عربي
Thursday 18th of April 2024
0
نفر 0

الفطنة واكتساب القدرة في مقابل العدو

الأصل الثاني
الفطنة واكتساب القدرة في مقابل العدو

يوصي الإسلام المسلمين بحسن الظن في العلاقات الفردية والاجتماعية، إلّا أنّه يؤكّد عند الارتباط مع الأعداء على الحذر والحيطة، ففي كلّ الظروف حتى في أمتن العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية ينبغي إساءة الظن والاعتداد بفطنتنا، ولا يجب غضّ الطرف عن أصغر خطأ وأضعف مظاهر عدوانهم.

يؤكد الإسلام على أن يقوم النظام الإسلامی في خضمّ مواجهته للأعداء بإعداد القدرة والقوة الكافيتين، وأن يصبح قوياً الى الحدّ الّذي يحسب فيه العدوّ للنظام حسابه، فلا يمنحه المجال للتفكير بالعدوان أو ردّ الفعل:

{وَأعِّدُوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}([1]).

يستفاد من الآية أعلاه أنه يجب امتلاک القوّة کمّاً وکيفاً لدیٰ مواجهة الأعداء، والإعداد لكل الأسلحة الضرورية، الحديثة وغير الحديثة، من أجل الدفاع عن الدين وقدرة النظام.

إنَّ عبارة {ما استطعتم} هي مفهوم ذات نطاقٍ واسع، يشمل الإمکانات الحربية والاستعداد العسكري والثقافي والإقتصادي والسياسي. وفي الآية التالية فإنّ كلمة {حِذْر} تعمّق هذا المبدأ: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعاً}([2]).

تُصدر هذه الآية أمراً ـ يلمّ بكلِّ الجوانب ـ إلىٰ كلِّ المسلمين في كلِّ القرون والعصور، وذلك لأجل المحافظة على وضعهم الأمني والدفاع عن حياضهم، كي يأخذوا دائماً جانب الحيطة، فيتوافروا الدوام في اجتماعهم نوعاً من التأهّب المادي والمعنوي.

إنّ معنى «حِذر» واسع، فإنّ نطاقه يتّسع ليشمل كلّ أداةٍ ماديةٍ ومعنوية، من جملتها: أنّ علىٰ المسلمين وفي كلّ زمانٍ أن يكونوا على علمٍ بمكان العدوّ ونوع سلاحه وأساليب قتاله، وحجم استعداده، وذلك لأن جميع هذه الموارد لها دورها المؤثّر في التوقّي من خطر العدوّ، وفي تحصيل الحاصل من مفهوم «الحِذر».

وطبقاً لأمر الحِذر فإنّ على المؤمنين ومن أجلِ الدفاع عن أنفسهم أن يعملوا وبأيّ شكلٍ من الأشكال على أن يضعوا وعلى رأس أعمالهم الأخذ بالاستعدادات النفسية والمعنوية، وتعبئة الطاقات الثقافية، والاقتصادية والإنسانية. هذا، بالإضافة إلى التعاطي مع أكثر اسلحة العصر تقدماً، والإحاطة بطريقة استعمالها.

الأصل الثالث
منع إقامة علاقة صداقة مع الأعداء

إنّ نظرة الإسلام بالنسبة إلى التعامل السياسي مع الأعداء يرتهن بحظر إقامة علاقة الصداقة معهم. لقد منع الإسلام رابطة الصداقة ـ بما يتعارف عليه بالتعايش ـ مع الأعداء . كما أمر بالتعامل مع أعدائه والأشخاص الّذين ينتهكون حرمة المقدّسات والقيم الإسلامية تعاملاً سلبياً:

{يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمُ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ}([3]).

يُقال: «هَزوَ» للكلام، والحركات الاستهزائية تطلق للحطّ من قيمة ذلک الشيء والنيل منه. و«لعب» يطلق على أعمالٍ الغرض من القيام بها غير صحيح، أو أنّها من الأساس لا تشتمل على هدف.

يتضمن معنى الآية أنّ الغيرة الدينية للمؤمن تقتضي أن يتعامل مع الأشخاص الذين يمسّون بمقدّرات الدين وأهله بسوء فيتعامل معهم بطريقة سلبية، وهذا التعامل هو في نفسه يُعدّ قسماً من التقوى والتدين، لأنّ التقوى لا تنحصر في القضايا الشخصية.

ففي الآية الاُولى من سورة الممتحنة أيضاً، كان إصدار النهي وبصراحة عن إقامة علاقات الصداقة مع مختلف الأعداء:

{يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَق}([4]).

ووفقاً لهذا الأصل، فإنّ جميع الأشخاص الّذين لا يعتقدون بدين الاسلام وقيمه، يُحسبون من الأعداء الّذين صدر النهي عن مجالستهم أو الوقوف معهم. يرى القرآن بأنّ التقارب الفكري والثقافي مع الأعداء خاصة منهم الّذين يعملون على هتك حرمة المقدّسات الدينية للمسلمين يوجب الخسران. وأضاف: إذا ما كان لديكم معهم صداقة وترافق في الذهاب والإياب، فإنّكم في النهاية سوف تصبحون مثلهم:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أنْ إذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزِأ بِها فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذاً مِثْلُهُمْ}([5]).

وبالطبع، فإنّ معنى هذا الأصل لا يعني نفي العيش السلمي، وتضييع الحقوق الإنسانية لأتباع سائر المذاهب وحتى الملحدين، والنهي عن تعزيز الروابط مع البلدان غير الإسلامية، وهذا المحور ستتم مناقشته في الأصل اللاحق. فمضمون الأصل الثالث هو: أنّ على المسلمين أن يمتنعوا عن الوقوع في أسر الوهم، وتعزيز الروابط مع الأعداء، وإطاعتهم والتأثر المنفعل بهم، وأن يدركوا أنّ الأعداء ومن الناحية الفكرية والسياسية لا يمتّون بالصلة إليهم.

ولقد كان المثال الّذي ضربه الله لمناوءة الأعداء وإعلان البراءة يتمثل في إبراهيم×، فبعد أن رأى نبيّ الله وأصحابه أنّ قومهم يعبدون الأصنام، تبّرؤوا منهم ومن عملهم. هذا، ومع أن قومهم وأقاربهم كانوا من ضمنهم إلّا أنّهم أعلنوا انفصالهم عنهم ونصب العداوة لهم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنّا بَراءٌ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أبَداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ}([6]).

الأصل الرابع
التعايش السلمي مع الأعداء غير المحاربين

ينقسم الأجانب ومن خلال النّظرية السياسية للإسلام إلى قسمين:

1 ـ الأعداء المحاربون، وهم الأفراد والدول الّتي تعادي النظام الإسلامي، وهم في تآمر وخيانة دائمين.

2 ـ الأعداء غير المحاربين، وهم غير المسلمين من الّذين كانوا رعايا لدى النظام الإسلامي، ويدفعون الجزية. وهم يمارسون العيش طبقاّ لعقائدهم ودينهم، وذلك في نطاق المقرّرات الّتي يسنّها الإسلام في البلد المسلم.

أو أنّهم الدول الّتي تعقد مع النظام الإسلامي اتفاقية حسن الجوار أو معاهدات مشابهة، وتظلّ على وفائها بتعهّدها الّذي أخذته على نفسها.

ومع أنّ كلا الصنفين يعدّ عدوّاً من الناحية الفكرية والثقافية، ويدخل في نطاق الأصل الثالث، إلّا أنّ نوع التعامل الاجتماعي يختلف مع كلٍّ من هذين الصنفين، حيث يقول القرآن الكريم بصدد السلوك المتّبع مع كل منهما:

{لاَ يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلى إخْراجِكُمْ أنْ تُوَلُّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }([7]).

 يستفاد من كلا الآيتين أعلاه أنّ الواجب يهيب بالمسلمين بالتحرك في مقابل أي شخص أو مجموعة أو دولة تتخذ موقفاً ظالماً إزاء المؤمنين، وضدّ الإسلام والمسلمين، أو أن تناصر أعداء الإسلام، فيجب عليهم أن يقفوا منهم موقفاً متشدّداً، وأن يقطعوا أي إرتباطٍ قائمٍ على المودة أو العلاقة الاجتماعية معهم .

أمّا فيما لو بقي بعض الأشخاص في موقف الحياد، ولم يناوئوا المسلمين، فينبغي العمل على مداراتهم .

وعلى هذا الأساس، فإنّ المجموعة الثانية كانت تحت حماية النظام الإسلامي، كما أنّ ممارسة الظلم تجاه هذه المجموعة لا تواجه إلّا التوبيخ، وإلىٰ الحد الّذي يقول فيه رسول الإسلام:

«مَنْ ظَلَمَ مُعاهِداً أو كلّفه فَوْقَ طَاقَّتِهِ فَأنا حَجِيجُهُ»([8]).

يتَّبع هذا الاُسلوب مع اليهود والنصارى، ومن يتعهد بدخوله في نطاق أهل الذمّة ممّن يُسمیٰ بالمعاهد، ليترتب عليه دفع الجزية طالما هو في كنف الدولة الاسلامية .

ولقد أصبح البعد الحقوقي لتعزيز الروابط مع الأعداء ضمن اهتمام الفقه الإسلامي، حيث قيل: إذا ما كان للأعداء ومن الناحية الفكرية والسياسية، أن يحفظوا حقّ التعايش السلمي، ويحترموا حقوق المسلمين، فإنّهم سيتمتّعون بحقوق المواطنة، وليس لأحدٍ الحقّ في أن يتعرّض لهم.

والحادثة التالية هي مثال بارز على رعاية حقوق غيرالمسلمين من غير المحاربين في النظام الإسلامي:

غضب الإمام عليّ× حينماشاهد سائلاً ذمياً وقال: «كان بينكم فاستخدمتموه، واليوم أصبح كهلا عاجزاً، فتخلّيتم عنه؟! -»، ومن ثُمَّ، أمر بأن يُنفق عليه من بيت مال المسلمين([9]).

سلوك المنافقين مع أهل الذمّة

والآن، وبعد أن اتّضحت الاُصول الكلّية للتعامل مع غير المسلمين في الإسلام، نأتي إلیٰ مناقشة اُسلوب المنافقين في التعامل مع غير المسلمين. فيستفاد من القرآن الكريم أنّ علاقات المنافقين الودّية جميعاً هي مع اهل الکفر، حيث كانوا يتصرفون بأنانيةٍ مفرطةٍ في الشيطنة، فيحتقرهم غير المسلم ويسخر منهم، فضلاً عن قيامه بتحرّي عيوبهم، ومع ذلك فإنّ سعيهم ينصب في التقرّب من الأعداء الإسلام، من حيث تشبّثهم الكامل بهم، وصولاً إلىٰ التعامل الودي معهم.

{ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكِذْبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}([10]).

واحدة من مظاهر ارتباط المنافقين بالکافرين، هو جلوسهم واجتماعهم المشترك، فضلاً عن حديثهم معهم المتَّسم بطابعٍ واحد. وينهى القرآن بصراحة عن مجالسة الكافرين والمستهزئين بالقيم الإلهية: {وَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}([11]).

إلّا أنّ المنافقين وعلاوة على صدور مثل هذا الأمر الصريح، فإنّهم كانوا يشتركون في اجتماعات ومجالس أهل الکفر. الآية 140 من سورة النساء تمثّل التوبيخ المترتّب على سلوك المنافقين هذا.

ومظهر آخر لعلاقة المنافقين مع غير المسلمين هو امتثالهم لهم بالطاعة. فتصرّح الآية 149 من سورة آل عمران بذلك حين الإشارة إلىٰ سلوكية المنافقين هذه: فإذا ما امتثلتم أنتم للكفّار بالطاعة وتولّيتموهم، كما هو الحال الّذي عليه عدد من المنافقين، فإنّهم سوف يعملون على إعادتكم إلىٰ قيم الجاهلية والتخلّف: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ}([12]).

ومجموعة من الأعداء الّتي كانت دائماً تكنّ أشدّ عداوةً إلى المؤمنين هم اليهود، حيث تعدّدت في القرآن الکريم الأوصاف العامة للأعداء، وإضافةً إلیٰ ذکر الأوصاف ففي بعض الموارد ذکرت أسماء بعض المجاميع ومنهم اليهود علاوةً علیٰ ذکر المشرکين والمنافقين وغيرهم([13]).

وعبر الاهتمام بهذه النقطة، فإنّه حين نستعرض تاريخ المنافقين في زمن الرسول الأكرم، فنجد أنّهم كانوا على علاقةً بكلّ طائفةً من طوائف اليهود الثلاث المتواجدة في المدينة. فكانوا على علاقة بيهود بني قينقاع، وبني النضير، وكذلك ببني قريظة.

فلسفة تعزيز الروابط بين المنافقين وغيرهم من الأعداء

النقطة المهمة التي يجب تناولها بالبحث هاهنا، هي أنّه ما هو هدف المنافقين من تعزيز الروابط مع غيرهم من الأعداء؟ وما هو الباعث الفكري والتحليلي الّذي يضطرهم إلىٰ هذا النوع من السلوك السياسي؟

يطرح القرآن، وعبر تحليله لجذور العلاقة القائمة بين المنافقين وسائر الأعداء هدفين: اكتساب العزّة، والرعب.

1- اكتساب العزّة

يسعى المنافقون ومن خلال هذا السلوك الشخصي الى الحصول على الوجاهة والمحبوبية والشهرة. فإنّ العقدة الّتي تستحوذ عليهم هي عقدة الاسم والشهرة والمنصب، لذا فهم يبذلون جهدهم للوصول الى طموحاتهم الشخصية وذلك عبر إقامة العلاقة مع سائر الأعداء.

ومن مظاهر الشرك البارزة، هو التعلق بالآخرين من أجل الوصول إلى العزّة: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً}([14]).

كما أنّ المنافقين ـ الّذين يبطنون الشّرك ـ ومن خلال إقامة العلاقة مع باقي الأعداء، وانحيازهم إليهم، فإنّهم يسعون للحصول على العزّة وتحقيق الكرامة:

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}([15]).

لقد اختصّ الله بالعزّة لنفسه، ولا نکون عزّة الرسول والمؤمنين إلّا من عزّته تعالى، ويُصرح سبحانه وتعالى بأنّ المنافقين وبسبب عدم إيمانهم، فإنّهم سوف لا يدركون هذه الحقيقة: {وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}([16]).

فيرى القرآن أنّ المصدر الوحيد للعزّة هو التمسّك بالعزيز الأزلي العالِم، ووجود المهيمن البارئ تعالى:

{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلّهِ الْعِزّةُ جَمِيعاً }([17]).

ونُقِل عن الرسول الأكرم في عقب هذه الآية أنّه ليس من طريق لكسب العزة سوى طاعة الله تعالى:  

{ إنّ اللهَ يَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ: أنا رَبُّكُمُ الْعَزِيزُ فَمَنْ أرادَ عِزَّ الدَّارَيْنِ فَلْيُطِعِ الْعَزِيزَ }([18]).

وبالطبع، فإذا ما وصل بعض الأشخاص ومن غير طريق طاعة الله إلىٰ العزّة وتحقيق الكرامة، فإنّها لم تكن إلّا وقتية. وفي النّهاية، فإنّ هذه العزّة الزائفة سوف تنقلب عليهم ذلّة.

يقول الإمام عليّ×: « مَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ اللهِ أهْلَكَهُ الْعِزُّ». « الْعَزِيزُ بِغَيْرِ اللهِ ذَلِيلٌ»

فإنّ جميع العزّة بغير الله ومن وجهة نظر القرآن مثَلُها كمثل بيت العنكبوت، والتي تُعدّ أضعف البيوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإنَّ أوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ([19]).

ولقد ضرب الله تعالى هذا المثال الدقيق علی التشبيه البلاغي التمثيلي الدال والجميل والتشبيه البليغ والدقيق، وذلك من أجل تحديد وضع المنافقين وصفاتهم.

صُنِع عشّ العنكبوت من عددٍ من الخيوط الرقيقة جداً، وليس لها جدار، ولا فناء ولا باب! هذا كلّه من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ إمكاناته لا تحتمل الدوام، فهو لا يستطيع معها الصمود ضدّ أي حادثةٍ يتعرّض لها، فإذا ما هطلت عدة قطرات مطرٍ فوقه فإنّها تحيله إلىٰ دمار، وأقل شعلة تعمل على تدميره، حتى إذا ما تساقط فوقه غبار فإنّه يتناثر قطعةً قطعةً ثم ينتهي أمره.

فالاعتماد على غير الله في كل شيء بما في ذلك الحصول على العزّة وتحقيق الكرامة، هي مماثلة لهذا الأمر وبکلّ دقّة، ليس لها استمرارية، ضعيفة، غير موثوق بها، وغير مقاومة للحوادث. فغير الله لا يمتلك العزّة إلّا إذا وهبها الله له. وإذا ما تمكن من الحصول على قدرة ظاهرية عبر التوسّل بألف حيلة وشيطنة، ودعمِ شخصٍ كي يعزّه فهو غير قابل للثقة ؛ لأنّه وفي أيّ وقت تقتضي فيه منافعه التخلي عن أكثر أصدقائه الحميمين، فإنّه ليفعل! وحتى في حال اقتداره فإنّه ليعمل على إذلاله.


2 ــ الرعب

وثاني سبب يعلّل تعزيز الروابط بين المنافقين وسائر الأعداء وانحياز المنافقين إليهم ، هو الخوف من تسلط الأعداء في المستقبل، ولهذا السبب فهم يرتبطون ببقية الأعداء، حتى إذا ما تسلّط العدوّ ذات يوم، فسيكون بوسعهم مواصلة عيشهم، فلا يتهدد الخطر ماله أو روحه!

ومن وجهة نظر الإسلام، فإنّ ذلك الشخص الّذي قد رسخت في نفسه جوهرة الإيمان لا تكون خشيته إلّا من الله وحده، ولا يسمح لنفسه أن تستحوذ عليها ذرة خوف إلّا من الله، وستتحقق خلافة الله تعالیٰ بفعل الإيمان، فالرّعب والخشية منه تعالى، وعدم التخوف من أيِّ قوة اُخرى([20]).

وفي وصف الأنبياء، يتحدّث القرآن الکريم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أحَداُ إلاّ اللهَ }([21]).

لا يخاف الأنبياء والمؤمنون الصدّيقون من القوى غير الإلهية وحسب، بل إنَّ إيمانهم وثقتهم بالقدرة الالهية يزداد لا سيّما في تلك الأوقات الّتي تكون فيها التهديدات المحدقة بهم أكثر: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيماناً وَقالُوا حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ([22]).

وهذه نتيجة طبيعية للخشية الكائنة في قلوبهم من الحقّ، فضلاً عن تعظيم البارئ تعالى. فكلّما أصبح الناس يدركون عظمة الله وقدرته وشوكته أشدّ ويقتربون أكثر من توحيده الخالص فإنّ سائر القوى سوف تصبح في نظرهم ضعيفةً واكثر ضعفاً.

يقول الإمام عليّ× في وصف المتّقين: «عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أعْيُنِهِمْ»([23]).  

فإذا ما كان الإنسان كما يجدر به أن يكون - خائفاً من الله وقلبه مترع بحبّ الله فالكلّ سوف يحسب له حساب ويكنّون له العزّة، ولكن إذا ما لم يرع للبارئ تعالى حرمته اللائقة به، فإنّه كان سيصيبه الذعر من كل شيء، وهذا هو سرّ استقامة وصلابة المجاهدين في طريق الحقّ والسالكين مسار الهداية. فالقلق والاضطراب الدائمييّن هما اللذان دَفَعا باُولئك إلى الانحراف عن الطريق.

يقول الإمام الصادق: «مَنْ خَافَ اللهَ أخافَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيءٍ وَمَنْ لَمْ يَخَفِ اللهَ إخافَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ»([24]).

إنّ المنافقين الذين لا يتوفّرون على أدنى درجةٍ من الإيمان، ولا يدركون معنى التوحيد، فإنّ الخوف والرعب وغيرهما من القدرات المادية تستحوذ عليهم، وخوفاً مما يحاذرون منه في أن يتسلّط الاعداء عليهم في المستقبل فيبادرون إلىٰ إقامة علاقات صداقة معهم: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قٌلٌوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أنْ تُصِيبَنا دَائِرَةً فَعَسى اللهُ أنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أسَّرُوا فِي أنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ }([25]).

فمنطق المنافقين في تعزيز الروابط مع الأعداء هو أنّهم سوف يتغلبون علينا في المستقبل، فنقيم معهم العلاقات حتى إذا ما تسلطوا علينا، سيكون بمقدورنا مواصلة عيشنا.

يقول القرآن بما في الإجابة على منطق المنافقين هذا، وصيغتهم هذه في التفكير:

عليكم بالتفكير في هذا الجانب من القضية أيضاً! فمن الممكن أن يكون الفتح من نصيب المسلمين، فيتنفذون وكذلك فهو من الحتمي له أن يحدث، ففي هذه الحالة ما الذي ستفعلونه؟ ومن المؤكد أن المسلمين سوف ينتصرون، وسوف تندمون على تصرّفكم السّيء.



[1]. الانفال: الآية 60.

[2]. النساء: الآية 71: فسر عدد من المفسرين كلمة «حذر» بالأسلحة. في الوقت الّذي تعني فيه كلمة حذر معنى واسعاً ولا تعني خصوص الأسلحة والمعدات العسكرية. الآية 102 من سورة النساء تدلّل على التفاوت بين الحذر والأسلحة ؛ وذلك لأنه جاء في هذه الآية كلا اللفظين، وهذا هو التفكيك الّذي يعني تعدد المعنى: «أن تضعوا أسلحتكم» و«خذوا حذركم ».

[3]. المائدة: الآيتان 57 - 58.

[4]. الممتحنه: الآية 1.

[5]. آل عمران: الآية 140.

[6]. الممتحنة: الآية 4.

[7]. الممتحنة: الآيات 7 ـ 8 .

[8]. فتوح البلدان: ص67.

[9]. وسائل الشيعة ج11: ص49.

[10]. المجادلة: الآية 14.

[11]. الأنعام: الآية 68.

[12]. آل عمران: 149.  

[13]. کما في قوله تعالیٰ: {لَتَجِدَنَّ أشدَّ النّاسِ عَدا‌وةً للّذينَ ءامنوا اليهود و الذين أشركوا.....} المائدة: الآية 82.

[14]. مريم: الآية 81.

[15]. النساء: الآية 139.

[16]. المنافقون: الآية 8 .

[17]. فاطر: الآية 10.

[18]. الدر المنثور، ج2: ص 717.

[19]. العنكبوت: الآية 41.

[20]. يراجع سورة المائدة: الآية 44، البقرة: الآية 150.

[21]. الاحزاب: الآية 39.

[22]. آل عمران: الآية 173.

[23]. نهج البلاغة، خطبة 193.

[24]. اصول الكافي، ج2: ص 68.

[25]. المائدة: الآية 52.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام موسى الكاظم عليه السلام والثورات العلوية
زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
الصلاة من أهم العبادات
علة الإبطاء في الإجابة و النهي عن الفتور في ...
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام
كلام محمد بن علي الباقر ع
منهج القرآن لإحداث التغيير
برهان على صحة الرسالة
مشاركة الملايين في مناسبة عيد الغدير بينهم ربع ...
البدريون والرضوانيون

 
user comment