عربي
Tuesday 23rd of April 2024
0
نفر 0

حرص مقلوب

حرص مقلوب

ونـرى ان مـن المناسب في هذا المقام ان نوقف قارئنا الكريم على بعض النماذج التاريخية من افعال السلف , والتي بنيت على اساس فهم خاطئ لمعنى الاتباع , والتمسك بالسنة , والاقتدا بهدي الرسول الاكـرم (ص ) , والـتـزام سـيرته , فبدلا من ان تعبرهذه المظاهر عن حالة الحرص على الدين , اصبحت ذات مردودات عكسية وآثار سلبية , نتيجة للخطا في فهم خصوصيات التشريع , وحدوده , فـبـينما يتصور اصحاب هذا النمطمن السلوك انهم متبعون ومقتفون لاثار الرسول الكريم (ص ) , وتعاليم الاسلام , واذا بهم يسيرون في واقع الامر في عكس الاتجاه الذي يهدف اليه التشريع .
ومن ابرز هذه المظاهر ما يلي :
1 ـ عن عروة بن عبداللّه بن قشير قال : حدثني معاوية بن قرة عن ابيه قال :
(( اتـيـت رسول اللّه (ص ) في رهط من مزينة ((551)) فبايعناه , وانه لمطلق الازرار ,فادخلت يدي في جنب قميصه , فمسست الخاتم .
قال عروة : فما رايت معاوية , ولا ابنه قط في شتا ولا صيف , الا مطلقي الازرار )) ((552)) .
فـنـحن نلاحظ هنا ان الاقتدا بمثل الامر المذكور في الرواية لا يعد اتباعابالمعنى الشرعي , ولا يـمـثل الاقتدا المطلوب في نظر الشريعة بالرسول الاكرم (ص ) , اذ ان الامر يتعلق بقضية حياتية خاصة , لا علاقة لها بالحكم الشرعي ولوازمه .
وهكذا الامر فيما روي عن زيد بن اسلم انه قال :
(( رايـت ابـن عـمـر يصلي محلولا ازراره , فسالته عن ذلك , فقال : رايت رسول اللّه (ص ) يفعله ((553)). 2 ـ روي عن مجاهد انه قال :
(( كـنا مع ابن عمر رحمه اللّه في سفر , فمر بمكان فحاد عنه , فسئل لم فعلت ذلك ؟قال : رايت ((554)). وهـذا المظهر ايضا لا يدخل تحت عنوان الاتباع , والتمسك بسيرة الرسول الكريم (ص ) والاقتدا بـسنته , وان حاول البعض ان يمتدحه , ويشيد به , ويحشره ضمن موارد الاتباع , والحرص على الدين .
3 ـ روي عن ابن سيرين انه قال :
(( كـنت مع ابن عمر رحمه اللّه بعرفات , فلما كان حين راح رحت معه , حتى اتى الامام فصلى معه الاولـى والـعـصـر , ثـم وقف وانا واصحاب لي , حتى افاض الامام ,فافضنا معه , حتى انتهى الى الـمـضيق دون المازمين , فاناخ وانخنا , ونحن نحسب انه يريدان يصلي , فقال غلامه الذي يمسك راحـلته : انه ليس يريد الصلاة , ولكنه ذكر ان النبي (ص )لما انتهى الى هذا المكان قضى حاجته , . ولا نظن ان الامر يحتاج منا الى شي من التعليق 4 ـ روي عن مروان بن سويد الاسدي انه قال :
(( خرجت مع امير المؤمنين عمر بن الخطاب من مكة الى المدينة , فلما اصبحناصلى بنا الغداة , ثم راى الناس يذهبون مذهبا , فقال : اين يذهب هؤلا ؟ , قيل : يا اميرالمؤمنين اللّه (ص ) , هـم يـاتـون يصلون فيه , فقال : انما هلك من كان قبلكم بمثل هذا فـيـتـخـذونـها كنائس وبيعا , من ادركته الصلاة في هذه المساجد فليصل , ومن لا فليمض , ولا يعتمدها )) ((556)) .
وفي الحقيقة ان هذه المبالغة في نهي الناس عن الصلاة في مسجد صلى فيه رسول اللّه لا تقترب من الصواب , وان هذا الحرص لم يكن في محله , بل لعله يسير باتجاه معاكس , وذلك لشرافة المسجد الـذي يصلي فيه رسول اللّه (ص ) اولا , ولان في مراعاة الصلاة فيه وقصده لاجل ذلك احياا لسنن الشريعة , واحكام الاسلام , وحفظا لاثارالرسول الكريم (ص ) , وتخليدا لمبادئه وذكراه .
5 ـ قال ( ابن وضاح القرطبي ) في كتابه ( البدع والنهي عنها ) :
(( امـر عـمـر بـن الخطاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي (ص ) , فقطعها , لان الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها , فخاف عليهم الفتنة )) ((557)) .
وهـذا الـمـضمون يتجه اتجاه الامر السابق في ترتب الاثار السلبية , والمردودات العكسية لحالة الحرص الخاطئة .
6 ـ ذكر ( الشاطبي ) في ( الاعتصام ) :
(( ان عمر قد ترك الاغتسال من الاحتلام , حتى طلع عليه الصباح , وان قوما من الصحابة راجعوه , وسالوه عن سبب تركه للاغتسال مع انه كان بامكانه ان ياخذ من اثوابهم ما يصلي به , ثم يغسل ثوبه عـنـد سـعـة الـوقـت , فـاجاب بانه لو فعله لكان سنة ,وقال : بل اغسل ما رايت , وانضح ما لم ار )) ((558)) .
وهـذا الـتبرير غير مقبول , اذ ان الحرص على السنة يقتضي وفقا للمبادئ الاسلامية الثابتة القيام بـواجب اللّه تعالى , والذي هو هنا اعظم الواجبات الاسلامية على الاطلاق , ووجوب المبادرة الى الاغتسال من الاحتلام , وادا الصلاة الواجبة قبل انقضا الوقت , ما دام ذلك ممكنا.
ونجد ما يشابه هذا التبرير فيما رواه في ( الاعتصام ) ايضا عن عثمان بن عفان , اذيقول مبررا له ترك السنة الثابتة , واتمام الصلاة في السفر :
(( و مـنـه مـا ثـبـت عـن عثمان (رض ) انه كان لا يقصر في السفر , فيقال له : الست قصرت م ع الـنـبـي (ص ) , فيقول : بلى فيقولون : هكذا فرضت )) واضاف الشاطبي الى ذلك القول :
(( فالقصر في السفر سنة او واجب , ومع ذلك تركه خوف ان يتذرع به لامرحادث في الدين غير مشروع )) ((559)) .
وهذا من الموارد التي جا العذر فيها اقبح من الذنب 7 ـ جا في ( الاعتصام ) عن ابن العربي انه قال :
(( كـان شيخنا ابو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع , وعند رفع الراس منه , وهومذهب مالك والـشافعي , وتفعله الشيعة , فحضر عندي يوما في محرس ابي الشعرا بالثغرموضع تدريسي عند صـلاة الـظـهـر , ودخل المسجد من المحرس المذكور , فتقدم الى الصف الاول , وانا في مؤخره قـاعـدا عـلى طاقات البحر , اتنسم الريح من شدة الحر , ومعي في صف واحد ( ابو تمنة ) رئيس الـبـحـر وقـائده , فـي نفر من اصحابه , ينتظر الصلاة , ويتطلع على المراكب , فلما رفع الشيخ الـفـهـري يـديـه في الركوع وفي رفع الراس منه , قال ( ابو تمنة )واصحابه : الا ترى الى هذا الـمـشـرقي كيف دخل مسجدنا ؟ قوموا اليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم احد قلبي من بين جوانحي وقلت : سبحان اللّه ؟ فقلت : كذلك كان النبي (ص ) يفعل , وهو مذهب مالك في رواية اهل المدينة عنه .
وجعلت اسكتهم , واسكنهم , حتى فرغ من صلاته , وقمت له الى المسكن من المحرس , وراى تغير وجهي فانكره , وسالني , فاعلمته , فضحك , وقال : من اين لي ان اقتل على سنة ؟ لك هذا ؟ فانك بين قوم ان اقمت بها قاموا عليك , وربماذهب دمك , فقال : دع هذا , الكلام وخذ في ((560)).

2 ـ عدم وجود دليل شرعي على الامر الحادث من الدين

ان هذا القيد يعد من اوضح قيود ( البدعة ) , ومن اهم مقوماتها الاساسية الا ان هذا القيد لم يشخص بـشـكـل شـامـل و دقـيق , الامر الذي ادى الى وقوع اختلاف كبير في الموارد التطبيقية لمفهوم الابـتـداع , وعـدم وجـود ضابطة موحدة , يتم بموجبها دخول الامرالحادث او خروجه عن هذا المفهوم .
فـمـن الـشروط الاساسية التي تزج بالامر الحادث في دائرة الابتداع , هو ان لايكون لهذا العمل اصل واساس في الدين , لا على نحو الخصوص , ولا على نحو العموم ,يقول اللّه تعالى :
( ومن اظلم ممن افترى على اللّه كذبا او كذب بياته انه لا يفلح الظالمون ) ((561)) .
ويقول عز شانه : ( قل آللّه اذن لكم ام على اللّه تفترون ) ((562)) .
فـاذا وجـد لدينا دليل خاص ينطبق على الامر الحادث , فان هذا الدليل يخرج هذاالامر عن حد ( الابـتداع ) ويجعله داخلا في صميم السنة والتشريع , كما انه لو وجد لدينادليل عام يمكن تطبيقه على الامر الحادث , فان هذا الدليل يخرج الامر الحادث عند حد( الابتداع ) ايضا.
هـذا كله طبعا بفرض صحة الادلة الخاصة والعامة , والتاكد من صحة صدورهامن الشارع المقدس وارتباطها به , لكي يتحقق ارتباط الامر الحادث بالدين , على نحوالقطع واليقين .
وقد اصبح هذا القيد الدخيل في رسم الصورة النهائية لمفهوم ( البدعة ) , مثارالوجود الالتباس في اذهان البعض , بقصد او من دون قصد.
وسوف نستعرض نماذج توضيحية لما ورد بشانه الدليل الخاص , ثم لما ورد بشانه الدليل العام .

استثنا ما ورد فيه دليل خاص

اذا ورد دليل شرعي خاص بشان امر معين , ولم يكن ذلك الامر موجودا في حياة النبي الاكرم (ص ) , او فـي طـيـلة عصر التشريع , فان هذا الامر ياخذ العنوان الشرعي , الذي ذكره الدليل الخاص بـشـانه , ولا يدخل اخذه لهذا العنوان الشرعي ضمن دائرة ( الابتداع ) , اذ ليس المدار في الامر الـمبتدع هو وجوده او عدم وجوده في عصر التشريع , وانماالمدار هو انه هل ينطبق عليه دليل خاص او عام , ام لا ينطبق عليه ذلك .
ولنوضح هذه الفكرة من خلال بعض النماذج .
ا ـ وردت ادلة شرعية توجب صلاة الايات عند حدوث ( الزلزلة ) , فلو افترضناان زلزلة لم تقع في عصر رسول اللّه (ص ) , او طيلة زمان عصر التشريع , ثم وقعت في زمان متاخر عن ذلك , فان الـقول بوجوب صلاة ( الزلزلة ) حينئذ ليس ( بدعة ) , باعتبار ان هذا الامر حادث , ولم يقع في زمان النبي (ص ) , بل هو من صميم السنة الشريفة , لانه وجب عن طريق الدليل الشرعي الخاص , غاية الامر ان مورده لم يكن متحققا في صدرالتشريع .
ورد عن عبداللّه بن الحارث :
(( ان الارض زلزلت بالبصرة , فقام ابن عباس فصلى بهم , فركع ثلاث ركعات ,ثم سجد سجدتين , ثم قام فركع ثلاث ركعات , ثم سجد سجدتين )) ((563)) .
وفي رواية اخرى عن عبداللّه بن الحارث ايضا قال :
(( صـلى بنا ابن عباس بالبصرة في زلزلة كانت , صلى ست ركعات في ركعتين , فلماانصرف قال :
هكذا صلاة الايات )) ((564)) .
فهل يمكن ان يدعي احد ان القول بوجوب صلاة الايات ( بدعة ) باعتبار انها لم تصل في زمن رسول اللّه (ص ) ؟ وهـل يمكن ان ينظر اليها من زاوية كونها امرا حادثا مع قصرالنظر عن الدليل الخاص ؟.
ان الذي نريد قوله هو ان مثل هذا الامر لا يقبل الاتصاف بالابتداع بشكل مطلق .
ب ـ وردت نصوص شرعية تحرم على الرجل ان يتزيى بزي النسا , وتحرم على المراة ان تتزيى بزي الرجال .
فعن رسول اللّه (ص ) انه قال :
(( لعن اللّه الرجل يلبس لبسة المراة , والمراة تلبس لبسة الرجل )) ((565)) .
وعنه (ص ) :
(( ليس منا من تشبه بالرجال من النسا , ولا من تشبه بالنسا من الرجال )) ((566)) .
فـتـشبه الرجال بالنسا , وتشبه النسا بالرجال , اخذ عنوانه الشرعي من خلال النص الخاص , وان كـان امـرا حادثا بعد عصر التشريع , فلا معنى لدرجه ضمن مفهوم ( البدعة ) , والادعا بان القول بتحريم هذا الامر من البدع باعتبار انه لم يكن موجودا فيماسبق , وانما ينبغي درج القول بتحريمه في صميم الامور الشرعية .
جـ ـ هناك احاديث كثيرة تنص على النهي عن زخرفة المساجد , فلو افترضنا انه لم يكن في عصر الـتـشـريـع مسجد مزخرف , ثم سادت هذه الظاهرة في العصور اللاحقة ,فان هذا لا يجعل القول بكراهة هذا الامر من موارد الابتداع , باعتبار كونه امرا حادثا لم يكن له وجود في عصر التشريع , وانما ينبغي ادخاله في الدين , باعتبار ارتباطه فيه من خلال النص الخاص .
والـخـلاصـة ان النص الخاص يبعد الامر الحادث عن مفهوم الابتداع , ويخرجه عن موضوعه من الاساس , ويبقى الامر الحادث مع عنوانه الشرعي الذي اكتسبه من خلال ذلك النص الخاص .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في أصالة الوجود واعتبارية الماهية
المخالفون والولاية التكوينية الإعتقادبها ولكن ...
الموت أفضل من الحياة
أفعال الإنسان
الحلم وکظم الغیظ
نظرية الصدفة في خلق العالم:
نظرة الكتب المقدسة إلى النساء، نظرة تقدير أم ...
إثبات الأشاعرة لرؤيته تعالى في الآخرة
الأخوة في القرآن الكريم
من أنزل عليه القرآن

 
user comment