1 ـ ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته:
الحسين(ع) لا يطلب من الناس مالاً، ولا زعامة، ولا سلطاناً، ولا شاناًمن شؤون الدنيا، واءنما يطلب منهم مهجهم، وهو اغلي واعزّ ما يطلب اءماممن ماموميه، ولا يدعوهم الي الخروج معه لينالوا فتحاً او سلطاناً اويسقطوا سلطاناً، واءنما يدعوهم للخروج ليبذلوا مهجهم وأفئدتهمودماءهم. وهذا نموذج فريد من القادة.
اءن القادة لا يريدون من الناس مهجهم وأفئدتهم، واءنما يدعونالناس لتحقيق اهداف سياسية او عسكرية، ويدفعون من مهج الناسوأفئدتهم ما تحتاجه هذه الغايات، ضريبة للمكاسب والاءنجازات التييطلبونها .
امّا الحسين(ع) فيدعو الناس منذ اول يوم الي ان يبذلوا له مهجهموافئدتهم ودماءهم.
وهي الميزة الفريدة التي تتميز بها ثورة الحسين(ع) عن غيرها منالحركات والثورات ووعي هذه الخصلة مسالة مهمّة في فهم ثورةالحسين(ع).
ـ مقارنة بين الحرّ الرياحي وعبيدالله بن الحر الجعفي:
وليس كلّ الناس كانوا يفهمون حقيقة دعوة الحسين(ع) يومئذٍ، وقدأدرك ناس من الجبهة الاخري المواجهة والمناوأة للحسين(ع) جوهرهذه الدعوة، وجهلها ا´خرون من موقع المتخلّفين، وموقع التخلف اهونعلي كل حال من موقع المواجهة علي خارطة الصراع.
ولنذكر علي ذلك مثالاً عن هذا الموقع وذاك:
لقد ادرك الحر بن يزيد الرياحي ؛ ـ وهو يشغل يومئذٍ رسمياً موقعالمواجهة من معسكر الحسين(ع) ـ حقيقة الدعوة الحسينية، وعلم انالحسين لا يطلب من الناس مالاً ولا زعامة ولا سلطاناً واءنما يطلب منهممهجهم وأفئدتهم، بينما لم يعرف عبيدالله بن الحر الجعفي هذه الحقيقةفي دعوة الحسين، فلما دعاه الحسين(ع) الي ان ينصره ويقف معه اعتذرعن الاستجابة، وقال: ما عسي ان اغني عنك ولم اخلّف لك بالكوفةناصراً؟ فانشدك الله ان تحملني علي هذه الخطة فاءن نفسي لا تسمحبالموت، ولكن فرسي هذه (الملحقة) والله ما طلبت عليها شيئاً قط اءلاّلحقته، ولا طلبني احد وانا عليها اءلاّ سبقته، فخذها فهي لك.
فقال له الحسين(ع): «اما اءذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا في فرسك».
ولو كان يعي ابن الحر الجعفي ما يطلبه الحسين منه لم يكن يقدّمللحسين فرسه عوضاً عن نفسه ودمه ومهجته.
وهذا فارق في الوعي بين الحر وابن الحر، علماً بان عبيدالله بن الحرالجعفي لم يكن يومئذٍ في موقع المواجهة الرسمية والمعلنة معالحسين(ع)، واءنما كان يحرص الاّ يلتقي بالحسين(ع) لئلا يُحرجه الاءمامويطلب منه النصرة، ثم لمّا طلب منه الاءمام(ع) النصرة اعتذر وتخلفوكان في عداد (المتخلّفين) عن نصرة الاءمام، وندم بعد ذلك علي تخلفهعن الحسين (ع)، فلم ينفعه ندمه.
وموقع عبيدالله بن الحر الجعفي، مهما كان اهون من موقع الحرالرياحي، ولكن هذا قد ادرك من الحسين(ع) مالم يدركه ذاك، وهذا هوفارق الوعي.
والفارق الا´خر بين الحرّين، أن الحر الرياحي اعطي للحسين(ع) مايريد، اما عبيدالله بن الحر الجعفي فقد اعتذر الي الاءمام عن النصرة، وقالللاءمام بصراحة: (اءن نفسي لا تسمح بالموت).
وهذا فارق في (العطاء).
والانسان (وعي) و (عطاء).
وهذا هو الفارق بين الحر وابن الحر .
2 ـ باذلاً:
والكلمة الثانية (باذلاً) وهذه قضية ثانية، القضية الاولي ان الحسينيطلب من الناس التضحية بمهجهم، والقضية الثانية أن الحسين(ع) يريدمن الناس ان يبذلوا له مهجهم ودماءهم، بذلاً عن وعي واختيار من غيرقسر ولا اءجبار، بل بطوع اءرادتهم واختيارهم، فلا يريد ان يغتصب الناسمهجهم، ولا هو من الذين يخدعون الناس عن مهجهم ودمائهم.
وهذه قضية اصر عليها الحسين(ع) بشكل غريب، منذ ان خرج منالحجاز الي ان صرع مع اهل بيته واصحابه في كربلاء.
اكثر من مرة اذن لاصحابه ولاهل بيته بالانصراف، وجعلهم في حلّمن بيعته.
وا´خر مرة عرض عليهم الانصراف، والحل من بيعته ليلة العاشر منمحرم اءذ جمعهم عنده، وقال لهم بنفس الصراحة والوضوح الذي عهدوهمنه من قبل «الا واءني قد اذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام،هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم لياخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي،ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتي يفرّج الله، فاءن القوم اءنما يطلبوني. ولو قداصابوني لهوا عن طلب غيري».
ولم يكن الحسين(ع)، يومئذ، وهو يعلن لاصحابه واهل بيته أنهم فيحل من بيعته، وياذن لهم في الانصراف الي سوادهم ومدائنهم، ليلةمصرعه، في كربلاء، لم يكن الحسين(ع) يزهد في نصرة اصحابه، واءنماكان في امسِّ الحاجة الي الانصار، وكان لا يُفرّط في فرصة تمر عليهيستطيع ان يدعو فيها الناس علي العموم، او بالخصوص الي نصرته اءلاّويعلن فيها الاستنصار والدعوة، فلماذا هذا التاكيد المكرر لاصحابهوللذين التحقوا به ان ينصرفوا الي بلادهم واهلهم؟ ولماذا يصرّالحسين(ع) الي جنب ذلك، علي' اءعلان الاستنصار؟
وكيف يجتمع هذا الاءصرار علي الاستنصار مع هذا التاكيد علي الاءذنلاصحابه وأنصاره بالانصراف في نفس الوقت، والتحلل من بيعته؟
اءن الامر عند الحسين(ع) واضح، فهو يريد من الناس ان يبذلوا لهمهجهم (بذلاً) عن وعي وبصيرة وبمحض اءرادتهم، من دون قهر اوحرج اوحياء، ولماذا؟
لان الطريق الذي يريد الحسين(ع) ان يقطعه لا يمكن ان يقطعهالناس اءلاّ اءذا مضوا معه بوعي وبصيرة واءرادة وعزم، أما اذا قطعوا هذاالطريق عنوة أو من غير وعي وطواعية، فلا يبلغون ما يريده الحسين(ع) .
اءنّ الحسين(ع) يريد ان يستصفي من هذه الاُمّة انقاها جوهراً،واصفاها قصداً ونيّة واءخلاصاً ليصطحبهم معه الي لقاء الله في كربلاء، ولوكان يشوب نفوسهم شيء من الحرج أو الحياء في خروجهم معالحسين(ع) الي مصارعهم في كربلاء ولو بنسبة قليلة؛ لفقدوا في نفوسهموقصدهم هذا الصفاء والخلوص الذي يطلبه الحسين(ع) من اصحابه فيخروجهم الي لقاء الله.
اءن هذه الرحلة رحلة الي لقاء الله، وهي تختلف عن أية رحلة أخري'،ومثل هذه الرحلة تتطلب من الصفاء والنقاء في القصد والنية مالا تتطلبهرحلة أخري، ولذلك كان الحسين(ع) يحرص حرصاً بليغاً أن يكونخروج اصحابه معه عن (بصيرة) و (اختيار).
هذا من ناحية (ربّانية الحركة) التي كان الحسين(ع) يحرص عليتحقيقها في حركته.
وامّا من الناحية (السياسية) ـ وهو الهدف الا´خر للحسين ـ فاءنّه(ع)يريد ان يهزّ ضمائر المسلمين وقلوبهم بمصرعه ومصرع من معه منالمؤمنين وان يعيدهم الي انفسهم بعد ان سلخهم بنو امية عن انفسهم. ولنيتم للحسين(ع) مثل هذا الانقلاب العميق في نفوس الناس، وهذه العودةالي الذات اءلاّ اءذا كانت العناصر التي تشارك في صنع هذه الملحمة الخالدةتتصف بالبصيرة والعزم.
وبعكس ذلك لو كانت هذه العناصر من العناصر الضعيفة والرجراجةالتي تقدّم خطوة وتؤخر اخري فاءن مردود عملها ومشاركتها يكونبالاتجاه السلبي.
ومن هنا كان الحسين(ع) يريد باءصرار من الناس ان يبذلوا له انفسهمومهجهم بذلاً، عن اءرادة واختيار وبصيرة.
3 ـ فينا:
وهذه قضية ثالثة في دعوة الحسين(ع) فهو يريد اوّلاً من الناس انيضحّوا بمهجهم.
ويطلب منهم ثانياً ان تكون هذه التضحية عن اختيار وبصيرة وبذل.
ويطلب منهم ثالثاً ان يكون هذا الجهد وهذه التضحية (فيهم)(ع)،وهي مسالة الانتماء والولاء، لا في جهة أخري ولغاية أخري من الغاياتالتي يعمل لها الناس.
وهذه مسالة في غاية الاهمية فاءن قيمة العمل ليس في حجمه ونوعهوشكله فقط واءنما في انتمائه ايضاً.
فقد خرج كثيرون علي بني امية ونقموا عليهم، ونشروا مثالبهم،وقاتلوهم، وتحمّلوا العذاب والمطاردة والخوف والرعب في سبيل ذلك،وضحوا بأنفسهم في ذلك، ولكن لغايات شخصية او سياسية او قبليةوعشائرية . وليس علي خط الولاء السياسي والعقائدي الذي فرضه اللهتعالي في قوله تعالي: (اءنّما وليكم الله ورسوله والذين ا´منوا الذين يقيمون الصلاةويؤتون الزكاة وهم راكعون).
لقد خرج عليهم عبدالله بن الزبير، وخرج عليهم الخوارج، وخرجعليهم ابو مسلم الخراساني وا´خرون من الناس، وليس باءمكاننا ان نستهينبالجهد والتضحية التي بذلوها في هذا السبيل، ولكن كان ينقصهم الانتماءوالولاء والذي يعبر عنه الاءمام(ع) بهذه الكلمة: (فينا).
ولا قيمة للعمل اذا فقد حالة (الانتماء) والارتباط والولاء، علي الخطالذي يحدده الله ورسوله.
وهذه المقولة خاصة بهذا الدين، وليس في الانظمة الفكريةوالسياسية الاخري قيمة لارتباط العمل وانتمائه، وانما يقيّم العمل بنوعهوحجمه وصفته. واما في الاءسلام فالامر يختلف اختلافاً كبيراً، ويكتسبالعمل قيمته الحقيقية بنوعية العمل وارتباطه وانتمائه. ولمحاور الولاءحلقات يتصل بعضها ببعض، وينتهي الي الله تعالي وهو مبدا الولاءواساسه في الاسلام.
والحسين(ع) حلقة في هذه السلسة؛ ولذلك فهو يشترط في هذهالدعوة ان تكون التضحية والبذل (فيه).
4 ـ موطّناً علي لقاء الله نفسه:
وهذه هي النقطة الرابعة والخامسة في الخطاب الحسيني، فالاءمام(ع)في هذه الفقرة يشير الي قضيتين أُخريين في دعوته وهما (الاءخلاص) و(التوطين).
ولابد منهما معاً في مثل هذا المشروع الثوري الضخم الذي ينهض بهالحسين(ع).
والاءمام(ع) يشير الي (الاءخلاص) بقوله: «موطّناً علي لقاء الله نفسه»،ويطلب ممّن يصحبه في هذه الرحلة ان يوطّنوا أنفسهم فقط للقاء الله،وليس لايّةغاية أخري. وأيّة غاية أخري غير لقاء الله لا قيمة لها في هذهالرحلة.
وهذا النص هو أول رواية يذكرها البخاري في كتابه (الجامعالصحيح) عن رسول الله(ص):
«اءنّما الاعمال بالنبيات، واءنما لكل امري ما نوي؛ فمن كانت هجرته الي دنيايصيبها او الي امراة ينكحها فهجرته الي ماهاجر اليه).
والارتباط به(ع) الذي عبّر عنه بكلمة (فينا)، والذي شرحناه من قبلانتماء وليس غاية، واءنما هو واسطة للارتباط بالله. واءبتغاء وجه اللهومرضاته هو الغاية، وفي نفس الوقت هو المبدأ في تسلسل حلقاتالولاء، واءذا انقطعت أية حلقة من حلقات الولاء من الله تعالي سقطت،وفقدت كل قيمتها.
ومحاور الولاء، ومنها الحسين(ع) جسور، وسبل الي لله، والي هذاالمعني' تشير الفقرات الواردة في زيارة (الجامعة الكبيرة) المعروفة:
السلام علي محالّ معرفة الله، ومساكن بركة الله ومعادن حكمة الله.السلام علي الدعاة الي الله والادلاّء علي مرضاة الله والمستقرين في امرالله.
ولكيلا نتصور أن كلمة (فينا) الواردة في هذه الدعوة الحسينية غايةفي حدّ ذاتها، يتدارك الاءمام(ع) سريعاً ويقول: «وموطّناً علي لقاء الله نفسه»وهذا هو معني الاءخلاص والتوحيد في (الولاء).