عربي
Tuesday 19th of March 2024
0
نفر 0

أصحاب الجمل

الفصل الخامس

أصحاب الجمل



 

 


 

 

 


أصحاب الجمل

 

هدأت العاصفة قليلا بعد مقتل عثمان وانتخاب علي بن أبي طالب خليفة من بعده ومبايعة المهاجرين والأنصار له أو ممن عُرفوا بأهل الحل والعقد، عدا نفر قليل حسبما تذكر بعض الروايات، وتختلف في تشخيص أعيان البعض منهم، وفي سبب امتناعهم عن البيعة إلاّ أن هذه الهدنة لم تدم طويلا، إذ هاجت رياح الفتنة مجدداً بخروج طلحة والزبير تتقدمهم اُم المؤمنين عائشة إلى البصرة، فعاد الجو إلى التوتر من جديد، ولاحت نذر الحرب من بعيد.

وقد طغى التزييف على حوادث هذه الفترة أيضاً وملابساتها وإرهاصاتها، كغيرها من حوادث الفترة التي تناولناها بالبحث والتحقيق فيما تقدم، وتضاربت فيها أقوال المؤلفين، وإن كان معظمها متفقاً مع ما جاء في تاريخ الطبري برواية سيف بن عمر طبعاً. إلاّ أن القاضي ابن العربي خرج من هذه القضية بآراء غاية في الغرابة، أثارت إنتباه الكثير من المؤلفين والمحققين الذين أنكروا عليه بعض الاُمور، حتى من المؤيدين لوجهة نظره بالنسبة لخط سير الأحداث العام، فبعد أن ينقل القاضي ابن العربي بعض الروايات الشائعة، تحت عنوان (قاصمة)، يعود فيبدي رأيه فيما جرى، بالتمهيد للأحداث، فتحت عنوان (عاصمة)، يقول ابن العربي:

أما خروجهم الى البصرة، فصحيح لا إشكال فيه. ولكن لأي شيء

 

 


خرجوا؟ لم يصح فيه نقل! ولا يوثق فيه بأحد! لأن الثقة لم ينقله!! وكلام المتعصب غير مقبول، وقد دخل مع المتعصب من يريد الطعن في الاسلام واستنقاص الصحابة. فيحتمل أنهم خرجوا خلعاً لعلي لأمر ظهر لهم، وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة، وقاموا يطلبون الحق!

ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان!

ويمكن أنهم خرجوا لينظروا في جمع طوائف المسلمين، وضم تشردهم، وردّهم الى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا، وهذا هو الصحيح، لا شي سواه، بذلك وردت صحاح الأخبار!!

فأما الأقسام الاُول، فكلها باطلة وضيعفة!

أما بيعتهم كرهاً، فباطل، وأما خلعهم فباطل، لأن الخلع لا يكون إلاّ بنظر من الجميع، فيمكن أن يولي واحد أو إثنان، ولا يكون الخلع الاّ بعد الاثبات. وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان فيضعف، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة، ويمكن أن يجتمع الأمران(1).

إن آراء ابن العربي تبدو متناقضة تماماً، فهو يدعي أولا أن سبب خروج أصحاب الجمل لا يمكن معرفته لأنه لم يصح فيه نقل، ولا يوثق فيه بأحد، لأن الثقة لم ينقله، لكنه يعود فيدعي أن السبب في خروجهم هو محاولة لمّ الشعث ورد المسلمين جميعاً الى القانون حتى لا يقتتلوا، مدعياً بأن صحاح الأخبار قد وردت بذلك!! وسوف نستعرض صحاح الأخبار التي اعتمدها ابن العربي لنعرف أي مصدر موثوق هذا الذي اعتمده بهذه الصحاح كما يجزم، من أجل الكشف عن ملابسات هذه القضية الملتبسة التي أبدى ابن العربي

____________

1- العواصم من القواصم: 155.

 

 


حيرته أمامها في البداية. إلاّ أنني أجد من الضروري أن نناقش أولا الفقرة التي اعتبرها القاضي ابن العربي السبب الحقيقي لخروج أصحاب الجمل لصحة الأخبار عنها، وهي ادعاؤه بأنهم خرجوا بهدف الاصلاح بين المسلمين لكيلا تقع الحرب بينهم!

إن كلام ابن العربي يمكن أن يكون مقبولا لو كان هنالك أمر يستدعي الخروج للاصلاح، إذ لم يصل إلينا خبر أو أثر - حتى لو كان ضعيفاً- عن وجود أمر أو حادثة شغب وقعت في البصرة في الفترة بين مقتل عثمان ومجيء أصحاب الجمل، وهي لا تقل عن أربعة أشهر كما تذكر الروايات، فلقد تمت البيعة لعلي بن أبي طالب، وبدأ الخليفة الجديد يمارس مهامه، وقام بتفريق عمّاله على الولايات، فكانت البصرة من نصيب عثمان ابن حنيف الذي باشر اُمور ولايته بشكل طبيعي، ولم يترك لنا التأريخ وثيقة تقول بأن عثمان بن حنيف قد بعث كتاباً الى الخليفة يخبره بوجود اضطراب أو شغب يستدعي تدخل أحد لفضه! بل إن الاُمور قد سارت على عكس ما يدعيه القاضي ابن العربي، فإن مجيء أصحاب الجمل الى البصرة، كان مقدمة لفتنة جديدة استتبعها وقوع حرب طاحنة راح ضحيتها اُلوف المسلمين من بينهم عدد من كبار الصحابة وعلى رأسهم الصحابيان اللذان قادا معركة الجمل (طلحة والزبير)، وجُرحت اُم المؤمنين عائشة، وكادت تُقتل، فكانت تلك أول حرب تدور رحاها بين المسلمين أنفسهم. وفوق هذا وذاك، فإن ابن العربي ينقض الأخبار التي تصافقت على أن الهدف المعلن لخروج أصحاب الجمل كان المطالبة بدم عثمان، كما تثبت ذلك جميع المصادر، وكما سوف يتبين لنا من اعترافات أصحاب الجمل أنفسهم، وهي الحجة ذاتها التي تذرع بها معاوية بن أبي سفيان وأنصاره فيما بعد.

 

 


حوادث ما قبل الخروج

من أجل الإلمام بأطراف القضية، فان علينا أن لا نستبق الأحداث، فنعود قليلا الى الوراء مرة اُخرى، لنمسك بأطراف خيوط القضية، وتبيّن حقيقة النوايا التي أدت الى تلك الأحداث الدامية.

لا اُريد أولا الاسترسال في الكلام حول بيعة علي بن أبي طالب بعد مقتل عثمان - فهي تكاد تكون معروفة رغم اضطراب بعض الأخبار حولها- لكن المهم إنها تمت على كل حال، والذي جرى بعد ذلك بقليل كان له الأثر الكبير على مجريات الأحداث فيما بعد، وذلك حينما كشف الخليفة الجديد عن نواياه في الإدارة، مما شكل مفاجأة لبعض الصحابة الذين لم يرقهم اسلوب علي وكيفية تسييره للاُمور.

لقد كشف الخليفة الجديد النقاب عن نواياه، في أول خطبة خطبها بعد توليه الخلافة ومن على المنبر، ليبين برنامج الحكم الذي ينوي تطبيقه، فكان من جملة ما قال: ألا لا يقولن رجال منكم غداً، قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا منعتُهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتُهم الى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا، ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدّق ملّتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده،

 

 


فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسَّم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب.

لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً، وما عند الله خير للأبرار، وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إلاّ حضر إذا كان مسلماً حراً..

قال ابن أبي الحديد المعتزلي - بعد ايراده هذا- قال شيخنا أبو جعفر:

فكان هذا أول ما أنكروه من كلامه (عليه السلام)، وأورثهم الضغن عليه، وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية، فلما كان الغد، غدا وغدا الناس لقبض المال، فقال لعبيدالله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادهم، واعط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير، ثم ثنّ بالانصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم، الأحمر والأسود، فاصنع به مثل ذلك...(1).

بدء النقمة

لقد أوضح الخليفة الجديد منهجه في الحكم، وبخاصة فيما يتعلق بالعطاء والاُمور المالية، فأفهم الجميع أن العطاء في العهد الجديد يتضمن القسمة بالسوية دون تفاضل بينهم، كما وكبح جماح كبار الصحابة حين أفهمهم أن التفاضل في الصحبة يكون عند الله وليس عند الخليفة، وأن الصحابة وباقي الناس شرع سواء، ولا شك أن مثل هذه الاجراءات كان ولابد لها من أن تخلّف آثاراً غير محمودة في نفوس الكثيرين، فإن الاجراءات التي اتخذها عمر بن

____________

1- شرح نهج البلاغة 7:37.

 

 


الخطاب في الغاء مبدأ المساواة في العطاء، وتفضيل أهل السابقة على غيرهم، وتغيير الأمر عما كان عليه في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وخليفته أبي بكر، ومن ثم استمرار الوضع على ذلك طيلة خلافة عثمان كانت قد تركت أثراً في نفوس اولئك الصحابة من أهل السابقة وجعلتهم يعتقدون بأن لهم مكانة خاصة في المجتمع ينبغي مراعاتها، لذا فإنهم ثاروا على عثمان عندما أراد أن يفضل أقرباءه من غير ذوي السابقة عليهم وإيثاره إياهم بالأموال والمناصب، حتى قال طلحة بن عبيدالله، فيما أخرج عمر بن شبة عن حكيم بن جابر في إسناده قال:

كلَّم عليّ طلحة -وعثمان محصور في الدار- فقال: إنهم قد حيل بينهم وبين الماء.

فقال طلحة: أما حتى تعطي بنو اُمية الحق من أنفسها، فلا(1).

أما العهد الجديد، فإنه لم يبدُ عليه أنه يريد إعادة الاُمور الى ما كانت عليه في زمن عمر بن الخطاب، بل هو يريد إعادة الاُمور الى ما كانت عليه أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر، فبدأ التململ منذ اليوم تجاه هذه السياسة الجديدة بالظهور على اولئك الصحابة، يضاف إليهم اولئك المنتفعين من بطانة عثمان ابن عفان الذين كانوا قد حصلوا على تلك الأموال من غير استحقاق، فأصبح النظام الجديد يتهدد مصالحهم ويلوّح بتجريدهم مما في أيديهم، فانضم هؤلاء الى اولئك، وانقلبت الاُمور إلى حالة عجيبة من ظهور التحالف بين الساخطين على عثمان والموالين له من أجل الوقوف أمام السياسة الجديدة التي تهدد مصالحهم المشتركة من الآن فصاعداً.

____________

1- تاريخ المدينة: 1169.

 

 


لقد بدأ سياق الأحداث يجري مجرىً جديداً، ويمكن تبيّن ذلك في تكملة أحداث الرواية السابقة التي ينقلها ابن أبي الحديد عن الاسكافي، قال:

فبينا الناس في المسجد بعد الصبح، إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن علي (عليه السلام)، ثم طلع مروان وسعيد وعبدالله بن الزبير فجلسوا إليها، ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم، فتحدثوا نجيّاً ساعة، ثم قام الوليدبن عقبة بن أبي معيط، فجاء الى علي (عليه السلام) فقال: يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب -وكان ثور قريش- وأما مروان، فسخّفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبدمناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في أيام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام. فقال: أما ما ذكرتم من وتري إياكم، فالحق وتركم، وأما وضعي ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم عليَّ إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم أن أسيّركم.

فقام الوليد الى أصحابه فحدّثهم، وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، فلما ظهر ذلك من أمرهم، قال عمار بن ياسر لأصحابه: قوموا بنا الى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف والطعن على إمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق -يعني طلحة- فقام أبو الهيثم وعمار وأبو أيوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم فدخلوا على علي (عليه السلام) فقالوا: يا أمير المؤمنين انظر في أمرك وعاتب قومك، هذا الحي من قريش، فإنهم قد نقضوا عهدك واخلفوا وعدك، وقد دعونا في السّر الى رفضك، هداك الله لرشدك، وذاك أنهم كرهوا الاُسوة وفقدوا الاثرة،

ولمّا آسيت بينهم وبين الاعاجم أنكروا واستشاروا عدوّك وعظموه، وأظهروا الطلب بدم عثمان، فرقة للجماعة وتألفاً لأهل الضلالة، فرأيك!(1).

وهكذا بدأ التحالف القرشي الجديد يظهر على السطح، وكان هذا التحالف بحاجة الى غطاء يبرّر التمرد على السلطة الجديدة، وبما أن المطالب التي طرحها الحلف على الخليفة لم تكن تمتلك المسوّغ القانوني الذي يبيح لها ذلك، فقد قرر المتحالفون تبنّي نظرية تبدو أكثر قبولا عند الناس- وبخاصة الذين كانوا بعيدين عن الأحداث- فكان الطلب بدم الخليفة المقتول هو أفضل وسيلة لتحقيق ذلك، ومن العجب أن من بين اُولئك الذين طلبوا القصاص من قتلة عثمان، عدد كبير من الخاذلين لعثمان، بل ومن المحرّضين عليه! ولقد اعترف بعض زعماء الحلف الجديد بذلك، فقد روي أن الزبير قال في ملأ من الناس: هذا جزاؤنا من علي! قمنا له في أمر عثمان حتى قُتل، فلما بلغ بنا ما أراد، جعل فوقنا من كنّا فوقه!

وقال طلحة: ما اللّوم علينا، كنا معه أهل الشورى ثلاثة، فكرهه أحدنا- يعني سعداً- وبايعناه، فأعطيناه ما في ايدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا وقد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس، ولا نرجو غداً ما أخطأنا اليوم(2).

بدء التمرد

بعد أن تحقق زعماء التحالف الجديد من نوايا الخليفة، وأدركوا أنهم لا يستطيعون أن يثنوه عن السياسة التي يريد اتباعها، بدأوا تحركهم بشكل عملي، وكان الأمر يتطلب تنفيذ خطة العصيان خارج المدينة المنورة، لأن

____________

1- شرح نهج البلاغة 7: 38.

2- شرح نهج البلاغة 7: 42.

 

 


جمع الأعوان وتعبئتهم لا يمكن أن يتحقق إلاّ بجهد، ويستحيل تحقيق ذلك في عاصمة الخلافة، فكان الرأي بعد المشورة هو البدء من مكان آخر خارج العاصمة، ولم يكن هناك ما يبرر الخروج من المدينة لاستكمال تهيئة مستلزمات الثورة إلاّ بانتحال عذر مقبول، "فدخل الزبير وطلحة على علي (عليه السلام) فاستأذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان. فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما: ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث البيعة يريدان، وما رأيهما غير العمرة. قال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية; فأعاداها بأشد ما يكون من الأيمان والمواثيق، فأذن لهما، فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضراً: والله لا ترونهما الاّ في فتنة يقتتلان فيها.

قالوا: يا أمير المؤمنين، فمر بردّهما عليك. قال: ليقضي الله أمراً كان مفعولا...

وكان التنصل من البيعة ونكثها أول خطوة لبدء التمرد، إذ أن طلحة والزبير ما كادا يخرجان من المدينة الى مكة، حتى "لم يلقيا أحداً إلاّ وقالا له: ليس لعلي في أعناقنا بيعة، وإنما بايعناه مكرهين.

فبلغ علي (عليه السلام) قولهما، فقال: أبعدهما الله وأغرب دارهما! أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم، والله ما العمرة يريدان، ولقد أتياني بوجهَي فاجرين، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين، والله لا يلقيانني بعد اليوم إلاّ في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما، فبعداً لهما وسحقاً(1).

____________

1- شرح نهج البلاغة 1: 232، أنساب الاشراف 3: 22.

 

 


عائشة والتحالف

كان التحالف الجديد بحاجة الى عناصر اُخرى مؤثرة في الرأي العام الاسلامي يعطي لحركته غطاء مقبولا عند الناس، وكانت اُم المؤمنين عائشة خير عنصر يحتاجه هذا التحالف، فقد كانت اُم المؤمنين عائشة قد بدأت تتصدى للأحداث السياسية المهمة في خلافة عثمان، وكانت مؤهلة لذلك، لمنزلتها -كونها زوج النبي- ولما كانت تمتلك من مواهب اُخرى، كقوة الشخصية وفصاحة المنطق. وكانت عند مقتل عثمان في مكة، فقد مرّ بنا سابقاً أن الطبري قد روى عن سيف بأن بعض المسلمين قد جاءوا الى عائشة ورجوها أن تلغي زيارتها للبيت الحرام وتتولى مدافعة الناس وردهم عن عثمان، وأنها اعتذرت خوفاً من أن يصيبها ما أصاب اُم حبيبة!

لكن المؤرخين -ومن بينهم الطبري- قد أوردوا رواية معاكسة لرواية سيف عن موقف عائشة من عثمان، فقد قالوا -واللفظ للبلاذري-:

لما اشتد الأمر على عثمان أمر مروان بن الحكم وعبدالرحمان بن عتاب ابن اُسيد; فأتيا عائشة وهي تريد الحج، فقالا لها: لو أقمت، فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل. فقالت: قد قرّبت ركابي وأوجبت الحج على نفسي; و والله لا أفعل، فنهض مروان وصاحبه ومروان يقول:

 

وحرّق قيس عليَّ البلاد

حتى إذا اضطرمت أجذما

 

فقالت عائشة: يا مروان! وددت والله أنه في غرارة من غرائري هذه، وإني طوّقت حمله حتى اُلقيه في البحر.

ومرّ عبدالله بن عباس بعائشة وقد ولاّه عثمان الموسم، وهي بمنزل من

 

 


منازل طريقها فقالت: ياابن عباس، إن الله قد آتاك عقلا وفهماً وبياناً، فإيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية(1).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي:

قال كل من صنّف في السير والأخبار، إن عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان، حتى إنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين عليها: هذا ثوب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يَبلَ، وعثمان قد أبلى سنّته!

قالوا: أول من سمى عثمان نعثلا عائشة; والنعثل الكثير شعر اللحية والجسد، وكانت تقول: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا(2).

وروى المدائني في كتاب (الجمل) قال:

لما قُتل عثمان كانت عائشة بمكة، وبلغ قتله إليها وهي بشَراف، فلم تشُك في أن طلحة هو صاحب الأمر، وقالت: بُعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الاصبع! إيه أبا شبل! إيه يابن عم، لكأني أنظر الى إصبعه وهو يبايع له، حثّوا الابل ودعدعوها(3).

كما روى الطبري عن عمر بن شبة بسنده قال: خرجت عائشة(رض) وعثمان محصور، فقدم عليها مكة رجل يقال له أخضر، فقالت: ما صنع الناس؟ فقال: قتل عثمانُ المصريّين! قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أيقتل قوماً

____________

1- أنساب الأشراف 6: 195، تاريخ الطبري 4:، الطبقات الكبرى 5: 36،العقد الفريد 4: 229، تاريخ المدينة 4: 1172.

2- قال ابن منظور: ونعثل رجل يهودي كان بالمدينة، قيل شُبّه به عثمان(رض)... وشاتمو عثمان يسمونه نعثلا... وفي حديث عائشة: اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا، تعني عثمان. لسان العرب 14:198.

3- شرح نهج البلاغة 6: 215.

 

 


جاءوا يطلبون الحق وينكرون الظلم! والله لا نرضى بهذا(1).

كما روى البلاذري بسنده الى الزهري قال: وقد كانت عائشة واُم سلمة حجَّتا ذلك العام، وكانت عائشة تؤلب على عثمان، فلما بلغها أمره وهي بمكة، أمرت بقبّتها فضُربت في المسجد الحرام، وقالت: إني أرى عثمان سيشأم قومه كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر!(2).

ونقل ابن أبي الحديد عن أبي مخنف قوله: وقد روي من طرق مختلفة أن عائشة لما بلغها قتل عثمان بمكة، قالت: أبعده الله، ذلك بما قدَّمت يداه وما الله بظلام للعبيد.

فيرشح مما سبق أن عائشة كانت من أشد المحرضين على عثمان(3). والداعين الى قتله، وكانت ترجو انتقال الخلافة الى ابن عمها طلحة، إلاّ أن الاُمور قد سارت بغير الاتجاه الذي تمنته، ونال الخلافة علي بن أبي طالب، فانقلبت عائشة من محرّض على دم عثمان الى مطالب به، وانضمت الى التحالف الجديد، بعد أن كتب إليها طلحة والزبير:

أن خذّلي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان، وحمّلا الكتاب مع ابن اُختها عبدالله بن الزبير. فلما قرأت الكتاب كاشفت وأظهرت الطلب بدم عثمان(4).

____________

1- تاريخ الطبري 4: 449.

2- أنساب الأشراف 6: 212.

3- شرح نهج البلاغة 6: 216.

4- شرح نهج البلاغة 6: 216.

 

 


المسير الى البصرة

لخّص القاضي ابن العربي دوافع خروج المتحالفين الى البصرة بقوله:

ويروى أن تغيّبهم قطعاً للشغب بين الناس، فخرج طلحة والزبير وعائشة اُم المؤمنين(رضي الله عنهم) رجاء أن يرجع الناس الى اُمّهم، فيرعوا حرمة نبيهم، واحتجوا عليها بقوله تعالى (لا خَيرَ في كثير مِنْ نَجواهُم إلاّ مَنْ أَمرَ بصدقة أو مَعروف أو إصلاح بينَ الناسِ).

وقد خرج النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلح وأرسل فيه، فرجت المثوبة، واغتنمت الفرصة، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها(1).

أما البلاذري فروى قصة خروج المتحالفين الى البصرة بسنده الى الزهري قال: صار طلحة والزبير الى مكة، وابن عامر بها يجرّ الدنيا، قد قدم من البصرة، وبها يعلى بن اُميّة - وهي اُمه وأبوه اُمية تميمي- ومعه مال كثير قدم به من اليمن، وزيادة على أربعمائة بعير.

فاحتجوا عند عائشة فأداروا الرأي فقالوا: نسير الى المدينة فنقاتل علياً.

فقال بعضهم: ليست لكم بأهل المدينة طاقة.

قالوا: فنسير الى الشام فيه الرجال والأموال، وأهل الشام شيعة لعثمان، فنطلب بدمه ونجد على ذلك أعواناً وأنصاراً ومشايعين! فقال قائل منهم: هناك معاوية، وهو والي الشام والمطاع به، ولن تنالوا ما تريدون، وهو أولى منكم بما تحاولون لأنه ابن عم الرجل. فقال بعضهم: نسير الى العراق; فلطلحة

____________

1- العواصم من القواصم: 155.

 

 


بالكوفة شيعته، وللزبير بالبصرة من يهواه ويميل إليه.

فاجتمعوا على المسير الى البصرة، وأشار عبدالله بن عامر عليهم بذلك وأعطاهم مالا كثيراً قوّاهم به، وأعطاهم يعلى بن اُمية التميمي مالا كثيراً وإبلا.

فخرجوا في تسعمائة رجل من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل.

فبلغ علياً مسيرهم، ويقال: إن اُم الفضل بنت الحارث بن حزن كتبت به الى علي، فأمر علي سهل بن حنيف الأنصاري، وشخص حتى نزل ذا قار.

وقال البلاذري أيضاً:

وكان بمكة سعيد بن العاص بن اُمية، ومروان بن الحكم بن أبي العاص ابن اُمية، وعبدالرحمان بن عتاب بن اُسيد بن أبي العاص بن اُمية، والمغيرة بان شعبة الثقفي، قد شخصوا من المدينة; فأجمعوا على فراق علي والطلب بدم عثمان، والمغيرة يحرّض الناس ويدعوهم الى الطلب بدمه، ثم صار الى الطائف معتزلا للفريقين معاً. فجعلت عائشة تقول: إن عثمان قتل مظلوماً، وأنا أدعوكم الى الطلب بدمه وإعادة الأمر شورى.

وكانت اُم سلمة بنت أبي اُمية بمكة، فكانت تقول: أيها الناس، آمركم بتقوى الله، وإن كنتم تابعتم علياً فارضوا به، فوالله ما أعرف في زمانكم خيراً منه(1).

وهكذا بدأ التحالف الذي صار يضم خصوم الأمس مسيره الى البصرة للانتقاض على الحكم الجديد بدعوى تأليف الكلمة والقضاء على الشغب

____________

1- أنساب الأشراف 3: 21، 23، وانظر الطبري 4: 452 عن أحمد بن زهير، تاريخ اليعقوبي2:179، مروج الذهب للمسعودي 3: 182.

 

 


والمطالبة بدم عثمان!

ولقد كان في أفراد التحالف من يعرف أن قتلة عثمان الحقيقيين هم الذين كانوا يحرضون على قتله، لذا قال سعيد بن العاص لمروان بن الحكم عندما لقيه بذات عرق وهم في طريقهم الى البصرة: أين تذهبون وثأركم على أعجاز الابل؟! اقتلوهم ثم ارجعوا الى منازلكم لا تقتلوا أنفسكم.

قالوا: بل نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً; فخلا سعيد بطلحة والزبير، فقال: إن ظفرتما، لمن تجعلان الأمر؟ اصدقاني. قالا: لأحدنا، أيّنا اختاره الناس. قال: بل اجعلوه لولد عثمان فانكم خرجتم تطلبون بدمه. قالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم! قال: أفلا أراني أسعى لاخراجها من بني عبدمناف(1).

وهكذا بدأت تتكشف الأهداف الحقيقية لبعض أعضاء هذا التحالف، وإن ما فعله مروان بن الحكم أثناء معركة الجمل، حينما رمى طلحة بسهم قاتل وقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم، لأصدق دليل على حقيقة تلك النوايا.

الحوأب

من الاُمور التي تبعث على الاستغراب حقاً، أن ينبري القاضي ابن العربي لينسف قضية الحوأب جملة وتفصيلا، بقوله:

فإن قيل: لم خرجت عائشة(رض) وقد قال (صلى الله عليه وآله) لهم في حجة الوداع: "هذه، ثم ظهور الحصر". قلنا: حدث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة، يا عقول

____________

1- الطبري 4: 453 عن عمر بن شبة.

 

 


النسوان، ألم أعهد إليكم ألا ترووا أحاديث البهتان، وقدمنا لكم على صحة خروج عائشة البرهان; فلم تقولون ما لا تعلمون، وتكررون ما وقع الانفصال عنه كأنكم لا تفهمون؟ (إنَّ شرَّ الدوابّ عندَ اللهِ الصُّم البكم الذينَ لا يعقلونَ).

وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب! ما كان شيء قط مما ذكرتم! ولا قال النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك الحديث! ولا جرى ذلك الكلام! ولا شهد أحد بشهادتهم! وقد كتبت شهادتكم بهذا الباطل وسوف تُسألون(1).

فابن العربي يتهم كل المحدثين والمؤرخين الذين أخرجوا حديث الحوأب ويصفهم بقلة العقول، ويحمّلهم أوزار ذلك!

لكن الذين أثبتوا قضية الحوأب أكثر من أن يُحصوا، وقد أخرجوا هذا الحديث وأرسلوه إرسال المسلمات، بل إنه يكاد يكون من المسائل المتواترة تماماً. ذكر ابن أبي الحديد أن أبا مخنف قال:

حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن حازم، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وروى جرير بن يزيد عن عامر الشعبي، وروى محمد ابن إسحاق عن حبيب بن عمير، قالوا جميعاً:

لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة الى البصرة، طرقت ماء الحوأب -وهو ماء لبني عامر بن صعصعة- فنبحتهم الكلاب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها!

فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب، قالت: أهذا ماء الحوأب؟ قالوا: نعم.

____________

1- العواصم من القواصم: 159.

 

 


فقالت: ردّوني ردّوني.

فسألوها ما شأنها، ما بدا لها! فقالت: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "كأنّي بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت بعض نسائي"، ثم قال لي: "إياك يا حميراء أن تكونيها".

فقال الزبير: مهلا يرحمك الله، فإنا قد جُزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب؟

فلفّق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جعلاً، فحلفوا لها وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب. فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام، فسارت عائشة لوجهها!(1).

قال القرطبي تعليقاً على كلام ابن العربي حول قضية الحوأب:

والعجب من القاضي أبي بكر بن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتبه، منها في كتاب العواصم من القواصم، وذكر أنه لا يوجد أصلا، وأظهر العلماء المحدّثين بانكاره غباوة وجهلا. وشهرة هذا الحديث أوضح من فلق الصبح!(2).

يوم الجمل الأصغر

كانت حرب الجمل التي استتبعت خروج المتحالفين الى البصرة على يومين، اُولاهما المعركة التي دارت بين المتحالفين من جهة وبين والي

____________

1- شرح نهج البلاغة 9: 310، الطبري 4: 469 عن احمد بن زهير، انساب الأشراف 3: 24 وفيه أن الذي جاء بالشهود هو عبدالله بن الزبير.

2- التذكرة في احوال الموتى: 621.

 

 


البصرة عثمان بن حنيف من جهة اُخرى قبل مجيء علي بن أبي طالب الى البصرة، وقد سميت بيوم الجمل الأصغر. ومعركة اُخرى فاصلة دارت بين المتحالفين من جهة وبين علي بن أبي طالب من جهة اُخرى، وتدعى بيوم الجمل الأكبر. وقد تعرضت الأحداث التي سبقت كلتا المعركتين وتخللتهما الى عملية تزييف يجدر بنا الكشف عنها، وإظهار الحقيقة فيما جرى، مع ما يتخلل ذلك من إظهار لحقيقة النوايا التي قادت الى هذه الحرب الضروس.

إن جمهور المؤلفين مالوا الى اعتماد رواية الطبري المطوّلة بطريق سيف بن عمر للأحداث، مع العلم بأن الطبري قد أورد روايات اُخرى مختصرة عن تلك الأحداث بغير طريق سيف، وهي تتفق الى حد بعيد جداً مع الروايات التي جاءت في المصادر التاريخية الاُخرى، إلاّ أنها لاقت الإعراض من قبل معظم المؤلفين قديماً وحديثاً، ومنهم القاضي ابن العربي الذي لخص لنا أحداث معركة الجمل الأصغر بقوله:

واحتل بهم أهل البصرة، فحرّض من كان بها من المتألبين على عثمان الناس، وقالوا: اخرجوا إليهم حتى تروا ما جاءوا إليه; فبعث عثمان بن حنيف حكيم بن جبلة، فلقي طلحة والزبير بالزابوقة، فقُتل حكيم، ولو خرج مسلماً مستسلماً لا مدافعاً، لما أصابه شيء، وأي خير كان له في المدافعة، وعن أي شيء كان يدافع وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة! وإنما ساعين في الصلح، راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم، دافعوا عن مقصدهم، كما يُفعل في سائر الأسفار والمقاصد.

فلما وصلوا الى البصرة، تلقّاهم الناس بأعلى المربد مجتمعين، حتى لو رمي حجر لما وقع إلاّ على رأس إنسان، فتكلم طلحة، وتكلمت عائشة(رض)

 

 


وكثر اللغط، وطلحة يقول: انصتوا; فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فقال: اف، اف، فراش نار وذباب طمع. وانقلبوا على غير بيان.

وانحدروا إلى بني فهد; فرماهم الناس بالحجارة حتى نزلوا الجبل، والتقى طلحة والزبير وعثمان بن حنيف - عامل علي على البصرة- وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال، ولعثمان دار الامارة والمسجد وبيت المال، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءوا، ولا يعرض بعضهم لبعض حتى يقدم علي.

وروي أن حكيم بن جبلة عارضهم حينئذ، فقُتل بعد الصلح(1).

هذا هو ملخص الأحداث عن مجيء أصحاب الجمل الى البصرة وما جرى فيها من أحداث قبل مجيء علي بن أبي طالب، كما يرويها لنا القاضي ابن العربي، ويقول عنها: انها صحاح الأخبار! وقبل أن اُناقش رواية القاضي ابن العربي هذه، أود أن أنقل ما أضافه الشيخ محب الدين الخطيب إليها من معلومات، لأنه رأى أن رواية ابن العربي المختصرة لا تشفي الغليل، فقال معلقاً عليها بقوله:

حفظ لنا الطبري وصفاً دقيقاً نقله سيف بن عمر التميمي عن شيخيه محمد وطلحة عن موقف أصحاب الجمل السلمي في هذه الوقعة، وإسراف حكيم بن جبلة في إنشاب القتال، قالا:

وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا الى مقبرة بني مازن، ثم حجز الليل بين الفريقين.

وفي اليوم التالي انتقل أصحاب الجمل الى جهة دار الرزق، وأصبح عثمان

____________

1- العواصم من القواصم: 155.

 

 


بن حنيف وحكيم بن جبلة فجددوا القتال، وكان حكيم يطيل لسانه بسبّ اُم المؤمنين، ويقتل من يلومه على ذلك من نساء ورجال، ومنادي عائشة يدعو الناس الى الكف عن القتال فيأبون، حتى إذا مسّهم الشر وعضّهم، نادوا أصحاب عائشة الى الصلح(1).

فتبين لنا من تعليق الخطيب على رواية ابن العربي - نقلا عن الطبري بطريق سيف- أن عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة هما المسؤولان عن نشوب القتال، فضلا عما تظهره لنا رواية محب الدين الخطيب عن حكيم بن جبلة من سوء خلق هذا الرجل الذي كان يسبّ اُم المؤمنين عائشة ولا يفرق في القتل بين الرجال والنساء، بينما يظهر لنا موقف أصحاب الجمل السلمي، ودعوة عائشة لايقاف القتال دون جدوى! وليس غريباً أن يتهم الخطيب حكيم بن جبلة ويصفه بهذه النعوت الشنيعة، فهو ليس إلاّ مقتفياً لأثر سيف ابن عمر الذي قال في وصف حكيم بن جبلة:

وكان حكيم بن جبلة رجلا لصاً، إذا قفل الجيوش خنس عنهم، فسعى في أرض فيغير على أهل الذمّة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض، ويصيب ما يشاء ثم يرجع، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة الى عثمان، فكتب الى عبدالله بن عامر أن احبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً، فحبسه(2).

____________

1- العواصم من القواصم: هامش 262.

2- الطبري 4: 326.

 

 


حقيقة الأمر

قلنا إن جمعاً من المؤرخين -ومنهم الطبري- قد أخرجوا روايات عديدة عن حقيقة أحداث معركتي الجمل بغير رواية سيف التي تخالف جميع الروايات، لذا أجد من المستحسن أن نتابع الأحداث ابتداءً بوصول المتحالفين الى مشارف البصرة، حيث أخرج ابن أبي الحديد المعتزلي عن أبي مخنف بسنده الى ابن عباس "أن الزبير وطلحة أغذّا السير بعائشة حتى انتهوا الى حفر أبي موسى الأشعري -وهو قريب من البصرة- وكتبا الى عثمان بن حنيف الانصاري، وهو عامل علي (عليه السلام) على البصرة: أن أخلِ لنا دار الامارة! فلما وصل كتابهما اليه، بعث إلى الأحنف بن قيس، فقال له: إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله، والناس إليها سراع كما ترى.

فقال الأحنف: إنهم جاؤوك بها للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألّبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه! وأراهم والله لا يزايلون حتى يُلقوا العداوة بيننا ويسكفوا دماءنا! وأظنهم والله سيركبون منك خاصة مالا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم، وأنت فيهم مطاع; فسر إليهم بالناس، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك(1).

ذكرنا فيما سبق بأن المتحالفين كانوا بحاجة الى شخصيات ذات تأثير جماهيري يدعم دعواهم، وأن عائشة اُم المؤمنين كانت خير من يمثل ذلك،

____________

1- شرح نهج البلاغة 9: 311.

 

 


ويبدو أن اُم المؤمنين عائشة كانت تعرف في نفسها هذه الموهبة، لذا فإنها لم تألُ جهداً في استخدام منطقها، بل وقلمها أيضاً للبدء بحملة إعلامية تستهدف استقطاب عدد آخر من الشخصيات المهمة المؤثرة على الآخرين، فبادرت الى مراسلة الأحنف بن قيس - سيد تميم- "فأبى أن يأتيها، ثم أرسلت إليه فأتاها، فقالت: ويحك يا أحنف، بم تعتذر الى الله من ترك جهاد قتلة أمير المؤمنين عثمان(رضي الله عنه)، أمن قلّة عدد، أو أنك لا تطاع في العشيرة!

قال: يا اُم المؤمنين، ما كبرت السن ولا طال العهد، وإن عهدي بك عام أول تقولين فيه وتنالين منه!

قالت: ويحك يا أحنف! إنهم ماصوه موص الاناء ثم قتلوه.

قال: يا اُم المؤمنين، إني آخذ بأمرك وأنت راضية، وأدعه وأنت ساخطة"(1).

وقد راسلت اُم المؤمنين عائشة شخصية مهمة اُخرى فيما بعد، فإنه "لما نزل علي (عليه السلام) بالبصرة، كتبت عائشة الى زيد بن صوحان العبيدي: من عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي (صلى الله عليه وآله) الى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد: فأقم في بيتك، وخذّل الناس عن علي، وليبلغني عنك ما اُحب، فإنك أوثق أهلي عندي، والسلام.

فكتب إليها: من زيد بن صوحان الى عائشة بنت أبي بكر، أما بعد: فإن الله أمرك بأمر، وأمرنا بأمر، أمرك أن تقرّي في بيتك، وأمرنا أن نجاهد، وقد أتاني كتابك، فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني الله، فأكون قد صنعت ما أمرك الله

____________

1- الاستيعاب بهامش الاصابة 2: 192 ترجمة صخر بن قيس.

 

 


به، وصنعتِ ما أمرني الله به! فأمرك عندي غير مطاع، وكتابك غير مجاب، والسلام"(1).

التفاوض

على الرغم من أن رواية ابن العربي عن الطبري بطريق سيف، ومن بعده الخطيب تظهر عثمان بن حنيف رجلا نزقاً ميالا الى الشر، فإن باقي المصادر تبرز مدى حكمة هذا الرجل وتأنّيه، فهو على الرغم من استماعه الى الأحنف ابن قيس -وهو المعروف بحلمه وسعة صدره- الذي كان يحرض عثمان بن حنيف على المبادرة الى قتال القوم قبل دخولهم البصرة، وقد تبعه في ذلك حكيم بن جبلة فقال مثل قول الأحنف من تحريض عثمان على المناجزة وأخذ زمام المبادرة من خصومه، وهذا في الحقيقة منطق عسكري سليم، إلاّ أن عثمان بن حنيف قرر التأني وعدم المبادرة بانشاب القتال، وكان جوابه للأحنف بن قيس: الرأي ما رأيت، لكنني أكره الشر، وأن أبدأهم به، وأرجو العافية والسلامة الى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به.

وتبعاً لذلك فإنه لم يبدأ بشن الغارة على أصحاب الجمل، بل فعل ما يفعله الرجل الحكيم المسالم حين أرسل إلى خليفته بكتاب يخبره بما جرى، فأجابه الخليفة علي بن أبي طالب بكتاب جواباً عليه، يتضمن هو الآخر نفس الروحية في عدم المبادأة بالقتال، والاكتفاء بدعوة القوم الى الدخول في الطاعة والسلم، فكان مما جاء في كتابه:

____________

1- شرح نهج البلاغة 6: 226، الطبري 4: 476.

 

 


من عبدالله علي أمير المؤمنين، الى عثمان بن حنيف.

أما بعد: فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا، وتوجهوا الى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به، والله أشد بأساً وأشد تنكيلا، فإذا قدموا عليك فادعهم الى الطاعة والرجوع الى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلاّ التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين; كتابي هذا إليك من الربذة وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله.

فلما وصل كتاب علي (عليه السلام) الى عثمان، أرسل الى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم. فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة، فنالاها ووعظاها وأذكراها وناشداها الله، فقالت لهما: القيا طلحة والزبير، فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم عثمان وندعو الناس الى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم.

فقالا له: إن عثمان لم يُقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم وأين هم! وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه وأعظمهم اغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم، وأما إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير مكرهين! وأنت يا أبا عبدالله لم يُبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه! وامتنعت من بيعة أبي بكر! فأين ذلك الفعل من هذا القول!

فقال لهما: إذهبا فالقيا طلحة، فقاما الى طلحة فوجداه أخشن الملمس،

 

 


شديد العريكة، قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب، فانصرفا الى عثمان بن حنيف(1).

كان المتحالفون يحاولون استمالة الرأي العام إليهم بظهورهم بمظهر المدافع عن الحق والمطالبة بدم الخليفة المقتول، حتى إنهم ولتحقيق تلك الغاية، اتهموا علي بن أبي طالب صراحة بقتل عثمان أو التواطؤ على قتله، وتناوبوا إلقاء الخطب على أهل البصرة لاستمالة قلوب أهلها إليهم وإيغار صدورهم على علي بن أبي طالب، واجتمع أهل البصرة يستمعون إليهم، فقام طلحة بن عبيدالله أولا فخطب فيهم، وقال بعد أن ذكر فضل عثمان: "وقد كان أحدث احداثاً نقمنا عليه، فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا، فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الاُمة أمرها غصباً بغير رضا منها ولا مشورة فقتله! وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار، فقُتل مُحرماً بريئاً تائباً. وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان، وندعوكم الى الطلب بدمه، فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين، وكانت خلافة رحمة للاُمة جميعاً، فإن كان أخذ الأمر من غير رضا من العامة ولا مشورة منها ابتزازاً، كان ملكاً عضوضاً وحدثاً كبيراً.

ثم قام الزبير فتكلم بمثل كلام طلحة.

فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما: ألم تبايعا علياً فيمن بايعه! ففيم بايعتما ثم نكثتما!

فقالا: ما بايعناه، وما لأحد في أعناقنا بيعة، وإنما استكرهنا على بيعته! فقال ناس: قد صدقا وأحسنا القول وقطعا الثواب.

____________

1- شرح نهج البلاغة 9: 312.

وقال ناس: ما صدقا ولا أصابا في القول. حتى ارتفعت الأصوات.

ثم أقبلت عائشة على جملها فنادت بصوت مرتفع: أيها الناس، أقلّوا الكلام وأسكتوا. فأسكت الناس لها، فقالت: إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غيّر وبدّل، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قُتل مظلوماً تائباً، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة; فقتلوه محرماً في حرمة الشهر وحرمة البلد، ذبحاً كما يذبح الجمل، ألا وإن قريشاً رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئاً، ولا سلكت به سبيلا قاصداً، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبّه النائم، وتقيم الجالس، وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم، ويسومونهم سوء العذاب.

أيها الناس، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه، مصتموه كما يماص الثوب الرحيض، ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه، وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازاً وغصباً; تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ولا أغضب لعثمان من سيوفكم! ألا إن عثمان قتل مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان.

فماج الناس واختلطوا، فمن قائل: القول ما قالت، ومن قائل يقول: وما هي وهذا الأمر، إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها!

وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى.

ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين: فريق مع عثمان بن حنيف، وفريق

 

 


مع عائشة وأصحابها(1).

لقد كان من نتائج هذه الخطب الاستفزازية، انقسام الناس الى معسكرين متعاديين، بينما يرى القاضي ابن العربي أنهم خرجوا لتأليف القلوب، وأن الطلب بدم عثمان لم يكن دعواهم، في الوقت الذي تثبت الوقائع جميعاً، أن دعوى المتحالفين الرئيسة كانت الطلب بدم عثمان، والادعاء بأنه قد قُتل بعد توبته، وقد مرَّ فيما سبق أن موقف عائشة من عثمان وتحريضه عليها قد استمر حتى اللحظة الأخيرة من حياة عثمان، وانها استبشرت بقتله عندما سمعت به، ولكن الأهداف الحقيقية لثورة عائشة وحلفائها على عثمان لم تتحقق عندما تولى علي بن أبي طالب الخلافة، خلافاً لما كانت ترجوه عائشة، فكانت الخطة تتطلب الطعن في خلافة علي ونقض شرعيتها، ومن ثم تأليب الناس على العصيان.

الدوافع الحقيقية للخروج

مرّ بنا فيما سبق موقف اُم المؤمنين عائشة من عثمان ومقالتها فيه من مختلف المصادر وعرفنا هدفها الحقيقي من الخروج، وبقي علينا أن نتبين الأهداف الحقيقية لكل من طلحة والزبير في الخروج، وقد مرّ فيما سبق نتف من الأخبار التي تدل على أن طلحة والزبير وتأليبهما على عثمان كان معلوماً عند معظم الناس، فقد واجههم عثمان بن حنيف ومبعوثاه اليهم بتلك الحقائق التي لم يتمكنا من ردّها، وقد أخرج البلاذري عن أبي مخنف قوله:

خطب طلحة بن عبيدالله الناس بالزابوقة فقال: يا أهل البصرة، توبة

____________

1- شرح نهج البلاغة 6: 314.

 

 


بحوبة، إنّما أردنا أن نستعتب عثمان ولم نرد قتله، فغلب السفهاء الحكماء حتى قتلوه.

فقال ناس لطلحة: يا أبا محمد، قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا من ذمّه والتحريض على قتله!

كما وروى البلاذري بسنده الى الزهري، قال: لما قدم طلحة والزبير البصرة، أتاهما عبدالله بن حكيم التميمي بكتب كتبها طلحة إليهم يؤلبهم فيها على عثمان، فقال له حكيم: أتعرف هذه الكتب؟ قال: نعم، قال: فما حملك على التأليب عليه أمس والطلب بدمه اليوم؟! فقال: لم أجد في أمر عثمان شيئاً إلاّ التوبة والطلب بدمه!(1).

أما أنصار عثمان، فقد مرّ فيما سبق رواية الطبري عن الحوار الذي دار بين سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وقوله لمروان: أين تذهبون وثأركم على أعجاز الابل! مشيراً بذلك الى أن المتهمين بقتل عثمان معهم وبرفقتهم، ولقد نفذ مروان الوصية فقتل طلحة بسهم، ولولا اعتقاده بأن طلحة يعد من قتلة عثمان لما أقدم على ذلك، وكما مرّ بنا في ترجمة مروان بن الحكم، أن ابنه عبدالملك كان يعتقد جازماً بأن طلحة من قتلة عثمان، ولولا أن أباه مروان اعترف له بقتل طلحة، لما أبقى من بني تيم -قبيلة طلحة- أحداً على وجه الأرض.

وقد أثبت معظم المؤرخين بأن طلحة كان من أشد المناوئين لعثمان، والمحرضين على دمه، فقد روى البلاذري بسنده الى ابن سيرين قال:

لم يكن من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أشد على عثمان من طلحة!(2).

____________

1- أنساب الأشراف 3: 21.

2- أنساب الاشراف 6: 201.

 

 


وقال ابن أبي الحديد المعتزلي:

وكان طلحة من أشد الناس تحريضاً عليه، وكان الزبير دونه في ذلك، روي أن عثمان قال: ويلي على ابن الحضرمية -يعني طلحة- أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً، وهو يروم دمي يحرّض على نفسي، اللهم لا تمتعه به ولقّهِ عواقب بغيه.

وروى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنّعاً بثوب قد استتر به عن أعين الناس، يرمي الدار بالسهام، ورووا أيضاً أنه لما امتنع على الذين حصروه الدخول من باب الدار، حملهم طلحة الى دار لبعض الأنصار، فأصعدهم الى سطحها، وتسوّروا منها على عثمان داره فقتلوه(1).

وقال أيضاً:

وروى المدائني في كتاب (مقتل عثمان) أن طلحة منع من دفنه ثلاثة أيام، وأن علياً (عليه السلام) لم يبايع الناس إلاّ بعد مقتل عثمان بخمسة أيام، وأن حكيم ابن حزام أحد بني أسد بن عبد العزى وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدوا بعلي (عليه السلام) على دفنه، فأقعد طلحة لهم في الطريق ناساً بالحجارة; فخرج به نفر يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يعرف بحش كوكب، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما صار هناك رُجم سريره وهمّوا بطرحه، فأرسل علي (عليه السلام) الى الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه فكفوا، فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب، وروى الطبري نحو ذلك، إلاّ أنه لم يذكر طلحة بعينه!

____________

1- شرح نهج البلاغة 9: 35، تاريخ المدينة: 1169.

 

 


وروى المدائني في هذا الكتاب، قال: دفن عثمان بين المغرب والعتمة، ولم يشهد جنازته إلاّ مروان بن الحكم وابنه عثمان وثلاثة من مواليه، فرفعت ابنته صوتها تندبه، وقد جعل طلحة ناساً هناك أمكنهم كميناً، فأخذتهم الحجارة وصاحوا: نعثل نعثل! فقالوا: الحائط الحائط، فدفن في حائط هناك.

وروى الواقدي، قال: لما قُتل عثمان، تكلموا في دفنه، فقال طلحة: يُدفن بديرسلع، يعني مقابر اليهود!(1).

فطلحة لم يكتف بالتحريض على قتل عثمان، بل شارك في الهجوم على داره بالسهام، ولم يكفه كل ذلك، فأمر برمي نعشه بالحجارة، ومنع من دفنه في مقابر المسلمين!

أما الزبير، فإنه وان كان أقل نكاية في عثمان من طلحة، إلاّ أنه لم يكن أقل منه تحريضاً وإغراء بدم عثمان، فقد كان يقول: "اقتلوه فقد بدّل دينكم! فقالوا: إن ابنك يحامي عنه بالباب! فقال: ما أكره أن يُقتل عثمان ولو بدئ بابني! إن عثمان لجيفة على الصراط غداً!(2).

فتبين من كل ذلك أن المطالبين بدم عثمان كانوا هم أنفسهم من أشد المحرّضين عليه، بل ومن المشاركين في قتله، ومن العجب أن نجد اُم المؤمنين عائشة تتهم علياً بقتل عثمان أو بالتواطؤ على قتله وتطالب بخلعه وردّ الأمر شورى بين المسلمين في النفر الذين اختارهم عمر بن الخطاب، مع استبعاد من شرك في دم عثمان، وهي تعني بذلك علي بن أبي طالب!

فالمطالبة بدم عثمان إذاً كان عذراً متهافتاً غير واقعي، ولكن المتحالفين تترّسوا به من أجل تبرير خروجهم على السلطة، ولقد جاءت الأخبار

____________

1- شرح نهج البلاغة 10: 6.

2- شرح نهج البلاغة 9: 36.

 

 


الصحيحة التي تكشف عن الدوافع الحقيقية لهذا الخروج، وقد مرّ طرف منها فيما يتعلق بآمال اُم المؤمنين عائشة في تولية طلحة، ولا شك أن كلاً من طلحة والزبير كان يمني نفسه هو الآخر بنيل منصب الخلافة، فقد روى الطبري عن عمر بن شبة بسنده قال:

خرج أصحاب الجمل في ستمائة... فلما جازوا بئر ميمون، إذا هم بجزور نحرت ونحرها ينشعب، فتطيروا; وأذّن مروان حين فصل من مكة، ثم جاء حتى وقف عليهما فقال: أيّكما اُسلّم بالامارة واُؤذّن بالصلاة؟ فقال عبدالله بن الزبير: على أبي عبدالله، وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد!

فأرسلت عائشة(رض) الى مروان فقالت: أتريد أن تفرّق أمرنا! ليصلِّ ابن اُختي.

فكان يصلي بهم عبدالله بن الزبير، حتى قدم البصرة، فكان معاذ بن عبيدالله يقول: ولله لو ظفرنا لافتتنّا، ما خلّى الزبير بين طلحة والأمر، ولا خلُّى طلحة بين الزبير والأمر!(1).

وذكر أبو مخنف في (كتاب الجمل) أن علياً (عليه السلام) خطب لما سار الزبير وطلحة من مكة ومعها عائشة يريدون البصرة، فقال: أيها الناس، إن عائشة سارت الى البصرة ومعها طلحة والزبير، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه، أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها، والله لو ظفرنا بما أرادوا -ولن ينالوا ذلك أبداً- ليضرب أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد(2).

وروى ابن كثير في خبر وقعة الجمل ومحاورة علي لطلحة والزبير، قول

____________

1- تاريخ الطبري 4: 454.

2- شرح نهج البلاغة 1: 233.

 

 


علي للزبير: ما أخرجك؟ قال: أنت، ولا أراك بهذا الأمر أولى مني(1).

كما أخرج أحمد بن حنبل، وابن أبي شيبة، عن ابن عباس قال: أرسلني علي الى طلحة والزبير يوم الجمل، فقلت لهما: إن أخاكما يقرئكما السلام، ويقول لكما: هل وجدتما عليّ في حيف أو استئثار في فيء أو في كذا؟ فقال الزبير: ولا في واحدة منهما، ولكن مع الخوف شدة المطامع(2).

وقال ابن أبي الحديد:

وقد روى المدائني أيضاً نحواً مما روى أبو مخنف، قال: بعث علي (عليه السلام) ابن عباس يوم الجمل الى الزبير قبل الحرب، فقال له: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام، ويقول لكم: ألم تبايعني طائعاً غير مكره! فماالذي رابك مني فاستحللت به قتالي! قال: فلم يكن له جواب إلاّ أنه قال لي: إنا مع الخوف الشديد لنطمع، لم يقل غير ذلك.

قال أبو إسحاق: فسألت محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام): ما تراه يعني بقوله هذا؟

فقال: أما والله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا، فقال: يقول، إنا مع الخوف الشديد مما نحن عليه، نطمع أن نلي مثل الذي وليتم!

وقال محمد بن إسحاق: حدثني جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه، عن ابن عباس، قال: بعثني علي (عليه السلام) يوم الجمل الى طلحة والزبير، وبعث معي بمصحف منشور، وأن الريح لتصفق ورقه، فقال لي: قل لهما، هذا كتاب الله بيننا وبينكم، فما تريدان؟ فلم يكن لهما جواب إلاّ أن قالا: نريد ما أراد،

____________

1- البداية والنهاية 7: 233.

2- الفضائل: 92، المصنف 7: 539.

 

 


كأنّهما يقولان (المُلك)، فرجعت الى علي فأخبرته(1).

هذه الأخبار التي تصافق على إخراجها المؤرخون والمحدّثون تؤكد بأن المطامع السياسية والرغبة في الملك كانت الدافع الحقيقي للمتحالفين على الخروج، ويضاف إليها دوافع ثانوية تنبثق من هذا الواقع، وهي الرغبة في الاحتفاظ بالثروات الكبيرة التي تملكها القوم، فإنه بعد أن تبيّن لهم ولغيرهم أن سياسة علي بن أبي طالب المالية الجديدة، تستلزم تجريدهم من كثير من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في عهد الخليفتين السابقين له، بل وتجريدهم من الكثير مما في أيديهم أيضاً، لأن علي بن أبي طالب كان لا يرى في الصحبة امتيازاً خاصاً يخوّل لهم امتلاك الثروات، لذا فقد كان من أوائل كلماته قوله من على المنبر: فأفضل الناس عند الله منزلة، وأقربهم من الله وسيلة، أطوعهم لأمره، وأعملهم بطاعته، وأتبعهم لسنّة رسوله، وأحياهم لكتابه، ليس لأحد عندنا فضل إلاّ بطاعة الله وطاعة الرسول..

ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنّون على الله ورسوله بإسلامكم، بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين...

وبعث الى طلحة والزبير، فكان مما قال لهما: نشدتكما الله، هل جئتماني طائعين للبيعة، ودعوتماني إليها، وأنا كاره لها؟ قالا: نعم، فقال: غير مُجبرين ولا مقسورين، فاسلمتماني بيعتكما وأعطيتماني عهدكما؟ قالا: نعم. قال: فما دعاكما بعد الى ما أرى؟ قالا: أعطيناك بيعتنا على ألاّ تقضي الاُمور ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر ولا تستبدّ بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر وتمضي الحكم بغير

____________

1- شرح نهج البلاغة 9: 317.

 

 


مشورتنا ولا علمنا.

فقال: لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً فاستغفر الله لكما، ألا تخبرانني: أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه؟ قالا: معاذ الله، قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا: معاذ الله. قال: أفوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا: معاذ الله. قال: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ قالا: خلافك عمر بن الخطاب في القسم، أنك جعلت حقّنا في القسم كحق غيرنا، وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجالنا وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً قهراً ممن لا يرى الإسلام الاّ كرهاً.

فقال:... وأما القسم والاُسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ ذي بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه تنزيل من حكيم حميد، وأما قولكما: جعلت فيأنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا، فقديماً سبق الى الاسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضّلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في القسم، ولا آثرهم بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلاّ هذا(1).

لقد فهم اولئك الصحابة أن بقاء الحكم في يد علي بن أبي طالب سيحرمهم من كثير من الامتيازات التي تعودوا على التمتع بها، وبالتالي فما الذي يجبرهم على الانقياد له؟ أليسوا مثله في الصحبة والسابقة والجهاد، ألم يرشحهم عمر بن الخطاب للخلافة في المجلس السداسي الذي كان مطلوباً منه اختيار أحدهم للخلافة؟

____________

1- شرح نهج البلاغة 7: 39.

 

 


فما الذي يمنعهم من الوثوب للوصول الى سدّة الحكم حفاظاً على الخط الذي سار عليه عمر بن الخطاب في العطاء، مع ما يتضمن من امتيازات كبيرة لهم؟

وقد جاءت الأخبار مؤكدة هذا النهج في التفكير عند اولئك الصحابة، وتضمنت اعترافاتهم بذلك، وقد سبق بعضها فيما يتعلق بالرغبة في الامارة.

إن الأخبار التي رواها أبو مخنف والتي تضمن بعضها ما أخرج المدائني أيضاً - فيما نقل عنهما ابن أبي الحديد- تضمنت قول أبي مخنف: وحدثنا الأشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن أبي الخليل، قال: لما نزل طلحة والزبير المربد، أتيتهما فوجدتهما مجتمعين، فقلت لهما: ناشدتكما الله وصحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ما الذي أقدمكما أرضنا هذه؟ فلم يتكلما، فأعدت عليهما، فقالا: بلغنا أن بأرضكم هذه دنيا، فجئنا نصيبها!

قال: وقد روى محمد بن سيرين، عن الأحنف بن قيس أنه لقيهما، فقالا له مثل مقالتهما الاولى: إنما جئنا نطلب الدنيا!(1).

وروى الطبري بسنده الى الحسن البصري: أن طلحة بن عبيد الله باع أرضاً له من عثمان بسبعمائة الف فحملها إليه، فقال طلحة: إن رجلا تتسق هذه عنده وفي بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله عزّوجل لغرير بالله سبحانه; فبات ورسوله يختلف بها في سكك المدينة يقسمها حتى أصبح، فأصبح وما عنده منها درهم. قال الحسن: وجاء هاهنا يطلب الدينار والدرهم، أو قال: الصفراء والبيضاء(2).

هكذاسارت الاُمور منذ أن تولى علي بن أبي طالب الخلافة وحتى مجيء المتحالفين الى البصرة، وكانت هذه مقدمات الأحداث التي انتهت بمعركتي

____________

1- شرح نهج البلاغة 9: 316.

2- الطبري 4: 405.

 

 


الجمل، وقد تبين من الروايات المتكاثرة من مختلف المصادر، وتعدد طرقها وأسانيدها أن أصحاب الجمل لم يخرجوا لتأليف الكلمة وبسط سلطة قانون الإسلام، وحتى لو افترضنا أن ذلك كان غايتهم حقيقة، فإنهم لم يكونوا يمتلكون الحق الشرعي الذي يخوّلهم التصدي لذلك العمل بدون أمر من الخليفة الشرعي الذي بايعوه، وإلاّ لأصبح الأمر فوضى وصار كل فرد يقوم مقام الخليفة ويقيم الحدود ويستأثر بالأمر كما يشاء، ولو كان هدف أصحاب الجمل إقامة الحد على قتلة الخليفة كما يدعون فما بالهم لم يقيموا الحد على عبيدالله بن عمر بن الخطاب عندما تقاعس عثمان عن إقامة الحد عليه!

فالأهداف الحقيقية للمتحالفين كانت تتلخص في الاطاحة بالخليفة الجديد واختيار أحدهم للخلافة مكانه، ومن ثم الاستئثار بالأموال والنفوذ، وهي نفس السياسة التي نقموها على عثمان، ولكنهم كانوا يحتجون بسبقهم وصحبتهم على ولاة عثمان الذين كانوا مجردين من هذه الامتيازات.

بدء المعركة

عندما فشلت الجهود التي بذلها عثمان بن حنيف في إقناع المتحالفين بالرجوع عن موقفهم وإصرارهم على الاستيلاء على مدينة البصرة، وقد حاول عثمان بن حنيف إقناعهم أخيراً بانتظار مجيء كتاب الخليفة علي بن أبي طالب حتى يرى رأيه، وقد تظاهر المتحالفون بالموافقة على ذلك، لكنهم نكثوا عهدهم وغدروا بعثمان بن حنيف، وارتكبوا في أثناء ذلك جملة من الفظائع، ذهب ضحيتها عدد غير قليل من أبرياء المسلمين، وقد ذكرنا فيما سبق رواية ابن العربي ومن بعده الخطيب لأحداث معركة الجمل الأصغر عن طريق سيف بن عمر، وسنذكر ها هنا عدداً من الروايات التي جاءت بطرق

 

 


اُخرى غير طريق سيف، ومن بينها روايات الطبري، حتى يتبين للقارئ كيف أن سيف بن عمر يقلب الحقائق رأساً على عقب ويزيف الوقائع تماماً!

روى الطبري عن أحمد بن زهير بسنده الى الزهري قال:

بلغني أنه لما بلغ طلحة والزبير منزل علي بذي قار، انصرفوا الى البصرة فأخذوا على المنكدر، فسمعت عائشة(رض) نباح الكلاب، فقالت: أي ماء هذا! قالوا: الحوأب، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! إني لهيه، قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول وعنده نساؤه: "ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب" فأرادت الرجوع، فأتاها عبدالله بن الزبير، فزعم أنه قال: كذب من قال إن هذا الحوأب.

ولم يزل حتى مضت، فقدموا البصرة وعليها عثمان بن حنيف، فقال لهم عثمان: ما نقمتم على صاحبكم! فقالوا: لم نره أولى بها منّا، وقد صنع ما صنع!

قال: فإن الرجل أمّرني، فاكتب إليه فاعلمه ما جئتم له، على أن اُصلي بالناس حتى يأتينا كتابه.

فوقفوا عليه وكتب، فلم يلبث إلاّ يومين، حتى وثبوا عليه فقاتلوه بالزابوقة عند مدينة الرزق، فظهروا، وأخذوا عثمان فأرادوا قتله، ثم خشوا غضب الأنصار، فنالوه في شعره وجسده.

فقام طلحة والزبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة، توبة بحوبة، إنما أردنا أن يستعتب أمير المؤمنين عثمان ولم نرد قتله، فغلب سفهاء الناس الحلماء حتى قتلوه.

فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد، قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا!

فقال الزبير: فهل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثم ذكر قتل عثمان(رضي الله عنه) وما

 

 


أتى إليه، وأظهر عيب عليّ، فقام إليه رجل من عبدالقيس فقال: أيها الرجل، أنصت حتى نتكلم.

فقال عبدالله بن الزبير: ومالك وللكلام!

فقال العبدي: يا معشر المهاجرين، أنتم أول من أجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكان لكم بذلك فضل، ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بايعتم رجلا منكم، والله ما استأمرتمونا في شيء من ذلك، فرضينا واتبعناكم، فجعل الله عزّوجل للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات(رضي الله عنه)واستخلف عليكم رجلا منكم، فلم تشاورونا في ذلك، فرضينا وسلّمنا، فلما توفي الأمير جعل الأمر الى ستة نفر، فاخترتم عثمان وبايعتموه من غير مشورة منا، ثم أنكرتم من ذلك الرجل شيئاً فقتلتموه من غير مشورة منا، ثم بايعتم علياً من غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله! هل استأثر بفيء أو عمل بغير الحق، أو عمل شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه؟ وإلاّ فما هذا!

فهمّوا بقتل ذلك الرجل، فقام من دونه عشيرته، فلما كان الغد، وثبوا عليه وعلى من كان معه، فقتلوا سبعين رجلا!(1).

كما أخرج الطبري عن عمر بن شبة بسنده، قال:

لما كانت الليلة التي أخذ فيها عثمان بن حنيف، وفي رحبته مدينة الرزق طعام يرتزقه الناس، فأراد عبدالله أن يرزقه أصحابه، وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان، فقال: لستُ أخاف الله إن لم أنصره; فجاء في جماعة من عبدالقيس وبكر بن وائل، وأكثرهم عبدالقيس; فأتى ابن الزبير مدينة الرزق، فقال: مالك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تخلوا عثمان

____________

1- تاريخ الطبري 4: 469.

 

 


فيقيم في دار الامارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي، والله لو أجد أعواناً عليكم أخبطكم بهم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم من إخواننا، أما تخافون الله عزّوجل! بم تستحلّون سفك الدماء؟!

قال: بدم عثمان بن عفان!

قال: فالذين قتلتموهم قتلوا عثمان! أما تخافون مقت الله؟

فقال له عبدالله بن الزبير: لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلّي سبيل عثمان بن حنيف حتى يخلع علياً!

قال حكيم: اللهم إنك حكم عدل فاشهد، وقال لأصحابه: إني لست في شك من قتال هؤلاء، فمن كان في شك فلينصرف، وقاتلهم فاقتتلوا قتالا شديداً وضرب رجل ساق حكيم، فأخذ حكيم ساقه فرماه بها فأصاب عنقه فصرعه ووقذه، ثم حبا إليه فقتله واتكأ عليه، فمر به رجل فقال: من قتلك؟ قال: وسادتي، وقُتل سبعون رجلا من عبدالقيس..(1).

وروى أبو مخنف القصة بتفصيل أكثر، قال:

فلما أقبل طلحة والزبير من المربد، يريدان عثمان بن حنيف، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا الى موضع الدباغين; فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلوهم حتى أخرجوهم من جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا الى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مُسنّأة

____________

1- تاريخ الطبري 4: 474.

 

 


البصرة حتى انتهوا الى الزابوقة، ثم أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها.

قال: وأتاهما عبدالله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كتباها إليه، فقال لطلحة: يا أبا محمد، أما هذه كتبك إلينا؟ قال: بلى. قال: فكتبت أمس تدعونا الى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته، أتيتنا ثائراً بدمه! فلعمري ما هذا رأيك، لا تريد إلاّ هذه الدنيا، مهلا إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة فبايعته طائعاً راضياً، ثم نكثت بيعتك، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك! فقال: إن علياً دعاني الى بيعته بعدما بايع الناس، فعلمت لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي، ثم يغري بي من معه.

قال: ثم أصبحا من غد فصفّا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه، فناشدهما الله والاسلام، وأذكرهما بيعتهما علياً (عليه السلام)، فقالا: نطلب بدم عثمان! فقال لهما: وما أنتما وذاك، أين بنوه؟ أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم، كلا والله، ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له، وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما؟! فشتماه شتماً قبيحاً وذكرا اُمّه، فقال للزبير: أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله، فإنها أدنتك الى الظل، وأن الأمر بيني وبينك يابن الصعبة -يعني طلحة- أعظم من القول، لأعلمتكما من أمركما ما يسؤكما، اللهم إني قد أعذرت الى هذين الرجلين.

ثم حمل عليهم واقتتل الناس قتالا شديداً ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح، فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما: أن لعثمان

 

 


ابن حنيف دار الامارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة، ولا يضارّ بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الاُمة، وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذه على أنبيائه من عهد وذمة، وختم الكتاب، ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الامارة وقال لأصحابه: الحقوا رحمكم الله بأهلكم وضعوا سلاحكم وداووا جرحاكم.

فمكثوا كذلك أياماً، ثم إن طلحة والزبير قالا: إن قدم عليٌّ ونحن على هذه الحال من القلة والضعف، ليأخذن بأعناقنا.

فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب; فأرسلا الى وجوه الناس وأهل الرياسة والشرف يدعوانهم الى الطلب بدم عثمان وخلع علي وإخراج ابن حنيف من البصرة; فبايعهم على ذلك الأزد وضبّه وقيس بن عيلان كلها إلاّ الرجل والرجلين من القبيلة، كرهوا أمرهم فتواروا عنهم. وأرسلوا الى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم; فجاءه طلحة والزبير الى داره فتوارى عنهما، فقالت له اُمه: ما رأيت مثلك! أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما!

فلم تزل به حتى ظهر لهما وبايعهما ومعه بنو عمرو بن تميم كلهم وبنو حنظلة الاّ بني يربوع، فإن عامتهم كانوا شيعة لعلي (عليه السلام)، وبايعهم بنو دارم كلهم إلاّ نفراً من بني مجاشع ذوي دين وفضل.

فلما استوثق لطلحة والزبير أمرهما، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر، ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع، وظاهروا فوقها الثياب، فانتهوا

 

 


الى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، واُقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم، فأخّره أصحاب طلحة والزبير وقدّموا الزبير فجاءت السبايجة وهم الشّرط حرس بيت المال فأخرجوا الزبير وقدّموا عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير وأخرجوا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون يا أصحاب محمد وقد طلعت الشمس!

فغلب الزبير فصلى بالناس، فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلمين: أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفهما فلما أسر ضُرب ضرب الموت ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا السبايجة وهم سبعون رجلا فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف الى عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: اُخرج إليه فاضرب عنقه فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله. فنادى عثمان: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير! إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة واُقسم بالله إن قتلتموني ليضعنّ السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم، فلا يبقي أحداً منكم.

فكفوا عنه وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه. وأرسلت عائشة الى الزبير أن اقتل السبايجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك.

قال: فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم، وليَ ذلك منهم عبد الله ابنه، وهم سبعون رجلا، وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال، قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين; فسار اليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم،

 

 


وأخذ منهم خمسين أسيراً فقتلهم صبراً!

قال أبو مخنف: فحدثنا الصقعب بن زهير، قال:

كانت السبايجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل، قال: فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام، وكان السبايجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً.

قال: وخيّروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي، فاختار الرحيل، فخلّوا سبيله، فلحق بعلي (عليه السلام)، فلما رآه بكى وقال له: فارقتك شيخاً وجئتك أمرد، فقال علي: إنا لله وإنا إليه راجعون. قالها ثلاثاً...

قال: فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف، خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفاً لهم ومنابذاً; فخرجوا إليه، وحملوا عائشة على جمل، فسمي ذلك اليوم، يوم الجمل الأصغر، ويوم علي يوم الجمل الأكبر.

وتجالد الفريقان بالسيوف، فشدّ رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه، فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه، ثم دب إليه فقتله متكئاً عليه خانقاً له حتى زهقت نفسه، فمر بحكيم رجل وهو يجود بنفسه فقال: من فعل بك؟ قال: وسادي، فنظر فإذا الأزدي تحته، وكان حكيم شجاعاً مذكوراً.

قال: وقُتل مع حكيم إخوة له ثلاثة، وقُتل أصحابه كلهم، وهو ثلاثمائة من عبدالقيس، والقليل منهم من بكر بن وائل; فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنها، اختلفا في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليماً له ورضاً بتقدمه، فاصلحت بينهما عائشة بأن جعلت عبدالله ابن الزبير ومحمد

 

 


بن طلحة يصليان بالناس، هذا يوماً وهذا يوماً.

قال أبو مخنف: ثم دخلا بيت المال بالبصرة ; فلما رأوا ما فيه من الأموال، قال الزبير: (وَعدكمُ اللهُ مَغانمَ كثيرةً تأخُذونَها فَعجَّلَ لكُمْ هذِهِ). فنحن أحق بها من أهل البصرة، فأخذا ذلك المال كله، فلما غلب علي (عليه السلام)، ردّ تلك الأموال الى بيت المال، وقسمها بين المسلمين(1).

هذه بعض الروايات التي حكت واقعة الجمل الأصغر ومقدماتها كما جاءت عن أرباب التاريخ، وهي باختلاف طرقها تعضد بعضها بعضاً وتصدّق بعضها بعضاً، ولا يشذ عنها إلاّ الروايات التي جاءت عن طريق سيف بن عمر، والتي تتضمن متناقضات عجيبة، وتخالف كل الروايات التي جاءت عن الأئمة الثقاة، ولا يفوتنا أن نشير الى التزييف الذي ظل يرافق روايات سيف في كلامه عن الشخصيات التي لعبت دوراً في هذه الأحداث ممن يحسبون على اتباع علي بن أبي طالب; وقد أوردنا ما ذكره محب الدين الخطيب وسيف بن عمر عن حكيم بن جبلة، والتهم الشنيعة التي ألصقاها به، إمعاناً في تشويه صورته واستغفالا للمسلمين وصدّاً لهم عن الحقيقة، لذا ساُورد ترجمة حكيم بن جبلة -كما وعدت القارئ- باختصار، رداً على تلك الافتراءات، وحتى يعرف المسلم حقيقة الأمر، فلا يتحمل إثماً عن جهل بالتحامل على صلحاء الاُمة.

قال ابن الأثير في ترجمة حكيم بن جبلة:

أدرك النبي (صلى الله عليه وآله)... وكان رجلا صالحاً له دين، مطاعاً في قومه، وهو الذي بعثه عثمان على السند فنزلها...(2).

وقال ابن عبدالبر إضافة لما تقدم:

____________

1- شرح نهج البلاغة 9: 318، وانظر أنساب الاشراف 6: 26.

2- اُسد الغابة 1: 52.

 

 


وقد روي أنه لما غدر ابن الزبير بعثمان بن حنيف بعد الصلح الذي كان عقده عثمان بن حنيف مع طلحة والزبير، أتاه ابن الزبير ليلا في القصر، فقتل أربعين رجلا من الزط على باب القصر، وفتح بيت المال، وأخذ عثمان بن حنيف فصنع به ما قد ذكرتُ في غير هذا الموضع، وذلك قبل قدوم علي(رضي الله عنه)، فبلغ ما صنع ابن الزبير بعثمان بن حنيف حكيم بن جبلة، فخرج في سبعمائة من ربيعة فقاتلهم حتى أخرجهم من القصر، ثم كروا عليه فقاتلهم حتى قطعت رجله...(1).

فحكيم بن جبلة صحابي قطعاً، مع فضله وصلاحه، ولكن سيف بن عمر جعله لصاً من شذاذ الآفاق، وتابعه المؤلفون بغير بصيرة، فنالوا من حكيم بن جبلة وأساءوا إليه تبعاً لسيف بن عمر، ومن ثم تراهم يدّعون أن سيف هو المدافع عن الصحابة!

وقعة الجمل الأكبر

لا أجد حاجة لتذكير القارئ بأن الهدف من عرض هذه الأحداث- والذي قد يضطرني أحياناً الى الاطالة في سرد الروايات- إنما هو لأجل أن يتمكن القارئ من البحث في تاريخ الاسلام وفق منهجية واضحة مبتنية على دراسة مقارنة، من خلال مطابقة الروايات المتعددة المصادر، للكشف عن الزيف الذي وقع في هذا التاريخ، ورداً على مزاعم القائلين بأن بعض المؤرخين كانوا ينافحون عن الصحابة، مما يستلزم صدق رواياتهم وبالتالي ضرورة تبنّيها دون سواها من الروايات التي جاءت بما يوحي بذم بعض الصحابة، حتى لو كانت هذه الروايات قد جاءت عن المؤرخين الثقات الذين تقدمت تراجمهم

____________

1- الاستيعاب 1: 367.

 

فيما سبق، وكانت كل الدلائل تشير الى صحتها.

لقد تعرضت أحداث معركة الجمل الى أبشع صور التزييف والتحريف دون شك، ولكن الأمر الذي يحزّ في النفس حقاً، أن هذه الروايات المزيفة هي التي أصبحت الرواية الرسمية المعتمدة عند جمهور المؤلفين قديماً وحديثاً، حتى أن أحد المؤلفين المعاصرين، وهو أحمد راتب عرموش، جمع الروايات المزيفة كلها في كتاب صغير أسماه (معركة الجمل برواية سيف بن عمر) اعتمد فيها على المحاضرات التي القاها استاذه الدكتور يوسف العش، ووصف الرواية بأنها الرواية التي تتماشى مع العقل!

ويذكر اسم الطبري كأعظم مؤرخ، شاهداً على صحة هذه الروايات لأنه أوردها في سفره الكبير، ولكن هؤلاء المؤلفين يتناسون أن الطبري قد أورد روايات اُخرى مخالفة لرواية سيف تماماً، نقلاً عن المؤلفى الثقاة، ولكن معظم المؤلفين أعرضوا عنها وكأنها لم توجد في تاريخ الطبري الذي يمجّدونه ولاخطّها بيراعه، لذا فإنني استشهدت بتلك الروايات التي أوردها الطبري، والتي تؤيدها الروايات التي جاءت عن غيره من المؤرخين- شاهداً على صحتها- وإسقاطاً لحجج الذين يتخذون من الطبري جسراً لتمرير الروايات الساقطة وترسيخها في أذهان المسلمين تجاهلا للحقيقة وإعراضاً عن الحق، بدعاوى متهافتة لا تصمد أمام الحقائق التي سوف نظل نكشف النقاب عنها فيما يتبع من مباحث وفصول.

وبما أننا اتخذنا كتاب العواصم من القواصم لمؤلفه ابن العربي المالكي شاهداً ومثالا على هذا التهافت الذي وقع فيه المؤلفون القدامى، واحتذى حذوهم المعاصرون، فإنني أجد نفسي مضطراً للاستشهاد أولا بأقوال ابن

 

 


العربي - من القدماء- وتابعه محب الدين الخطيب - من المعاصرين- وارجاعها الى مصدرها الأصلي، ومن ثم مقارنتها مع الروايات الاُخرى، مروراً - في بعض الأحيان- بآراء مؤلفين آخرين ممن يؤيدون وجهة النظر المحافظة التي تبناها ابن العربي شاهداً على ما نقول.

لقد انتهت معركة الجمل الأصغر بما جرّته من فواجع أليمة استبيحت فيها الأرواح البريئة، وانتهبت فيها الأموال المحرّمة، وجُعلت الاُمور في غير نصابها، خلافاً للشرعية التي تقتضيها قوانين الاسلام.

ولو أن الأمر اقتصر على ذلك، ثم ثاب المبطلون الى رشدهم وقرروا التوقف عن هذه اللعبة الخطرة، وأصلحوا ذات البين، لهان الأمر، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، من إصرار أصحاب الجمل على الاستمرار في السير على هذا الطريق الشائك، وما جرّه بعد ذلك من ويلات فاقت ما حدث في معركة الجمل الأصغر أضعافاً مضاعفة، إلاّ أن مما يبعث على الاستغراب، أن المؤلفين الذين دونوا هذه الحوادث، يصرّون على عكس الاُمور التي وقعت، ويحاولون إلقاء التبعة فيما حدث بعد ذلك على جهات اُخرى، ظناً منهم أن ذلك يبرئ أصحاب الجمل من ارتكاب تلك الطامات، وتبعاً لذلك وقع الكثير من المؤلفين في جملة من المتناقضات التي لا يجد المرء لها مخرجاً، مما يفضح التلاعب الذي وقع في نقل هذه الأخبار، وسوف أبداً أولا بذكر ما أورده ابن العربي ملخصاً -كعادته- مستخدماً العبارات المنمّقة، حيث قال:

وقدم عليٌّ البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا باراقة الدماء، واشتجر الحرب، وكثرت الغوغاء على البوغاء، كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا تقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان، وإن واحداً

 

 


في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف! وقد روي أن مروان لما وقعت عينه في الاصطفاف على طلحة قال: لا أطلب أثراً بعد عين، ورماه بسهم فقتل..

وقد خرج كعب بن سور بمصحف منشور بيده يناشد الناس أن لا يريقوا دماءهم، فأصابه سهم غرب فقتله، ولعل طلحة مثله!(1).

ومعلوم أنه عند الفتنة، وفي ملحمة القتال يتمكن اُولو الإحن والحقود من حلّ العرى ونقض العهود، وكانت آجالا حضرت، ومواعيد انتجزت...(2).

هكذا يموّه ابن العربي على القارئ الأحداث، فيقتطع عبارات قصيرة، ويصفّها مع بعضها، معتقداً بأنه قد أعطى الأحداث بعدها الكامل، فلا شيء يدعو الى التفكير والبحث، كل ما هنالك أن بعض أصحاب الأهواء أنشبوا الحرب بين الفريقين اللذين كانا يبغيان الصلح، ووقع ما وقع، هذا كل ما في الأمر!

لكن محب الدين الخطيب استطرد على قول ابن العربي ما ظنّه يزيل هذا الغموض، فقال معلقاً:

" كان ذلك يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 "... وكان الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي قد قام بين الفريقين بالوساطة الحكيمة المعقولة; فاستجاب له أصحاب الجمل، وأذعن علي لذلك، وبعث علي الى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو، فكفّوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر، فأرسلا إليه: إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس. قال الحافظ بن كثير: فاطمأنت النفوس وسكنت، واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين، فلما أمسوا بعث علي

____________

1- سبق وأن ناقشنا قول ابن العربي هذا وأثبتنا عدم صحته (المؤلف).

2- العواصم من القواصم: 159.

 

 


عبدالله بن عباس إليهم، وبعثوا محمد بن طلحة السجّاد الى علي، وعوّلوا جميعاً على الصلح، وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على انشاب الحرب في السر، واستسرّوا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم، انسلوا الى ذلك الأمر انسلالا، (وانظر مع ذلك الموضع من تاريخ ابن كثير، تاريخ الطبري 5: 202 - 203، ومنهاج السنة 2: 185، و 3: 225 و 241)، وهكذا انشبوا الحرب بين علي وأخويه طلحة والزبير، فظن أصحاب الجمل أن علياً غدر بهم، وظن علي أن اخوانه غدروا به، وكل منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في الجاهلية فكيف بعد أن بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن"(1).

تناقض الرواية وتهافت المؤلفين

لقد استشسهد الخطيب بابني كثير وتيمية، وهما مع ابن العربي من أكثر المؤلفين الذين اعتمدوا على روايات الطبري بطريق سيف بن عمر حول الأحداث المهمة في تاريخ المسلمين، وعملوا على ترويجها، ولا أظن أن ذلك كان عن جهل منهم بعدم صحة هذه الروايات، ولكن هناك أهدافاً بعيدة المدى - سنكشف النقاب عنها فيما بعد- من وراء تمسك اُولئك المؤلفين ومن بعدهم معظم المؤلفين المعاصرين بهذه الروايات. فإن أدوات البحث العلمي لم تكن تنقص أحدهم للتوصل الى الحقائق، والكفيلة بكشف نواحي الخلل والتناقض في روايات سيف، والأراجيف المكشوفة التي يروّجها بين المسلمين، والتي ذهب ضحيتها - بسبب المؤلفين- جمهور المسلمين من

____________

1- العواصم من القواصم: هامش 226.

 

 


غير الباحثين، والذين اعتمدوا على هؤلاء المؤلفين ثقة بهم.

لقد أورد الطبري الرواية التي يروّج لها الخطيب والمؤلفون الذين نقل عنهم بشكل مفصّل، ونظراً لطولها، ومخافة إملال القارئ، فسوف أقتطع الأجزاء المهمة منها، بهدف الكشف عن المتناقضات التي فيها، مع الاشارة الى تعليقات بعض المؤلفين عليها، والتي تظهر مدى تهافت أصحاب هذه النظرية السطحية.

قال الطبري نقلا عن سيف باسناده المعروف:

" لما جاءت وفود أهل البصرة الى الكوفة، ورجع القعقاع من عند اُم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم، جمع علي الناس، ثم قام على الغرائر; فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله)، وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة وانعام الله على الاُمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم الذي يليه، ثم حدث هذا الحدث الذي جرّه على هذه الاُمة أقوام طلبوا الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة. وأرادوا ردّ الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره ومصيب ما أراد، ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا لا يرتحلن غداً أحد أعان على عثمان(رضي الله عنه) بشيء في شيء من اُمور الناس، وليغن السفهاء عني أنفسهم.

فاجتمع نفر منهم: علياء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر، في عدّة ممن سار الى عثمان ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون: ابن السوداء، وخالد بن ملجم...الخ.

من المتناقضات العجيبة في هذا الجزء من الرواية، هي جرأة علي بن أبي طالب في ردّ المتآمرين على عثمان وطلبه عدم التحاقهم به! مع العلم أن روايات سيف ومن تابعه عليها، تذكر عجز علي بن أبي طالب أمام هؤلاء

 

 


المتآمرين، ولا ندري لماذا انتظر علي كل هذه المدة، وسمح لهم بمرافقته من المدينة الى البصرة، ولم يصرفهم عنه كل هذه المدة. كما لم يخبرنا سيف عن الذي منع اولئك المتآمرين عن الامتثال لأمر علي بالرجوع، وظلوا يرافقونه حتى انشبوا المعركة، وهل تركهم علي اعتماداً على صحوة ضمائرهم في الامتثال لأمره -وهو أمر غير معقول- أم أنه كان يجهل أشخاصهم، فيصبح طلبه ذلك بلا معنى!

ومن الطريف أن ابن كثير نقل هذا الجزء من الرواية، وبعد أن عدد أسماء المتآمرين كما وردت في رواية سيف، قال: "وليس فيهم صحابي والحمدلله"(1).

ولا أدري هل نسي ابن كثير أن عدي بن حاتم هو أحد الصحابة أم لا، أم أنه عرف وتغافل إيهاماً للقارئ ليس إلاّ!(2).

ويستكمل الطبري الرواية عن سيف بقوله:

"... فخرج طلحة والزبير، فنزلا بالناس من الزابوقة في موضع قرية الرزق، فنزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت اليمن جميعاً أسفل منهم وهم لا

____________

1- البداية والنهاية 7:

2- عدي بن حاتم الطائي: مهاجري يكنى أبا طريف، قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) في شعبان من سنة سبع... قال الواقدي: قدم عدي بن حاتم على النبي (صلى الله عليه وآله) في شعبان سنة عشر، وخبره في قدومه على النبي (صلى الله عليه وآله) عجيب في حديث صحيح من رواية قتادة عن ابن سيرين، ثم قدم على أبي بكر الصديق بصدقات قومه في حين الردة، ومنع قومه في طائفة معهم من الردة بثبوته على الاسلام وحسن رأيه، وكان سيداً شريفاً في قومه، خطيباً حاضر الجواب، فاضلا كريماً، روي عن عدي بن حاتم قال: ما دخل وقت صلاة إلاّ وأنا اشتاق إليها. وعن عدي بن حاتم قال: ما دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) قط إلاّ وسع لي أو تحرك لي، وقد دخلت عليه يوماً في بيته وقد امتلأ من أصحابه فوسّع لي حتى جلست الى جنبه.

نزل عدي الكوفة وسكنها، وشهد مع علي(رض) الجمل، وفقئت عينه يومئذ، ثم شهد أيضاً مع علي صفين والنهروان، ومات بالكوفة سنة سبع وستين في أيام المختار. الاستيعاب 3: 168 برقم 1800، اسد الغابة 4: 10 برقم 3604، الطبقات الكبرى 6: 99 رقم 1851، الاصابة 4: 388 رقم 54191، تهذيب التهذيب 7: 147 رقم 4703 أسماء الصحابة الرواة لابن حزم: 71 رقم 49.

 

 


يشكون في الصلح، وعائشة في الحدّان، والناس في الزابوقة على رؤسائهم هؤلاء، وهم ثلاثون ألفاً، وردوا حكيماً ومالكاً الى علي: بأنّا على ما فارقنا عليه القعقاع، فأقدم; فخرجا حتى قدما عليه بذلك.

فارتحل حتى نزل عليهم بحيالهم، فنزلت القبائل الى قبائلهم، مضر الى مضر، وربيعة الى ربيعة، واليمن الى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج الى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلاّ الصلح...

وبعث علي من العشي عبدالله بن عباس الى طلحة والزبير، وبعثاهما من العشي محمد بن طلحة الى علي، وأن يكلم كل واحد منهما أصحابه، فقالوا: نعم، فلما أمسوا، وذلك في جمادى الآخرة، أرسل طلحة والزبير الى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي الى رؤساء أصحابه، ما خلا اولئك الذين حضّوا عثمان، فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثله للعافية من الذي أشرفوا عليه... الخ(1).

ويلاحظ على هذا الجزء من الرواية من المتناقضات الكثيرة التي تشي بكذبها، أن المتآمرين المشتركين في أمر عثمان قد ظلوا يرافقون علياً رغم أمره لهم بالانصراف، ولا أدري كيف يجازف علي هذه المجازفة، فيغضي عن مصاحبتهم، وهو الذي لابد وأن يكون قد تخوّف من غائلتهم، لذا أمرهم بالانصراف، ولكنه لم يتخذ التدابير اللازمة لدفع شرهم بعد أن رافقوه.

والأمر الآخر، أننا نجد طلحة والزبير يبادران الى المصالحة دون أية إشارة الى قتلة عثمان الذين كانوا يرافقون علي بن أبي طالب! وهم ما خرجوا- حسب ادعائهم- إلاّ للاقتصاص من قتلة عثمان، وها هم قتلة عثمان أمام

____________

1- تاريخ الطبري 4: 493 باختصار.

 

 


أعينهم ولا يطالبون برؤوسهم، ولا يشترطون على علي في معاهدة الصلح المزعومة الاقتصاص منهم!

وإذا كانت هذه النيّات الحسنة موجودة عند الطرفين منذ البداية، فلماذا خرج أصحاب الجمل إذاً؟ ولماذا لاحقهم علي بجيشه الى البصرة! ولماذا كل هذه التدابير والاستعدادات العسكرية! ولماذا لم يأمر الطرفان جيشيهما بالانسحاب وبقيا متواجهين ليتركا لقتلة عثمان الفرصة في انشاب المعركة، ولماذا لم تكتب بنود المصالحة التي تمت بين الفريقين، ثم يتلوه الانسحاب الفوري من ساحة المعركة تفويتاً لأصحاب الأغراض الدنيئة; بدلا من البقاء متواجهين تحت السلاح!

أسئلة كثيرة تثيرها روايات سيف، لتلقي ضلالا قاتمة على الأحداث، ولا أعتقد أن الذين يؤيدون هذه الروايات ويروجونها، يستطيعون أن يجدوا جواباً شافياً لأي سؤال من كل تلك الاسئلة.

المعركة على حقيقتها

مرّ بنا فيما مضى الرواية المنقولة عن سيف، من أن عائشة قد بعثت بكعب بن سور يحمل القرآن ويناشد الناس ايقاف الاقتتال، وفي الرواية ما يوحي بأن أصحاب علي هم الذين انشبوا القتال. إلاّ أن الروايات التي جاءت عن المؤرخين الثقاة -والتي يعضد بعضها بعضاً- تنفي كل ذلك وتثبت عكسه.

وقد أخرج الطبري عن أحداث معركة الجمل، روايتين مخالفتين للرواية التي ذكرها بطريق سيف، وكأنه أراد أن يجعل من القارئ حكماً على الأحداث، وهو يلفت الانتباه من طرف خفي الى الاختلاف في الروايات، فقال: وأما غير سيف، فإنه ذكر من خبر هذه الوقعة وأمر الزبير وانصرافه عن

 

 


الموقف الذي كان فيه ذلك اليوم، غير الذي ذكر سيف عن صاحبيه.

ثم يورد الطبري رواية عن أحمد بن زهير بسنده الى الزهري، حيث يقول: وبلغ الخبر علياً -يعني خبر السبعين الذين قُتلوا مع العبدي بالبصرة- فأقبل -يعني علياً- في اثني عشر ألفاً، فقدم البصرة وجعل يقول:

 

يا لهف نفسي على ربيعة

ربيعة السامعة المطيعة

سنتها كانت بها الوقيعة

 

فلما تواقفوا خرج علي على فرسه، فدعا الزبير فتواقفا، فقال علي للزبير: ما جاء بك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلا، ولا أولى به منّا! فقال علي: لستُ أهلا له بعد عثمان، قد كنّا نعدّك من بني عبدالمطلب، حتى بلغ ابنك ابن السوء، ففرّق بيننا وبينك; وعظّم عليه أشياء، فذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) مرّ عليهما فقال لعلي: "ما يقول ابن عمتك؟ ليقاتلنك وهو لك ظالم".

فانصرف عنه الزبير وقال: إني لا اُقاتلك.

فرجع الى ابنه عبدالله فقال: ما لي في هذه الحرب بصيرة، فقال له ابنه: إنك قد خرجت على بصيرة، ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب، وعرفت أن تحتها الموت فجبنت. فأحفظه حتى أرعد وغضب، وقال: ويحك إني قد حلفت له لا اُقاتله.

فقال له ابنه: كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس.

فاعتقه وقام في الصف معهم، وكان علي قال للزبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته! سلّط الله على أشدّنا عليه اليوم ما يكره.

وقال علي: يا طلحة، جئت بعرس رسول الله (صلى الله عليه وآله) تقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت! أما بايعتني! قال: بايعتك وعلى عنقي اللّج. فقال علي لأصحابه: أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الاُخرى، وإن قطعت أخذه بأسنانه؟

 

 


قال فتىً شاب: أنا.

فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله الاّ ذلك الفتى.

فقال له علي: أعرض عليهم هذا وقل: هو بيننا وبينكم من أوله الى آخره، والله في دمائنا ودمائكم; فحُمل على الفتى وفي يده المصحف فقطعت يداه; فأخذه بأسنانه حتى قُتل.

فقال علي: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم، فقُتل يومئذ سبعون رجلا كلهم يأخذ بخطام الجمل. فلما عُقر الجمل وهُزم الناس، أصابت طلحة رمية فقتلته، فيزعمون أن مروان بن الحكم رماه، وقد كان ابن الزبير أخذ بخطام جمل عائشة، فقالت: من هذا؟ فأخبرها، قالت: واثكل أسماء! فجرح فالقى نفسه في الجرحى، فاستُخرج فبرأ من جراحته، واحتمل محمد بن أبي بكر عائشة، فضرب عليها فسطاط، فوقف علي عليها فقال: استفززت الناس وقد فزّوا، فألّبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً، في كلام كثير، فقالت عائشة: ياابن أبي طالب، ملكت فاسجح، نعم ما أبليت قومك اليوم. فسرّحها علي...(1).

وهذه الرواية تتفق مع رواية اُخرى أخرجها الطبري عن عمرو بن شبة بسنده قال: أخذ علي مصحفاً يوم الجمل، فطاف به في أصحابه وقال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم الى ما فيه، وهو مقتول؟

فقام إليه فتىً من أهل الكوفة عليه قباء أبيض محشو، فقال: أنا.

فأعرض عنه... (ثلاث مرات) فدفعه إليه، فدعاهم فقطعوا يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى، فدعاهم، فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه، فقُتل(رضي الله عنه)، فقال علي: الآن حلّ قتالهم.

فقالت اُم الفتى:

____________

1- تاريخ الطبري 4: 508، أنساب الأشراف 3: 51.

 

 


 

لاهمَّ إنّ مسلماً دعاهُمُ

يتلو كتاب الله لا يخشاهُم

واُمّهم قائمة تراهُم

يأتمرون الفيَّ لا تنهاهُم

قد خُضبت من علق لحاهُم(1)

 

هذه هي حقيقة الأحداث من بدء خروج المتحالفين وحتى انتهاء معركة الجمل، وقد تبين للقارئ مدى التزييف الذي تعرضت له الأحداث بسبب اعتماد معظم المؤلفين قديماً وحديثاً على ما ورد عن الطبري برواية سيف ابن عمر، وبانتهاء أحداث معركة الجمل، انقطعت سلسلة روايات سيف عند الطبري، بعد أن أورد له مئات الروايات في أخبار تلك الفترة المهمة من تاريخ صدر الإسلام.

وقد لاحظنا أن أصحاب الجمل كانوا هم المصرّين على القتال، سواء في الأحداث التي وقعت قبل مجيء علي بن أبي طالب، ونقضهم العهد مع عثمان ابن حنيف، أو في إصرارهم على الحرب بعد مجيء علي ودعوته إياهم الى كتاب الله، وبعد أن التقى بطلحة والزبير ووبخهما ووعظهما، ولكن دون جدوى.

نكث البيعة

بقي هناك أمر مهم لعل القارئ قد ظل متحيّراً فيه، وهو موقف هؤلاء الصحابة. والذي بدا واضحاً من الدراسة المقارنة التي قمنا بها، أنهم لم يخرجوا بدافع الاصلاح بين الناس -كما ادعى بعض المؤلفين- بل إن كل الدلائل تشير الى أن أصحاب الجمل قد نكثوا بيعتهم ونقضوا العهود والمواثيق لأهداف ودوافع باتت واضحة للقارئ، إلاّ أن الأمر الذي قد يبدو محيراً للبعض، هو

____________

1- المصدر السابق.

 

 


كيف يفعل اولئك ذلك رغم الصحبة والسابقة والجهاد والفضل!

عند استعراض بعض الحوادث التي وقعت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنها قد تلقي بعض الأضواء على حقيقة نفسيات اولئك الصحابة، فالزبير قد سمع قول النبي (صلى الله عليه وآله) وتحذيره إياه من مقاتلة علي، ورغم ذلك فقد أخذته الحمية بكلمة عيّره بها ابنه عبدالله، فعاد الى الصف; ولا شك أن الزبير قد فرّ من المعركة بعدما تحقق من الهزيمة، ثم لحقه ابن جرموز فقتله، ولا عبرة للروايات التي تدّعي بأن الزبير انسحب من المعركة قبل نشوب القتال، لأن قول النبي (صلى الله عليه وآله) له: "لتقاتلنه وأنت له ظالم" يؤكد بأن الزبير سيباشر القتال وهو يعلم أنه ظالم، كما وأن انسحابه قبل المعركة لو صح لما نفعه ذلك أيضاً ولا برّأه من الجريمة، لأنه كان ينبغي عليه أن يتبع الحق بعد ما عرفه لا أن يترك المسلمين يذبح بعضهم بعضاً وينصرف، بل كان عليه أن يعلن توبته وندمه على الملأ، ويقف على صف جيش أصحاب الجمل فيخبرهم بما عرف من الحق ويدعوهم الى التخلي عن مواقعهم واجتناب الفتنة، فإن استجابوا له فبها ونعمت، وإن لم يستجيبوا فإن الواجب كان يفترض عليه أن ينضم الى معسكر الحق وينصر إمامه على الخارجين عليه، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.

وما حدث بالنسبة للزبير يقال مثله في طلحة أيضاً، فقد قُتل هو الآخر في المعركة بعد أن نكث البيعة وخرج على إمامه، رغم أن هذين الصحابيين قد سمعا النبي (صلى الله عليه وآله) يهتف في أكثر من مناسبة محذراً من نكث البيعة أو تفريق كلمة المسلمين ونزع اليد من الطاعة، كما وردت بذلك الأحاديث المتكاثرة التي خرّجها المحدثون، فمنها:

عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتةً جاهلية".

وعن ابن عباس يرويه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من رأى من أميره شيئاً

 

 


يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتة جاهلية".

وعن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو الى عصبية، فقُتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على اُمتي يضرب برّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه"(1).

وعن اُسامة بن شريك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من فرّق بين اُمتي وهم جميع، فاضربوا رأسه كائناً من كان"(2).

وعن زياد بن علاقة، أنه سمع عرفجة، سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: "إنها ستكون هناة وهناة، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الاُمة وهم جميع، فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان"(3).

وقد أثبتنا فيما سبق أن الأوصاف المذكورة في الأحاديث النبوية الشريفة المتقدمة تنطبق تماماً على المتحالفين الذين أشعلوا نار حرب ذهب ضحيتها اُلوف المسلمين من الطرفين، من بينهم عدد من الصحابة، وفي مقدمتهم طلحة والزبير نفسيهما.

سوابق أصحاب الجمل

قلنا إن القارئ قد يستغرب صدور مثل هذه الاُمور عن اُولئك الصحابة، رغم السابقة والفضل، إلاّ أن استطلاع أحوال بعض الصحابة كفيل بأن يكشف سر ذلك، فطلحة بن عبيدالله قد آذى النبي (صلى الله عليه وآله) بمقولة شنيعة، حتى نزلت في

____________

1- صحيح مسلم 3: 1476 كتاب الامارة، باب وجوب ملازمة الجماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة.

2- سنن النسائي 2: 166، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 512 وصححه الألباني.

3- صحيح مسلم 3: 1479، مسند الطيالسي: 1224، سنن النسائي 2: 166، مسند أحمد 5: 23، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 512 وصححه الالباني.

 

 


حقه آية فيها من التوبيخ والتقريع ما فيها.

فقد أخرج جمع من المفسرين والمحدّثين، أن قوله تعالى (وَما كانَ لكُمْ أَنْ تُؤذُوا رَسولَ اللهِ وَلا أن تَنكِحوا أزواجهُ مِنْ بَعدهِ أبداً إنَّ ذلكُم كانَ عندَ اللهِ عظيماً)(1). قد نزل في طلحة.

قال السيوطي: أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي(رضي الله عنه) قال: بلغنا أن طلحة بن عبيدالله قال: أيحجبنامحمد عن بنات عمّنا ويتزوج نساءنا من بعدنا! لئن حدث به حدث لنتزوجنّ نساءه من بعده!

وأخرج عبدالرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة(رضي الله عنه) قال: قال طلحة بن عبيدالله: لو قُبض النبي (صلى الله عليه وآله)، تزوجت عائشة(رض).

وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، في قوله (وَما كانَ لكُم أن تؤذوا رسولَ اللهِ...)، قال: نزلت في طلحة بن عبيدالله، لأنه قال: إذا توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوجت عائشة(2).

وروى الشعبي قصة المحاججة بين علي بن أبي طالب وبقية المرشحين للخلافة من الذين اختارهم عمر بن الخطاب لذلك، فكان مما قاله علي: وأما أنت يا طلحة فقلت: إن مات محمد، لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا...!(3).

أما الزبير، فقد صدقت فيه فراسة عمر بن الخطاب، فعن قيس بن أبي حازم قال: جاء الزبير الى عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) يستأذنه في الغزو، فقال عمر: اجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: فردد ذلك عليه، فقال عمر في الثالثة أو التي تليها: اقعد في بيتك فوالله إني لأجد بطرف المدينة منك ومن

____________

1- الاحزاب: 53.

2- الدر المنثور 6: 643.

3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 49.

 

 


أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله)!(1).

أما اُم المؤمنين عائشة، فمع تيّقنها من أنها هي المعنية من تحذير النبي (صلى الله عليه وآله) في قصة كلاب الحوأب، إلاّ أنها تغافلت عن ذلك التحذير، وصمّت اُذنيها عن النصائح التي بذلت لها شفاهاً أو من خلال الكتب التي أجاب بها بعض خيار الصحابة على خطاباتها المحرّضة للحرب وركبت رأسها وخرجت إلى البصرة هاتكة ستر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى قُتل عند خطام جملها اُلوف المسلمين وهي تحرضهم على القتال، وقد مرّ فيما سبق أنها أمرت بقتل السيابجة الذين اُسروا، بل وأمرت بقتل عثمان بن حنيف، متهمة الأنصار بأنهم قتلوا عثمان أو تواطأوا على قتله، ولاُم المؤمنين عائشة سوابق كثيرة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنها وصاحبتها حفصة قد تظاهرتا على النبي (صلى الله عليه وآله) إيذاءً شديداً، حتى نزلت بحقهما سورة كاملة في القرآن الكريم، فيها ما فيها من آيات التهديد والوعيد لهما، والانذار بالمصير الأسود الذي انتهت اليه زوجتا نبيين سابقين، هما نوح ولوط (عليهما السلام)، ولم يشفع لهما أنهما كانتا زوجتي نبيين كريمين، فقال عزّ من قائل: (ضَربَ اللهُ مثلا للذينَ كَفروا امرأةَ نوح وامرأة لوط كانتا تحتَ عَبدينِ مِنْ عِبادِنا صالحين فخانتاهما فلمْ يُغنيا عَنهما منَ اللهِ شيئاً وَقيلَ ادخُلا النارَ معَ الدّاخلينَ)(2).

إخبار النبي عن الصحابة

لا شك أن التنازع على الدنيا كان دافعاً لبعض الصحابة على الخروج عن الجادة والتقحّم في الفتن، ولقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بكل ذلك، والتي هي حقاً من دلائل نبوته ومعاجزه الكبرى، لذا فإنه ما ترك أمراً ملتبساً يمكن أن يكون

____________

1- المستدرك على الصحيحين 3: 120 كتاب معرفة الصحابة، وصححه ووافقه الذهبي.

2- التحريم: 10.

 

 


محل نزاع وخلاف بين المسلمين الاّ وأوضحه، وأشار الى الفتن المقبلة، ودلَّ اُمته على مواطن الحق، وأرشدهم الى علامات مضيئة لتكون معالم لهم يميزون بها المحق من المبطل، ليقطع الحجة على المخالفين لأمره.

فعن اُسامة: أن النبي (صلى الله عليه وآله) أشرف على أطم من آطام المدينة، ثم قال: "هل ترون ما أرى! إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر"(1).

وعندما ألمّ بالنبي (صلى الله عليه وآله) المرض، خرج الى البقيع وسلّم على أموات المسلمين، ثم قال: "ليهنئكم ما أصبحتم فيه، قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم"(2).

فالنبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر بأن الفتن سوف تبدأ بعد وفاته، وحذّر أصحابه منها في العديد من المناسبات، أخرج المحدّثون بصددها عدداً من الأحاديث في كتبهم.

ففي الصحيحين -واللفظ لمسلم- عن عقبة بن عامر، قال: صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتلى اُحد، ثم صعد المنبر كالمودّع للأحياء والأموات، فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة الى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم!"(3).

وعندما أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) أبا عبيدة الى البحرين ليأتي بجزيتها، فسمعت الأنصار بقدومه فوافته صلاة الصبح مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما انصرف تعرّضوا له، فتبسّم حين رآهم، وقال (صلى الله عليه وآله): "أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء".

____________

1- صحيح البخاري 2: 27 باب آطام المدينة، صحيح مسلم، كتاب الفتن واشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، مسند الحميدي 1: 248 و 8: 594، مسند أبي يعلى 2: 95، دلائل النبوة لإسماعيل الاصبهاني: 163، الجامع الصغير للسيوطي 2: 712، كنز العمال 11: 128، 280، فيض القدير للمناوي 6: 458.

2- تاريخ الطبري 3: 188، الكامل لابن الاثير 2: 318.

3- صحيح مسلم 4: 1796، صحيح البخاري 8: 112، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.

 

 


قالوا: أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم"(1).

بل إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد حذّر أصحابه في أكثر من مناسبة، بأن الكثيرين منهم سوف يرتدون على أعقابهم ويحدثون أحداثاً يستوجبون عليها دخول النار! فعن أبي وائل، قال: قال عبيدالله: قال النبي (صلى الله عليه وآله): "أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم، حتى إذا أهويت لأنالهم; اختلجوا دوني، فأقول: أي ربّ، أصحابي! يقول: لا تدري ما أحدثو بعدك!"(2).

وعن أبي حازم، قال:سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: "أنا فرطكم على الحوض، من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم"(3).

وعن عبدالله(رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!"(4).

وعن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيحلؤن عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى!"(5).

وعن ابن المسيّب، أنه كان يحدّث عن أصحاب النبي، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "يرد على الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه، فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك

____________

1- صحيح البخاري 8: 112.

2- صحيح البخاري 9: 58 كتاب الفتن.

3- صحيح البخاري 9: 58.

4- المصدر السابق 9: 148 باب في الحوض.

5- صحيح البخاري 8: 150.

 

 


لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري!"(1).

وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: "بينا أنا قائم، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم! فقلت: أين؟ قال: الى النار والله! قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج من بيني وبينهم فقال: هلم. قلت: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النَّعَم!"(2).

وعن عبدالله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعنّ أقواماً ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!"(3).

وعن اُم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما كان يوماً من ذلك، والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "أيها الناس"، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء! فقلت: إني من الناس; فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إني فرطكم على الحوض، فإيّاي، لا يأتين أحدكم فيُذب عني كما يُذب البعير الضّال، فأقول: فيم هذا؟! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً"(4).

وعن أنس بن مالك، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني،حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي; اختلجوا دوني، فلأقولن: أي ربّ، اُصيحابي اُصيحابي، فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!"(5).

____________

1- المصدر السابق.

2- المصدر السابق.

3- صحيح مسلم 4: 179.

4- صحيح مسلم 4: 179.

5- المصدر السابق.

وعن أبي هريرة قال -يحدّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - "والذي نفس محمد بيده، لأذودن رجالا منكم عن حوضي كما تذاد الغريبة من الابل عن الحوض، ألا ليذادن رجال منكم عن حوضي كما يذاد البعير الضّال، اُناديهم: ألا هلم; فيقال لي: إنهم بدّلوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً"(1).

وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: "ليذادن من أصحابي عن الحوض كما تذاد الغريبة من الابل!"(2).

وعن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول على هذا المنبر: "ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تنفع قومه! بلى والله، إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط لكم على الحوض، فإذا جئتم، قال رجل: يا رسول الله، أنا فلان بن فلان، وقال أخوه: أنا فلان بن فلان، قال لهم: أما النسب فقد عرفته، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى"(3).

وعن أبي بكرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "ليردن علي رجال ممن صحبني ورآني، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم، اختلجوا دوني، فلأقولن: رب أصحابي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"(4).

وعن اُم سلمة قالت: قال النبي (صلى الله عليه وآله): "من أصحابي من لا أراه ولا يراني بعد أن أموت أبداً..."(5).

وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ليردن علي الحوض رجلان ممن صحبني، فإذا رأيتهما اختلجا دوني"(6).

____________

1- مسند أحمد 2: 298، 300.

2- المصدر السابق 2: 454.

3- المصدر السابق 3: 18.

4- المصدر السابق 5: 48.

5- مسند أحمد 6: 298.

6- المصدر السابق 4: 20.

 

 


وفي مسند أحمد روايات اُخرى كثيرة بهذا الشأن(1).

إن هذه الروايات المتكاثرة الطرق، ما كانت إلاّ ناقوس الخطر، أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يحذّر أصحابه من التلبّس في الفتن المقبلة عليهم، ويذكرهم بأن صحبتهم له لا تكفي لنجاتهم من النار إذا ما أحدثوا بعده أو انقلبوا على أعقابهم.

ادعاءات فارغة

حول موضوع ارتداد الصحابة وانقلابهم على الأعقاب، كتب محمود مهدي الاستانبولي: ومما يحتج به الرافضة على ارتداد الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديث ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله): "إن اُناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال" أي الى جهنم.

فأقول: اُصيحابي اُصيحابي، على صيغة القلة والتصغير، لقلة عددهم، فيقول-أي الله سبحانه- "إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح -أي عيسى (عليه السلام) معتذراً- وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم -الى قوله: العزيز الحكيم-" متفق عليه.

قال في أشعة اللمعات في الرد على الرافضة: قالوا إنه لم يرتد أحد منهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ قوم من جفاة العرب من أصحاب مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، أو بعض مؤلفة القلوب الذين لم تكن لهم بصيرة ولا قوة في الإيمان...

ولما كان كل من رأى النبي (صلى الله عليه وآله) لحظة يطلق عليه لفظ صاحب، كان هذا

____________

1- انظر مسند احمد 1: 384، 406، 425، 439، 453، 5: 332، 339.

 

 


الحديث بحق من لم يرسخ الإسلام في نفسه، وهو بحق هؤلاء الأصحاب...

ومن أغراض الرافضة التي يقصدونها من وراء ادعاء ارتداد الصحابة; العمل على فقدان الثقة في الأجيال الإسلامية بسلفّيهم، وحرمانهم الاقتداء بالجيل المثالي الأول الذي تربى في مدرسة محمد (صلى الله عليه وآله)، فيصبحون هملا لا تاريخ عظيم لهم، ولا قدوة صالحة، وتضليل الناشئة مئات السنين... مما رأينا في هذا الكتاب نماذج من أكاذيبهم وأضاليلهم، وكيف ردّ عليها القاضي ابن العربي، ومحب الدين الخطيب...!(1).

لا أجد حاجة للتعليق على قيمة معلومات القاضي ابن العربي ومحب الدين الخطيب بعد أن تبين للقارئ مصدر هذه المعلومات، ولكنني أود مناقشة ادعاءات الاستانبولي في هذه القضية، وكيف يلجأ الى تزييف الحقائق، وكيف أن أصحاب هذا الاتجاه يوقعون أنفسهم في تناقضات عجيبة لا يعرفون لها مخرجاً إلاّ بالاستمرار في تضليل المسلمين.

لقد فات الاستانبولي أن القاضي ابن العربي قد استشهد في بداية كتابه، وفي اُولى قواصمه، بقول أنس بن مالك الصحابي: ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى أنكرنا قلوبنا!(2).

والذي يشكل اعترافاً صريحاً ومقصوداً من الصحابي أنس بن مالك، وغير مقصود من القاضي ابن العربي، بأن قلوب كثير من الصحابة قد تغيّرت بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) -وكما أخبر الباري عزوجل فيما سيأتي- وأصابهم ما أصاب الاُمم الاُخرى، وأصحاب الأنبياء السابقين من حب الدنيا والتنازع عليها، بل إن قلوب بعض الصحابة قد تغيّرت، وارتد بعضهم في حياة

____________

1- العواصم من القواصم: 187 هامش: 331.

2- العواصم من القواصم: 54 والحديث في مسند أحمد 3: 221.

 

 


رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي بدايات البعثة، فعن اُم حبيبة (زوج رسول الله) قالت:

رأيت في المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه! ففزعت وقلت: تغيرت والله حاله!

فاذا هو يقول حين أصبح: يا اُم حبيبة، إني نظرت في الدين، فلم أر خيراً من النصرانية! وكنت قد دنتُ بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم رجعت الى النصرانية!

فقلت: والله ما خير لك. وأخبرته بالرؤيا التي رأيت، فلم يحفل بها، وأكب على الخمر حتى مات...(1).

فهذا الصحابي عبيدالله بن جحش، من المسلمين الأوائل، ومن الذين هاجروا الى الحبشة، إلاّ أنه ارتد هناك في دار هجرته، ومات مرتداً عن دينه!

وقصة عدد من الذين ارتدوا بعد اسلامهم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) معروفة، وقد قتل المسلمون - بأمر النبي- عدداً منهم يوم فتح مكة، بينما فرّ آخرون وبعضهم شفع له بعض الصحابة وانجاه من القتل، كابن أبي سرح، كما تقدم.

والرواية التي استشهد بها الاستانبولي وذكر فيها أن صيغة التصغير الواردة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) قد جاءت للتدليل على قلة عدد اُولئك الأصحاب، فيردّه ما أوردناه من روايات متكاثرة تدل على أن زمراً عديدة منهم يؤخذ بهم ويختلجون دون النبي (صلى الله عليه وآله)، ولعل رواية أبي هريرة التي أخرجها البخاري، وفيها قول النبي (صلى الله عليه وآله): "فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم!"(2).

لتؤكد على أن الهالكين من الصحابة هم أكثر من الناجين، مع العلم أن

____________

1- مستدرك الحاكم 4: 20، مسند أحمد 4: 20.

2- قال ابن منظور: وفي حديث الحوض "فلا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم" الهمل: ضوال الابل، واحدها هامل، أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة. لسان العرب 11: 710.

 

 


صيغة التصغير لا تستعمل للتقليل في العدد فقط، بل قد تستعمل للتحبيب أو للتحقير أيضاً.

أما الادعاء بأن المقصود باُولئك الأصحاب، هم بعض أجلاف العرب والمؤلفة قلوبهم، فلا صحة له أيضاً، لأن الصيغ التي نطق بها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، لتؤكد عكس ذلك تماماً، فقوله مخاطباً أصحابه: "رجال منكم" و "أصحابي"، و "رهط من أصحابي" و "ناس من أصحابي" و"رجال ممن صاحبني"، و"ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني"، وقوله "أما النسب فقد عرفته" لتدل كلها دلالة واضحة على أن الكثير من اُولئك الصحابة، هم ممن يعرفون النبي (صلى الله عليه وآله) ويعرفهم معرفة وثيقة، فضلا عن أن تخصيصه لاثنين من أصحابه لا يراهما ولا يريانه بعد موته أبداً، يدل على أن هذين الصحابيين كانا على علاقة وثيقة في صحبتهما مع النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يمكن أن يكونا من أجلاف العرب وجفاتهم!

ومن السخف أيضاً الادعاء بأن اولئك الصحابة إنما هم أتباع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، لأن هؤلاء قد ارتدوا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وليس بعد موته، وقد جرت بين مسيلمة وبين النبي (صلى الله عليه وآله) مراسلات عديدة مذكورة في كتب التاريخ والسيرة والحديث، فضلا عن أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد جهّز بعض الحملات العسكرية ووجهها لمحاربة اولئك المرتدين.

ولو أننا تنزلنا رغم كل ذلك، وصدّقنا بأن المقصود هم اولئك الأعراب، فإن ذلك لا ينقذ القائلين بهذا القول من أصحاب التيار المحافظ المعروف من الورطة، لأن اولئك قد ثبتت صحبتهم، والمفروض أن الصحابة جميعاً وعلى الاطلاق، عدول، وكلهم من أهل الجنة، فكيف يخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن اولئك الأصحاب من أصحاب النار! وأين الحصانة التي يدعيها هؤلاء للصحابة!

 

 


لقد أكّد القرآن الكريم على إمكانية ارتداد بعض الصحابة وانقلابهم على أعقابهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال عزّ من قائل: (وَما محمدٌ إلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلهِ الرُّسلُ أفئنْ ماتَ أو قُتلَ انقَلَبتُمْ على أعقابكمْ وَمَنْ يَنقلِب على عَقبيهِ فلنْ يَضُرَّ الله شيئاً وسَيجزي اللهُ الشاكِرينَ)(1).

قال الطبري، عن سلمة بن إسحاق:

وذكر أن هذه الآية اُنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيمن انهزم عنه باُحد من أصحابه... أي افئن مات أو قتل نبيكم، رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم وقد بيّن لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم، ومن ينقلب على عقبيه، أي يرجع عن دينه(2).

ومن الجدير بالذكر أن معظم الصحابة قد فرّوا عن النبي (صلى الله عليه وآله) يوم اُحد، ثم تكرر ذلك منهم يوم حنين أيضاً!

وقوله تعالى: (إنَّ الذينَ يُبايعونَك إنّما يُبايعونَ اللهَ يَدُ اللهَ فوقَ أَيديهِمْ فَمَنْ نكثَ فإنّما ينكثُ على نَفسهِ وَمَنْ أوفى بما عاهدَ عَليه اللهَ فَسيؤتيهِ أجراً عظيماً)(3).

قال ابن كثير: أي إنّما يعود وبال ذلك على الناكث، والله غني حميد(4).

فالوعد لمن أوفى بيعته، والوعيد لم نكثها، ومعلوم أن الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله) هم الصحابة وليس أحد غيرهم.

____________

1- آل عمران: 144.

2- تفسير الطبري 4: 74.

3- الفتح: 10.

4- تفسير القرآن العظيم 4: 199.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

القرآن الكريم ورأيه حول المرأة
إلى السيدة رقية عليها السلام
يا ليتَنا كنّا مَعكم
5شعبان ولادة الامام زين العابدين(ع)
الإمام المهدي (عج) في روايات أهل السنّة
آثار الغيبة على الفرد والمجتمع وإفرازاتها
في شكر الله تعالى
تفضيل الصحابة كثيرة
أهمية التربية في الإسلام
تعدد المذاهب والفرق سمة وحالة لازمة ثابتة في ...

 
user comment