عربي
Tuesday 19th of March 2024
0
نفر 0

الحتمية التاريخية والحتمية الكونية

الفصل الاَول


الحتمية التاريخية والحتمية الكونية


في التاريخ العقلي الفلسفي نلتقي نظريتين تنطلقان من منطلق الحتمية.
إحداهما : تخص السلوك الانساني ، الفردي والاجتماعي خصوصاً .
والاَخرى : تتعلّق بالنظام الكوني عموماً .
فتتجه النظرية الاَولى إلى الاِيمان بحتمية السلوك الانساني وتعطيل إرادة الاِنسان ، وسلب أي دور لارادته في سلوكه .
وتتجه النظرية الثانية إلى تثبيت الحتمية في النظام الكوني بشكل عام ، وتذهب إلى أن الكون كلّه يتحرك ضمن نظام دقيق بموجب قانون العلّية . وهذا النظام يجري ضمن حلقات متسلسلة ، كلّ حلقة منها ترتبط بالحلقة السابقة واللاحقة . ضمن نظام حتمي لا يمكن أن يتغير ولا يمكن أن يتخلف، ولا يمكن ان تتدخل إرادة أحد ـ مهما كان ـ في تغييره . ولو افترضنا أنّنا اطلعنا على رؤوس هذه الحلقات في النظام الكوني العام ، وأمكننا قراءة التسلسل النظامي لحلقات هذا النظام ، أمكننا التنبؤ بكل ما يجري في الكون من الاَحداث إلى أن ينتهي أمد هذا الكون .

 

 

وهاتان النظريتان تجريان في كل من الاتجاهين الفكريين المعروفين ؛ الاتجاه الاِلهي ، والاتجاه المادي على نحو سواء .
فإنّ طائفة من الذين يؤمنون بالحتمية في سلوك الاِنسان وتاريخه يؤمنون بالله تعالى ، ويذهبون إلى أنّ مصدر هذه الحتمية هو الله تعالى . بينما يذهب آخرون من الاتجاه المعاكس (الاتجاه المادي) إلى نفس النتيجة من منطلق قانون العلّية أو النظام الفكري الديالكتيكي .
فيذهب كل من هذين الاتجاهين إلى الحتمية في سلوك الاِنسان وتاريخه على نحو سواء .
وكذلك الحتمية الثانية (الحتمية الكونية) لا تختص بهذا الاتجاه أو بذلك الاتجاه . فمن الممكن أن يذهب إلى هذه الحتمية أصحاب الاتجاه المادي أو الاِلهيون .
واليهود من (الاِلهيين) الذين يذهبون إلى هذا الاتجاه في الحتمية الكونية. يقول تعالى : ( وقالت اليهود يَدُ الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ) (المائدة 5 : 64) .
كما أنّ في المسلمين طائفة واسعة وكبيرة وهم (الاَشاعرة) يذهبون إلى هذه الحتمية في سلوك الانسان .
والماركسيون من الاتجاه المادي يذهبون إلى هذه الحتمية في تاريخ الاِنسان.

 

 

النتائج السلبية لهاتين الحتميتين :
هاتان الحتميتان تؤديان إلى نتائج سلبية في التاريخ العقلي للانسان ، كما تؤديان إلى نتائج سلبية في التاريخ السياسي للانسان . فإنّ النتيجة التي تؤدي إليها هاتان الحتميتان بالضرورة هي افتراض وجود نظام قاهر في الكون، يمتنع على كلّ تعديل وتغيير وتبديل ، وهو بمعنى تعطيل سلطان إرادة الله تعالى ، وعدم الاعتراف بنفوذ سلطانه تعالى على النظام الكوني . هذا في الحتمية الكونية .
والنتيجة الضرورية التي تؤدي إليها الحتمية السلوكية والتاريخية للانسان هي الاِيمان بتعطيل ارادة الانسان .
وهاتان نتيجتان خطيرتان تترتبان بالضرورة على هاتين الحتميتين .
الاستغلال السياسي للحتمية التاريخية :
وقد وقع كل من هاتين الحتميتين في موضع الاستغلال السياسي من قبل الحكام والاَنظمة بشكل واسع .
فإنّ الاِيمان بالحتمية التاريخية والسلوكية يعطّل دورالاِنسان الفاعل وإرادته في تغيير ظروفه المعيشية وتاريخه السياسي ، ويحولّه من عنصر فاعل ومؤثر في تغيير حركة التاريخ ، وتغيير ظروفه الاجتماعية والمعيشية إلى عنصر عائم في تيار التاريخ والحياة ، يجري حيث يجري التيار .
وهذا النوع من التفكير ينفع الاَنظمة السياسية الاستبدادية عادة .
فلا تكاد تبرز معارضة ظاهرة للنظام السياسي ، في وسط اجتماعي

 

 

يؤمن بالتقدير والحتمية والجبر بهذه الصورة .
ولهذا السبب تلقى النظرية الحتمية في التاريخ تأييداً ودعماً من الاَنظمة المعروفة بالاستبداد السياسي غالباً . ويشجع الحكام هذا التوجه الفكري في مسألة القضاء والقدر ليأمنوا من غضب الناس وثورتهم واعتراضهم.
فلا مجال للغضب والسخط والاعتراض لاَحد ، إذا كان ما يجري من الظلم وسفك الدماء يجري بقضاء الله وقدره ، ولم يكن لاَحد من الناس قدرة في تغييره وتعديله .
بنو أُميّة والحتمية السلوكية والتاريخية :
والمعروف أنّ بني أُميّة كانوا يتبنّون الاتجاه الجبري في تفسير التاريخ والسلوك ويوجهون مايمارسونه من ظلم وتعسف واضطهاد وسلب لبيت المال وحقوقه بأنّ ذلك من قضاء الله تعالى الذي لا رادَّ لقضائه ولا يحق لاَحد أن يعترض عليه ، ولا يملك أحد أن يصد عنه .
وكان الحسن البصري يميل إلى مخالفة بني أُميّة في مسألة (القدر) ويرى أنّ الناس أحرار في تقرير مصيرهم ، وليس عليهم قضاء حتم من الله تعالى ، وكان يجاهر برأيه هذا أحياناً ، فخوّفه بعضهم بالسلطان .
روى ابن سعد في الطبقات عن أيوب قال : نازلت الحسن في القدر غير مرة ، حتى خوفته من السلطان ، فقال : لا أعود (1).


____________

(1) طبقات ابن سعد 7 : 167 .

 

 

والسلطان الذي كان يحكم الناس في عهد الحسن البصري هو سلطان بني أُميّة . ومن هذه الرواية التاريخية يظهر أنّ بني أُميّة كانوا يتبنون مذهب الحتمية التاريخية والسلوكية إلى حدود الارهاب والتعسف .
ومن عجب أنّ أئمّة الشرك كانوا يوجّهون شركهم بالله وعبادتهم للاَوثان ودعوتهم إليها بمثل هذه الحتمية .
يقول تعالى عن لسانهم : ( وقالوا لو شاء الرحمن ماعبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون ) (الزخرف 43 : 20) .
الاستغلال السياسي للحتمية الثانية :
وكما كان للسياسة دور في استغلال دور الحتمية الاُولى ، كذلك استغلت الحتمية الثانية استغلالاً واسعاً... فإنّ الحتميّة الكونيّة تؤدي بشكل قهري إلى عزل سلطان الارادة الاِلهية عن الكون . ولا ينافي ذلك الاِيمان بأنّ الله تعالى هو خالق هذا الكون ، فقد كان اليهود يؤمنون بالله تعالى ويؤمنون بأن الله تعالى هو خالق هذا الكون . الا أنـّهم كانوا يعتقدون أنّ هذا الكون يجري ويتحرك بعد أن خلقه الله تعالى ضمن نظام قهري قائم على أساس الاَسباب والمسببات ، دون أن يكون لله تعالى أيّ دور في تدبير وادارة الكون ، وبتعبير آخر كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو خالق هذا الكون دون أن يكون له دور في تدبير الكون ، ودون أن يكون مهيمناً عليه ، بينما يؤكد القرآن على صفة الخلق ، والهيمنة ، والتدبير لله تعالى جميعاً ، وفي وقت واحد .
وبقدر ما يضعف في نظر الانسان ، سلطان الله ونفوذه وتأثيره الفعلي

 

 

في الكون تضعف علاقته وارتباطه بالله .
وبقدر مايضعف إيمان الاِنسان بسلطان الله ونفوذه وتأثيره المباشر الفعلي في الكون ، تضعف علاقته بالله ، وبقدر ما تضعف علاقته وارتباطه بالله يضعف هو ، ويضعف حوله وقوته ومقاومته .
وبالعكس ، كلّما يزداد إيمانه بالله تعالى وبتأثيره وهيمنته وسلطانه الفعلي على الكون يزداد ارتباطه بالله وتتوثق علاقته به تعالى . وكلّما توثقت علاقته بالله يزداد قوة وحولاً ، حيث يتصل حوله وقوته بحول الله وقوته ، وتزداد مقاومته وأمله .
وهذا أمر يهم الحكام والاَنظمة التي تحكم الناس بالارهاب والاستبداد بطبيعة الحال . هذا أوّلاً .
وثانياً : هذا التصور للحتمية الكونية يعمّق الاحساس بدور المادة والاَسباب المادية في نفس الاِنسان وعقله أكثر من قيمتها الحقيقية . ويُضعف دور الغيب في نفس الاِنسان ووعيه ، ويسطّح الايمان بالغيب في نفس الاِنسان دون قيمته الحقيقية ودوره الحقيقي ، بعكس ما يصنعه القرآن .
ففي القرآن نجد اهتماماً كبيراً بالاِيمان بالغيب ومحاولة تعميق هذا الايمان وتثبيته وترسيخه في النفس ، في الوقت الذي لا ينتقص القرآن دور المادة وحجمها في الكون ، في طائفة واسعة من الآيات .
وللاِيمان بالغيب تأثير كبير في طريقة تفكير الانسان ، ومنهج حركته ، وفي طموحاته وآماله ، وبالتالي في تحركه وقدرته على تحمل ومواجهة

 

 

الصعاب والمتاعب والتحديات .
وإضعاف الاِيمان بالغيب وتسطيحه وترسيخ الاِيمان بالمادة وتعميقها بأكثر من قيمتها الحقيقية يضعف دور الاِنسان وفاعليته وحركته ، ويؤثّر بصورة مباشرة على طريقة تفكيره .
ويحكي القرآن الكريم عن اليهود الايمان بالحتمية الكونية بهذه الصورة المطلقة ، وسلب كل نفوذ وسلطان لارادة الله تعالى في تغيير مسلسل الاَحداث الكونية والتاريخية بالشكل الذي تفرضه الحلقات المتقدمة لهذا المسلسل . يقول تعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) (المائدة 5 : 64).
العلاقة بين الحتميتين :
وهاتان الحتميتان وإن كانتا مختلفتين في الشكل والمضمون إلا أنـّهما تلتقيان وتصبّان في تعطيل دور الاِنسان التغييري والقيادي للنظام السياسي والاجتماعي .
فإنّ التغيير يعتمد على أمرين اثنين وهما :
1 ـ إيمان الاِنسان بالله تعالى وحوله وقوته وسلطانه ، وتوكّله على الله تعالى ، وثقته به . فإنّ الاِنسان إذا أوصل حبله بحبل الله ، وحوله بحول الله، وقوته بقوة الله تعالى ، إستمد من الله تعالى حولاً وقوةً عظيمين ، واكتسب أملاً وثقة لاحدّ لهما .
ومن دون أن يصل الاِنسان حبله بحبل الله لا يمكن أن يملك هذا

 

 

الاَمل وهذه الثقة مهما كانت قوته وسلطانه وكفاءته . وإذا فقد الاِنسان الاَمل والثقة بالله سبحانه وانقطع حبله عن حبل الله ، ضعف إلى حد بعيد عن المواجهة ، ولن يملك في ساحة العمل والحركة ومواجهة التحديات إلاّ حوله وقوته ، وهو حول ضعيف وقوة محدودة .
والايمان بالحتمية الكونية وسلب سلطان الله تعالى في التأثير والنفوذ في مسلسل أحداث الكون ـ على الطريقة اليهودية ـ يفقد الاِنسان هذا الارتباط النفسي بالله تعالى ، ويسلب الاِنسان الثقة والاَمل بالاِمداد الغيبي من جانب الله تعالى في حركته وعمله .
2 ـ إيمان الاِنسان بحرية إرادته وقدرته على تغيير مسلسل (التاريخ) وتقرير مصيره ومصير التاريخ .
وهذا الايمان يمكّن الاِنسان من التحرك والعمل والتغيير ، وبعكس ذلك يفقد الاِنسان القدرة النفسية على التحرك والتغيير إذا فقد هذا الاِيمان وآمن بأنّ تاريخه ومصيره قد كُتب من قبل بصورة حتمية ، ولا سبيل لتغييره وتبديله ، وإنّه عجلة ضمن جهاز كبير يتحرك ويعمل دون أن يملك من أمر حركته وعمله ومن أمر تاريخه ومصيره شيئاً .
وبهذا يتّضح أنّ الايمان بهاتين الحتميتين ، يحجب الاِنسان عن الله تعالى وعن نفسه وإمكاناته ، ويسلبه (الاَمل) و (الحرية) في الحركة والقرار.
وبذلك يتحول الاِنسان إلى خشبة عائمة في مجرى الاَحداث والتاريخ.

 

 

وهذا وذاك أمر يطلبه الحكام والاَنظمة التي تحكم الناس بالاستبداد والارهاب.
موقف القرآن من هاتين الحتميتين :
وموقف القرآن من هاتين الحتميتين موقف واضح . ففي الحتمية (التاريخية) و (السلوكية) يقرّر القرآن الكريم بشكل صريح حرية إرادة الاِنسان ومسؤوليته عن أعماله . يقول تعالى :
( إنّا هَدَيناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفُوراً ) (الانسان 76 : 3) .
( إنّ اللهَ لا يَظلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلكِنّ النَّاسَ أنفُسَهُم يَظلِمُونَ ) (يونس10:44) .
( قُل يا أيُّها النَّاسُ قَد جَآءكُمُ الحَقُّ مِن رَّبِّكُم فَمَنِ اهتَدَى فَإنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا ) (يونس 10 : 108) .
( فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (الانسان 76 : 29) .
وفي نفس الوقت يقرر القرآن بشكل واضح مبدأ سلطان إرادة الله تعالى في حياة الاِنسان وتاريخه ، دون أن يلغي ذلك حرية إرادة الانسان .
يقول تعالى : ( وَمَا تَشَآءُونَ إلاّ أن يَشَآءَ اللهُ إنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (الانسان 76 : 30) .
( وَمَا تَشَآءُونَ إلاّ أن يَشَآءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (التكوير 81 : 29) .
( قُل إنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهدِي إليهِ مَن أنَابَ ) (الرعد 13 : 27) .

 

 

( يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ) (النور 24 : 35) .
( وَلَو شَآءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَن في الاَرضِ كُلُّهُم جَمِيعاً أفَأنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفسٍ أن تُؤمِنَ إلاّ بإذنِ اللهِ وَيَجعَلُ الرِّجسَ عَلى الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ ) (يونس 10 : 99 ـ 100) .
وهذا التأثير المباشر لسلطان إرادة الله تعالى في حياة الانسان ، وتاريخه إلى جانب حرية إرادة الانسان ، وقراره ، هو المبدأ المعروف بـ(الاَمر بين الاَمرين) الوارد عن أهل البيت عليهم السلام .
وهو مبدأ وسط بين مذهب الجبر الذي يتبناه الاَشاعرة من المسلمين وبين مبدأ التفويض الذي يتبناه المفوّضة .
وسوف نقدم لذلك شرحاً أكثر فيما يلي من أبحاث هذه الرسالة .
وعن الحتمية الثانية يقرر القرآن الكريم بشكل واضح مبدأ نفوذ سلطان إرادة الله تعالى في الكون ، وهمينة الله تعالى الدائمة والمستمرة على الكون.
يقول تعالى : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغلُولَةٌ غُلَّت أيدِيهِم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيفَ يَشَآءُ ) (المائدة 5 : 64) .
ويقول تعالى : ( يَمحُو اللهُ مَايَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ ) (الرعد13: 39) .
دون أن يكون معنى هذا المبدأ الذي يقرّه القرآن إلغاء أو تعطيل مبدأ العلّية والحتمية ، وكل القوانين والاَصول العقلية الناشئة من العلّية . ونحن نجد في القرآن الكريم إلى جانب هذه الآيات طائفة واسعة من كتاب الله

 

 

تقرُّ بمبدأ العلّية بشكل واضح ودقيق .
موقف أهل البيت من هاتين الحتميتين :
واجه أهل البيت عليهم السلام عبر التاريخ الاِسلامي انحرافاً فكرياً ، عقائدياً ، لدى طائفة من المذاهب الاِسلامية في فهم حركة التاريخ والكون ، وذلك بتبنّي مذهب الحتمية والجبر في تاريخ الاِنسان وسلوكه ، وتبنّي مبدأ الحتمية في حركة الكون . وكان لرأي الحكام في العصرين ، الاَموي والعباسي ، اللذين عاصرهما أهل البيت عليهم السلام عليهما تأثير في هذا وذاك .
فوقف أهل البيت عليهم السلام موقفاً قوياً ضد هذا الاتجاه وذاك ، وأعلنوا عن رأيهم في حرية إرادة الاِنسان وقراره ، دون أن يعطّلوا دور إرادة الله تعالى في حياة الاِنسان ، وهو ما عبّر عنه أهل البيت عليهم السلام بـ (الاَمر بين الاَمرين) .
روي أنّ الفضل بن سهل سأل الرّضا عليه السلام بين يدي المأمون ، فقال : يا أبا الحسن الخلق مجبورون ؟ فقال عليه السلام : « الله أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذبهم » . قال : فمطلقون ؟ قال عليه السلام : « الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه » (1).
وروى الصدوق عن مفضل بن عمر عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الاَمرين » (2).
كما أعلن أهل البيت عليهم السلام عن عقيدتهم في الحتمية الثانية : عن محمد


____________

(1) بحار الاَنوار 5 : 56 | 120 .
(2) التوحيد : 362 | 8 باب نفي الجبر والتفويض .

 

 

ابن مسلم عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام يقول : « ما بعث الله نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الاِقرار له بالعبودية ، وخلع الانداد ، وأنَّ الله يقدّم ما يشاءَ ويؤخّر ما يشاء » (1).
وقد اشتهر نفي هذه الحتمية وتلك عن أهل البيت عليهم السلام بصورة متواترة، وعرف قولهم في نفي الحتمية السلوكية والتاريخية بـ (الاَمر بين الاَمرين) وعرف قولهم في رفض الحتمية الكونية بـ (البداء) .
ومهما يكن من أمر فسوف ندخل بإذن الله تعالى في تفاصيل هذا البحث في ضوء القرآن الكريم في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى .
الحتمية الاَولى :
الحتمية الاَولى تتعلق بسلوك الاِنسان الفردي ، وبتاريخ الاَمم والجماعات البشرية.
والنظريات الحتمية تعم هذا وذاك، أو تختص بالسلوك الفردي حيناً ، وبتاريخ الاِنسان حيناً آخر .
وهذه النظريات تعتمد أحياناً الاِيمان بالله أساساً ومصدراً للحتمية ، وهي النظريات الحتمية الاِلهية .
وتعتمد أحياناً عوامل أُخرى أساساً ومصدراً للحتمية في السلوك الفردي وفي حركة التاريخ ، ويمكن تسمية هذه الطائفة من النظريات بنظريات الحتمية المادية .


____________

(1) الكافي 1 : 147 | 3 باب البداء ـ كتاب التوحيد .

 

 

والنظريات التي تعتمد (الحتمية) أساساً في فهم سلوك الاِنسان وتاريخه وتفكيره وتطوره ، عريقة وقديمة في تاريخ الثقافة الانسانية . وتتداخل عوامل كثيرة : دينية وفلسفية وسياسية ، في صياغة هذه النظريات ، ومن الصعب جداً فهم النظريات الحتمية في إطار العلم والفكر فقط دون أن نأخذ بنظر الاعتبار العوامل السياسية والدينية التي ساهمت في بلورة الصيغة الفلسفية لهذه النظريات .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الجنة والنار وتجسد الاعمال
إدخال ما ليس من الدين في الدين
الوقوف قبل الاسلام
ضرورة العدالة في القرآن والسنة
مبدأ التشيع وتاريخ نشأته
النبي صلى الله عليه وآله لا ينسى ما يوحى إليه
سِمات الأنبياء :الكَفاءة في القيادة
في قول النبي لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربكم) ...
أبو طالب عمّ الرسول المُصطفى‏ صلى الله عليه ...
صفات اللّه الجمالية و الجلالية

 
user comment