عربي
Tuesday 19th of March 2024
0
نفر 0

خصوصيات المنافقين النفسية


الغرور

من جملة النقاط التي بيّنها القرآن فيما يتعلق بالمنافقين وخصوصياتهم النفسية هي تكبّرهم وغرورهم. فالكِبر ـ الذي يعني أن يروا أنفسهم عظاماً، والآخرون حقراء ـ هو من أعظم الأمراض النفسية ومنشأ الإنحرافات الخُلقيّة الكثيرة.

قال الإمام عليّ×:

«إيّاكَ وَالْكِبْرِ فَإنَّهُ أعْظَمُ الذُّنُوبَ وألأَمُ الْعُيُوبِ»([1]).

فالکبرِ يصير من أعظم الذنوب ومنشأ الكفر، حيثُ كان كفر إبليس منبثق من كِبرِه، فعندما صدر له الأمر بالسجود لآدم، فإنّه رأى نفسه أفضل منه فما سجد له، وبهذا العمل اتخذ الكفر له سبيلاً: { أبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }([2]).

كان يقف المخالفون بوجه الأنبياء بروحٍ استكبارية، ولقد كانوا يكفّرونهم ويحقّرونهم ويعذّبونهم ويؤذونهم وعندما كانوا يُدْعَون إلىٰ الإيمان، كان شعارهم الدالّ على روحيتهم الاستكبارية هو: {قَالُوا مَا أنْتُمْ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا }([3]).

والكبر أيضاً يُعدّ من أخبث العيوب، لأنّه يمثّل الحقارة النفسية للفرد المتكبر، فهو مغرور، ويشعر في داخل نفسه بنقص، فيرغب في تلافي ذلك النقص عبر الكِبر.

يقول الإمام الصادق×:

«مَا مِنْ رَجُلٍ تَكَبَّرَ أوْ تَجَبَّرَ إلاّ لِذِلَّةٍ وَجَدَها فِي نَفْسِهِ»([4]).

فعمله قائم بفعل الذلة والحقارة الحاصلة في نفسه. وطبقاً للروايات فإنَّ الكِبر ينقسم إلىٰ قسمين: تحقير الناس، وعدم الإذعان للحقّ.

يقول الإمام الصادق×:

«الْكِبْرُ أنْ تَغْمَصَ النَّاسَ وَتُسَفِّهَ الْحَقَّ»([5]).

ومن وجهة نظر الأخلاق الإسلامية، فإنّ كِلا القسمين مذمومان وبشدة. إنّ تحقير الآخرين ـ حتى الأشخاص الّذين قد ارتكبوا بحكم الظاهر جرماً ـ يعدّ من المحرّمات.

يقول الإمام عليّ×:

«إنَّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى... أخْفَى وَلِيَّهُ فِي عِبَادِهِ فَلاَ تَسْتَصْغِرُونَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِ اللهِ فَرُبَّما يَكُونُ وَلِيَّهُ وَأنْتَ لاَ تَعْلَمْ»([6]).

وفي رواياتٍ اُخرى، نُقِل عن الإمام الصادق× أن الله تعالى قال: «لِيَأْذَنَ بِحَرْبٍ مِنِّي مَنْ أذَلَّ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ»([7]).

كتب الامام الخميني+ في باب الأمر بالمعروف من كتاب تحرير الوسيلة: لا يجب أن يرى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر نفسه بلا عيب، وأنّه أعلىٰ قدراً من المرتكب للإثم، لأنّه من الممكن أن يحمل الشخص المرتكب للاثم (حتى المرتكب للكبيرة) صفاتٍ طيبة فيحبّه الله، بينما يؤدّي غرور الآمر بالمعروف إلىٰ سقوطه. كما أنّ من الممكن أن يحمل الآمر والناهي صفات قبيحة، فيبغضه الله حتى ولو كان الشخص نفسه لا يحيط بصفته القبيحة هذه علماً.

وبالطبع فهذا الكلام لا يعني ترك الأمر بالمعروف، أو تعطيل إجراء الحدود الإلهية، بل يجب وفي ضمن تكريم واحترام الإنسان، والمحافظة على المنزلة الإيمانية الإقدام علىٰ الأمر بالمعروف، أو علىٰ إجراء الحدود الإلهية.

يقول الرسول الأكر: « إذَا زَنَتْ خَادِمُ أحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدها الْحَدَّ وَلاَ يُعَيِّرُها»([8]).

وعلى هذا الأساس، فغالباً ما کان رسول الله وأمير المؤمنين× يقتلون مرتكبي الزنا من المحصَنين، لكن بعد إجراء الحد کانوا يُقدمون وبصورة محترمة على إقامة صلاة الميت على نعوشهم، ويدافعون عن كرامتهم وشخصيتهم([9]).

ولقد حُكِمَ في روايات كثيرة على عدم الانصياع للحقّ، في إطار ذم المماراة والجدال بغير التي أحسن.

يقول الإمام الصادق×: « أمّا الْجِدالُ الّذِي بِغَيْرِ الَّتي هِيَ أحْسَنُ أنْ تُجَادِلَ مُبْطِلاً فَيُورِدُ عَلَيْكَ مُبْطِلاً فَلاَ تَرُدَّهُ بِحُجَّةٍ قَدْ نَصَبَها اللهُ وَلكِنْ تَجْحَدَ قَوْلَهُ أوْ تَجْحَدَ حَقَّاً يُرِيدُ ذلِكَ الْمُبْطِل أنْ يُعِينَ بِهِ بَاطِلَهُ فَتَجْحَدُ ذلِكَ الْحَقَّ مَخَافَةَ أنْ يَكُونَ عَلَيْكَ فِيهِ حُجَّةً»([10]).

ولقد جرى التأكيد على قبول الحقّ في موارد ذکرها القرآن الکريم والسُنّة النبوية، وأنّه من جملة صفات المؤمنين الانصياع للحقّ:

{ فَبَشِّرْ عِبَادِيَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ }([11]).

الانصياع للحق والتسليم له من صفات المؤمنين، وتكون النقطة المقابلة لذلك هو الكِبر:

« طَلَبْتُ الْخُضُوعَ فَما وَجَدْتُ إلاّ بِقَبُولِ الْحَقِّ، اقْبَلوا الْحَقَّ فَإنَّ قَبُولَ الْحَقَّ يُبْعِدُ مِنَ الْكِبْرِ»([12]).

وعلى أساس آيات القرآن فمن صفات المنافقين هو تكبرهم:

{وَإذا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}([13]).

{ وَإذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاِثْمِ }([14]).

{ وَإذا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ } ([15]).

يصرح القرآن بوجود مظهرين من الكِبر: تحقير الناس، وعدم الانصياع للحقّ في المنافقين، فيعتقدون أنّهم أهل فهم، بينما يرون الآخرين سفهاء، وبناءً على هذا فإنّهم يحقّرون الناس {وَإذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ }([16]).

ومن أجل تصوير عدم انصياع المنافقين للحقِّ، فإنّ الله تعالى شبّههم بالخشب اليابس: {كَأنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ }([17]).

الخوف

ثاني نقطة عرضها القرآن الکريم تتعلق بعلم نفس المنافقين، وللعلم، فإنَّ قضية الخوف عندهم، تفوق حدّ التصور. أساساً، إنّ للشجاعة ارتباطاً وثيقاً بالإيمان. فحيثما يكون الإيمان تكون الشجاعة أيضاً.

يقول الإمام الباقر×: «لاَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَباناً»([18]).

يصرّح القرآن في وصف المؤمنين بقضية الشجاعة لديهم، وعدم تخوفهم من القدرات المادية:

{... وَأنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أجْرَ الْمُؤْمِنينَ * الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقُوا أجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيماناً وَقالُوا حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}([19]).

تعدّ الشجاعة من صفات المؤمنين الصادقين. إلّا أنّه ومن حيث إنّ المنافقين لا يستفيدون من الإيمان، وإنّ التوكل والاعتماد على القدرة الإلهية غير المحدودة هي بالنسبة إليهم لا تحمل مفهوماً، فهم على الدوام تراهم في خوفٍ من القدرات الموجودة، وعلى الأخصّ في ساحة المعركة التي كانت تمثّل ميدان الشجاعة، من حيث تشتمل علىٰ الفداء والتضحية، فإنّهم في حالٍ من الفرار أبداً وينتظرون فقط نتيجة القتال، من بعيد:

{فَإذا جَاءَ الْخَوْفُ رَأيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}([20]).

تختصّ الآيات 8 الى 35 من سورة الأحزاب بتحليل معركة الأحزاب الصعبة، وبيان قضاياها. وفي خضمّ هذه الآيات وردت كلمة الصدق ستّ مرّات. وإلىٰ جانب ذلك، تم التعرض إلىٰ قضية خوف البعض أيضاً، لأنّ حرب الأحزاب، كانت تمثّل ووفقاً لشروطها الخاصة محكّاً جيداً لمعرفة صدق إيمان المؤمنين، ولإفشاء ادعاء المنافقين الكاذب في إيمانهم.

لقد ذُكِر الصادقون في إيمانهم في الآية 23 و24:

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْشَاءَ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}([21]).

يُستفاد من هاتين الآيتين أن معنى الصدق في الإيمان هو الاستعداد للجهاد في طريق الدين وحتى الشهادة. فجمع نال الشهادة، وجمع على الرِّغم من أنّه لم يبلغ هذا الفوز العظيم، إلّا أنّهم کانوا يتأهبون لها كذلك، وينتظرونها بشجاعة وشهامة.

إنّ الآية 20 من هذه السورة ـ والتي تقدّمت من قبل ـ تصوّر لنا خوف واضطراب المنافقين من التواجد في ساحة المعركة.

القلق والاضطراب

صفةٌ اُخرىٰ من صفات المنافقين النفسية هي القلق والاضطراب، لأنّ ظاهرهم يختلف عن باطنهم، وهم دائماً في قلق من أن تفشیٰ أسرارهم الباطنية، فتنكشف وجوههم الحقيقية. فكلّ شخص قد قارف لوناً من الخيانة، أو قام بأعمال يتخوف من انكشافها فهو يعاني وعلىٰ الدوام من القلق والاضطراب. فعند العرب هذا المثل المشهور: «الخائن خائف» .

ومن ناحية اُخرى، فإنّ المنافقين خلوٌ من الإيمان، فهم لا يعتقدون بمستقبل مشرق حافل بالآمال، كما أنّهم في رعب من عاقبة عملهم ؛ خلافاً لحال المؤمنين الذين يذکرون الله دائماً فإنّهم مستبشرون بالإطمئنان والهدوء:

{ ألاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}([22]).

ولمّا کان المنافقون خونة فانّهم يُستدرَجون إلىٰ وادي القلق والاضطراب. كما أنّهم يتصورون أنّ كل نداء مذيعٍ للسرّ أو مهدّد إنمّا هو موجّه إليهم:

{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ }([23]).

فسعي المنافقين المتواصل هو أن يقحموا أنفسهم وبأي وسيلة في صفّ المؤمنين، ويقنعوهم بأنّهم مؤمنون. إلّا أنّهم وعلى الدوام يعانون من هذا القلق، فلا ينبغي أن يُفتَضحُوا:

{ وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرُقُونَ } ([24]).

وبدليل خوفهم ففي أيّ وقت تنزل فيه آية جديدة (وعلى الأخص في أوج فعالية المنافقين) فإنّهم كانوا يخافون أن يكشف الوحي أسرارهم. والقرآن الكريم يصرّح بهذه النقطة.

كما يؤكّد القرآن على أنّ مسيرحياة النفاق، لا يحفل بنهاية جيدة، وحتى لو يستطيعون أن يخفوا ما في داخلهم ولعدة أيام، إلّا أنّ عاقبتهم ستكون الفضيحة:

{ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ }([25]).

لقد عُرِض في الآيات 17 الى 20 من سورة البقرة تشبيهان رائعان جداً لحالة التردد والخوف والاضطراب لدىٰ المنافقين.

اللجاجة

رابع خصوصية نفسية للمنافقين هي اللجاجة. فاللجاجة تُعدّ مرضاً روحياً، ومن الموانع الرئيسية للمعرفة الصحيحة. فلقد تم الإعراب في نظرية المعرفة عن هذه النقطة، وهي أن بعض الرذائل الخلقية تبعث على عدم توصل الإنسان إلىٰ الحقيقة ومن جملة تلك الرذائل التعصب بلا طائل، والإصرار بدون دليل على النظرة الخاصة والآمال الباطلة([26]).

يبين الإمام عليّ× وبصراحة في الحديثين الآتيين هذه النقطة وهي أنَّ الإنسان اللجوج سوف لا يكون واقعياً في نظرته:

«اللَّجَاجَةُ تَسِلُّ الرَّأيَ»([27]).

«اللَّجُوجُ لاَ رَأيَ لَهُ»([28]).

فالشخص الذي يكون في وادي اللجاجة سوف لا يكون صاحب رأي، لأنّ اللجاجة سوف تسدل ستاراً كثيفاً فوق بصره، فينظر إلىٰ كلّ الحقائق من وجهة نظره الخاصة به. فهكذا إنسان وعلى الرِّغم من أنّه يتوفّر على أدوات معرفة الحقّ، وعلى الرّغم من وضوح الحقّ، فإنّه سوف لا يصل إليه. فلأنّ الهدف الأساسيّ للمنافقين هو الوصول إلىٰ آمالهم ومطامحهم، والتحرك في مسير الباطل، فإنّهم لا يبلغون الحق أبداً.

يقول الإمام عليّ×:

«مَنْ كَانَ غَرَضَهُ البَاطِلُ لَمْ يُدْرِك الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ أشْهَرَ مِنَ الشَّمْسِ» ([29]).

ولبيان حالة اللجاجة عند المنافقين، فإنّ القرآن يعمد إلىٰ وصفهم هكذا:

 {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}([30]).

ولقد غدت لجاجتهم سبباً لعدم سماعهم ما يجب عليهم سماعه، ولا يرون ما يجب أن يرونه، ولا يقولون الذي يجب أن يقولوه، مع أنّهم يمتلكون عيناً واُذناً ولساناً، والتي تمثل جوارح الإنسان العادي التي يمكن استخدامها في الإدراك الصحيح. إلّا أنّ لجاجتهم عملت على عدم إفادتهم من هذه النعم العظيمة، وأن يتخبّطوا في وادي الجهالة.

إنّ كون المنافقين صمٌّ وعمىٌ وبكمٌ لا يختص بيوم الآخرة، بل أنّهم في هذه الدنيا أيضاً كذلك، وصيرورتهم إلىٰ الصم والعمى والبكم في يوم القيامة تجسيد لحالاتهم في هذه الدنيا.

نقرأ في الآية 179 من سورة الأعراف:

{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِها}.

وبالاستناد إلىٰ الآية أعلاه يمكن القول وبطمأنينة، بأنّهم في هذه الدنيا وبتأثير من اللجاجة التي عندهم، فهم لا يمتلكون سمعاً ولا بصراً صحيحين من أجل إدراك الحقّ ولا لساناً ناطقاً لكي يبيّن ذلك، إضافة إلىٰ أنّهم غائصون في ورطة الباطل.

والنتيجة هي: أنّ منافذ فهم المنافقين تغلق بتأثير من اللجاجة التي عندهم. فيذكّر القرآن الكريم بهذه الحالة بتعبير (طبع القلوب):

{طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}([31]).

{فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}([32]).

فخُتِم على قلوبهم، مما ينجم عنه عدم استماعهم إلىٰ كلام الحقِّ، وعدم انصياعهم إلىٰ الحقِّ، لتصبح طبيعتهم الدائمية. وبالطبع فإنَّ من الواضح أنّهم هم الذين هيّؤوا الأرضية لطبع القلوب، كما أن ختم قلوبهم هو النتيجة لعملهم.

الضعف في المعنوية

الخصوصية النفسية الاُخرىٰ التي يطرحها القرآن فيما يتعلق بالمنافقين هي ضعف معنويّاتهم.

إنَّ ضعف النظرة لدىٰ هذا الجمع، يدفع بهم إلىٰ أن يقيموا للناس حرمةً أكثر من حرمة الله. فالمنافقون لا يمتلكون إيماناً صلباً، ولذا فإنّهم أيضاً ليس لديهم الإعتقاد الراسخ بالقدرات الغيبية والمعنوية. فكل استحيائهم وخوفهم هو من القدرات الظاهرية، فهم يستحيون من الناس، إلّا أنّهم لا يستحيون من الله ؛ لأنهم لا يرون أنفسهم بين يدي الحضرة الإلهية، حيث أنّهم نسوا الله تعالیٰ:

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}([33]).

إذا ما تظاهروا أيضاً بالانخراط في العبادة، أو قاموا بمراعاة المظاهر الإسلامية، فإنَّ ذلك لأجل جلب الاهتمام وكسب ثقة الناس، فعبادتهم خالية من أي محتوى ومعنوية:

{إنّ الْمُنافِقِينَ... إذا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسالَى يُرَائُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إلاّ قَلِيلاً}([34]).

{وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إلاّ وَهُمْ كُسَالَى}([35]).

ولو أنّه قد طُرِحَ في الآيتين أعلاه كسل المنافقين ورياؤهم في الصلاة، إلّا أنّ المرحوم العلّامة الطباطبائي يقول في تفسير الميزان: الصلاة في القرآن هي رمز كلّ المعنويات. وبملاحظة هذه النقطة فإنّ مفهوم كلا الآيتين هو أنّه ليس لدى المنافقين اللياقة بالنسبة لجميع العبادات والمعنويات، فلا يملكون نشاط المؤمنين الروحي.

وبالطبع ففي البعض الآخر من آيات القرآن، كان قد طُرِح أيضاً ضعف المنافقين وفقرهم المعنوي في سائر العبادات. وعلى سبيل المثال: فلقد جاء في ذيل الآية 54 من سورة التوبة: {وَلاَ يُنْفِقُونَ إلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ}.

فتبيّن هذه الآية وبصراحة أن إنفاقهم لا يتمتع بإخلاص. والآية 47 من سورة الأنفال أيضاً ترى أنَّ تحركهم في صفّ المقاتلين لغرض الجهاد هو عمل مرائي، فتحذّر المسلمين من هذا العمل المنافق:  

{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ}.

وعلى كلّ حالٍ فإنّ الأشخاص الذين يتّخذون من التظاهر بالدين وسيلة لأجل طلب السلطة وللوصول إلىٰ الغايات الشيطانية، فإنّه لا تتوفر في سلوكهم وحديثهم الروح الدينية الحقيقية، كما أنّهم يؤدّون العبادات بكسل ولغرض الرياء.

اتّباع الهوى

ويبين القرآن الکريم خصوصية اُخرىٰ تتعلق بالمنافقين، وهي اتّباع الهوىٰ. فالمنافقون وبدلاً من الانصياع إلىٰ الحقّ، واتباع العقل والنقل، فإنّهم يتّبعون ميولهم وأهواءهم الشيطانية.

إنَّ المنافقين وبسبب اعتقاداتهم الضعيفة والأهداف المشؤومة التي يحملونها، فإنّ عبادة الله واعتماد الحق محوراً، لا تمثل عندهم مفهوماً ما، إنّهم عبّاد الهوىٰ وأنانيّون:

{أولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ}([36]).

إنّ الكِبر والغرور هما من مظاهر اتّباع الهوىٰ التي تم التطرق لها في قسم مستقل. هناک ظاهرتين واضحتين لاتّباع الهوى، هما: طلب الرئاسة، وحب الدنيا، وكلتاهما موجودتان في المنافقين. إنَّ حبّ المال والمنصب يعدّ واحداً من عوامل تثبيت وتنمية جذور النفاق في قلوبهم.

يقول رسول الإسلام:

«حُبُّ الْجَاهِ وَالْمَالِ، يُنْبِتانِ النِّفاقَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ البَقلَ»([37]).

من الواضح أنَّ الرئاسة التي تمثل المقصد والهدف الأصليين للشخص ستكون مذمومة. إنَّ طلب الرئاسة يمثل أكبر خطر على دين الأفراد.

ينقل أرباب السِيَر: أنّه ذُكِرَ اسم أحدهم في حضور الإمام الرّضا×، وقالوا: هو طالبٌ للرئاسة، فقال الإمام:

«مَا ذِئْبانِ ضَارِيانِ فِي غَنَمٍ قَدْ تَفَرَّقَ رُعاؤُها بِأضَرَّ فِي دِينِ الْمُسْلِمِ مِنَ الرِّياسَةِ»([38]).

أما المال والرئاسة لأجل تأمين عيش المرء وعائلته، ولخدمة الخلْق، وكأداة لإقامة الحق والإطاحة بالباطل، فإنّها ليست مذمومة، بل إنّها عين الآخرة والسير في طريق العبادة، والوصول إليها في بعض الأحيان واجب.

يقول الإمام عليّ× ـ عبر إشارته إلىٰ نعله المليء بالخصف والعديم القيمة ـ في خطاب إلىٰ ابن عباس:

«وَاللهِ لَهِيَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ إمْرَتِكُمْ إلاَّ أنْ أُقِيمَ حَقّاً أوْ أدْفَعَ بَاطِلاً» ([39]).

وعلى هذا الأساس، لقد تعيّن في الإسلام أنّ سعي المرء من أجل الحصول على عيشه وعيش اُسرته، يمثل عين الجهاد في سبيل الله:

«ألكَادُّ عَلى عِيالِهِ كَالْمُجاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ»([40]).

خدمة الآخرين أيضاً، عُدَّت في مصافّ أفضل الأعمال:

«خَيْرُ النّاسِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»([41]).

أما هدف المنافقين البحت فهو الوصول إلىٰ السلطة والمال والمنصب الدنيوي، وليس خدمة الآخرين. ولأجل الوصول إلى هدفهم الحقير، فانّهم مستعدون لأن يضعوا كلّ القيم الإسلامية والإنسانية تحت أقدامهم.

كان مرض عبدالله بن اُبَي رئيس منافقي المدينة – بسبب أنّه کان يریٰ أنّ وجود الرسول في المدينة، قد أطاح ببرج وسور زعامته، وكل خياناته ضد الرّسول والمسلمين كانت من أجل الوصول إلىٰ الزعامة التي ضاعت من يده.

لقد صُوِّرَ حبّ المنافقين الشديد للدنيا في القرآن الکريم بصورة جيدة، ففي موارد كثيرة يبيّن القرآن هذه النقطة، وهي: أنَّ المنافقين لم تكن لهم مشاركة في ساحة المعركة، إلّا أنّهم وبمحض انتهاء الحرب كانوا يحضرون في ساحة تقسيم الغنائم. ولقد كانوا يطلبون حقّهم من الأموال التي تم الحصول عليها.

لقد أوردنا سابقاً قسماً من هذه الآيات في مبحث انتهازية المنافقين.

تبرير الذنب

اُشير من قبل أنَّ سعي المنافقين التام هو إخفاء ما في باطنهم وخبث سريرتهم، وعبر التظاهر، وعبر الأيمان الكاذبة، فهم کانوا يوزنون أنفسهم في صفّ المؤمنين. في صدر الإسلام كان الحال كذلك، إلّا أنّهم ما كان بوسعهم أن يخفوا باطنهم وعلى الدوام، وأحياناً تبدر منهم بعض الأعمال التي تضع المؤمنين في شك بالنسبة إلىٰ إيمانهم الواقعي. وفي مثل هذه الموارد فإنَّ المنافقين ولأجل أن لا يسقطوا من الأعين، ولكي لا لا تتزعزع ثقة المسلمين بهم، يقومون بتبرير عملهم القبيح وذنوبهم، كي يكونوا مقبولين لدى عامّة الناس:

{فَكَيْفَ إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إنْ أرَدْنَا إلاّ إحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * اُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ في أنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}([42]).

ساحة الجهاد والقتال مع العدو هي إحدىٰ الميادين التي يشعر المنافقون بالرعب لدیٰ تواجدهم فيها. وعبر التوسل بذرائع محبكة يبررون عدم اشتراكهم في الجهاد. في الآية التالية، وصفٌ لتنذرّع أحد المنافقين بعدم اشتراكه في حرب تبوك:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنّي ألاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}([43]).

جاء في سبب نزول هذه الآية: أنّ أحد كبار القبائل ـ والذي كان من زعماء المنافقين ـ طلب من الرسول ترخيصاً كي لا يشترك في حرب تبوك، وكانت ذريعته أنّه: إن يقع نظري على النساء الروميات فاُفْتَتَنُ وأقترف المعصية. فأجازه الرسول ليبقى في المدينة، وبعد ذلك نزلت هذه الآية وأفشت عما في باطنه، ولقد وجده الله عاصياًً، وقد سقط في الفتنة([44]).

 كانت ذريعة جمع آخر من هؤلاء لأجل عدم الاشتراك في الحرب، هي أنّه لم تكن محالّ عيشهم تحفل بالأمن. والقرآن قد فضحهم من خلال نقله هذه الذريعة، وأعلن أنّّ هدفهم الأصلي هو الفرار من الحرب:

{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةً وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلاَّ فراراً}([45]).

وعلى كلّ حالٍ، فإنَّ ما يرتكبه المنافقون من تبرير للمعصية هو أكبر من المعصية نفسها. ولو أنّه من الممكن وفي بعض الموارد يتمكّنون من خداع جمع من المؤمنين المغفّلين، أو من الذين يصدّقون بسرعة، إلّا أنّهم غافلون عن اطّلاع الله تعالى على كلّ ما يخفونه في قلوبهم، وأنّه سوف يفضحهم في الدنيا، وسوف يبلوهم بعذاب جهنّم في الآخرة.

ممّا يجدر ذکره أنّ تلک المسألة الآنفة غير منحصرةٍ في القضايا الفردية للمنافقين بل إنّهم يبرِّرون سوء نواياهم في نطاق القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية أيضاً، وهي قابلة للبحث والمناقشة في مظانّها.



[1]. تصنيف غرر الحكم: ص 309.

[2]. البقرة: الآية 34.

[3]. يس: الآية 15.

[4]. اُصول الكافي: ج8، ص 305. بحار الأنوار: ج 73: ص 217.

[5]. ميزان الحكمة: ج8: ص 305. بحار الأنوار: ج73: ص 217.

[6]. بحار الانوار: ج 90: ص 263.

[7]. بحار الأنوار: ج 75: ص 145.

[8]. مجموعة الموزون الخفيف: ج1 ص 57.

[9]. ولأجل الاطلّاع يراجع سفينة البحار: ج1 ص 512، وأيضاً: وسائل الشيعة: ج 18 ص375، و بحار الأنوار: ج 82 ص 12.

[10]. تفسير نور الثقلين: ج4 ص 163.

[11]. الزمر: الآيات 17 و 18.

[12]. بحار الانوار: ج 69 ص 399.

[13]. المنافقون: الآية 5.

[14]. البقرة: الآية 206.

[15]. البقرة: الآية 11.

[16]. البقرة: الآية 13.

[17]. المنافقون: الآية 4.

[18]. بحار الانوار: ج 67 ص 364.

[19]. آل عمران: الآيات 171 – 173.

[20]. الأحزاب: الآية 19.

[21]. الأحزاب: الآيتان 23 - 24.

[22]. الرعد: الآية 28.

[23]. المنافقون: الآية 4.

[24]. التوبة: الآية 56.

[25]. التوبة: الآية 64.

[26]. نظرية المعرفة: ص 319.

[27]. نهج البلاغة: الحكمة 179.

[28]. ميزان الحكمة، ج4، ص277.

[29]. غرر الحكم: رقم 8853.

[30]. البقرة: الآية 18.

[31]. التوبة: الآية 93.

[32]. المنافقون: الآية 3.

[33]. النساء: الآية 108.

[34]. النساء: الآية 142.

[35]. التوبة: الآية 54.

[36]. محمد’: الآية 16.

[37]. المحجة البيضاء: ج 73 ص 145.

[38]. بحار الأنوار: ج 73 ص 145.

[39]. نهج البلاغة: الخطبة 33.

[40]. بحار الأنوار: ج 96 ص 324.

[41]. مستدرك الوسائل: ج 12 ص 391.

[42]. النساء: الآيتان 62 - 63.

[43]. التوبة: الآية 49.

[44]. مجمع البيان: ج3 ص36.

[45]. الأحزاب: الآية 13.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام المهدي (عج) في روايات أهل السنّة
آثار الغيبة على الفرد والمجتمع وإفرازاتها
في شكر الله تعالى
تفضيل الصحابة كثيرة
أهمية التربية في الإسلام
تعدد المذاهب والفرق سمة وحالة لازمة ثابتة في ...
مراتب صلة الرحم
الصراع على السلطة بين الأصهب والأبقع
العلم و المال
ظروف ولادة الإمام المهدي (ع)

 
user comment