالامكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فهو واجب الوجود وهو الأول والآخر وهو الغني الحميد.. (1).

بين السلف والخلف:

سوف نورد هنا عددا من النصوص القرآنية والنبوية ونبين موقف السلف والخلف منها فمما الجهة قوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم)..

السلف يقولون فوقية لا نعلمها..

والخلف يقولون المراد بالفوقية التعالي في العظمة..

وقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)..

السلف يقولون استواء لا نعلمه..

والخلف يقولون المراد به الاستيلاء والملك..

ومما يوهم الجسمية قوله تعالى: (وجاء ربك)..

وقول الرسول صلى الله عليه وآله: ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا.. (2).

السلف يقولون مجئ ونزول لا نعلمه..

والخلف يقولون المراد من الآية: وجاء عذاب ربك أو وجاء أمر ربك الشامل للعذاب والمراد ومن الحديث ينزل ملك ربنا فيقول عن ربنا..

ومما يوهم الصورة قول الرسول صلى الله عليه وآله:.. إن الله خلق آدم على صورته.. (3).

السلف يقولون صورة لا نعلمها..

والخلف يقولون المراد بالصورة الصفة من سمع ويصر وعلم وحياة..

ومما يوهم الجوارح قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك..) " الرحمن / 55 ".

____________

(1) أنظر الأسماء والصفات للبيهقي..

(2) أنظر شرح البيجوري على الجوهرة المسمى تحفة المريد على جوهرة التوحيد..

(3) المرجع السابق.

 

 


وقوله: (يد الله فوق أيديهم)..

وقول الرسول صلى الله عليه وآله: إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن..).

فالسلف يقولون لله وجه ويد وإصبع لا نعلمها..

والخلف يقولون المراد من الوجه الذات ومن اليد القدرة والمراد من قوله بين إصبعين من أصابع الرحمن بين صفتين من صفاته وهاتان الصفتان القدرة والادارة..

ومما يوهم الرؤية لله تعالى قوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).

وقول الرسول صلى الله عليه وآله: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر).. (1).

فالسلف مجمعون على رؤية الله يوم القيامة..

والخلف يقولون: إن النظر في الآية هو الانتظار..

واتجاه الخلف أو أصحاب التأويل شن عليهم ابن تيمية هجوما شديدا واضطر في مواجهتهم إلى إنكار المجاز في القرآن واعتبر اللغة حقيقة فقط مدعيا أن تقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز، بدعة على ما سوف نبين عند استعراض اتجاه ابن تيمية.. ويبدو أن هذا الموقف من قبل ابن تيمية محاولة منه لتفويت الفرصة على خصومه من أهل التأويل الذين يبنون موقفهم من آيات الأسماء والصفات على أساس المجاز كما هو واضح من خلال المقارنات السابقة..

ومن جانب آخر شن خصوم ابن تيمية عليه هجوما شديدا واتهموه بفساد العقيدة وتحريمه بعض المباح ومخالفته للأئمة الأربعة والتحدث بلسان السلف ونسبة الجهة والتجسيم والتشبيه لهم.. (2).

____________

(1) المرجع السابق.

(2) أنظر ابن تيمية سلفيا ط. القاهرة عام 70. والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر ج 1 ص 147. أنه نودي في دمشق اعتقد ابن تيمية حل دمه وماله. وانظر أيضا الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 86 وفيها تصريح الفقهاء أن ابن تيمية عند خذله الله وأضله وأعماه

=>

 

 


والأشاعرة وهم يمثلون أبرز الاتجاهات في دائرة أهل السنة فيما يختص بقضايا التوحيد لهم رؤية في الأسماء والصفات تختلف في بعض جوانبها عن رؤية السلف كما أن ابن تيمية هاجمها وطعن في الأشعري.. (1).

وكذلك الأمر بالنسبة للماتريدي وهو من الاتجاهات البارزة أيضا في دائرة أهل السنة ويتبنى اتجاها وسطا بين الأشاعرة والمعتزلة والبعض يرى أن الخلاف بينه وبين الأشعري خلاف لفظي.. (2).

وقيل أن الأشعري تارة يميل إلى العقل وتارة يميل إلى النقل، أما الماتريدي فيجري في جميع أحواله على نهج واحد يعتمد على العقل والنقل لا يغلب أحدهما على الآخر.. وقد أطلق لقب " أهل السنة " على جماعة الأشاعرة والماتريدية، ثم دخل بعد ذلك ضمن هذا التعريف أصحاب المذاهب الأربعة والأوزاعي والثوري وأهل الرأي والإجماع والقياس وغيرهم..

أما ابن تيمية ومن سار على نهجه فقد اختلف مع هذه الاتجاهات جميعا في كثير من القضايا التي تتعلق بالتوحيد والمعاملات..

أهل السنة والفرق الأخرى:

إن علامة الاستفهام التي تثيرها كتب الفرق أن هذا الكتب تضع فرقة أهل السنة في موضع القيمومة على الفرق الأخرى..

وتتعمد هذه الكتب إظهار أهل السنة بمظهر أهل الحق والفرقة الناجية التي خولت صلاحيات تعطيها الحق في محاكمة الفرق الأخرى وإصدار الحكم عليها..

____________

<=

وأصمه وأذله. وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله وانظر براءة الأشعريين من عقائد المخالفين فصل عقيدة ابن تيمية التي خالف بها جماعة المسلمين. وانظر لنا محاكمة ابن تيمية..

(1) أنظر العقيدة الواسطية الفتوى الحموية لابن تيمية وكتب الفرق التي تعرض لعقيدة الأشعري والابانة في أصول الديانة ومقالات الاسلاميين للأشعري..

(2) أنظر كتب الفرق وعلم الكلام..

ومع كون أهل السنة يعدون خصوما لهذه الفرق وينطبق عليهم ما ينطبق على الآخرين. إلا أنهم لا يتحلون بصفة تميزهم عن الآخرين وتمنحهم القيمومة عليهم..

ويبدو أن تحالف أهل السنة مع القوة الحاكمة على مر التاريخ. ذلك التحالف الذي منحهم الشرعية والاستقرار على ساحة الواقع واستقطاب القطاع الأكبر من جماهير المسلمين قد جعلهم يغترون بأنفسهم ويتعالون على الفرق الأخرى..

إن أهل السنة ينظرون لمخالفيهم نظرة استعلاء وهذه النظرة نابعة من اعتقادهم أنهم جماعة الحق وأنهم الفرقة الناجية. وبالطبع مثل هذا الاعتقاد لا بد أن يقودهم إلى الاستهانة بالآخرين والشك في عقائدهم..

وهذا يفسر لنا منطق المحاكمة وليس المناقشة الذي يحكم أي حوار يدور بين أهل السنة والشيعة..

ومن خلال تجاري الطويلة في الوسط الإسلامي وشتى الحوارات التي أجريتها مع مختلف التيارات خرجت بقناعة أن جميع تيارات أهل السنة لا تحاور بهدف متجرد أو تناقش منطق الباحث عن الحق. وإنما يحكم النقاش دائما منطق الخصومة والتعالي. فهم يناقشون بهدف إخضاع الطرف الآخر أو إصدار حكم فيه..

وكنت كثيرا ما أشترط بداية قبل الدخول في أي حوار أو نقاش مع طرف سني أن يتم التخلي عن منطق " صاحب حق يناقش صاحب باطل " فإن هذا الحوار لن يجدي بهذه الصورة ولن يؤدي إلا إلى زيادة التباعد والخصومة.

فالحكم ببطلان رؤية المناقش بداية يعني الأمر محسوم من قبل المناقش.

وهو في هذه الحالة لن يكون إلا صورة من صور المحاكمة الفكرية.. (1).

وهذا المنطق الذي ساد الوسط الإسلامي السني في مواجهة الشيعة إنما يعود سببه إلى هيمنة الفكر الوهابي المتعصب النابع من خط ابن تيمية الذي يكن عداءا شديدا للشيعة وللمخالفين له بوجه عام..

____________

(1) أنظر لنا الشيعة والسنة حوارات ومناقشات..

 

 


وخط ابن تيمية القديم أو الخط الوهابي الحديث إنما ينبع تعصبه من كونه يعتقد أنه يمثل عقيدة السلف ويتحدث بلسانهم. وليس هذا الأمر في حقيقته إلا مجرد ادعاء لا يمثل الحقيقة في شئ على ما سوف نبين عند استعراض موقف ابن تيمية والوهابيين من قضية التوحيد..

إن طبيعة التساؤلات التي كانت توجه إلي بمجرد التعرف على هويتي الفكرية إنما تكشف مدى تعمق منطق المحاكمة لدى الطرف السني..

فأول سؤال كان يوجه إلي هو: لماذا تسبون الصحابة..؟

وما هو موقفكم من أبي بكر وعمر..؟

ولماذا تبيحون زواج المتعة..؟

وهل لديكم قرآن سري..؟

ولماذا تفضلون الأئمة على الأنبياء..؟

فإذا كان جواب هذه التساؤلات بالنفي مع الإقرار بعدم وجود قرآن سري وعدم تفضيل الأئمة على الأنبياء والاعتراف بخلافة أبي بكر وعمر حكم بصحة عقيدتنا. وإذا كان الجواب بغير ذلك حكم بفسادها..

أي أن مقياس صحة الاعتقاد أو فساده عند أهل السنة إنما يقوم على أساس الموقف من الرجال خاصة أبي بكر وعمر. فهؤلاء الرجال العدول المقدسون عندهم المساس بهم يعتبر مساسا بالدين.. (1).

ومن الواضح أن مثل هذه القضايا التي تطرحها هذه التساؤلات المتعلقة بالرجال لا تتعلق بصلب العقيدة ولا ينبني على أساسها كفر وإيمان، لكنها عند أهل السنة بلغت هذا الحد وأصبحت من صلب العقيدة.. (2).

ومنطق أهل السنة في حوارهم مع الآخرين إنما يذكرنا بأسلوب محاكم التفتيش ولعل هذا المنطق أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشل الحركة

____________

(1) أنظر باب الرجال من هذا الكتاب..

(2) أنظر باب الإمامة من هذا الكتاب..

 

 


الإسلامية وعزلها عن الجماهير. لكون هذه الحركة تتبنى هذا المنطق وهي متشبعة بالفكر الوهابي وتمارسه عمليا على الملأ مما شكك الجماهير في مدى تبنيها لحرية الفكر واحترام الرأي الآخر بل دفعها إلى الخوف من تطبيق إسلامي على هذه الصورة..

وهذا المنطق أيضا هو الذي فتح الباب أمام خصوم الحركة الإسلامية وعلى رأسهم العلمانيون للطعن في الصرح الذي تتبناه والتشكيك فيه..

التوحيد والسياسة:

هل تدخلت السياسة في صياغة عقيدة التوحيد ودعمها عند أهل السنة..؟

إن استقراء أحداث التاريخ ومواقف الحكام من أهل السنة تشير إلى صحة هذا الادعاء.. فعندما كانت فرقة الخوارج تقف في مواجهة الأمويين وتقول بكفر مرتكب الكبيرة. وجد الأمويون في اتجاه المرجئة مخرجا لهم في مواجهة هذا الاتجاه الذي سبب لهم حرجا كبيرا لاعتكافهم على المعاصي كبيرها وصغيرها. كما وجدوا في اتجاه الفقهاء السائد الحصانة التي يريدونها لأنهم لا يكفرون مرتكب الكبيرة..

والمتأمل في قصة الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه فرقة الجبرية يجد أنه تناول فكرة الجبر من الجعد بن درهم. والجعد بن درهم أخذها من اليهود كما يروى..

ومن المعروف أن الجعد بن درهم على صلة وثيقة بالقصر الأموي وقد تسلم مهمة حساسة داخلة فيه وهي تربية الخلفاء الأمويين..

ورغم ذلك كانت النتيجة هي إعدام الجهم لا الجعد.. (1).

ويبدو من خلال حركة الجبرية هذه أنها كانت تتركز في الشام أكثر من أي مكان آخر مما يشير إلى أن الأمويين كانوا يستثمرونها لصالحهم حتى تبرر الناس

____________

(1) كان الجعد بن درهم مربيا لآخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد. ويروى أن الجعد أعدم بعد ذلك انظر لنا الكلمة والسيف وفقه الهزيمة فصل العقيدة..

 

 


أفعالهم ومنكراتهم من جهة وحتى تواجه بها الفرق الأخرى التي تنابذهم كالقدرية بزعامة غيلان الدمشقي ومعبد الجهني.. (1).

ويظهر هذا الأمر أيضا في تبني بعض حكام بني العباس والسلاجقة من بعدهم خط الأشعري وتبني البعض الآخر خط الخلف. كما تبنى المأمون والمعتصم والواثق منهج المعتزلة واصطدموا بأهل السنة وبطشوا بهم مما أدى إلى خلق رد فعل لدى الخلفاء الذين خلفوهم فاحتضنوا أهل السنة ودعموهم. وقد تبنى بعض حكام المماليك خط ابن تيمية وعلى رأسهم محمد بن قلاوون وصديق ابن تيمية.. (2).

وفي الحقبة النفطية المعاصرة تبنى حكام السعودية خط الوهابية الذي تفرخ من مدرسة ابن تيمية ويعتبر امتدادا لها. ودعموه وعملوا على نشره في كل مكان من بقاع العالم الإسلامي حتى أصبح يمثل اعتقاد الحركات الإسلامية. في مصر وأفغانستان واليمن والخليج وأوروبا وكل بقعة يتواجد بها المسلمون..

وعلى الرغم من حجم الخلاف بين مدرسة ابن تيمية والمدارس الأخرى السنية التي تمثل الإجماع في مواجهتها فإن طرح ابن تيمية الشاذ هو الذي ساد على حساب الاتجاهات الأخرى والسبب كما هو واضح هو دعم حكام آل سعود.. (3).

من هنا نشأ التعصب والجمود الذي صبغ الحركة الإسلامية المعاصرة.

كما نشأ التطرف والتكفير في مواجهة المخالفين.. ووقعت الحركة الإسلامية المعاصرة في مأزق فكري جعلها تتخبط في حركتها وتصورها وشغلها بالفروع أو بتعبير آخر شغلها بالمسلمين بدلا من أن يشغلها بأعداء الإسلام مما جعلها فريسة سهلة ولقمة سائغة للقوى الحاكمة المتربصة.

____________

(1) أنظر كتب الفرق والعقائد ودراسات في العقيدة الإسلامية لمحمد جعفر شمس الدين.

(2) اضطهد بني بويه الأشاعرة ثم نصرهم السلاجقة بعد ذلك ليتحالفوا معهم في مواجهة الفاطميين الشيعة في مصر وكان صلاح الدين شافعيا وفرض المذهب الأشعري المصريين كذلك فعل الظاهر بيبرس. وكتب ابن تيمية كتاب الجواب الباهر لزوار المقابر للسلطان محمد بن قلاوون المملوكي وأثنى عليه في مقدمة الكتاب ومدحه كثيرا..

(3) طبعت الفتاوى الكبرى لابن تيمية (37 مجلدا) على نفقة خادم الحرمين وتوزع مجانا والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي مصلحة آل سعود في نشر خط ابن تيمية وأفكاره..؟

 

 


وهذه نتيجة طبيعية لتبني خط ابن تيمية الذي يرفع شعار التوحيد الخالص ويزندق مخالفيه ويصطرع مع العامة تارة ومع العلماء تارة ومع الفرق تارة أخرى وفي النهاية هو في خدمة الحكام..

وهكذا تحولت صورة التوحيد الذي طرحه ابن تيمية إلى الصورة المثلى المعبرة عن الإسلام ولم يعد هناك وجود للطرح الآخر إلا على صفحات الكتب. وبدا الأمر للشباب المسلم الناشئ وبسطاء المسلمين أن هذا هو الإسلام وأن ابن تيمية هو شيخ الإسلام الذي نهض لنصرة التوحيد والذي ترفع الحركات الإسلامية رايته في مواجهة المسلمين قبل أن ترفعها في مواجهة أعداء المسلمين.

ترفعها في مواجهة الصوفية.

وترفعها في مواجهة الشيعة..

وترفعها أيضا في مواجهة السنة الذين يخالفونها..

فكل هؤلاء مشركون لأنهم لا يقرون عقيدة ابن تيمية ويخالفون أصول التوحيد الذي جاء به شيخ الإسلام والذي أعلن هو وتابعه ابن عبد الوهاب أن نواقض الإسلام عشرة من لا يعرفها وقع في الشرك الأكبر وكان في عداد الهالكين وأول هذه النواقض الشرك في عبادة الله والذبح لغير الله. والثاني من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة كفر إجماعا. والإجماع المقصود هنا هو إجماع الوهابية بالطبع، والثاني والثالث من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر. والمقصود بالمشركين هنا المسلمون الذين يخالفون الوهابية. الرابع من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه فهو كافر. الخامس من أبغض شيئا مما جاء به الرسول ولو عمل به كفر. السادس من استهزأ بشئ من دين الرسول أو ثوابه أو عقابه كفر السابع من فعل السحر أو رضي به كفر. الثامن من ظاهر المشركين وأعانهم على المسلمين كفر. التاسع من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد كما وسع الخضر الخروج على شريعة

 

 


موسى فهو كافر. العاشر من أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به فقد كفر..

ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف والمكره.. (1).

هذه هي أحدث صور التوحيد التي تفرخت عن أهل السنة وهي كما تبدو صورة قاتمة مخيفة تبرر استحلال دماء المخالفين من أهل القبلة وجهادهم وهو ما يشهد به تاريخ الحركة الوهابية فهي لم تشهر سيفا ولم تطلق طلقة بندقية في مواجهة الكفار الحقيقيين وإنما كانت سيوفها وبنادقها مسلطة دائما على المسلمين.. (2).

وختاما نعرض أمام القارئ فتوى من فتاوى أولاد عبد الوهاب توجب تخريب بيوت المسلمين وإشعال الفتن بينهم وذبح بعضهم بعضا باسم التوحيد..

تقول الفتوى: إن الرجل لا يكون مسلما إلا إذا عرف التوحيد ودان به وعمل بموجبه.. فمن قال لا أعادي المشركين أو عاداهم ولم يكفرهم. أو قال لا أتعرض أهل لا إله إلا الله ولو فعلوا الشرك والكفر وعادوا دين الله. أو قال لا أتعرض القباب فهذا لا يعد مسلما بل هو ممن قال الله فيهم (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا..) (3).

____________

(1) مجموعة التوحيد الرسالة الأولى ص 33 ط. دار الفكر - القاهرة وكذلك ذكر ابن باز هذه النواقض في كتابه العقيدة الصحيحة ونواقض الإسلام طبع على نفقة فاعل خير ويوزع مجانا.. وتأمل هذه النواقض العشرة وسوف يتبين لك أنها موجهة للمخالفين للوهابية من الصوفية والشيعة..

(2) تاريخ الوهابية حافل بالمذابح لأهل القبلة على مستوى الجزيرة العربية وخارجها والمذابح التي ارتكبوها في النجف وكربلاء حيث أحرقوا المساجد ونهبوها وقتلوا الأطفال والنساء أثناء غاراتهم على بلاد (الشرك) هذه المذابح مشهورة ومعروفة للجميع وقد سلط الله عليهم حاكم مصر محمد علي الذي غزا الجزيرة العربية وشتت جموعهم ومزقهم شر ممزق لكنه لم يستطع القضاء على دعوتهم.. انظر لنا فقهاء النفط وابن باز فقيه آل سعود.

(3) مجموعة التوحيد رسالة بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الاشراك..

 

 


ويلاحظ هنا أن الشرك هو التوسل وزيارة القبور ودين الله المقصود به مذهب الوهابية. أما المشركون فهم المسلمون..

ويقول الشهرستاني: إن السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الله ومخالفة السنة التي عهدوها من الأئمة الراشدين ونصرهم جماعة من بني أمية على قولهم بالقدر وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن تحيروا في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في متشابهات آيات الكتاب وأخبار النبي صلى الله عليه وآله. وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من السلف جروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث مثل مالك بن أنس ومقاتل بن سليمان وسلكوا طريق السلامة، فقالوا نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا تنعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعا أن الله عز وجل لا يشبه شيئا من المخلوقات. وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدره وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا من حرك يده عند قراءته خلقت بيدي أو أشار بإصبعه عند روايته قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن. وجب قطع يده وقلع إصبعه. وقالوا إنما توقفنا في تفسير الآية وتأويلها لأمرين.

أحدهما: المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله..) فنحن نحترز من الزيغ..

والثاني: إن التأويل أمر مظنون بالاتفاق والقول في صفات الباري بالظن غير جائز فلربما أولنا الآية على غير مراده فوقعنا في الزيغ بل نقول كما قال الراسخون في العلم كل من عند ربنا آمنا بظاهره وصدقنا بباطنه ووكلنا علمه إلى الله تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك إذ ليس من شرائط الإيمان وأركانه.. (1).

التوحيد عند ابن تيمية:

يقسم ابن تيمية التوحيد إلى ثلاثة أقسام:

الأول: توحيد الأسماء والصفات..

____________

(1) الملل والنحل، ج 1..

 

 


الثاني: توحيد الربوبية..

الثالث: توحيد الألوهية.. (1).

والأول يعني إثبات ما أثبته لنفسه في كتابه وسنة رسوله من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل..

وقد ضل في هذا الأمر طائفتان:

إحداهما المعطلة الذين أنكروا الأسماء والصفات أو بعضها زاعمين أن إثباتها لله يستلزم التشبيه..

والطائفة الثانية: المشبهة الذين أثبتوا الأسماء والصفات مع تشبيه الله تعالى بخلقه زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص لأن الله تعالى يخاطب العباد بما يفهمون.. (2).

أما القسم الثاني: فيعني أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير..

والثالث: يعني الاعتراف بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين وإفراده وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين لله وحده وهو يتضمن القسمين الأولين.. (3).

ويثبت ابن تيمية لله العلو: علو الله تعالى من صفاته الذاتية وينقسم إلى قسمين:

علو ذات..

وعلو صفات..

فأما علو الذات فمعناه أن الله بذاته فوق جميع خلقه.

وأما علو الصفات فمعناه أنه ما من صفة كمال إلا ولله تعالى أعلاها وأكملها سواء أكانت من صفات المجد والقهر أم من صفات الجمال والقدر..

____________

(1) التوحيد لابن عبد الوهاب والعقيدة الواسطية والعقيدة الصحيحة لابن باز..

(2) رسائل في العقيدة لمحمد بن عثيمين الرسالة الثانية: فيح رب البرية بتلخيص الحموية..

(3) العقيدة الواسطية..

 

 


فتارة يذكر العلو والفوقية والاستواء على العرش وكونه في السماء مثل قوله تعالى: (وهو العلي العظيم).

وقوله: (سبح اسم ربك الأعلى).

وقوله: (يخافون ربهم من فوقهم).

وقوله: (الرحمن على العرش استوى).

وقوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض).

وقول الرسول صلى الله عليه وآله: " والعرش فوق ذلك والله فوق العرش "..

وقوله صلى الله عليه وآله: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء "..

وتارة بصعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه..

مثل قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب).

وقوله: (تعرج الملائكة والروح إليه).

قوله: (بل رفعه الله إليه).

وقول الرسول صلى الله عليه وآله: " لا يصعد إلى الله إلا الطيب ".

وقوله: " يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل "..

وتارة بنزول الأشياء منه..

ونحو ذلك قوله تعالى: (تنزيل من رب العالمين).

وقوله: (قل نزله روح القدس من ربك).

وقوله صلى الله عليه وآله: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر..

ويذهب ابن تيمية أن لله وجها حقيقيا يليق به موصوفا بالجلال والإكرام وقد دل ثبوته لله الكتاب والسنة..

فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).

____________

(1) رسائل في العقيدة الرسالة الثانية..

 

 


ومن أدلة السنة قول الرسول صلى الله عليه وآله: " وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك..

فوجه الله تعالى من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به ولا يصح تحريف معناه إلى الثواب.. (1).

ويذهب ابن تيمية أن لله تعالى يدين اثنتين مبسوطتين بالعطاء والنعم..

وهما من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به..

وقد دل على ثبوتها لكتاب والسنة..

فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلت بيدي).

ومن أدلة السنة قول الرسول صلى الله عليه وآله: " يد الله ملأى سماء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنهم لم يغض ما في يمينه..

وينقل ابن تيمية على لسان أهل السنة أنهم أجمعوا على أنهما يدان حقيقيتان لا تشبهان أيدي المخلوقين ولا يصح تحريف معناهما إلى القوة أو النعمة أو نحو ذلك.. (2).

وينقل ابن تيمية على لسان أهل السنة أن لله عينين اثنتين ينظر بهما حقيقة على الوجه اللائق به وهما من الصفات الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة.

فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: (تجري بأعيننا).

ومن أدلة السنة قول الرسول صلى الله عليه وآله: " إن ربكم ليس بأعور.. ".

فهما عينان حقيقيتان لا تشبهان أعين المخلوقات ولا يصح تحريف معناهما إلى العلم أو الرؤية.. (3).

____________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع السابق.

 

 


كما ينقل على لسان أهل السنة قولهم إن الله تعالى يتكلم وأن كلامه صفة حقيقية ثابتة له على الوجه اللائق وهو سبحانه يتكلم بحرف وصوت كيف يشاء متى شاء فكلامه صفة ذات باعتبار جنسه وصفة فعل باعتبار آحاده..

ومن أدلة ذلك من الكتاب قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه).

وقوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي).

وقوله: (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا).

ففي الآية الأولى إثبات أن الكلام يتعلق بمشيئته وإن آحاده حادثة..

وفي الآية الثانية دليل على أنه بحرف فإن مقول القول فيها حروف..

وفي الآية الثالثة دليل على أنه بصوت إذ لا يعقل النداء والمناجاة إلا بصوت..

ومن أدلة السنة قول الرسول صلى الله عليه وآله: " يقول الله تعالى: يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار.. ".

وكلامه سبحانه هو اللفظ والمعنى جميعا ليس هو اللفظ وحده أو المعنى وحده.. (1).

وعلى لسان أهل السنة يقول ابن تيمية: إن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود تكلم به حقيقة وألقاه إلى جبريل فنزل به على قلب محمد (ص).

وأدلة ذلك من الكتاب قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله..).

ومن أدلة السنة قوله (ص): ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل.. (2).

____________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

 

 


وينقل ابن تيمية انقسام أهل القبلة في آيات الصفات وأحاديثها إلى ست طوائف..

طائفتان قالوا: تجري على ظاهرها..

وطائفتان قالوا: تجري على خلاف ظاهرها..

وطائفتان قالوا بالتوقف..

أما الطائفتان الذين قالوا تجري على ظاهرها فهما:

- طائفة المشبهة الذين جعلوها من جنس صفات المخلوقين ومذهبهم باطل أنكره السلف..

- طائفة السلف الذين أجروها على ظاهرها اللائق بالله عز وجل ومذهبهم هو الصواب.

أما الطائفتان الذين قالوا تجري على خلاف ظاهرها:

- أهل التأويل من الجهمية وغيرهم الذين أولوا نصوص الصفات إلى معان عينوها كتأويل اليد بالنعمة والاستواء بالاستيلاء ونحو ذلك..

- أهل التجهيل المفوضة الذين قالوا: الله أعلم بما أراد بنصوص الصفات لكننا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية له تعالى وهذا القول متناقض.

أما الطائفتان الذين توقفوا:

- طائفة جوزوا أن يكون المراد بنصوص الصفات إثبات صفة تليق بالله وأن لا يكون المراد من ذلك وهؤلاء كثير من الفقهاء وغيرهم..

- طائفة أعرضوا بقلوبهم وألسنتهم عن هذا كله ولم يزيدوا على قراءة القرآن والحديث.. (1).

____________

(1) المرجع السابق.

 

 


ويدافع ابن تيمية عن الاتهامات التي وجهت لأهل السنة والألقاب التي وضعها أصحاب الاتجاهات عليهم بقوله: فكانت كل طائفة من هذه الطوائف تلقب أهل السنة بما برأهم الله من ألقاب التشنيع والسخرية.. إما لجهلهم بالحق حيث ظنوا ما هم عليه وبطلان ما عليه أهل السنة..

وإما لسوء القصد حيث أرادوا بذلك التنفير عن أهل السنة والتعصب لآرائهم مع علمهم بفسادها..

فالجهمية ومن تبعهم من المعطلة سموا أهل السنة (مشبهة) زعما منهم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه..

والروافض سموا أهل السنة (نواصب)..

والقدرية النفاة قالوا: أهل السنة (مجبرة) لأن إثبات القدر جبر عند هؤلاء النفاة..

والمرجئة المانعون من الاستثناء في الإيمان يسمون أهل السنة (شكاكا) لأن الإيمان عندهم إقرار القلب والاستثناء شك فيه عند هؤلاء المرجئة..

وأهل الكلام والمنطق يسمون أهل السنة (حشوية) ويسمونهم (غثاء).. (1).

ولقد تبنى رؤية ابن تيمية هذه وطرحه في مسائل العقيدة وعكف على شرحه وتبسيطه ونشره في الآفاق بدعم آل سعود..

وهكذا أغرق الواقع الإسلامي بعشرات الكتب الوهابية التي تعكس عقيدة ابن تيمية وتعمل على حشو أذهان المسلمين بقضايا النذر والتبرك والتوسل والسحر والرقى والتمائم والذبح لغير الله وزيارة القبور وأضرحة المساجد وما شابه ذلك من الأمور التي أدت إلى زرع العداوة والبغضاء بين المسلمين ودفعت بالشباب المسلم الناشئ إلى تركيز جهوده على المسلمين والصدام معهم بدلا من الصدام مع أعداء الإسلام والمسلمين فقد صورت له الوهابية أن هذا هو

____________

(1) المرجع السابق.

 

 


الإسلام وأن هذا هو طريق الفرقة الناجية ومن شذ عن هذا الطريق وجبت معاداته وقتاله إن أمكن والحقيقة أن اتجاه ابن تيمية وتابعه محمد بن عبد الوهاب لا يمثلان سوى اتجاه شاذ في دائرة أهل السنة..

وقد أفرد ابن تيمية فصلا في " الفتوى الحموية " في بيان صحة مذهب السلف وبطلان القول بتفضيل مذهب الخلف في العلم والحكمة على مذهب السلف ووصف القائلين: طريق السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وصفهم بالغباء..

يقول صاحب فرقان القرآن: وقد اتفقت عقول المحققين من الأولين والآخرين والسلف والخلف على أن ما اتصف بصغر أو كبر فهو حادث ممكن، وكذلك اتفقت على أن الصورة والاتصاف بالأجزاء من سمات الحدوث ولم نر أحدا اجترأ على إنكار ذلك وبالغ فيه سوى ابن تيمية وهو قول إن دل على شئ فليس يدل إلا على إصابة صاحبه بهوى خرج به عن المعقول والمنقول..

واستمع إلى ما نقله الحافظ البيهقي عن الإمام أحمد الذي ينسب إليه هذا الرجل (ابن تيمية) ومن على شاكلته كل شنيعة، في الكتاب الذي ألفه في مناقب الإمام أحمد عن الإمام أبي الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها " أنكر أحمد على من قال بالجسم ". وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف والله سبحانه خارج عن ذلك كله.. فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل.. (1). ونقل الحافظ بن الجوزي عن الإمام أحمد نحو ذلك في كتابه " دفع شبه التشبيه " وأنت خبير بأن نفي الجسمية نفي للجهة والمكان فإنهما لازمان لها لذاتها لزوما مساويا. وإذا ثبت اللازم المساوي ثبت ملزومه لا يشك في ذلك من يعرف معنى اللازم المساوي. فهو بمنزلة الحدوث للامكان والانقسام (2).

____________

(1) فرقان القرآن، ط. القاهرة.

(2) دفع شبه التشبيه. ط. القاهرة.

 

 


التوحيد عند الشيعة

·  التوحيد عند الإمام علي عليه السلام:

يمثل طرح الإمام علي عليه السلام حول قضية التوحيد الأصل الذي تعتمد عليه الشيعة في تحديد رؤيتها تجاه هذه القضية..

وطرح الإمام دقيق في مدلولاته مطابق في كل جوانبه القرآن والأحاديث المروية عن طريق آل البيت عليهم السلام..

ويعد الإمام علي أول من خاض في المعارف الإلهية من أمة محمد وأول من أوضح معالمها والمتأمل في نهج البلاغة يكتشف أن هذا الكتاب يحوي طرحا فلسفيا بالنسبة للإلهيات لا يفوقه أي طرح آخر..

وقد أخذت منه المدارس الفلسفية الإسلامية وارتوت من معينه وأسست عليه تصوراتها وأطروحتها..

ولا يزال أصحاب العقول يقفون في انبهار أمام هذا الكتاب ولسان حالهم يقول: إن مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يكون منسوبا إلا للإمام علي..

وإن ما يحويه هذا الكتاب بين دفتيه لا يمكن أن يكون إلا نتاج مدرسة النبوة.. والإمام في طرحه أعطى مساحة للعقل وألزمه بالنص في آن واحد وهذا من وجوه الإعجاز البلاغي في طرحه..

فعندما يتحدث الإمام عن استحالة رؤية الله عقلا يقول: وامتنع على عين البصير ثم يقول ولا تحيط به الأبصار.. ولا تراه النواظر (1).

وكلامه هذا يطابق العقل كما يطابق النص الواضح من قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) وقوله (لن تراني).

____________

(1) نهج البلاغة، ج 1.

 

 


وكل ما خلق الله للانسان من أدوات إنما تؤكد الاستحالة العقلية، فإن هذه الأدوات المادية وهي الحواس لا تدرك إلا المادة من جنسها..

والإمام بقوله هذا قد أرسى قاعدة عدم الرؤية إلا أن هذا لا يعني إطلاقا عدم وجوده سبحانه: فهو المعروف من غير رؤية وأحق وأبين مما ترى العيون.. (1).

ويؤكد الإمام وحدانية الله وتفرده سبحانه، في وصيته للإمام الحسن عليه السلام بقوله: واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده في ملكه أحد ولا يزول أبدا ولم يزل.. (2).

وبأدق الألفاظ وأكمل العبارات وأوجز الكلمات يطرح الإمام قضية توحيد صفات الله بقوله: فمن وصفه فقد حده ومن حده فقد عده..

فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه..

فلسنا نعلم من كنه عظمتك إلا أنا نعلم أنك حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم.. لم ينته إليك نظر ولم يدركك بصر.. (3).

وقد سئل الإمام: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين..؟

فقال: أفأعبد ما لا أرى..؟

فقال السائل: وكيف تراه..؟

قال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان.. قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلم بلا روية مريد لا بهمة. صانع لا بجارحة. لطيف لا يوصف بالخفاء كبير لا يوصف بالجفاء بصير لا يوصف بالحاسة. رحيم لا يوصف بالرقة تعنو الوجوه لعظمته، وتجب القلوب من مخافته.. (4).

____________

(1) المرجع السابق: ج 1 / 158، ج 2 / 280.

(2) المرجع السابق: ج 2 / 44.

(3) المرجع السابق: ج 1 / 290.

(4) المرجع السابق: ج 2 / 534.

 

 


إن الإمام يؤكد الصفات الثبوتية لله سبحانه وتعالى مثل الإرادة والبصر ويؤكد تباينه تعالى عن الأشياء وعدم تشبيهه بالمخلوقات وصفة الإرادة والبصر من الصفات الذاتية لله والتي هي عين ذاته ولا يجوز فصلها عنه سبحانه، فهي أساس كمال الذات ونفيها يعني نفص الذات أما اللطف والصنع والرحمة فهي من صفات الأفعال الحادثة على ذاته مثل الرزق.. ولا يجوز القول بأنها عين الذات لأن ذلك يستلزم حدوث الذات..

وقول الإمام هذا إنما يلخص عقيدة الشيعة في الأسماء والصفات والتي تقول بأن صفات الله هي عين ذاته وتعتبر صفات الذات أصلا وصفات الأفعال فرعا مشتقا من هذا الأصل فالصنع والرزق فرع مشتق من الأصل وهو القدرة..

والسمع والبصر فرع مشتق من الأصل وهو العلم..

وقول الإمام: قريب من الأشياء غير ملامس بعيد عنها غير مباين. صانع لا بجارحة لطيف لا يوصف.. بصير لا يوصف.. رحيم لا يوصف.. إنما يؤكد عقيدة الشيعة التي ترفض التشبيه والتجسيم والتي دفعتها إلى رفض الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وآله والتي تشير في ظاهرها إلى التشبيه والتجسيم مثل حديث نزول الله وحديث رؤية الله وحديث ضحك الله وفرحه ووضع قدمه في النار وغيرها..

ثم يقول الإمام عليه السلام: كل شئ خاشع له. كل شئ قائم به. غنى كل فقير وعز كل ذليل وقوة كل ضعيف ومفزع كل ملهوف. من تكلم سمع نطقه ومن سكت علم سره ومن عاش فعليه رزقه ومن مات فإليه منقلبه، لم ترك العيون فتخبر عنك بل كنت قبل الواصفين من خلقك. لم تخلق الخلق لوحشة ولا استعملتهم لمنفعة ولا يسبقك من طلبت ولا يفلتك من أخرت ولا ينقص سلطانك من عصاك ولا يزيد في ملكك من أطاعك. ولا يرد أمرك من سخط قضاءك ولا يستغني عنك من تولى عن أمرك. كل سر عنك علانية. وكل غيب عندك شهادة. أنت الأبد فلا أمد لك وأنت المنتهى فلا محيص عنك وأنت الموعد فلا منجى منك إلا إليك. بيدك ناصية كل دابة وإليك مصير كل نسمة سبحانك ما أعظم شأنك سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك وما أصغر عظيمة

 

 


في جانب قدرتك وما أهون ما نرى من ملكوتك وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك وما أسبغ نعمك في الدنيا وأصغرها في نعم الآخرة.. (1).

ولأن الظلم أحد مداخل الشرك وسلم الوصول إلى الشك في حكمة الله وقضائه وقدره ركز الإمام عليه وحدد معالمه كاشفا حقيقة العدل ودوره في توطيد الاعتقاد الصحيح وتحقيق الاستقرار الايماني..

يقول الإمام عن الله سبحانه وتعالى: وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه.. (2).

يقول الدكتور اليحفوفي: ومن الضروري جدا أن يكون الله عادلا والأدلة العقلية على هذه الضرورة كثيرة نذكر منها دليلا واحدا مفاده أن الباعث للظلم - الذي هو ضد العدل - أحد أشياء. إما الجهل بقبح الظلم أو الحاجة إليه لتثبيت ملك أو سلطان أو العجز عن تفاديه وكل هذه الأمور ممتنعة عليه تعالى. لأن كونه عالما يقتضي علمه بقبح القبيح. وكونه غنيا مطلقا يقتضي عدم حاجته للغير وكونه القادر على كل شئ يقتضي قدرته على تفادي الظلم وإذا كان الظلم مستحيلا عليه تعالى فإن العدل يكون ضروريا.. (3).

من هنا اعتبر الشيعة العدل أحد مشتقات التوحيد وأصلا من أصول العقيدة مما ميزهم عن أهل السنة الذين جوزوا على الله سبحانه ما ينافي العدل.. (4).

____________

(1) المرجع السابق: ج 2 / 227.

(2) المرجع السابق: ج 1 / 35.

(3) بحوث في نهج البلاغة، ج 1 الفلسفة الإلهية. بيروت.

(4) يرفض أهل السنة وعلى رأسهم الأشعري الحسن والقبح العقليين ويعتبرون الحسن ما حسنه الشرع والقبح ما قبحه الشرع وقد انبنى على هذه القاعدة جواز وقوع العبد في الشر والقبيح بتوجيه من الله تعالى باعتبار أن الخالق لا يخلق شيئا إلا وله عاقبة حميدة وإن لم نطلع عليها فجزمنا بأن ما نستقبحه من الأفعال قد يكون فيها حكم ومصالح كما في خلق الأجسام الخبيثة الضارة بخلاف الكسب فإنه قد يفعل الحسن وقد يفعل القبيح على حد قول التفتازاني في شرح العقائد النسفية وتذهب الأشاعرة إلى أن كل المعاصي الواقعة في الوجود من الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشرور تتم برضا الله.

=>

 

 


ويحدد الإمام المفهوم الحق للقضاء والقدر مبددا ذلك الفهم الخاطئ الذي طرأ على ذهن أحد أتباعه في مسيره إلى أهل الشام: ويحك ظننت قضاء لازما وقدرا حاتما ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد.

إن الله سبحانه أمر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا.. (1).

والمتواتر عن أهل البيت الذي تلتزم به الشيعة الإمامية هو لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين..

وكما يقول الإمام أن الله سبحانه أمر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا.. ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها.. (2).

·  التوحيد عند الشيعة:

- الأسماء والصفات:

يعتقد الشيعة أن الله تعالى متصف بجميع صفات الكمال منزه عن جميع صفات النقص وعن كل ما يقتضي الحدوث..

وأن صفاته الثبوتية ثمان:

قادر مختار..

عالم..

حي..

مريد كاره..

مدرك..

قديم أزلي باق أبدي..

متكلم..

____________

<=

انظر مقالات الاسلاميين والابانة في أصول الديانة وكتب العقائد عند أهل السنة..

(1) الكافي للكليني.

(2) نهج البلاغة: ج 2 / 153...

 

 


صادق..

أما الخالق والرازق والمحيي والمميت وأمثالهما فهي من صفات الأفعال..

وصفاته السلبية سبع:

ليس بمركب..

ليس بجسم..

ليس محلا للحوادث..

ليس بمرئي لا في الدنيا ولا في الآخرة..

ليس له شريك..

ليس بمحتاج..

نفي المعاني والصفات عنه..

ومعنى حياته أنه ليس مثل الجمادات لا أنه ذو روح.

ومعنى مدرك أنه يبصر لا بعين ويسمع لا بأذن بل يدرك جميع المبصرات والمسموعات..

ومعنى متكلم أنه ينطق لا بلسان بل يوجد الكلام في بعض مخلوقاته كالشجرة حين كلم موسى وكجبريل حين أنزله بالقرآن..

ومعنى أنه ليس محلا للحوادث أو للأمور الصفات الحادثة..

ومعنى نفي المعاني والصفات عنه أن صفاته ليست مغايرة لذاته بل هي عين ذاته لئلا يلزم تعدد القدماء.

ويعتقدون أن الله تعالى منزه عن المكان والجهة والأعضاء والجوارح والشم والذوق واللون وكل لوازم الجسم وعن اللذة والألم..

ويعتقدون أن كل ما ورد من النقل مما ظاهره خلاف ذلك مثل قوله تعالى:

(الرحمن على العرش استوى) (إلى ربها ناظرة) (وجاء ربك) (يد الله فوق

أيديهم) (ومكروا ومكر الله) (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض) (ولو شاء الله ما اقتتلوا) وغير ذلك. يجب تأويله ورده إلى ما حكم به العقل أو يكال علمه إليه تعالى (1).

إن الشيعة ينفون التشبيه والتجسيم والرؤية ونسبة القبح إلى الله كما ينفون الجهة والتكلم..

يقول الإمام علي عن الرؤية: " لم تره العيون بمشاهدة الأبصار. ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان " (2).

وقال الصادق عليه السلام: " لا جسم ولا صورة.. ولا يحس ولا يجس. ولا يدرك بالحواس الخمس. لا تدركه الأوهام، ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان..

إن الله تعالى لا يشبه شيئا. ولا يشبهه شئ. وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه " (3).

وقال: " هو سميع بصير. سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه " (4).

وقال الرضا عليه السلام: " كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق. ولا يلفظ بشق فم ولسان " (5).

وقال الإمام علي عليه السلام حين سمع رجلا يقول والذي احتجب بسبع طباق.

فعلاه بالدرة. ثم قال: " يا ويلك، إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ سبحان الذي لا يحويه مكان، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء (6).

____________

(1) أعيان الشيعة، المجلد الأول، ق 2 ص 3: 4.

(2) العقائد الإسلامية.. محمد مهدي الشيرازي.

(3) المرجع السابق.

(4) المرجع السابق.

(5) المرجع السابق.

(6) المرجع السابق.

 

 


وقال الصادق عليه السلام: " إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان. ولا مكان. ولا حركة. ولا انتقال. ولا سكون. بل هو خالق الزمان. والمكان. والحركة.

والسكون والانتقال " (1).

وقال الكاظم عليه السلام: " إن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يحد بيد. أو رجل. أو حركة أو سكون. أو يوصف بطول أو قصر. أو تبلغه الأوهام. أو تحيط بصفته العقول " (2).

وهذه الأقوال الواردة على لسان الأئمة إنما تحدد موقف الشيعة من النصوص التي تتحدث عن أسماء وصفات الله سبحانه، وهو موقف على ما هو واضح يختلف مع موقف أهل السنة اختلافا جذريا..

يقول الشيخ محمد جواد مغنية: وأما قوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) فالمراد به النظر بالعقل والبصيرة لا بالعين البصر.. إن الله سميع بصير. ولكن لا بآلة، ولا جارحة. ومعنى سمعه وبصره أنه محيط بما يصلح أن يسمع ويبصر.. وأن التكلم من صفات الله الإضافية كالخلق والرزق. لا من الصفات الذاتية القديمة كالعلم والقدرة والحياة.. والإمامية ينكرون التجسيم أشد الإنكار ويؤولون اليد في الآيات بالقدرة والعرش بالاستيلاء والوجه بالذات ومجئ الله بمجيئ أمره.. (3).

إن صفاته عين ذاته فالله قادر بالذات لا بقدرة زائدة. وعالم بالذات لا بعلم زائد. وحي بالذات لا بغيرها. وعلى هذا قياس سائر الصفات الذاتية..

ولو افترض أن صفاته غير ذاته فإما أن تكون قديمة. وإما حادثة. وعلى الأول يلزم تعدد القديم. وعلى الثاني يلزم أن يكون الله قد وجد في الأزل بدون علم ولا حياة ولا قدرة. ولا شئ أبدا، لأن المفروض أن هذه الصفات قد حدثت

____________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

(3) معالم الفلسفة الإسلامية.. محمد جواد مغنية..

 

 


بعده. وكلاهما محال، فتعين أن صفاته عين ذاته ونفس حقيقته ولا شئ زائد عليها وقائم بها.. (1).

- العدل:

جعل الشيعة العدل أصلا من أصول الاعتقاد وإن كان هناك خلاف على جعل العدل أصلا مستقلا وإدخاله ضمنا في التوحيد لتعلقه به..

والعدل يدخل فيه بحث القضايا المتعلقة بالجبر والاختيار ونسبة الظلم إلى الله سبحانه وتعالى والقضاء والقدر والحسن والقبح..

وسئل الإمام علي عليه السلام عن العدل والتوحيد فقال: " التوحيد أن لا تتوهم.

والعدل أن لا تتهم " (2).

وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن العدل فقال: " أما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه. ولا أمره - أي العبد - بشئ إلا وقد علم أنه لا يستطيع فعله.

لأنه ليس من صفته العبث والجور والظلم. وتكليف العباد ما لا يطيقون " (3).

وأفعال العبد نوعان: نوع تتعلق به إرادة واختيار كالذهاب والاياب والكتابة والقراءة. ونوع لا إرادة للعبد فيه ولا اختيار كالتنفس والنمو والحركة الدموية. والانسان مخير غير مسير في النوع الأول. ومسير غير مخير في النوع الثاني (4).

وأفعال العبد الحسنة يأمر بها الله والقبيحة ينهى عنها وهو يعلمها. والعبد باختياره إن شاء فعل وإن شاء ترك.. (5) . والأفعال منها ما هو حسن بحكم العقل لا باعتبار حكم الشرع كالصدق النافع وما إليه ومنها ما هو قبيح كذلك كالكذب الضار. ومنها ما لا يستقل

____________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع السابق.

(4) معالم الفلسفة الإسلامية..

(5) العقائد الإسلامية..

 

 


العقل بالحكم عليه سلبا وإيجابا فنحتاج حينئذ إلى الشرع كوجوب الوفاء بعقد البيع وأكل لحم الميتة.. (1).

والشيعة لكونها تعتقد أن الله عادل حكيم لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب تقول إنه لو لم يكن كذلك لنسب إليه النقص سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. وأيضا لو جاز عليه فعل الكذب فيرتفع الوثوق بوعده ووعيده وترتفع الأحكام الشرعية وينقض الغرض المقصود من بعث الأنبياء والرسل (2).

وحول القضاء والقدر يقول الإمام عليه السلام: " إن الله عز وجل كلف تخييرا.

ونهى تحذيرا. وأعطى على القليل كثيرا. ولم يعص مغلوبا. ولم يطع مكرها.

ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " (3).

·  توحيد العبادة:

يقول الإمام الرضا في دعائه: " اللهم إني برئ من الحول والقوة ولا حول ولا قوة إلا بك.

اللهم إني أعوذ بك وأبرأ إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق..

اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا..

اللهم لك الخلق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين..

اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين..

اللهم لا تليق الربوبية إلا بك. ولا تصلح الإلهية إلا لك فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك والعن المضاهئين لقولهم من بريتك..

____________

(1) معالم الفلسفة الإسلامية..

(2) النكت الاعتقادية.. الشيخ المفيد..

(3) العقائد الإسلامية..

 

 


اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا..

اللهم من زعم أرباب فنحن منه براء.. ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا أو إلينا الرزق فنحن براء منه كبراءة عيسى ابن مريم عليه السلام من النصارى..

اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون.. واغفر لنا ما يدعون ولا تدع منهم على الأرض ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " (1).

إن هذا الدعاء الوارد على لسان إمام من أئمة الشيعة إنما يحدد صورة العبودية الخالصة وينفي كل صور الشرك التي تعلق بها البعض ونسبها إلى آل البيت. وهي الصورة التي يعرضها الدعاء إنما تلخص مفهوم العبادة عند الشيعة غير أن الشيعة لا تربط بين العبادة وبين مسألة التوسل وتعتقد أن التوسل أمر لا يتناقض مع العبودية لله.. وأن تعظيم الأنبياء وأولياء الله بينه بين العبادة بون شاسع وفرق جد كبير (2).

ولا خلاف بين الشيعة والسنة في عدم جواز عبادة غير الله إنما الخلاف يكمن في بعض الأعمال التي اعتبرتها بعض الاتجاهات داخل أهل السنة من الشرك وتعد عبادة لغير الله..

____________

(1) معالم التوحيد في القرآن الكريم.. الشيخ جعفر السبحاني نقلا عن الاعتقادات للصدوق..

(2) المرجع السابق.

 

 


النتائج:

·  تخلص من عرض قضية التوحيد عند أهل السنة إلى ما يلي:

- إن عقيدة التوحيد عند أهل السنة عبارة عن رد فعل في مواجهة الاتجاهات المختلفة..

- إن تباين الاتجاهات حول قضية التوحيد يساوي فرقة أهل السنة ببقية الفرق ويفقدها عنصر القيمومة على هذه الفرق..

- إنه ليست هناك قاعدة ثابتة للتعامل مع الآيات المتشابهة..

- إن السياسة تدخلت في صياغة ماهية التوحيد عندهم..

- إن توحيد ابن تيمية يمثل مدرسة شاذة في دائرة.. أهل السنة..

- إن التوحيد السائد بين المسلمين اليوم هو التوحيد الوهابي..

وإن صور التوحيد الأخرى لا مكان لها إلا في صفحات الكتب..

·  ونخلص من عرض قضية التوحيد عند الشيعة إلى ما يلي:

- إن التوحيد عند الشيعة ابتعد عن متاهة التجسيم والتشبيه..

- إن التوحيد عند الشيعة أكثر ارتباطا بالقرآن والعقل..

- إن التوحيد عند الشيعة ثابت المعالم لا خلاف عليه في حدود المذهب..

- إن الشيعة لا ترى أن التوسل بالأنبياء والصالحين يتناقض مع التوحيد.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات


 
user comment