عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

تنزيه سليمان عن المعصية

سليمان عليه السلام

تنزيه سليمان عن المعصية :

( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه أواب اذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال اني احببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق ) ( 1 ) أو ليس ظاهر هذه الآيات يدل على ان مشاهدة الخيل الهاه واشغله عن ذكر ربه ، حتى روي أن الصلاة فاتته وقيل انهاصلاة العصر ، ثم انه عرقب الخيل وقطع سوقها واعناقها غيظا عليها ، وهذا كله فعل يقتضي ظاهره القبح .
( الجواب ) : قلنا أما ظاهر الآية فلا يدل على اضافة قبيح إلى النبي ( ع ) والرواية اذا كانت مخالفة لما تقتضيه الادلة لا يلتفت اليها لو كانت قوية صحيحة ظاهرة ، فكيف اذا كانت ضعيفة واهية ؟ والذي يدل على ما ذكرناه على سبيل الجملة ان الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه وتعريفه والثناء عليه ، فقال : نعم العبد انه أواب ، وليس يجوز ان يثنى عليه بهذا الثناء ثم يتبعه من غير فصل باضافة القبيح اليه ، وانه تلهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة والذي يقتضيه الظاهر ان حبه للخيل وشغفه بها كان بإذن ربه وبأمره وتذكيره إياه لان الله تعالى قد أمرنا بارتباط الخيل واعدادها لمحاربة الاعداء ، فلا ينكر ان يكون سليمان عليه السلام مأمورا بمثل ذلك . فقال اني احببت حب الخير عن ذكر ربي ، ليعلم من حضره ان اشتغاله بها واستعداده لها لم يكن لهوا ولا لعبا ، وانما اتبع فيه أمر الله تعالى وآثر طاعته .
وأما قوله : احببت حب الخير ففيه وجهان .
احدهما : انه أراد أني احببت حبا ثم أضاف الحب إلى الخير . والوجه الآخر : انه أراد احببت اتخاذ الخير . فجعل قوله بدل اتخاذ الخير حب الخير .
فأما قوله تعالى : ( ردوها علي ) فهو للخيل لا محالة على مذهب سائر اهل التفسير .
فأما قوله تعالى : ( حتى توارت بالحجاب ) ، فان أبا مسلم محمد بن بحر وحده قال انه عائد إلى الخيل دون الشمس ، لان الشمس لم يجر لها ذكر في القصة . وقد جرى للخيل ذكر فرده اليها اولى اذا كانت له محتملة ، وهذا التأويل يبرئ النبي ( ع ) عن المعصية .
فأما من قال ان قوله تعالى ( حتى توارت بالحجاب ) كناية عن الشمس ، فليس في ظاهر القرآن ايضا على هذا الوجه ما يدل على ان التواري كان سببا لفوت الصلاة ، ولا يمتنع ان يكون ذلك على سبيل الغاية لعرض الخيل عليه ثم استعادته لها .
فأما أبوعلي الجبائي وغيره ، فإنه ذهب إلى ان الشمس لما توارت بالحجاب وغابت كان ذلك سببا لترك عبادة كان يتعبد بها بالعشي ، وصلاة نافلة كان يصليها فنسيها شغلا بهذه الخيل واعجابا بتقليبها ، فقال هذا القول على سبيل الاغتمام لما فاته من الطاعة ، وهذا الوجه ايضا لا يقتضي اضافة قبيح اليه ( ع ) لان ترك النافلة ليس بقبيح ولا معصية .
وأما قوله تعالى : فطفق مسحا بالسوق والاعناق فقد قيل فيه وجوه :
منها : انه عرقبها ومسح اعناقها وسوقها بالسيف من حيث شغلته عن الطاعة ، ولم يكن ذلك على سبيل العقوبة لها لكن حتى لا يتشاغل في المستقبل بها عن الطاعات ، لان للانسان ان يذبح فرسه لاكل لحمها ، فكيف اذا انضاف إلى ذلك وجه آخر يحسنه . وقد قيل انه يجوز ان يكون لما كانت الخيل اعز ما له عليه اراد ان يكفر عن تفريطه في النافلة فذبحها وتصدق بلحمها على المساكين . قالوا فلما رأى حسن الخيل راقته وأعجبته ، اراد ان يقترب إلى الله تعالى بالمعجب له الرائق في عينه ، ويشهد بصحة هذا المذهب قوله تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ( 2 ) فأما أبو مسلم فإنه ضعف هذا الوجه وقال : لم يجر للسيف ذكر فيضاف اليه المسح ، ولا يسمى العرب الضرب بالسيف والقطع به مسحا ، قال فان ذهب ذاهب إلى قول الشاعر :
مدمن يجلو بأطراف الذرى * دنس الاسوق بالعضب الافل فان هذا الشاعر يعني انه عرقب الابل للاضياف فمسح باسنمتها ما صار على سيفه من دنس عراقبها وهو الدم الذي أصابه منها ، وليس في الآية ما يوجب ذلك ولا ما يقاربه ، وليس الذي انكره ابومسلم بمنكر لان اكثر أهل التأويل وفيهم من يشار اليه في اللغة ، روى ان المسح ههنا هو القطع وفي الاستعمال المعروف : مسحه بالسيف اذا قطعه وبتره . والعرب تقول مسح علاوتها اي ضربها .
ومنها : ان يكون معنى مسحها هو انه أمريده عليها صيانة لها واكراما لما رأى من حسنها . فمن عادة من عرضت عليه الخيل ان يمريده على اعرافها واعناقها وقوائمها .
ومنها : ان يكون معنى المسح ههنا هو الغسل ، فإن العرب تسمي الغسل مسحا ، فكأنه لما رأى حسنها اراد صيانتها واكرامها فغسل قوائمها واعناقها وكل هذا واضح .

تنزيه سليمان عن الفتنة :

( مسألة ) : فان قيل : فما معنى قوله تعالى : ( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) ( 3 ) أو ليس قد روى في تفسير هذه الآية ان جنيا كان اسمه صخرا تمثل على صورته وجلس على سريره ، وانه أخذ خاتمه الذي فيه النبوة فألقاه في البحر ، فذهبت نبوته وأنكره قومه حتى عاد إليه من بطن السمكة .
( الجواب ) : قلنا : أما ما رواه الجهال في القصص في هذا الباب فليس مما يذهب على عاقل بطلانه ، وان مثله لا يجوز على الانبياء عليهم السلام ، وان النبوة لا تكون في خاتم ولا يسلبها النبي ( ع ) ولا ينزع عنه ، وان الله تعالى لا يمكن الجني من التمثيل بصورة النبي ( ع ) ولا غير ذلك مما افتروا به على النبي ( ع ) . وانما الكلام على ما يقتضيه ظاهر القرآن ، وليس في الظاهر اكثر من ان جسدا القي على كرسيه على سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان ، مثل قوله تعالى : ( آلم احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) ( 4 ) والكلام في ذلك الجسد ما هو انما يرجع فيه إلى الرواية الصحيحة التي لا تقتضي اضافة قبيح اليه تعالى ، وقد قيل في ذلك اشياء ( منها ) : ان سليمان عليه السلام قال يوما في مجلسه وفيه جمع كثير : " لاطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله " وكان له فيما روي عدد كثير من السراري ، فأخرج كلامه على سبيل المحبة بهذا الحال ، فنزهه الله تعالى عن الكلام الذي ظاهره الحرص على الدنيا والتثبت بها لئلا يقتدى به في ذلك ، فلم تحمل من نسائه إلا امرأة واحدة فألقت ولدا ميتا ، فحمل حتى وضع على كرسيه جسدا بلا روح تنبيها له على انه ما كان يجب بأن يظهر منه ما ظهر ، فاستغفر ربه وفزع إلى الصلاة والدعاء .
وهذا الوجه إذا صح ليس يقتضي معصية صغيرة على ما ظنه بعضهم حتى نسب الاستغفار والانابة إلى ذلك ، وذلك لان محبة الدنيا على الوجه المباح ليس بذنب وان كان غيره اولى منه ، والاستغفار عقيب هذه الحال لا يدل على وقوع ذنب في الحال ولا قبلها ، بل يكون محمولا على ما ذكرناه آنفا في قصة داود عليه السلام من الانقطاع إلى الله تعالى وطلب ثوابه . فأما قول بعضهم : ان ذنبه من حيث لم يستثن بمشيئة الله تعالى لما قال : تلد كل امرأة واحدة منهن غلاما . وهذا غلط لانه ( ع ) وان لم يستثن ذلك لفظا قد استثناه ضميرا او اعتقادا . اذ لو كان قاطعا مطلقا للقول لكان كاذبا او مطلقا لما لا يأمن ان يكون كذبا ، وذلك لا يجوز عند من جوز الصغائر على الانبياء عليهم السلام .
وأما قول بعضهم : انه ( ع ) انما عوتب واستغفر لاجل ان فريقين اختصما اليه ، احدهما من اهل جرادة امرأة له كان يحبها ، فأحب ان يقع القضاء لاهلها فحكم بين الفريقين بالحق ، وعوتب على محبة موافقة الحكم لاهل امرأته ، فليس هذا أيضا بشئ لان هذا المقدار الذي ذكروه ليس بذنب يقتضي عتابا اذا كان لم يرد القضاء بما يوافق امرأته على كل حال ، بل مال طبعه إلى ان يكون الحق موافقا لقول فريقها ، وان يتفق ان يكون في جهتها من غير ان يقتضي ذلك ميلا منه إلى الحكم او عدولا عن الواجب .
( ومنها ) : أنه روي عن الجن لما ولد لسليمان عليه السلام ولد قالوا لنلقين من ولده مثل ما لقينا من أبيه ، فلما ولد له غلام اشفق عليه منهم فاسترضعه في المزن وهو السحاب فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه ميتا تنبيها له على ان الحذر لا ينقطع مع القدر .
( ومنها ) : انهم ذكروا انه كان لسليمان ( ع ) ولد شاب ذكي وكان يحبه حبا شديدا فأماته الله تعالى على بساطه فجأة بلا مرض اختبارا من الله تعالى لسليمان ( ع ) وابتلاء لصبره في اماتة ولده ، والقى جسده على كرسيه ، وقيل ان الله جل ثنائه أماته في حجره وهو على كرسيه فوضعه من حجره عليه . ومنها : ما ذكره ابومسلم ، فإنه قال جايز ان يكون الجسد المذكور هو جسد سليمان ( ع ) ، وان يكون ذلك لمرض امتحنه تعالى به .
وتلخيص الكلام : " ولقد فتنا سليمان والقينا منه على كرسيه جسدا " وذلك لشدة المرض . والعرب تقول في الانسان اذا كان ضعيفا " انه لحم على وضم " . كما يقولون : " انه جسد بلا روح " تغليظا للعلة ومبالغة في فرط الضعف . ( ثم أناب ) اي رجع إلى حال الصحة واستشهد على الاختصار والحذف في الآية بقوله تعالى : ( ومنهم من يستمع اليك وجعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى اذا جاؤك يجادلونك يقول الذين كفروا ان هذا إلا أساطير الاولين ) ( 5 ) ولو اتي بالكلام على شرحه لقول الذين كفروا منهم أي من المجادلين . كما قال تعالى : ( محمدرسول الله والذين آمنوا معه اشداء على الكفار رحماء بينهم ) إلى قوله : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة واجرا عظيما ) ( 6 ) وقال الاعشى في معنى الاختصار والحذف :
وكأن السموط علقها السلك * بعطفي جيداء أم غزال ولو اتي بالشرح لقال علقها السلك منها . وقال كعب بن زهير :
زالوا فما زال انعكاس ولا كشف * عند اللقاء ولا ميل معازيل وانما أراد فما زال منهم انعكاس ولا كشف وشواهد هذا المعنى كثيرة .

تنزيه سليمان عن الشح وعدم القناعة :

( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قول سليمان عليه السلام : ( رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي انك أنت الوهاب ) ( 7 ) او ليس ظاهر هذا القول منه ( ع ) يقتضي الشح والظن والمنافة لانه لم يقنع بمسألة الملك حتى أضاف إلى ذلك ان يمنع غيره منه ؟ .
( الجواب ) قلنا : قد ثبت ان الانبياء عليهم السلام لا يسألون إلا ما يؤذن لهم في مسألته ، لا سيما اذا كانت المسألة ظاهرة يعرفها قومهم . وجايز أن يكون الله تعالى اعلم سليمان ( ع ) انه ان سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له في الدين والاستكثار من الطاعات ، واعلمه ان غيره لو سأل ذلك لم يجب اليه من حيث لا صلاح له فيه . ولو ان احدنا صرح في دعائه بهذا الشرط حتى يقول اللهم اجعلني ايسر أهل زماني وارزقني مالا يساويني فيه غيري اذا علمت ان ذلك اصلح لي وانه ادعى إلى ما تريده مني ، لكان هذا الدعاء منه حسنا جميلا وهو غير منسوب به إلى بخل ولا شح . وليس يمتنع ان يسأل النبي هذه المسألة من غير اذن اذا لم يكن شرط ذلك بحضرة قومه ، بعد ان يكون هذا الشرط مرادا فيها ، وإن لم يكن منطوقا به ، وعلى هذا الجواب اعتمد ابوعلي الجبائي .
ووجه آخر : وهو ان يكون عليه السلام انما التمس ان يكون ملكه آية لنبوته ليتبين بها عن غيره ممن ليس نبيا . وقوله " لا ينبغي لاحد من بعدي " أراد به لا ينبغي لاحد غيري ممن أتى مبعوث اليه ، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين ( ع ) . ونظير ذلك انك تقول للرجل انا اطيعك ثم لا اطيع احدا بعدك ، تريد ولا أطيع احدا سواك . ولا تريد بلفظة بعد المستقبل ، وهذا وجه قريب .
وقد ذكر ايضا في هذه الآية ومما لا يذكر فيها مما يحتمله الكلام ان يكون ( ع ) انما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة التي لا يناله المستحق إلا بعد انقطاع التكليف وزوال المحنة ، فمعنى قوله لا ينبغي لاحد من بعدي أي لا يستحقه بعد وصولي اليه احد من حيث لا يصح ان يعمل ما يستحق به لانقطاع التكليف . ويقوي هذا الجواب قوله " رب اغفرلي " وهو من احكام الآخرة . وليس لاحد ان يقول ان ظاهر الكلام بخلاف ما تأولتم ، لان لفظة بعدي لا يفهم منها بعد وصولي إلى الثواب . وذلك ان الظاهر غير مانع من التأويل الذي ذكرناه ، ولا مناف له . لانه لابد من ان تعلق لفظة بعدي بشئ من احواله المتعلقة به ، وإذا علقناها بوصوله إلى الملك كان ذلك في الفايدة ومطابقة الكلام كغيره مما يذكر في هذا الباب . ألا ترى أنا اذا حملنا لفظة بعدي على نبوتي او بعد مسألتي او ملكي ، كان ذلك كله في حصول الفايدة به ، يجري مجرى ان تحملها إلى بعد وصولي إلى الملك . فإن ذلك مما يقال فيه ايضا بعدي . ألا ترى ان القائل يقول دخلت الدار بعدي ووصلت إلى كذا وكذا بعدي ، وإنما يريد بعد دخولي وبعد وصولي وهذا واضح بحمد الله .


( 1 ) ص 30 - 33
( 2 ) آل عمران 92
( 3 ) ص 34
( 4 ) العنكبوت 1 - 3
( 5 ) الانعام 25
( 6 ) الفتح 29
( 7 ) ص 35

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علماء السنة يجيزون لعن يزيد بن معاوية
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمام
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
اليوم الآخر في القرآن الكريم
الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :

 
user comment