عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

الحركات الدينية في العصر الحاضر

 

الحركات الدينية في العصر الحاضر:

مرّ العالم الإسلامي في العقد الأخير بفترة هي الأكثر اضطراباً واستقطاباً للأضواء، ولم يقتصر الأمر على إيران وحسب، وإنما شمل كل العالم الإسلامي، رغم أن إيران كانت خلال هذه المدة مركز هذه الحركة ومُلهمتها.

وما يُعبّر عنه اليوم بحركة الإحياء الإسلامي والاُصولية الإسلامية قد احتوى العالم الإسلامي بأسره من أقصى الغرب فيه،أي في تونس والمغرب العربي، إلى أقصى الشرق فيه، أي إندونيسيا والمناطق الإسلامية في الفلبين. فكلّ البلدان الواقعة ضمن هذه الحدود، بل وحتى المناطق التي يقطنها المسلمون كأقلية فيها، سواء كانوا من المنطقة نفسها أم المهاجرين إليها، إنما تأثّرت بهذه الموجة الجديدة، رغم تباين معدّل التأثير فيها حسب الظروف التي تعايشها.

بطبيعة الحال لا تنحصر هذه التطورات في العقد الأخير فقط، فربما كانت الاضطرابات في العالم الإسلامي خلال القرن الأخير أكثر من غيرها من مناطق العالم الاُخرى. وأقلّ ما يمكن قوله هو إنّ الإسلام كدين وكحضارة وثقافة أوجدها بنفسه ويتحمل عبء حمايتها وحراستها بنفسه، كان الأنشط تحركاً وكفاحاً ومعارضة من بين جميع الأديان الاُخرى، فلم يُبدِ أي دين آخر ردّ فعلٍ بهذا الحدّ حيال الهيمنة الشاملة للثقافة الجديدة. وقد تكون تلك الأديان (المقصود أتباعها) قد انتفضت ونهضت للكفاح الإيجابي أو السلبي لفترة من الزمن، لكنها أذعنت أخيراً لسيطرة هذه الثقافة، أو اختارت نوعاً من الحياة المسالمة معها. بمعنى أنها تكيفت مع الوضع السائد بسحق مبادئها واُصولها، ذلك لأنها لم تكن تستطع البقاء ومنع ردة أبنائها وأتباعها سوى عن هذا الطريق([1]).

ومن بين الأديان المختلفة برز الإسلام كدين وحيد استطاع أن يصرّ ويتمسّك بمبادئه، ويفلت من قبضة المدنية الجديدة، وينهض بأعباء المجابهة المباشرة ليحفظ سلطته في نطاق مناطق انتشاره على الأقل، وهي سلطة عرّضتها المدنية الجديدة وأنصارها إلى الطرد أو التحجيم على أقل تقدير. وما الأحداث التي مرّت بهذا الدين وجهوده والمقاومة التي أبداها خلال العقد الأخير بل القرن الأخير إلا تحقّق اجتماعي وسياسي لهذا الإصرار والمجابهة، وهذا يعود إلى ذات الدين نفسه؛ إذ أن الهيكل الداخلي لهذا الدين ملتحم بشكل يدعو معتنقيه لبذل سعي دؤوب لتحقق ذاته وطرد ما هو غريب عنه. فالمسلم مكلّف بالتزام مبادئه طالما كان مسلماً، إذ أن عقيدته وفلاحه الاُخروي وعزّه الدنيوي كلها تقتضي منه العمل بهذا الالتزام باعتباره ضرورة دينية واعتقادية، وفريضة يستحيل تغييرها. ورغم ما قد يؤدي إليه ضعف الإيمان، أو الظروف الاجتماعية غير المناسبة من التخلّف عن العمل بهذه الفريضة قصرت المدة أو طالت إلا أنه لا يمكن أن تُنسى بالكلّية وإلى الأبد، فما دام الإسلام موجوداً وكان هناك من يعتنقه فإن هذه الفريضة موجودة، والاحتمال قائم أيضاً باتخاذ موقف من الوضع السائد وفتح جبهة للوقوف بوجه الدعوة إلى التذويب.

خلاصة القول: إن معارضة هذا الدين لكل ما هو غريب عنه نابعة من طبيعة الدين وذاته، وليست عارضاً مؤقتاً أو فورة عابرة. ورغم ما لمجموعة الظروف الخارجية في بروزها وكيفية ظهورها من دور أساس، إلا أن العامل الرئيس ينبع من الذات والداخل، وما العوامل الخارجية إلا عوامل مساعدة تهيّئ الأرضية اللازمة لذلك؛ لهذا نلاحظ في تاريخ الإسلام حرباً سجالاً متواصلة لا نهاية لها بين "السنّة" و "البدعة" وسعياً مستمراً لإقامة السنّة ودفع البدعة([2]).

وليس المهم في ذلك شكل البدعة وأبعادها، وإنما البدعة نفسها التي ستستمر هذه الحرب ضدها طالما وجدت، ومعلوم أنه لا يمر وقت من الأوقات دون أن تكون فيه بدعة، وبالتالي لن يأتي زمن يتوقف فيه هذا الصراع، رغم أنه قد لا يتخذ شكل الصراع السياسي الحادّ، فالظروف هي التي تحدّد شكله، إلا أن الدين يُلزم بأصل هذه المواجهة([3]).

ويشهد التاريخ الإسلامي، ولا سيما هذا القرن والعقد الأخير منه على الصراع الذي خاضته كلتا الفرقتين الشيعية والسنية نحو تحقيق هدف واحد، ألا وهو تثبيت القوانين والموازين الإسلامية ونبذ ما سواها، ولا يمكن لهذا الكفاح أن يكون مختلفاً؛ لأنه يعود إلى أصل الإسلام نفسه، ولهذا لا يلاحظ هناك أي تباين جوهري خاص في الصراع والكفاح الديني بين إيران وبلدان اُخرى كسوريا ومصر وباكستان، فقد روى التاريخ المعاصر أحداث هذه الحقبة بشكل مماثل([4]).

بيد أنه ينبغي الاعتراف بوجود بعض الفروق التي إن اُهملت ربما ولّدت مشكلات كثيرة وسوء تفاهم بين الطرفين، وتمنع الرغبات الوحدوية من معرفة هذه الاختلافات على صورتها الصحيحة وتقويمها، الأمر الذي يمثّل مشكلة كبرى لا يمكن المبادرة إلى حلّها إلا من خلال معالجتها حيادياً وبشجاعة.

تعود هذه الاختلافات من جهة إلى اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتاريخية السائدة في المناطق الشيعية والسنية، وتعود من جهة اُخرى إلى الخصوصيات العقائدية للمدرستين، والدور الذي تلعبه في بلورة التركيبة الاجتماعية والنفسية والاعتقادية لأتباعهما. فلا تقتصر المسألة على الاختلاف في المعتقدات الدينية، بل إن الأهمّ من ذلك هو أن أتباع المذهبين ترعرعوا في ظلّ هذه المعتقدات طوال التاريخ تحت تأثير سلسلتين من الخصائص المختلفة، فقد عاشوا على أرضيتين متباينتين في الاجتماع والسياسة والثقافة، وتبعاً لذلك اختلفت شخصياتهم الدينية والنفسية والفكرية وحساسياتهم المذهبية([5]).

وإذا كانت دراسة الخصائص العقائدية تساعد على الفهم الأفضل والأعمق لوضع الحركة الإسلامية الحالي، فإن دراسة الفكر السياسي للفريقين تنطوي على قدر أكبر من الأهمية، لذا يُفترض بنا أن نبدأ به قبل الدخول في أي موضوع آخر.([6])

اُسس التفكير السياسي عند الشيعة والسنـّة

يجب أن نفهم أولاً كيف بلورت هذه الاُسس والعوامل سواء التاريخية منها أم الفقهية والكلامية الفهم السياسي الديني عند الشيعة والسنّة؟ ولماذا بلورتها بهذه الصورة؟ وما هي انعكاسات هذا الفهم على تاريخ التحولات السياسية الدينية لدى الفريقين في الماضي والحاضر؟ وهل أن مسار التحولات السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية في الاُمور ذات العلاقة المباشرة بالدين كان متحداً أو متبايناً لدى الجانبين؟ فإذا كان مختلفاً فما هو مدى تأثّر هذا الاختلاف بالاُسس النظرية لهما في السياسة والدين والعلاقة بينهما؟ وكيف أثّر هذا الفهم على التكوين الاجتماعي والنفسي لأتباع المذهبين ؟

لا تنحصر أهمية الدراسة الدقيقة لهذا الموضوع في فهم ماضي السنّة والشيعة فهماً واعياً وحسب، فالأهم هو عدم إمكان فهم الوضع الراهن للحركة الإسلامية بالشكل الصحيح دون الخوض في مثل هذه الدراسة. وربما كان مسار الحركة الإسلامية الحالية واحداً في المناطق الشيعية والسنية أو في بعضها، إلا أنه من الخطأ أن نتصور أن هذه الحركة نبعت من مقدمات واُسس نظرية متماثلة.

إنّ تأثير الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والخلفية التاريخية والتجربة الاستعمارية التي اشترك فيها أتباع المذهبين في بلورة الوضع الموجود كان من القوة بحيث يتعذر في بداية الأمر تقويم أهمية الخصائص الاعتقادية والتركيبة السياسية الدينية للفريقين وتأثيرها على تحركهما تقويماً واعياً.

وهذا لا يعني تجاهل وجوه الاشتراك الكثيرة بينهما في المجالات المختلفة ومنها التفكير السياسي، ولكن رغم هذا التشابه وهذه المشتركات فهناك تباينات دقيقة ومهمة لعبت الظروف المعقّدة الحالية دوراً في إبرازها. وتساعد المعرفة الحيادية الصحيحة لهذه التباينات الدقيقة على فهم كل طرف للآخر فهماً عميقاً، وطرد المشكلات، ورفع أنواع سوء الظن التي قد تقع بينهما، ولهذا وجب طرحها وبحثها عوضاً عن كتمانها والتستّر عليها.

حقيقة الأمر أن الشيعة والسنّة يختلفان عن بعضهما ولا سيما في النظرة السياسية، وتتحقّق حركتهما السياسية الدينية في بيئاتهما على شاكلتين. فإذا كانت كلّ حركة اجتماعية وسياسية تتأثر بالواقع الاجتماعي والنفسي والتجربة التاريخية والمعتقدات المعاشة، فإن اختلاف هذا الواقع يعني اختلاف المسار الحركي لمجتمع عن آخر، فالتكوين النفسي للشيعي هو غير السني، وينطبق الحال أيضاً على التركيبة الاجتماعية الدينية، وهذا الاختلاف يؤثر في النتيجة شِئنا أم أبينا([7]).

لنأخذ أهل السنّة في إيران كمثال على ذلك، فإن البعض يرى أنّ عدم وجود قيادة دينية سياسية في صفوفهم يعدّ نقطة ضعف كبيرة في الحركة الإسلامية المعاصرة، ومثل هذا الانتقاد ناشئ عن مقارنة لا ضرورة لها بين الشيعة والسنّة تتجاهل نشوء هذه الخصوصية من الهيكلية الفقهية والكلامية والسنّة التاريخية ومن التكوين النفسي والاجتماعي المترتب عليها، إذ لا يوجد عند أهل السنّة مثل هذه الاُصول والإلزامات. فالشيعي ملزم دينياً لا لكونه إيرانياً أو أنه يعيش في الزمن الحاضر باختيار القائد وقبوله وحتى صنعه، بينما لا يوجد مثل هذا الإلزام بين أهل السنّة، لا في اُسسهم النظرية ولا في تجاربهم التاريخية، كما أنه لم يتبلور التكوين النفسي للسني بشكل يرجع في كل مسألة من مسائله إلى مرجع ديني، وأيضاً فإن المجتمع الديني السني لا يفرض وضع مثل هذا المرجع على رأس سلطة القرار.

آراء متباينة:

لأهمية هذا البحث فمن المناسب أن نقتبس جانباً من الانتقاد الذكي الذي وجّهه مؤلف كتاب الفكر السياسي الشيعي إلى محمد جواد مغنية، يقول مغنية في كتابه الشيعة والحاكمون:

«إنّ جمهور أهل السنّة يوجبون طاعة الحاكم الجائر، والصبر على جوره وظلمه، ولا يجيزون الخروج عليه، وأن الشيعة يوجبون المعارضة والثورة على الفساد والظلم، فمذهب الشيعة يخالف مذهب التسنّن في ذلك، ويقف كل منهما موقف التضاد من الآخر؛ فأكثر السنّة يرون الخروج على الحاكم الجائر خروجاً على الدين والإسلام، والشيعة يرون الخروج عليه من صميم الدين والإسلام، والصبر على الجور خروجاً عنه، وبهذا نجد السرّ الأول والتفسير الصحيح لقول أحمد أمين وغيره من السنّة بأن (التشيع كان ملجأً لكل من أراد هدم الإسلام)؛ لأن الإسلام في منطق أحمد أمين وأسلافه يتمثل في شخص الحاكم جائراً كان أو عادلاً، فكل من عارضه أو ثار عليه فقد خرج على الإسلام، والجائر في منطق الشيعة هو الخارج على الإسلام وشريعته... فلا نعجب إذا قال أحمد أمين: إنّ الشيعة هدّامون. أجل، إنّهم هدّامون ، ولكن للضلال والفساد».

وقال الحسن البصري: «تجب طاعة ملوك بني اُمية وإن جاروا وإن ظلموا...،والله لما يصلح بهم أكثر مما يفسدون»، ثم يضيف:

«ثار الشيعة أئمتهم وفقهاؤهم واُدباؤهم على حكام الجور، ورفضوا التعاون معهم على الإثم، لأن عقيدة التشيّع ثورة بطبعها على الباطل، وتضحية بالحياة من أجل الحقّ، وليس بالمعقول أن يتجاهل الحاكمون هذه العقيدة فاضطهدوا الشيعة، ونكَّلوا بهم، وطاردوهم في كل مكان, وساوموا شيوخ السوء، وتم الاتفاق بين الفريقين على أن يقتل اُولئك المؤمنين المخلصين لله ولرسوله وأهل البيت، ويبارك هؤلاء التقتيل، ويخرجوه على أساسٍ مِن الدين المزعوم»([8]).

إنّ كلام مغنية يبيّن نمط التفكير الشيعي العام إزاء مذهبهم ومذهب أهل السنّة وعلمائهم، وهو رأي صائب لكنه ناقص؛ ذلك أنّه يمثّل جزءاً من الحقيقة وليس كلها، إذ لابدّ من تقصّي السبب الذي جعل الشيعة ينحون هذا المنحى والسنّة يسلكون ذلك الطريق، فهل هو مجرد سبب ذاتي وأخلاقي، أو أن المسألة أكبر وأوسع من ذلك؟

لمعرفة موقف كل طائفة وتقويمه لابدّ من الرجوع بالدرجة الاُولى إلى المجالات الاعتقادية والفكرية والاجتماعية والتاريخية التي عملت بها الطائفة وحدود كلٍّ منها وإلزاماتها؛ ذلك لأنّ الطائفة لا تستطيع أن تتجاوز إطارها الاعتقادي والفقهي والكلامي، فمن يتحرك ضمن ضوابطه وإلزاماته الاعتقادية ليس من الصحيح توجيه اللوم له، بل يستحق الثناء والتقدير لو كان مخلصاً حسن النية في تحركه، وإذا كان ثمة انتقاد معين فلا بد أن يمسّ الاختيار لا التقيّد بالاُصول والمعايير المأخوذ بها، وعليه فإن أي توقّع يتجاوز عتبة الاُصول والإلزامات إنما هو توقّع غير مشروع.

يقول الناقد بعد نقل كلام مغنية: «مع التقدير للاُستاذ مغنية فالباحث ليس متفقاً معه في الاُسلوب؛ إذ أن فيه تحاملاً لا مبرر له. وإن عرضنا لهذه الفكرة أو أية أفكار ترد من هذا القبيل ليس من أجل تقوية دوافع التعبير عن تعصب أو تقوية دوافع  التعصب، ولكن عند غضّ النظر عن صبغة الانفصال في الفكرة نتحسس بحقيقة قوية راسخة متينة، وهي علاقة اُسلوب تعامل الشيعة مع الحاكمين واُسلوب السنّة معهم، وكذلك ظروف وأحوال كلٍّ من السنّة والشيعة في ظل الحكّام منذ وفاة الرسول 9».

ثم يقول: «إن مسألة الآراء التي صدرت عن الفقهاء ليست مسألة شخصية فردية وإنما هي مسألة عامة، فالرأي الذي صدر عن فقيه لا يخصّ الفقيه ذاته فقط، وإنما يخصّ حتى أتباعه ومريديه ومؤيديه؛ ولذلك فإن معالجة أية مسألة لا يجوز أن تتمّ هكذا مطلقاً. ونرى في اُسلوب الشيخ مغنية هذا خلطاً كبيراً، والباحث لا يوافقه على هذا النمط من التعبير حتى وإن كانت هنالك بعض الحقائق في أمثال هذه الآراء.

صحيح أننا بحاجة إلى الجرأة في مواقف، ولكن يجب أن لا ننسى الحدود والسدود، فهذه وسيلة وليست غاية، وحينئذ سنضحّي بالغاية في سبيل الوسيلة.

أما موقف الشيعة من الحاكم  الجائر فيستند إلى اُصول عميقة الجذور أدلتها نمط التعامل مع الحكام من قبل أئمة أهل البيت الاثني عشر المعصومين الذين يتّبعهم الشيعة الإمامية الاثنا عشرية»([9]).

وهذا أيضاً يمثل جانباً من القضية، ويعود الجانب الآخر منها إلى الجمهور. فالأمر لا ينحصر فقط في فرض الهيكلية الفقهية والكلامية وكذا الإجماع والتجربة التاريخية لأهل السنّة نوعاً من القيود في مجال النشاطات السياسية والاجتماعية لعلمائهم، حيث عملت هذه القيود طوال التاريخ على تحديد دائرة توقّع الجمهور أيضاً، وتبعاً لذلك فإن نظرة السني إلى عالم الدين تختلف اختلافاً كبيراً عن نظرة الشيعي إليه، وبالتالي يختلف توقّع كلٍّ منهما بما يناسب هذه النظرة.

فعالم الدين بين أهل السنّة هو الشخص المؤمن المتقي والمتخصص في العلوم الإسلامية، وهو المرجع في مسائلهم الدينية([10]).

أمّا عالم الدين في رأي الشيعي فيتجاوز هذه النظرة ليكون مأمن الجمهور وملاذهم، ليس في الشؤون الدينية وحسب، وإنما يراجَع أيضاً في القضايا الشخصية، بل ويُطلب رأيه في المسائل الاجتماعية والسياسية المختلفة.

إننا يجب أن لا نفتش عن هذا الاختلاف في تباين البيئة الاجتماعية فقط، فالدلائل الإيديولوجية تدخل كسبب مهم في هذا الاختلاف باعتبارها عاملة على نشوء الاختلاف في البيئة الاجتماعية؛ ومن أهم هذه الدلائل: فتح باب الاجتهاد عند الشيعة ولزوم تقليد المجتهد الحيّ، على عكس أهل السنّة، وكنتيجة طبيعية ومنطقية لذلك يُلزَم الجمهور الشيعي الرجوع إلى المجتهد في "الحوادث الواقعة" وكل جديد في جميع المجالات، والاستعلام عن رأيه فيه وإطاعته. أمّا العالم السنّي فهو لا يتعدّى كونه ناقلاً للفتوى، وهي فتوى يتجاوز عمرها الألف سنة. فالعالم الشيعي إمّا أن يُدلي برأيه الخاص، أو ينقل رأي المجتهد الحيّ على الأقلّ؛ لذلك تختلف الشخصية والبنية النفسية لدى من بلغ مرحلة الاجتهاد والإفتاء عمّن ينقل الفتوى كآخر مرحلة يبلغها، وتبعاً لذلك تختلف الشخصية والبنية النفسية لمن يرجع إليهما في اُموره. وإذا لم يكن في الماضي مجال لبروز هذا التباين بسبب انغلاق المجتمعات الإسلامية ولا سيما المجتمعات الدينية في بلاد المسلمين وبطء التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فإن المجال قد فُسح لها لتظهر في هذا العصر، بمعنى أن هذا الاختلاف لم يكن طارئاً وجديداً، وإنما يمتدّ بعمر المذهبين، غاية الأمر أنه خرج الآن من حالة الكمون وتجلّى على الصُعد الاجتماعية والسياسية.

فضلاً عن ذلك، فإن الكثير من الاُمور التي يراها أهل السنّة أنها من اختصاص الحاكم يُرجعها الفقه الشيعي إلى الفقيه، ولا ينطوي هذا الموضوع على بعد سياسي بحت، فإن بعده الاجتماعي هو الأقوى والأهم، حيث يتمتع العالم الشيعي بالصلاحيات اللازمة ويراجعه الجمهور في شؤونه، لهذا يصبح مطاعاً من قبل الجمهور الذي يرى في هذه الطاعة فريضة دينية، وهذا ما لم يجرِّبه مجتمع أهل السنّة طوال تاريخهم ولم يستطع أن يجرّبه، ومن المستبعد جداً أن يجرّبه في المستقبل([11]).

القيادة الدينية:

ينطلق مفهوم المرجعية الدينية ولزوم إطاعة المجتهد الجامع للشرائط من الاُسس الفقهية والكلامية للشيعة، هذه الاُسس تجعل للمجتهدين الشيعة مكانة مرموقة وتلزم الجمهور بإطاعتهم. ولا يتوقف الأمر عند رجوع الشيعة إلى المجتهدين في القضايا الحادثة، فالمذهب الشيعي بطبيعته قادر على تربية أمثال هؤلاء المجتهدين وعرضهم إلى الجمهور، كما أن المسألة ليست في أن علماء الشيعة كانوا أشجع وأكثر جهاداً من زملائهم من أهل السنّة على مدى التاريخ، وإنما في أن الاُسس والمبادئ النظرية للشيعة تعزّز بل وتوجد مثل هذه الخصائص([12]).

فيستطيع العالم الشيعي واستناداً على ما تفرضه عليه عقيدته أن يقف بوجه السلطة الحاكمة في الحالات التي يشخّص لزوم الوقوف بوجهها، ويدعو الجمهور لمناصرته دون أن يخالجه أي تردد أو وجل، ولكن كيف يتسنى للعالم السني أن يفعل ذلك؟ وإلى أي شيء يستند في مجابهته؟ صحيح أنه يمكن الاستنباط من مجموع الفقه والكلام السني بجواز الوقوف بوجه السلطان الجائر أو لزومه أحياناً، غير أن ذلك موضع اختلاف، وأن الآراء المخالفة لهذه الفكرة هي أكثر عدداً واعتباراً([13]).

وإذا أردنا أن نحسن الظن فلا يمكن أن نقول أكثر من أن الصراحة الموجودة في الفقه والكلام السنّي في هذه المسألة لا تقترب بأي وجه من الوجوه من صراحة النصوص الموجودة في الفقه والكلام الشيعي، وهذا هو المهم، فكيف يمكن أن نتوقع والأرضية كهذه ظهور علماء ملتزمين بمبادئهم الفقهية والكلامية والاعتقادية يمتازون بخصوصيات المواجهة؟

وعندئذ لا تكون المسألة مسألة شخصية بحتة تعود أسبابها إلى الصفات الشخصية لعلماء الشيعة والسنّة، وإنما هي مجموعة التركيبة الفقهية والكلامية للمذهبين التي رسمت نهجين مختلفين لعلماء الفريقين وأتباعهم في مجال المسائل السياسية المهمة والموقف منها.

وقد أرست هذه الاُسس والمبادئ وعلى مدى التاريخ القواعد الاجتماعية والسياسية والنفسية بما يتناسب مع خصائصها، ووضعت الشيعة والسنّة وعلماءهما على مسارين مختلفين في التاريخ والاجتماع والفكر والاعتقاد([14]). ومن الخطأ جداً أن نجري مقارنة بين الطرفين دون الأخذ بالاعتبار الفوارق الموجودة، وبالطبع يمكن لمجموعة من الشباب الفعّال والملتزم من السنّة أن تلتحم مع بعضها في حزب إسلامي وتختار لنفسها قائداً سياسياً دينياً، ولكن من الصعب أن نتوقّع بأن مثل هذا الإجراء سيكتب له النجاح والاستمرار، ولا ينتهي إلى الفشل في مواجهة الحقائق المرّة بسبب افتقاره للإلزام الديني؛ مضافاً لذلك فإن مثل هذا الإجراء المحدود لا يمكن أن يسري إلى جسد كل المجتمع؛ ذلك أن كل مجتمع يتقدم على ضوء خصوصياته لا على أساس ما تريده مجموعة معينة([15]).

على أية حال لا نهدف هنا إلى توضيح هذه الفوارق، وإنما التنبيه إلى وجودها وتجذّرها بعمق تاريخ هذين المذهبين، ولابد من التعرّف عليها بنحو علمي بعيداً عن إصدار أحكام مسبقة عنها؛ لكي يفهم كل فريق الآخر بصورة أفضل، ولا ينتظر منه أكثر مما تمليه عليه خصائصه الاعتقادية، حيث واجهنا مثل هذه المشكلة لا سيما في السنوات الأخيرة.

ولكي يتضح تأثير الفكر السياسي للشيعة والسنّة على الحركة الإسلامية الموجودة ينبغي أولاً أن تتضح خصائص هذه الحركة التي قيل وكتب الكثير عنها، ولا ريب في أن أية قضية لم تستقطب الأنظار والأفكار على المستوى العالمي كما استقطبته هذه الحركة في العقد الأخير، وليس الهدف أن نكرر تلك التحليلات أو نقيّمها، بل أن ندرسها بلحاظ آفاقها التاريخية والاجتماعية في أحداث التاريخ المعاصر للعالم الثالث الذي يشكّل العالم الإسلامي جزءاً منه.

إذا نظرنا نظرة شاملة لرأينا أنّ الحركة الإسلامية الموجودة تمثّل طليعة مرحلة تاريخية جديدة غطّت كل العالم الإسلامي رغم اختلاف مظاهر بروزها في منطقة عن اُخرى من العالم الثالث، لكنها انتشرت عموماً في كل مكان، وتربّعت في العالم الإسلامي على منصّة الظهور بقوة أكبر لأسباب خاصة. كما تباينت شدة هذه الموجة في العالم الإسلامي نفسه تبعاً للظروف التاريخية وعمق التغلغل الديني، ومستوى الإبداع الذي تركه الإسلام على المنطقة، وحجم التحولات الاقتصادية والصناعية والاجتماعية والسياسية، بيد أنه لا يمكن إنكار انتشارها في كل مكان وأنها تركت بصماتها على كل المناطق، فما هي الحكاية؟

منذ أن دخلت بلدان العالم الثالث إلى العصر الجديد باختلاف كبير حسب المناطق بدأت مرحلة تاريخية جديدة استمرت تقريباً إلى أواخر عقد الستينات وأوائل عقد السبعينات، وبدأت منذ ذلك المقطع الزمني فما تلاه مرحلة اُخرى تختلف عن سابقتها كثيراً على المستوى الثقافي والميول السياسية والاجتماعية على الأقل، ومن الطبيعي أن لا تشترك جميع البلدان بفترة زمنية واحدة في دخولها للمرحلة الأخيرة، إذ تبدأ هذه المرحلة متقدمة أو متأخرة وبشدة أو بضعف حسب الخصائص التاريخية والاقتصادية والسياسية لكل بلد، وتبدأ من أوائل الستينات حتى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، وتعتبر الاضطرابات الموجودة في العالم الثالث ولا سيما العالم الإسلامي علامات سياسية لهذه المرحلة الجديدة([16]), وهي إما أن جاءت كوليدة لهذه المرحلة تماماً، أو أنها خضعت لخصائصها.

ومنذ أن اتصل العالم الثالث بالمدنية الجديدة والتاريخ الجديد سواء عن طريق الاستعمار أو بطريق التعامل الطبيعي بدأت في تاريخه مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها، ويمتدّ هذا العالم من الصين واليابان إلى الهند وإيران ومصر وسائر الدول الأفريقية نستثني في البحث لأسباب تاريخية واجتماعية دول أمريكا اللاتينية حيث يدور الحديث عن البلدان التي كانت تتسم بحضارة وتاريخ وثقافة خاصة بها تدخل في اُسلوب معيشتها، ثم شهدت تحولاً بتماسّها مع العالم الجديد وحطّت بالتالي في مرحلة جديدة، دون أن يُقطع تاريخها بهجرة أعداد كبيرة إليها تحمل معها ثقافة مغايرة تماماً للثقافة المحلية كما حصل في أمريكا اللاتينية([17]).

في الفترة التي سبقت هذا التماس كانت تحصل هذه التحولات في نطاق الخصائص التاريخية والثقافية للمنطقة نفسها، ولكن المرحلة الجديدة بدأت حينما حصل الاتصال واتسع وتعمّق بمرور الوقت. ولهذه المرحلة ميزات خاصة بها سنشير إلى أهمها في حدود ما يرتبط منها بهذا البحث.

حاكمية النخبة:

الميزة المهمة لهذه المرحلة: تأثير الثقافة الجديدة على فئة النخبة والشريحة المثقفة والممسكة بزمام الاُمور في هذه البلدان بصورة عميقة قد تصل أحياناً إلى حدّ التعلق الشديد بها والتغرّب عن الذات، وبالرغم من ذلك فإن الجماهير وحتى أوائل الستينات والسبعينات لم تخضع لتأثير تلك الثقافة بنحوٍ مباشر ومؤثّر وشامل تبعاً لسرعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية أو بطئها وانفتاح المجتمع أو انغلاقه، إذ كانت الشعوب تعيش في بيئاتها التقليدية وظروفها الخاصة التي ورثتها عن السابق، فكانت القيم هي نفسها القيم القديمة وكذلك طريقة الحياة والأهداف والمُثل. ورغم دخول عناصر من الثقافة الجديدة إلى صميم حياة تلك الشعوب سواء بطريق النخبة والمثقفين أو بطريق إلزامات الحياة اليومية التي تخضع للضغوط المتزايدة من قبل التكنولوجيا، إلا أنها في مجموعها لم تكن قادرة على إجراء هذا التحول، فقد بقيت الاُسس والركائز الاجتماعية والثقافية والاقتصادية على ما كانت عليه من صورة تقليدية، أو أنها تغيرت ولكن ليس إلى حد الذوبان التام([18]).

ولهذه المرحلة التاريخية في العالم الثالث وفي البلدان الإسلامية خصوصيتان مهمتان: إحداهما ما ذكرناه قبل قليل، أي تأثر فئة النخبة والشريحة المثقفة والممسكة بزمام الاُمور في هذه المجتمعات بالثقافة الجديدة والتغرّب عن ثقافتها المحلية وبالطبع تختلف باختلاف الأفراد والظروف والمناطق وتمسّك جماهير الناس بالثقافة والتراث القديمين.

والثانية: السلطة القاهرة للثقافة الجديدة وقيمها على مركز القرار والتخطيط العام في المجتمع من خلال هذه النخبة المتأثرة بها. وترتبط هذه السيطرة والسلطة بعقيدة النخبة الجازمة بالتفوق المطلق للثقافة الجديدة من جهة([19])، وبنوع من الاعتراف بهذا التفوق من قبل الجمهور رغم معيشته في أجوائه التقليدية الخاصة من جهة اُخرى، ويبدو هذا الاعتراف والإذعان في أدنى مستوياته بدليل عدم إعلان معارضة صريحة مستمرة له، ورغم ارتفاع بعض صيحات الاحتجاج المتقطعة إلا أنها لم تكن منتظمة ومستمرة، ولا شك في أن القوى الاستعمارية لعبت دوراً مصيرياً في فرض سلطة الثقافة الجديدة وقيمها([20]).

هذه بشكل مجمل طبيعة هذه المرحلة التاريخية من التاريخ المعاصر لعامة بلدان العالم الثالث ومنها الدول الإسلامية، فقد عاشت الشعوب وثقافاتها على هامش الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، حينما أمسكت النخبة المتجددة بمقاليد الاُمور ومطلق السلطة، وهي أشبه بالسلطة الاستبدادية للفترة التي سبقت الدخول إلى التاريخ الجديد، باختلاف الظاهر الذي اصطبغ بصبغة الحداثة، حيث عمل هذا الظاهر على تعزيز موقع النخبة وفرض سلطتها، وكان الهدف قيادة المجتمع نحو القيم والخصائص المتوفرة في الثقافة الجديدة، ولم يكن لهذا الهدف أن يتحقق لولا الرضا الظاهري لأبناء التراث القديم، أو التزامهم الصمت على أقل تقدير([21]). وهذا لا يعني بأن الثقافة والتراث القديمين قد علاهما غبار النسيان تماماً وأن النخبة المتعصرنة الممسكة بالاُمور قد تجاهلتهما كلياً، بل إنّ الذي حصل هو أن الماضي بات يدرس ويغربل وفق قيم المدنية الجديدة ونظرتها، ولهذا انعدم وجه الشبه مع حقيقته بالشكل الذي كان عليه وبالشكل الذي انتشر بين صفوف الناس، حيث انسجم هذا التصوير للماضي مع الثقافة الحاكمة والطبقة الحاكمة وحاجاتها وميولها وأهدافها([22]).

لهذا السبب تحديداً عاش الناس في هامش الحياة الاجتماعية والسياسية، إذ كانوا الوسيلة والأداة التي يستخدمها المتسلطون أو المتعطشون للسلطة وكلاهما من الطراز المتجدد والمتعاصر، ولم يكن لهم رأي مستقل، بل ينظرون إلى الأحداث بلا مبالاة، وأحياناً بنوع من الخوف والقلق، كما كان ينقصهم البلوغ الفكري والثقافي الذي يؤهّلهم للتفكير بآراء جديدة، كما كانوا لا يستطيعون مواجهة السلطة المطلقة للثقافة الجديدة الحاكمة على المجتمع، فقد بهرت الجميع بهارج المدنية والمنادين بها وحماتها، وهو سبب يكفي لأن يجعل التحولات الاجتماعية والسياسية في هذه المرحلة التاريخية تتبلور بصورة رئيسية على يد الحكام أو النخبة التي يختلف تفكيرها عن النظام الحاكم اختلافاً ليس جوهرياً؛ ذلك لاشتراك رجال السلطة أو المعارضين السياسيين ومعظمهم أو كلهم من النخبة المتجددة في الانقياد للتعاصر والمدنية الجديدة، أما الاختلاف فقد كان إمّا على السلطة، أو لاختلاف الذوق، على عكس المرحلة اللاحقة التي بلور تطوراتها جيل الشباب([23]).

إذن فإن التحولات السياسية والاجتماعية وحتى الفكرية والثقافية لهذه المرحلة إنما جرت على يد النخبة المتغربة، بينما كان عامة الناس على هامش التحولات والحياة الاجتماعية الفعالة: بين مراقبٍ للحوادث غير مبالٍ بها، أو أداة لتحقيقها، المهم أنهم كانوا تابعين لا دور لهم في تقرير المصير. وخلال هذه الفترة كانت النخبة تمسك بالسلطة وبقيادة التيارات السياسية المعارضة معاً، في حين يقع الفعل السياسي الاجتماعي في أجواء أوسع من أجواء الحياة العملية لعامة الناس.



(1) حول الإجراءات المسيحية في هذا المجال انظر مثلاً:

Vatican Council II, the Conciliar and Post Conciliar Documents, pp.903-911.

(1) للمزيد من الاطّلاع راجع: العقيدة والشريعة في الإسلام: 250260، وكذلك: البدعة، تحديدها وموقف الإسلام منها.

(2) راجع لتوضيحٍ أكثر الفصلين 3و4.

(3) كمثالٍ راجع:

Asif Husayn, Islamic Movements in Egypt, Pakistan and Iran.

(1) لتوضيح هذا البحث لابدّ من دراسة كيفية تأثير الإسلام على المجتمع ودوره في إيجاد التحولات الاجتماعية والتاريخية، وكذلك خصائص الإسلام الاُخرى. راجع في هذا المجال كتاب: ايدئولوجي وانقلاب (العقيدة والثورة): 111149، وكذلك: الفكر السياسي الشيعي: 37115، والعقيدة والشريعة في الإسلام: 173177.

(2) لمعرفة اختلاف تأثير الأيديولوجيتين الشيعية والسنية على المجتمع الشيعي والسني طوال التاريخ والمرحلة المعاصرة، انظر:Faith and Power,pp.31-55، وكتاب: الفكر السياسي الشيعي: 37180، ويعتبر الكتاب الأخير أحد أفضل المصادر في هذا الحقل وأندرها.

(1) من أفضل المصادر التي يمكن مراجعتها لمعرفة اختلاف التكوين الفكري والنفسي والديني للشيعة والسنّة ودوافعهما ونظرتيهما للتاريخ ولا سيما تاريخ صدر الإسلام: هي الكتب التي ألّفها السنّة المتشيّعون، وكمثال على ذلك لاحظ: محاكمة تاريخ آل محمد للقاضي بهجت أفندي، ولماذا اخترت مذهب الشيعة؟ لأمين الأنطاكي، وثم اهتديت للمفكر التونسي المتشيع محمد التيجاني السماوي. وانظر أيضاً: نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية لأحمد محمود صبحي: 15 68.

(1) الشيعة والحاكمون: 26 27.

(1) الفكر السياسي الشيعي: 64 65.

(2) يوضح عبد الكريم الخطيب هذه النقطة بصورة جلية في كتابه: سدّ باب الاجتهاد وما ترتب عليه، وخاصة ص 3 8.

(1) الحقيقة أن علماء الدين الشيعة والسنّة يخضعون لتأثير نوعين من الظروف الاعتقادية والتاريخية والفكرية والاجتماعية والسياسية المختلفة، وينطبق هذا الكلام خاصة على القرون الأخيرة لا سيما في المرحلة المعاصرة. فالمؤسسة العلمائية عند الشيعة مؤسسة مستقلة ليس فقط اقتصادياً وتنظيمياً كما يقول البعض، بل المهم في ذلك أن الجمهور والسلطة معاً كانا يعترفان طوال التاريخ باستقلالية هذه المؤسسة، وهو ما كانت تعتقد به المؤسسة نفسها والمجتمع الشيعي، أو المجتمع الإيراني على الأقل بما لا يمكن تجاوزه وتجاهله. فقد نشأ المجتمع الإيراني ومنذ العهد القاجاري على الأقل فما بعد بشكل كان يحتاج باستمرار لمراجعة هذه المؤسسة ولا سيما في الاُمور التي ترتبط بعامة الناس، حتى يمكن القول: إنّ حاجة المجتمع لهذه المؤسسة فاقت حاجة المؤسسة إلى المجتمع، فلأسباب عديدة كانت حاجة الناس قائمة لهذه المؤسسة، ولا نبالغ لو قلنا بأن المؤسسة العلمائية هي في الحقيقة تحقق مادي للحاجات العاطفية والنفسية والدينية للجمهور الإيراني، ولهذا استمرّ وجودها حتى يومنا هذا رغم كثرة المشاكل الداخلية والخارجية. وكانت  هذه المؤسسة أكبر مسند عاطفي وأخلاقي للشعب طوال القرنين أو القرون الثلاثة الماضية على أقل تقدير. ولم تنحصر رغبة الناس في مراجعة هذه المؤسسة لطرح قضاياها الخاصة وحسب، بل كانت تراجعها أثناء الشدة وحلول المصائب وتبحث لديها عن حلّ لمشكلاتها.

     ويطول بنا المقام لو أردنا إجراء دراسة كاملة لهذا الموضوع، لهذا نختصر ونقول: إنّ المؤسسة العلمائية والمرجعية عند الشيعة هي على الشاكلة التي ذكرنا مما لا يوجد وربما لا يمكن أن يوجد مثلها بين أهل السنّة، لا في العوامل المؤدية إليها ولا في التجارب التاريخية، فلهم مبادئهم الاعتقادية الخاصة بهم وتجاربهم الفردية والجماعية وتأريخهم، والعالم السنّي لا يعدو كونه متخصصاً في المسائل الإسلامية والفقهية، أي أنها مهنة لا تختلف عن غيرها من المهن التي يعمل بها الناس، والعالِم بدوره يعمل في مجال إمامة الجماعة والجمعة ومطالعة المسائل الدينية والفقهية، وبالتالي فإن الجمهور لابدّ أن يراجعه فيها.

     للأسف، فإن تحولات المرحلة الأخيرة وإصلاح النظام التعليمي أدى بالمؤسسة العلمائية السنية إلى أن تصبح مؤسسة حكومية رسمية متغربة تماماً مما أبعدها أكثر فأكثر عن الجمهور.

     وللشيخ كُشك وهو خطيب مصري معروف ذو شعبية واسعة خطبة بتاريخ 19 نيسان 1981 يوجه فيها كلامه إلى علماء الأزهر وغيرهم، ويشير إلى الضربة التي تلقاها الأزهر عام 1961 تحت واجهة الإصلاح، وينتقد ما آل إليه الوضع التعليمي فيه، انظر كتاب بيامبر وفرعون: 219 222.

     ولكن رغم كل هذه الانتقادات وغيرها لابدّ أن نذعن بأن العالم السنّي قد ابتعد عن الحياة الاجتماعية والسياسية الفعالة دون إرادة منه، وولّدت هذه الحالة مشاكل كثيرة لا سيما في المجتمعات السنية الملتزمة، ويعود إليها السبب الرئيسي لانحراف الحركات الإسلامية في هذه المجتمعات. ولابدّ أن نؤكد هنا بأن هذا التنائي هو نتيجة طبيعية وقسرية للوضع السابق أكثر  من كونه إرادة واعية أو تهرباً من المسؤولية؛ ذلك لأنّ هذه القضية ليست قضية الساعة، وأنها لم تتولد في ظروف القرن الأخير، وإنما تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ.

     والطريف في الأمر أن ينبري شخص ذو ميول معادية للشيعة كرشيد رضا ليثمِّن بصراحة الدور المؤثر والفعّال لعلماء الشيعة وجهودهم لحفظ إسلامية المجتمع، ويحضّ علماء مذهبه على القيام بدور مماثل، راجع: انديشه سياسي در اسلام معاصر (الفكر السياسي في الإسلام المعاصر): 141 142.

     وحول تكوين العلماء السنّة ودورهم طوال التاريخ الإسلامي لاحظ المقالة الممتعة (العلماء) في كتاب:

Gibb and Bowen, Islamic Society and the West, pp.81- 113.      

     وانظر أيضاً الكتاب المهم: الإسلام بين العلماء والحكام، لعبد العزيز البدري.

     وعن انتقاد علماء الدين من قبل التقدميين والمتجددين انظر كمثال انتقادات أحد المثقفين الملتزمين في العالم العربي خالد محمد خالد في كتاب: الشيعة في الميزان لمغنية، 375 378 وكذلك انتقاد أحد المثقفين العلمانيين العرب أحمد بهاء الدين في كتاب: الإسلام والخلافة في العصر الحديث: 18- 34.

     وللاطلاع على تقويم حيادي حول دور علماء الدين ولا سيما في حماية التراث الأدبي العربي راجع: من حاضر اللغة العربية: 24و25.

(1) يمكن ملاحظة مثال بارز على ما أشرنا إليه في علاقة الشيخ جعفر كاشف الغطاء وفتح علي شاه، انظر: نخستين روياروييهاى انديشه كران ايران بادو رويه تمدن بورجوازي غرب (المجابهات الاُولى للمفكرين الإيرانيين مع منهجين للمدنية البورجوازية الغربية): 329332، ويقدم كول أمثلة اُخرى كثيرة:

Roots of North Indian Shiism in Iran and Iraq pp. 113- 204.

(2) راجع معالم الخلافة في الفكر السياسي الإسلامي: 125- 126، وكذلك النظريات السياسية الإسلامية: 71 -72.

(1) ينقل مك دونالد عن غولدتسيهر القول: «لا يزال يوجد بين الشيعة منصب المجتهد المطلق، لأنهم يعتقدون بأنه يمثل الإمام الغائب؛ ولهذا فإن مكانة العالم عندهم تختلف تماماً عن مكانة العلماء السنّة بين أهل السنّة، فهم ينتقدون الشاه بحرية ويسيطرون عليه، أما العلماء السنّة فلا يعدو كونهم أشخاصاً تابعين للحكومة».

Shorter Encyclopaedia of Islam, p. 158.

(2) بينما كان هناك فراغاً في وجود مؤسسة كالمؤسسة العلمائية أو غيرها شبيهة بالجمعيات والهيئات الدينية التي كانت تحفظ دائماً للمجتمع إسلاميته في بلد كإيران، اقترح الكثير من المثقفين الملتزمين من السنّة مشروع تأسيس أحزاب إسلامية، وكان الهدف الأول الذي رافق ظهور هذه الفكرة إيجاد مؤسسات قانونية واجتماعية لحماية القيم والتعاليم الإسلامية، وليس القيام بنشاطات سياسية. وقد مثّل علماء الدين والمؤسسات الدينية والاجتماعية وحتى المؤسسات الاقتصادية التقليدية والسوق العامل الديني المهيمن على الحكومات المركزية الإيرانية لمواجهة التحديث الغربي الجامح والإجراءات المناوئة للدين ومصالح الوطن، ومثل هذه المؤسسات إمّا انعدم وجودها في عامة البلدان الإسلامية، أولم تكن تتمتع بالقوة والاستقلال الكافيين. فما يسيطر على الأنظمة في هذه البلدان أو يخيفها هو الرأي العام، لكن هذا العامل لا يقدر أن يبدي رد الفعل المناسب في الوقت المناسب أولاً، ويخضع لتأثير إعلام الأنظمة الحاكمة وتهديدها ثانياً، لهذا لجأ المثقفون والعلماء الملتزمون إلى التفكير بتأسيس أحزاب إسلامية.

     على سبيل المثال يرى مؤلف كتاب "معالم الخلافة في الفكر السياسي الإسلامي" وجوب تشكيل أحزاب تعمل بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول بأن إثم عدم القيام بها من قبل المسلمين سيرتفع لو تصدى الحزب وبادر لإحيائها، ذلك أن هذه الفريضة تعتبر واجباً كفائياً ولا يجوز شرعاً منع تشكيل أحزاب اُخرى؛ لأنه بمثابة منعٍ عن القيام بالواجب وهو حرام، ويؤكد مؤلف الكتاب المذكور بأن القيام بالواجب لا يحتاج إلى ترخيص من الحاكم، بل من غير الجائز أن يرتبط ذلك بإذن الحاكم، ولهذا لا حاجة للمسلمين في تأسيس الأحزاب السياسية إلى كسب إذن من الدول الإسلامية. راجع الصفحة 273-274.

    وفي هذا الإطار يذكر مؤلف آخر بأن حق الانتقاد هو من الحقوق التي أقرها الإسلام لكل أعضاء المجتمع الإسلامي، ولهذا فإنه يحق لمن يريد أن يدعو الناس إلى آرائه وأفكاره أن يشكّل الأحزاب والجمعيات.

     انظر: نظام الحكم في الإسلام: 92، وللمزيد من الاطّلاع راجع: الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية والحياة السياسية المصرية: 1948و 131132، وكذلك: معالم في الطريق: 173.

(1) انظر: بيامبر وفرعون (الرسول وفرعون)، 283 295.

(2) حول الفكر الثوري في أمريكا اللاتينية واختلاف خصوصياته مع خصوصيات الفكر الثوري في الكثير من بلدان العالم الثالث وخاصة العالم الإسلامي، راجع: "فيدل ومذهب" (فيدل والدين)، تأليف فري بتو، وخاصة كتاب مجموعة آراء وخطب جيفارا بعنوان:

Che Guevara and the Cuban Revolution

     لمعرفة الفارق بين الفكر اليساري لجيفارا على سبيل المثال والفكر اليساري لقرينه في إيران في استراتيجية حزب (فدائيان خلق) قبل انتصار الثورة، وقارنوا هذا الكتاب مع مؤلفات أكبر منظّر لهذا الحزب بيجن جزني، وللمزيد راجع: ايدئولوجي وانقلاب (العقيدة والثورة): 214220 وإيران: ديكتاتوري وبيشرفت (إيران: الديكتاتورية والتقدم): 37243، وكذلك:

Islam and the Search for Social Order in Modern Egypt.

     حيث يناقش التطورات الفكرية والسياسية والاجتماعية للمجتمع المصري من خلال بيوغرافيا لأحد أهم مثقفي النصف الأول من القرن العشرين محمد حسنين هيكل.

(1) كمثال، لاحظ: الأيام لطه حسين.

(1) كمثال، راجع آراء طه حسين في كتابه المثير "مستقبل الثقافة في مصر" الذي أصدره عام 1938م، يقول في جانب منه: «إنّ سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الاُوربّيّين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع» نقلاً عن مؤلفات في الميزان:19 ولاحظ مجملاً لآرائه وانتقاداته في:

 E.Von Grunebaum. Islam, pp. 208-216.

(2) راجع : العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي، وخاصة الصفحتين   158- 159.

(1) يقدم محمد المبارك وصفاً لهذه المرحلة في مسقط رأسه سوريا في مقدمة مفصلة لكتابه: "الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الاستعمار الغربي"، وهو وصف مليء بالمعاناة والألم على الهجوم الذي تعرضت له هذه الثقافة واللغة والآداب والتقاليد وجميع المظاهر الدينية. وراجع أيضاً: "إسلام در جهان امروز" (الإسلام في عالم اليوم) لكانت وول اسميث: 114161، الذي يبين المشاعر الدينية المجروحة للعرب والمسلمين في العصر الحاضر، في المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط: العدد 4 لعام 1981م.

(2) يمكن ملاحظة أمثلة على هذا التصور في كتاب "ناسيوناليسم ترك وتمدن باختر" (القومية التركية والمدنية الغربية) لضياء كوكالب الأب المعنوي لتركيا الحديثة؛ وانظر المقدمة الرائعة لكتاب "علم وتمدن در اسلام" (العلم والحضارة في الإسلام) للسيد حسين نصر في انتقاد مثل هذه الرؤية، وكذلك "ايدئولوجي وانقلاب" (العقيدة والثورة): 640 693.

(1) لدراسة الخصائص الفكرية للمثقفين المسلمين وأهدافهم في هذه البرهة التاريخية راجع كتاب:G.E.Von Grunebaum, Islam, 1949,pp. 185- 186.  ويتضمن أيضاً نقداً لآرائهم.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام الصادق (عليه السلام) يشهر سيف العلم!
قرّاء القرآن و كيفية قراءته
منكروا المهدي من أهل السنة وعلة إنكارهم
مفاتيح الجنان(300_400)
حبيب بن مظاهرو حبه لأهل البيت
حديثٌ حول مصحف فاطمة (ع)
قال الحكيم و المراد بعترته هنا العلماء العاملون ...
الوصايا
تشبيه لطيف من صديق حقيقي‏
خلق الأئمة ( ع ) وشيعتهم من علِّيِّين :

 
user comment