عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الحسين مستميت ومستميت من معه

الحسين مستميت ومستميت من معه

 

في مكارم الأخلاق تتلألأ خلة التضحية تلألؤ القمر البازغ بين النجوم الزواهر، فإذا شوهد في أمرء شعور التضحية اكتفى الناس بها عن أي مكرمة فيه أو أية مأثرة له، ولا عجب، فإنّ الصدق إذا عدّ أصل الفضائل فإن شعور التضحية هو من أجل مظاهر الصدق والمستميت يميت مع نفسه كل شبهة وشائبة من سمعة أو رياء أو مكر أودهاء.

إذاً فشعور شريف كهذا ينجم في تربة الصدق ويسقى بماء الإخلاص لابد وأن يثمر لأهل الحق بالخير الخالد، وإذا كان الموت ضربة لازب لا مهرب منه ولا محيد عنه فاشتر بهذا العمر القصير نفعا عاماً وخيراً خالداً. هي هي والله صفقة رابحة وتجارة لن تبور، فخير الموت الفداء، وأفضل الأضاحي من أمات هيكله البائد لإحياء نفع خالد.

كذلك الشهداء في سبيل إصلاح الأمة أو تحريرها من أسر الظالمين، وسيدّ هؤلاء الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) الذي أحيى ـ هووالذي معه ـ مجد هاشم، ودين محمّد (صلى الله عليه وآله)، ومعارف القرآن، وشعائر الإسلام، وأخلاق العرب في وثباتهم ضدّ سلطة الجور والفجور. فلم تختلف لهجته، ولا تخلّفت سيرته، ولا وهنت عزيمته، ولا ضعفت حركته، ولا ضيَّع مصالح أعوانه لترضية عدوانه. ونفس قوية


الصفحة 126


وأبية مثل هذه أضحت كالمغناطيس جذابة إليها أمثالها ومن على شاكلتها في الإخلاص والتضحية ـ وشبه الشيء مجذوب اليه ـ فالتفّ حول الحسين الحق من صحبه وآله من نسجوا على منواله بتضحية النفس والنفيس في سبيل الدين وصالح المؤمنين، حتى أنّه يوم أحس بالصد والحصار بكربلاء وأنه مقتول لا محالة عزّ عليه أن يقتل بسببه غيره(1) فأذن لأهله وصحبه بالتفرّق عنه، حيث إنّ القوم لا يريدون غيره يدرأ عنهم الموت، ويحلّ بيعته عن ذممهم، فخطب فيهم قائلاً:

«أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وافئدة، فاجعلنا من الشاكرين أمّا بعد; فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ من بيعتي، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً»... الخ.

فقال له إخوانه وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: «لم نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً» فقال الحسين (عليه السلام): «يا بني عقيل حسبكم من القتل ما صنع بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم». قالوا: «سبحان الله! فما نقول للناس ويقولون لنا؟

____________

1) في العقد الفريد ج2 قال: «لمانزل ابن سعد بالحسين وأيقن انهم قاتلوه قام في اصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وادبر معروفها واشمأزت فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا ينهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله فاني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ ذلاً وندماً»... الخ.


الصفحة 127


أنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك».

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: «أنحن نخلي عنك؟ وبم نعتذر الى الله في أداء حقك؟ حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ماثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما والله لو قد علمت أنّي أُقتل ثم أحيى ثم أُحرق ثم أحيى ثم اُذرى يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، هي الكرامه التي لا نفاذ لها أبداً».

وقام زهير بن القين فقال: «والله لوددت أنّي قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى اُقتل هكذا ألف مرّة وأنّ الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك».

وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً فيوجه واحد، فجزاهم الحسين خيراً.

وروي أن رجلاً جاء حتى دخل عسكر الحسين (عليه السلام) فجاء الى رجل من أصحابه فقال له: «إنّ خبر ابنك فلان وافى، أنّ الديلم أسروه فتنصرف معي حتى تسعى في فدائه». فقال: «حتى أصنع ماذا؟ عند الله احتسبه ونفسي». فقال له الحسين: «انصرف وأنت في حلّ من بيعتي أنا اُعطيك فداء ابنك» فقال:: هيهات أن اُفارقك ثم أسال الركبان عن خبرك، لا يكون والله هذا أبداً ولا اُفارقك»(1).

____________

1) انظر الإرشاد ومقاتل الطالبيين وغيرهما.


الصفحة 128


 

 


الصفحة 129


رسل السلام ونذير الحرب

 

قدم إلى كربلاء شمر الخارجي شرّ مقدم ـ إذ كان نذير الحرب وحاملاً من ابن زياد الى ابن سعد أسوأ التعاليم القاسية ـ وحسبه ابن سعد رقيباً عليه ومهدداً له، فاُقلبت فكرته إذ ذاك رأساً على عقب لكي يدرأ عن نفسه تهمة الموالاة للحسين (عليه السلام) طمعاً بإمرة الرّي. فنقل معسكره الى مقربة من الحسين على ضفاف العلقمي، وأوصد عليه باب الورد منه بمصراعيه، وعهد بحراسة المشرعة الى عمر بن الحجاج ـ كما فعله معاوية بجيش أميرالمؤمنين (عليه السلام) في صفين ـ وأخذ يتظاهر على الحسين (عليه السلام) تقرّباً الى ابن زياد، ويتشبه بغلاة الخوارج إرضاء لمن معه منهم، ولم يقنع بكل ما وقع حتى زحف بخاصّته على الحسين (عليه السلام) وتناول من دريد سهماً ووضعه في كبد قوسه ورمى به الى معسكر الحسين (عليه السلام) قائلاً: «اشهدوا لي عند الأمير أنني أوّل من رمى الحسين» ورأى المتزلفون هذه أسهل وسيلة الى نيل القربى من أولياء السلطة فتكاثرت السهام على معسكر الحسين، فقال حسين الجد لأصحابه: «قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم» يعني أنّ الخصوم بدؤونا بالنضال والنزال بدل النزول على حكم الكتاب والسنة ولا يسعنا في هذه الحال سوى استمهالهم الى حين، حين تهدأ فورتهم وإن أبوا إمهالنا فلابد من الدفاع عن مقدساتنا والذب عن النواميس والحرمات، أسوة بالكرام عند اليأس من السلام.


الصفحة 130


 


الصفحة 131


حول معسكر الحسين

 

بعدما أيقن الحسين (عليه السلام) أنّ أعداءه لا يتناهون عن منكر في سبيل النكال والنكاية به أخذ يستعد لدفاع الطوراىء عن أهله ورحله وانتظار قتله، لكنما وجد معسكره في أجرد البقاع عن مزايا الدفاع، وكان مع العدو رجالة سوء من أسقاط الكوفة تبعوا شمراً الضبابي لطمعهم في الجوائز المشاعة وجشعهم على بقايا موائد الرؤساء وشوقاً الى غنيمة باردة، ولا سلاح لدى هؤلاء سوى الحجارة والجسارة، فكان يُخشى منهم على معسكر الحسين (عليه السلام) من كل الوجوه، لا سيما وأنّ هؤلاء الأذناب لا يلتزمون بما تلتزم به رؤساء القبائل من اّداب العرب، فخرج الحسين من معسكره يتخيّر موضعاً مناسباً للدفاع.

وبعدما سبر غور الوهاد والأنجاد أشرف على سلسلة هضاب وروابي تليق حسب مزاياهم الطبيعية أن تتخذ للحرم والخيم، الروابي والتلال متدانية على شاكلة الهلال وهو المسمى «الحير» أو «الحائر» لكن هذا الحصن إنما يفيد من استغنى عن الخروج لطلب ماء أو ذخيرة أو عتاد وأمّا من لا يجد القدر الكافي منها كالحسين (عليه السلام) فإن تحصن في مثل الموضع فكأنّه يبغي الانتحار أو القاء أهله في التهلكة، لأنّ عدوه يتمكن من حصاره من فرجة الجهة الشرقية بكمية قليلة وإهلاك المحصور جوعاً وعطشاً في زمن قصير المدى.


الصفحة 132


لكنما الحسين (عليه السلام) رأى بجنب هذه وجنوبها رابية مستطيلة أصلح من اختها للتحصن، لأنّ المحتمي بفنائها يكتنفه من الشمال والغرب ربوات تقي من عاديات العدو برماة قليلين من صحب الحسين (عليه السلام) إذا اختبأوا في الروابي وتبقى من سمتي الشرق والجنوب جوانب واسعة تحميها أصحاب الحسين ورجاله، ومنها يخرجون الى لقاء العدو أو تلقي الركبان، فنقل الى هذا الموضع حرمه ومعسكره ويعرف الآن «بخيمگاه» أي «المخيم» فصارت محوطة الحير فاصلة بينهم وبين معسكر الأعداء، وأمر أصحابه أن يقربوا البيوت بعضها من بعض، وأن يضرموا النار في قصب وحطب كانا من وراء الخيم في خندق حفروه من شدّة الاحتياط، وأوجد في مخيمه مزايا الدفاع الممكنة، وهو ينتظر الفرج كلما ضاق المخرج.


الصفحة 133


0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول اليوم
في رحاب نهج البلاغة – الأول
حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)
ما هو الدليل على أحقية الامام علي(علیه السلام) ...

 
user comment