عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

لماذا لم يقم بالسيف أحد من الائمة (ع) بعد الحسين (ع) ؟

لماذا لم يقم بالسيف أحد من الائمة (ع) بعد الحسين (ع) ؟


من الأخطاء التي وقع ويقع فيها بعض الناس هو القياس في سلوك الأنبياء والأوصياء فإذا أحد منهم قام بعمل بارز وحساس بحيث يعجبهم ويتلائم مع رغباتهم وأفكارهم . فحينئذ يتوقعون من الآخرين أيضا أن يفعلوا نفس ذلك الفعل ويقوموا بمثل ما قام به فلان لأنه أعجبهم ووافق أهوائهم . وعلى هذا الأساس يقولون :
لماذا لم يقم أحد من الأئمة بثورة مسلحة بعد الحسين (ع) ومن ثم رفض بعض المسلمين إمامة أي إمام لم يقم بالسيف ضد أعداءه فالإمامة عندهم مشروطة بشرط الكفاح المسلح ولذا فهم يعترفون بأمة علي (ع) ثم الحسن (ع) ثم الحسين (ع) ثم زيد بن علي بن الحسين (ع) وابنه يحيى بن زيد وهكذا اما زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق فليسوا عندهم من الائمة لأنهم لم يقوموا بالسيف . وهؤلاء الطائفة الزيدية الموجودون بكثرة في اليمن وغيرها .
والواقع أن هؤلاء وأمثالهم يظنون أن مصلحة الأمة دائما تدور مدار استعمال السيف والكفاح المسلح وجودا وعدما فالإمام الذي لا يقوم بهذا الكفاح لم يخدم مصلحة الأمة . غافلين عن أن استعمال السيف هو علاج اضطراري ومن باب آخر الدواء الكي . فهذا رسول الله (ص) مثلا لم يستعمل السيف إلا بعد مضي ثلاثة عشر سنة أو أكثر من بدء الدعوة وبعد ان اضطر لاستعماله دفاعا عن النفس وفي وجه أناس كان موقفه معهم موقف حياة أو موت . وبعده الإمام أمير المؤمنين (ع) أغمد سيفه خمساً وعشرين سنة وصار


يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن وأخيرا اضطر إلى استعمال السيف ضد أناس فشلت معهم جميع الوسائل السلمية . وبعده الإمام الحسن (ع) الذي جرد السيف في بدء الأمر ضد العدو ولكن لما ثبت لديه أن الكفاح السلمي والحرب الباردة في ذلك الظرف وفي تلك الأحوال أنجح وأنفع للمصلحة العامة والإسلام من السيف . ترك الحرب وجنح للسلم والمصالحة .
فالغرض أنه لا شك في أن مصلحة الحق والدين ليست منحصرة في الحرب بالسيف وفي الثورة الدموية دائماً . بل في بعض الأحيان والأحوال وفي حالات شاذة نادرة . فالحق لا يفرض بالسيف والعقيدة لا تركز بالقوة . ودين الله لا يقوم على الاكراه والإجبار وقد ذكرنا فيما سبق أن ظروف الحسين (ع) كانت ظروفا شاذة انعدمت فيها كل وسائل الدعوة السلمية ولم يجد الحسين (ع) معها بداً من أن يقوم بحركة غريبة ومدهشة لجلب الرأي العام والفات الأنظار وتحريك الضمير الانساني . وقد تحقق كل ما أراده بحركته وبقي استغلال ذلك النتاج وصيانة تلك الثمرة بالبيان والتوجيه ورعاية تلك المكاسب بالدعم الفكري والعلمي والعملي . وهذا هو بالذات كان دور الأئمة (ع) من أبنائه بعده وقد قاموا به على أحسن ما يرام وأتم ما يكون . فالحسين (ع) وجه بثورته الأفكار ولفت الأنظار إلى عدالة قضية أهل البيت (ع) وإنهم مع الحق والحق معهم وإن خصومهم مع الباطل . ولكن ياترى ماهي تفاصيل تلك القضية أي قضية أهل البيت وما هو مفصل هذا الحق الذي لهم ومعهم وما هو وجه الخلاف بينهم وبين غيرهم . فهذه التفاصيل والشروح والبيانات للناس قام بها أبناؤه (ع) بعده بشتى الوسائل الممكنة لديهم وبذلك ظهر الحق وانتشر على الصعيد الفكري عامة وعلى الصعيد العملي إلى حد كبير نسبة ، أما إذا قلت لماذا قعدوا عن استعادة حقهم المغتصب ولم يقوموا بثورة لاسترجاع الخلافة والأمرة والحكم . ؟


قلت : إن ذلك لم يكن مقدورا لهم جميعاً ولم تتوفر لأحدهم الإمكانيات لذلك الغرض . كما لم تتوفر للحسن (ع) ولا للحسين (ع) كما قدمنا سابقا وأعني بتلك الإمكانيات اللازمة لاسترجاع الخلافة من أيدي الغاصبين . الأعوان والأنصار بالقدر اللازم والعدد الكافي والنصاب الشرعي المعروف وهو النصف من عدد العدو وحسب نصوص الآية الكريمة سورة الأنفال آية 67 «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين» .
وكان النصاب الموجب للقتال قبل هذا . هو العشر كما في صريح الآية الكريمة التي قبلها «ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ...» .
فكان النصاب المبرر للقتال أولا هو العشر ثم نسخ وصار النصف من قوة العدو ولا شك في أن النصاب الشرعي بصورتيه الأولى والثانية لم يحصل لأحد الأئمة عليهم السلام بعد النبي (ص) سوى علي بن أبي طالب (ع) فإنه الوحيد من بينهم الذي حصل على النصاب المذكور وتمكن من القيام واستحصال حقه . وأما الباقون فلم يحصلوا على أعوان وأنصار حتى بمقدار النصاب الأول وهو العشر فضلاً عن النصف . فالحسن (ع) مثلا بقي بعد خيانة الجيش في أهل بيته وعدد قليل من الأصحاب والأنصار لا يتجاوزون المائة رجل وفي قباله معاوية ومعه ستون أو سبعون ألف مقاتل . فأي توازن وأي تقارب بين القوتين : لذلك سقط عنه تكليف الجهاد الشرعي ولم يبق أمامه إلا التضحية والشهادة أو الصلح والمهادنة . فاختار الصلح لأنه كان أصلح يومئذ وأنفع لمصلحة الإسلام العليا من التضحية حسب ما فصلناه سابقا . فراجع . وكذلك الأمر مع الحسين (ع) كما تعلم حيث بقي في نيف وسبعين رجل في مقابل سبعين ألف من الأعداء . ولكنه (ع) آثر الشهادة والقيام بعمله الفدائي الخاص نظراً لظروفه الخاصة حسبما فصلناه سابقاًً


وأما باقي الأئمة عليهم السلام فحالهم لم تختلف عن حال الحسن والحسين (ع) بل ربما كان أشد وأحرج . يلتفت ذلك الرجل إلى الإمام الصادق (ع) وهو يمشي معه في ضواحي المدينة فيقول له ياسيدي كيف يجوز لك السكوت والقعود عن حقك وأنت صاحب هذا الأمر وابن رسول الله (ص) . فسكت عنه الإمام الصادق (ع) حتى مر بهم راع يسوق قطيعا من الغنم فقال له الإمام (ع) يافلان كم تعد هذا القطيع فقال الرجل لا أدري فقال (ع) والله لو كان لي أنصار عدد هذا القطيع لنهضت بهم . فعطف الرجل على القطيع فعده فإذا هو سبعة عشر رأس .
ودخل سهل بن الحسن الخراساني عليه ذات يوم وقال : يا ابن رسول الله لا يجوز لك القعود عن حقك ولك في خراسان مائة ألف رجل يقاتلون بين يديك من شيعتك . فقال له الإمام الصادق (ع) وأنت منهم ياسهل فقال نعم جعلت فداك ياسيدي فقال له اجلس فجلس ثم أمر الإمام (ع) الجارية وقال يا جارية أسجري التنور فسجرته حتى صار اللهب يتصاعد من فم التنور فالتفت الصادق (ع) إلى سهل الخراساني وقال ياسهل أنت من هؤلاء الذين ذكرت انهم يطيعون أمري فقال نعم سيدي افديك بروحي . فقال (ع) قم وادخل في هذا التنور . فقال سهل أقلني أقالك الله يابن رسول الله فقال (ع) قد أقلتك فبينا هم كذلك إذ دخل أبو هارون المكي (ره) . فسلم فرد عليه السلام وقال له :
يا أبا هارون أدخل في التنور ، فقال له سمعا وطاعة ثم ألقى نعله وشمر عن ئيابه ودخل في التنور فقال الإمام (ع) ياجارية اجعلي عليه غطاءه فغطته ، ثم التفت الإمام عليه السلام إلى سهل بن الحسن وصار يحدثه فقال سهل إأذن لي ياسيدي أن أقوم وأنظر ما جرى على هذا الرجل ، فقال (ع) نعم . ثم قام ومعه سهل وكشف الغطاء عن التنور وإذا أبو هارون جالس على رماد بارد ، فقال له الإمام أخرج فخرج صحيحاً سالما لم يصبه اي أذى


فقال عليه السلام ياسهل كم تجد مثل هذا في خراسان ؟ فقال سهل ولا واحد يا ابن رسول الله .
وهذه العملية هي كرامة ولا شك أظهرها الإمام الصادق (ع) عبر بها عن أن أهل البيت إنما هم بحاجة إلى جيش عقائدي يطيع الأوامر الصادرة اليه من الإمام (ع) مهما كانت لا يعرف التردد والهزيمة ولا يفكر بغير الشهادة أو الغلبة لثقته التامة بالإمام (ع) واعتقاده الراسخ المتين بأن أوامره من أمر الله ورسوله وهو أعرف بالصالح والفاسد والحق والباطل من جميع الناس فهم بحاجة إلى هكذا جيش متوفر لديهم قدر النصاب الشرعي على الأقل وقبل القيام بالحركة أو الثورة . لكي لا تتكرر نكسة صفين أو مأساة كربلاء أو نكبة الحسن على يد جيشه يوم ساباط .
وخلاصة الكلام : هو أن نقول أما القيام لأجل أخذ حقهم في الخلافة وانتزاع السلطة من أيدي الظالمين فإنه كان مستحيلا عادة بالنسبة لهم لعدم توفر الشرائط واللوازم الضرورية لمثل هذا القيام لديهم وأهمها الأنصار والأعوان المخلصون . غير أنهم كانوا يدعمون معنوياً ومادياً وفكريا قدر استطاعتهم كل الثورات الحرة والحركات الاصلاحية التي كانت تقوم بين حين وآخر ضد الأمويين أو العباسيين مثل ثورة أهل المدينة على يزيد لعنه الله ، وثورة زيد ابن علي بن الحسين على عبد الملك بن مروان ، وثورة المختار الثقفي في الكوفة وثورة محمد ذو النفس الزكية على المنصور العباسي وبعدها ثورة أخيه إبراهيم أحمر العينين على المنصور أيضا وغيرها .
وأما القيام لأجل التضحية والشهادة مثل قيام الحسين (ع) فإنه لم يكن ضروريا في عصرهم لأن وسائل الاعلام والدعوة إلى الحق وطرق إتمام الحجة وتبيلغ الرسالة لم تنعدم كليا في عصر الأئمة (ع) كما انعدمت في عصر الحسين (ع) حتى اضطر إلى القيام بالابلاغ والاعلام عن طريق التضحية والشهادة . فالإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع) مثلا قاما بأوسع حركة إعلامية مستطاعة في


ذلك العصر عن طريق المدرسة والتدريس ونشر العلم واستقطاب العلماء وتربية ثلة من الشباب المؤمن بالتربية الإسلامية وبثهم في الأقطار والأمصار يبشرون ويرشدون ويعلّمون . فكان عصرهما عليهما السلام أحسن عصور الإسلام ازدهارا بالعلم والمعرفة وتقدم الثقافة وكثرة المدارس والمجالس العلمية . وبقي الحال على هذا الوصف بل وازداد تقدما وازدهارا إلى عصر الإمام الرضا (ع) والجواد (ع) ... وهما اللذان كوّنا بجهودهما وبمعونة المأمون العباسي وتعاون المجتمع معهما كونا من المسلمين أساتذة للعالم الغربي اليوم بكل علومه واكتشافاته المدهشة .
قال ابن الوشا دخلت إلى جامع الكوفة في أيام الرضا (ع) فرأيت تسعمائة شيخ يحدثون ويدرسون ويقولون حدثنا جعفر بن محمد (ع) .
وفي الختام نكرر القول بأن خدمة المصلحة العامة ونصرة الحق ومكافحة الباطل والظلم ليست في الحرب دائما . بل الأمر يختلف باختلاف الظروف والأحوال والحرب الدموية هي آخر وسيلة يفكر فيها المصلحون المخلصون لأمتهم وللصالح العام بعد اليأس من الوسائل السلمية وإلى هذا يشير حيث يقول الإمام علي (ع) في كلماته القصار : رأي الشيخ أحب إلي من جلد الغلام .
وإلى هذا يشير المتنبي الشاعر في أبياته المعروفة فيقول :

الرأي ثم شجاعة الشجعـان

هو أول وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حـرة

بلغت من العلياء كل مكان

و لربما طعن الفتى أعـداءه

بالرأي قبل تطاعن الأقران

لولا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان


وقد جاء في الحديث الشريف قوله (ص) :
«مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء ..» .

هل يمتاز الحسين (ع) على سائر الأئمة (ع) في الصفات التي اشتهر بها ؟


يعرف الحسين (ع) لدى الرأي العام بصفة الثورية والصلابة والشجاعة واباء الضيم فهل هذا يعني أن الحسين كان متفوقاً على سائر الأئمة عليهم السلام في هذه الصفات أو أن غيره من الأئمة عليهم السلام أو بعضهم على الأقل كان محروماً من هذه الصفات .؟ . الجواب : كلا ...
فالواقع هو أن الأئمة الأثنى عشر الذين أولهم علي بن أبي طالب (ع) وآخرهم المهدي المنتظر (ع) كلهم في مستوى واحد من حيث جميع الفضائل الكمالية والصفات الانسانية ومكارم الأخلاق . وهم بمجموعهم يفوقون كافة الناس في التحلي بالفضائل والكمالات . أي ليس في العالم مثلهم بعد الرسول (ص) ولا نظير لهم في أي فضيلة أو كمال نفسي . لأن ذلك شرط العصمة ولازمها . وقد ثبت بدليل العقل والنقل أنهم معصومون ولا يكفي في تحقق العصمة لشخص ما أن يكون مؤمناً صالح العمل والسيرة والأخلاق فحسب بل يجب أن يكون أيضاً فوق مستوى الناس في العلم والايمان والعمل الصالح ومكارم الأخلاق . ومن ثم يستحق منصب الإمامة على الناس . ومن شواهد ذلك قول الخليل بن أحمد العالم النحوي عندما سئل ما الدليل على إمامة علي (ع) بعد رسول الله (ص) دون سائر الصحابة فقال الدليل استغناؤه عن الكل واحتياج الكل اليه ... وهذا الدليل يجري بالنسبة إلى باقي الأئمة الأحد عشر من أبنائه أيضاً وهو أمر يفرضه العقل والمنطق والعدل . إذ أنه لو وجد شخص آخر في عصر الإمام المعين هو مثل الإمام ومساوي به في الفضل والكمال يكون


حينئذ تقديم أحدهما على الآخر للامامة والقيادة باطلا عقلا لأنه ترجيح بلا مرجح .
أما إذا وجد من هو أفضل من الإمام وأرفع مستوى في العلم والقدرة والعمل فتقديم الإمام عليه أقبح عقلا وأشد بطلانا لأنه من باب تقديم المفضول على الفاضل . أو تقديم الفاضل على الأفضل وهو فاسد . فالله تعالى إما اختار علياً (ع) وأبناءه الأحد عشر المعروفين للخلافة عن الرسول الأكرم (ص) ولقيادة الأمة بعده علماً منه تعالى بأن هؤلاء هم أكمل الناس وأفضلهم جميعاً إيماناً وعلماً وعملاً . وأشار تعالى في كتابه العزيز إلى أن ملاك الإمامة والامارة إنما هي في الأفضلية لا غير . فقال تعالى «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» وقال تعالى «أفمن يهدي الى الحق أحقّ أن يتّبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكون» . وقال تعالى «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» وقال تعالى «لا ينال عهدي الظالمين» .
وقد نص الإمام أمير المؤمنين (ع) على هذا الملاك للسيادة والإمامة والامرة في كلماته القصار فقال أحسن إلى من شئت تكن أميره . واحتج إلى من شئت تكن أسيره . واستغن عمن شئت تكن نظيره . وقد كشف رسول الله النقاب عن أن هذا الملاك متوفر ومتحقق وفي أهل بيته الطاهرين فقال في وصيته العامة قبيل وفاته (أيها الناس لا تتقدموهم فتهلكوا ولا تتأخروا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ...)
وفي بعض خطب الإمام أمير المؤمنين من نهج البلاغة قوله :
لا يقاس بآل محمد من هذه الامة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه ، أبداً هم أساس الدين وعماد اليقين بهم يلحق التالي واليهم يفيء الغالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم النبوة والوراثة ..
وقال عليه السلام في مقام آخر : نحن صنايع ربنا والخلق بعد صنايع لنا . أي أن كمالهم من كمال الله سبحانه وكل كمال وصلاح وفضل يوجد في الناس


فهو من طهرهم وفضلهم وصلاحهم (ع) وبعبارة أخرى إنهم تربية الله تعالى والصالحون من الناس تربيتهم هم صلوات الله عليهم .
فالغرض أن أهل البيت (ع) أفضل الخلق وأكملهم بعد جدهم رسول الله (ص) وأما هم وفيما بينهم فلا تفاضل ولا امتياز لأحدهم على الآخر في هذا الأصل أي أصل الكمال والعصمة . نعم قد يوجد تفاضل بينهم ولكن باعتبارات ثانوية كالأبوة والبنوة مثلاً .
ولعلك تقول :
إذا كان الأمر كذلك فلماذا عرف واشتهر بعضهم في بعض الصفات الكمالية دون الآخرين . كالإمام علي (ع) مثلاً الذي عرف بالبطولة والشجاعة والإمام الحسن (ع) الذي عرف بالحلم والصبر وكظم الغيظ والإمام الحسين (ع) الذي عرف بإباء الضيم والثورية والشدة مع العدو والإمام زين العابدين الذي عرف بالعبادة والإمامين الباقر والصادق (ع) اللذين عرفا بالعلم ... وهكذا . ؟
فنقول في الجواب :
إن السبب في اشتهار هؤلاء بتلك الصفات لا يعود إلى تفوق ذاتي وإلى أن هؤلاء توفرت فيهم هذه الصفات دون الآخرين أو أكثر من الآخرين . كلا . فالشجاعة التي كانت في الإمام علي (ع) مثلاً مثلها تماماً كان في الحسن والسجاد والباقر والصادق (ع) وغيرهم . وكذلك الحلم الذي كان في الحسن وإباء الضيم والثورية اللذان كانا في الحسين وهكذا وعلى هذا القياس .
وإنما السبب في ذلك أي في اشتهار بعضهم ببعض الصفات الكمالية دون البعض الآخر يعود بصورة رئيسية إلى الظروف الخاصة والمقتضيات الزمنية التي عاشها كل منهم . فالإمام علي (ع) عاش فترة خاصة وظروفاً معينة اقتضت منه أن يبرز شجاعته ويظهر بطولته بسبب الحروب التي خاضها دفاعاً عن الإسلام وصيانة له مع الرسول (ص) وبعد الرسول (ص) وأي واحد من


الأئمة (ع) لوكان في عصر الإمام علي وفي مثل ظروفه ومسؤولياته لأظهر من الشجاعة مثل ما أظهره الإمام علي (ع) .
وأما الحسن (ع) فبالعكس فانه عاش في ظرف كانت مصلحة الإسلام تقتضي منه المسالمة والمصالحة والصبر فلذلك عرف بالحلم .
لكن الحسين (ع) كانت ظروفه تفرض غير ذلك أي الاعتماد على الشدة والثورة ورفض أي مسالمة ومصالحة مع حكام عصره لذلك عرف بالإباء والثورية وصلابة العزيمة .
وأي إمام آخر لو كان بمكان الحسين وفي عصره وظروفه لما كان يعمل إلا ما عمله الحسين (ع) وما قام به من الثورة والتضحية حسب ما شرحنا ذلك في بعض الفصول السابقة .
أما عصر الإمام الباقر وابنه جعفر الصادق فانه كان يتطلب منهما الاعتماد على نشر العلم وبث الوعي العلمي وارسال البعثات العلمية وفتح المدارس والدورات الدراسية لمكافحة الدسائس الفكرية والتطرف العقائدي والفلسفات المادية التي تسربت إلى المسلمين بحكم اتصالهم بالأمم والشعوب الأخرى لذلك فلقد أسسا أكبر جامعة علمية في العالم الإسلامي حيث انتمى اليها أكثر من أربعة آلاف طالب . ومن هنا عرفا بالعلم وكثرة الأحاديث والأخبار التي رويت عنهما . حتى روى راو واحد عن الإمام الباقر ثلاثين ألف حديث وهو جابر الجعفي وهكذا . وكل من الأئمة (ع) لو كان بمكانهما لعرف بمثل ما عرفا به ونشر من العلم مثل ما نشر الباقر والصادق (ع) .
والخلاصة أن من الغلط الفاحش والخطأ الكبير ما يظنه البعض من أن اشتهار بعض الأئمة ببعض الصفات كانت بسبب ذاتي وملكات خاصة ومواهب فطرية معينة . كلا ليس كذلك ... فثورية الحسين وإبائه للضيم وشدته مع الأعداء مثلاً ليست ناشئة عن حرارة دموية ومزاج عصبي خاص به ولا من


كبت نفسي كما يزعم الكتاب الجاهلون بحقيقة الحسين (ع) ومقامه وحقيقة أهل البيت (ع) . وكذلك مسالمة الحسن (ع) وصفته السلمية وحلمه مع الأعداء لم تكن أثراً لبرودة دمه وهدوء أعصابه ومزاج خاص به حسبما يصوره لنا بعض المتطفلين على الكتابة عن أهل البيت (ع) .
هل الحقيقة هو أن كل ما قام به الحسن أوالحسين (ع) وغيرهما من أئمة أهل البيت (ع) إنما هو ناشئ ونابع عن إرادة الله وأمره وإيعاز من النبي (ص) من قبل خدمة لمصلحة الإسلام العليا وتمشياً مع متطلبات الظرف والأحوال ، إن أهواء النفس والعواطف والغرائز والحالات الفطرية العضوية لا تأثير لها مطلقاً على تصرفات أهل بيت العصمة عليهم السلام .
إن سيرة أهل البيت وسلوكهم في هذه الحياة كيفتها الحكمة والمصلحة لا الغرائز والأمزجة وعواطف النفس الحيوانية . وكل حركة أو سكون أو فعل أو ترك وكل وجه من أوجه النشاط قام به أحدهم كان بوحي من الله ورسوله مطابقاً للكتاب والسنة . هذا ماأثبتته الأحاديث الشريفة الصحيحة عن الرسول الأكرم (ص) وأكدته التجارب والنتائج الواقعية . فمن الأحاديث المؤكدة قوله (ص) : إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض . وقوله (ص) في حق علي بن أبي طالب (ع) علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار . وقال (ص) في دعائه له يوم الغدير : اللهم والي من والاه وعادي من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار . وقال (ص) في حق الحسن والحسين (ع) : هما إمامان قاما أو قعدا.
وأخيراً قوله (ص) : مثل اهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى .


وهناك أخبار صحيحة ومعتبرة مفادها أن رسول الله خلف لأوصيائه الاثنى عشر صلوات الله عليهم خلف لهم اثني عشر صحيفة لكل إمام منه صحيفته الخاصة وفيها تكاليفه المفروض عليه القيام بها في دور إمامته . وقد عمل كل منهم على ضوء ما في صحيفته من أوامر ونواهي وأحكام . وهذا ما أشار اليه الحسين (ع) في حديث مع الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري لما دخل عليه وهو في مكة المكرمة وقال له يابن رسول الله إني لا أرى لك إلا أن تسالم وتصالح يزيد كما صالح أخوك الحسن (ع) معاوية من قبل فإنه كان موقفاً رشيداً . فقال له الحسين (ع) يا جابر إن أخي فعل ما فعل بأمر من الله ورسوله وأنا أفعل ما أفعل بأمر من الله ورسوله ... الخبر ...
وعلى كل حال فلقد عرف الحسين (ع) أكثر ما عرف بصفة الثورية وإباء الضيم ، وبلغت شهرته في هذه الصفة حداً كبيراً حتى اعتبره الرأي العام قدوة الأحرار والمثل الأعلى للثوار في العالم وسيد أباة الضيم في التاريخ . فهذا مثلاً العلامة المعتزلي عقد فصلاً في كتابه شرح نهج البلاغة . ذكر فيه المعروفين بإباء الضيم من العرب في الجاهلية والإسلام . ثم يقول في الختام . وسيد أباة الضيم جميعاً والذي علم الناس كيف يختارون الموت مع العز وتحت ظلال السيوف على الحياة مع الذل هو أبو عبد الله الحسين (ع) .
هذا ولا تزال بعض كلمات الحسين مبدءا وشعاراً يعلنه ويرفعه كل الثوار في كل زمان ومكان . مثل قوله عليه السلام « ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما ... وقوله (ع) ألا وأن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منها الذلة ... وقوله عليه السلام لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم اقرار العبيد» .
ومما يتحدث به المؤرخون بإعجاب من صفات الحسين (ع) هي شجاعته

 


المدهشة التي أبداها يوم كربلاء في ذلك الموقف الرهيب . فقد ورد عن لسان بعض مقاتليه من جيش عمر بن سعد قوله :
والله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده واخوته وأهل بيته أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الحسين (ع) فلقد كانت الرجال تشد عليه من كل جانب فكان يشد عليها فتهزم من بين يديه انهزام المعزى إذا حل فيها الأسد وكانوا ينكشفون عنه يميناًً وشمالاً كأنهم الجراد المنتشر وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً وهو وحيد فإذا ابعدهم عن المخيم عاد إلى موقفه أمام البيوت وهو يكثر من قوله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وذكر أرباب المقاتل أن الحسين (ع) حمل على الجيش في ذلك اليوم عدة حملات قتل منهم في مجموعها ألفاً وتسعمائة وخمسين رجلاً . حتى صاح عمر بن الحجاج الزبيدي وهو أحد قادة الجيش صاح بالناس مستثيراً لهم عليه قائلاً ويلكم أتدرون لمن تقاتلون هذا ابن الأنزع البطين هذا ابن قتال العرب احملوا عليه حملة رجل واحد .
هذا كله بالإضافة إلى ما كان يكابده في تلك الحال من العطش الشديد والجهد والإرهاق قالوا كان العطش قد اثر في شفتيه حتى ذبلنا وأثر في لسانه حتى صار كالخشبة اليابسة وأثر في عينيه حتى صار يبصر ما بين السماء والأرض كالدخان وأما آلامه الجسدية والنفسية التي تراكمت عليه حينئذ فانها تهد الجبال فلقد كان (ع) يعاني أشد الآلام النفسية بسبب ثكل الأولاد وفقد الأخوة والأقارب والأصحاب والشعور بالوحدة والاغتراب ومشاهدة النساء والأطفال حيارى مدهوشين مذهولين من تراكم المصائب وألم الضما على أبواب الخيام وداخلها إلى جنب ابنه المريض المسجى على الأرض الفاقد الوعي من شدة السقام . هذا وأكثر من هذا مما يضيق البيان عن وصفه ويعجز اللسان عن ذكره وتفصيله ومع ذلك كله فلقد كان عليه السلام كما وصفة السيد الحلي (ره) :

 

ركين و للأرض تحت الكماة

رجيف يزلزل ثهلانهـا

أقر على الأرض من ظهرها

إذا ململ الرعب أقرانها

تزيد الطلاقـة فـي وجهـه

إذا عيـرالخوف ألوانهـا

وأضرمهـا لعنـان السمـاء

حمـراء تلفـح أعنانهـا

ولمـا قضـى للعـلا حقهـا

وشيـد بالسيـف بنيانهـا

ترجل للمـوت عـن سابـق

لـه أخلت الخيـل ميدانها

كـأن المنيـة كانـت لديـه

فتاة تواصـل خلصانهـا

جلتها لـه البيض في موقف

بـه أثكل السمر خرصانها

فبات بها تحت ليـل الكفـاح

طروب النقيبـة جذلانهـا

وأصبـح مشتجـراً للرمـاح

تحلـي الدمـامنة مرانهـا

فمـا أجلت الحرب عـن مثله

صريعاً يجبـن شجعانهـا

* * *

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المتعة ؛ سنة في زمن الرسول(ص) و أبي بکر ـ (الحلقة ...
الفاطميون بين حقائق التاريخ وظلم المؤرخين
رد الشمس لعلي عليه السلام
الإمام (عليه السلام) والسلطة العباسيّة
بيع الأصنام
هل صحّ حديث (لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة) من طرق ...
افتتح البخاري صحيحه بالطعن في النبي صلى الله ...
فاطمة بنت أسد عليها السّلام
في رحاب نهج البلاغة (الإمام علي عليه السلام ...
المأساة والتأسي

 
user comment