النوع الثالث :
ما يتضمّن اُصول العقائد من إثبات الخالق الأزلي وتوحيده ، أعني نفي الشريك عنه ، وصفاته الثبوتية والسلبية ، وما إلى ذلك من تقديسه وتنزيهه ، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا , وتعالي قدرته وعظمته ، ثمَّ النبوّة والإمامة والمعاد , وما يتّصل به من البرزخ والنشر والحشر , ونشر الصحف والحساب , والميزان والصراط , إلى جميع ما ينظم في هذا السلك .
إلى أن ينتهي إلى مخلوقاته (جلّ شأنه) من السماء والعالم , والنجوم والكواكب , والأفلاك والأملاك , والعرش والكرسي , إلى أن ينتهي إلى الكائنات الجوية من الشهب والنيازك , والسحاب والمطر , والرعد والبرق , والصواعق والزلازل ، والأرض وما تحمله وما يحملها ، والمعادن والأحجار الكريمة ، والبحار العظيمة وخواصها وما فيها ، والأنهار ومجاريها ، والرياح ومهابها وانواعها ، والجن والوحوش وأنواع الحيوان بحرياً أو برياً أو سمائياً ، إلى أمثال ذلك ممّا لا يمكن حصره ولا يحصر عدّه ؛ فإنّ الأخبار عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السّلام) قد تعرّضت لجميع ذلك ، وقد ورد فيها من طرق الفريقين الشيء الكثير .
وفي الحقِّ أنّ هذا من خصائص دين الإسلام ودلائل عظمته , وسعة معارفه وعلومه ؛ فإنّك لا تجد هذه السعة الواردة في أحاديث المسلمين في دين من الأديان مهما كان ، ولكن الضابطة في هذا النوع من الأخبار أنّ ما يتعلّق منه بالعقائد واُصول الدين من التوحيد والنبوّة ؛ فإن كان ممّا يطابق البراهين القطعية والأدلّة العقلية والضرورية يعمل به ، ولا حاجة إلى البحث عن صحة سنده وعدم صحته , وهذا مقام ما يقال : إنّ بعض الأحاديث متونها تصحّح أسانيدها .
وإن كان ممّا لم يشهد له البرهان , ولم تؤيّده الضرورة ، ولكنه في حيز الإمكان ينظر ؛ فإن كان الخبر صحيح السند صحّ الالتزام به على ظاهره , وإلاّ فإن أمكن صرفه عن ظاهره وتأويله بالحمل على المعاني المعقولة تعيّن تأويله , وإن لم يمكن تأويله وكان مضمونه منافياً للوجدان , صادماً للضرورة , فمع صحة سنده لا يجوز العمل به ؛ لخلل في متنه ، بل يردّ علمه إلى أهله ، وإن كان غير صحيح السند يضرب به الجدار , ووجب إسقاطه من جمهرة الأخبار .
إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول في الأخبار الواردة في الأرض والحوت والثور , وكذا ما ورد في الرعد والبرق ونحوها ؛ من أنّ البرق مخارق الملائكة ، والرعد زجرها للسحاب كما يزجر الراعي إبله أو غنمه ، وأمثال ذلك مما هو بظاهره خلاف القطع والوجدان ؛ فإنّ الأرض تحملها مياه البحار المحيطة بها , وقد سبروها وساروا حولها فلم يجدوا حوتاً ولا ثوراً ، وعرفوا حقيقة البرق والرعد , والصواعق والزلازل بأسباب طبيعية قد تكون محسوسة وملموسة , وتكاد تضع إصبعك عليها .
فمثل هذه الأخبار على تلك القاعدة إن أمكن حملها على معانٍ معقولة , وجعلها إشارة إلى جهات مقبولة , ورموزاً إلى الأسباب الروحية المسخّرة لهذه ، دقيقة القوى الطبيعية فنعم المطلوب , وإلاّ فالصحيح السند يردّ علمه إلى أهله ، والضعيف يضرب به الجدار ولا يُعمل ولا يلتزم بهذا ولا ذاك .
وهنا دقيقة لا بدّ من التنبيه عليها والإشارة إليها , وهي : أنّ من الجلي عند المسلمين عموماً , بل وعند غيرهم أنّ الوضع والجعل والدس في الأخبار قد كثر وشاع ، وامتزج المجعولات في الأخبار الصحيحة ، بحيث يمكن أن يقال : إنّ الموضوعات قد غلبت على الصحاح الصادرة من اُمناء الوحي وأئمة الدين (عليهم السّلام) .
ويظهر أنّ هذه المفسدة والفتق الكبير في الإسلام قد حدث في عصر النبوّة حتّى صار النبي (صلّى الله عليه وآله) يحذّر منه وينادي غير مرّة : (( مَن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار ))(58) , وإنّه (( قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر ))(59) .
ومع كلِّ تلك المحاولات والتهويلات لم تنجع في الصد عن كثرته فضلاً عن إبادته ، وقد حدث في عصره (صلّى الله عليه وآله) وما يليه الشيء الكثير من الإسرائيليات وأقاصيص عن الاُمم الغابرة ، ونسبة المعاصي والكبائر إلى الأنبياء والمرسلين والمعصومين (عليهم السّلام) .
واشتهر بهذه الموضوعات أشخاص مشهورون في ذلك العصر ؛ مثل عبد الله بن سلام , وكعب الأحبار , ووهب بن منبه وأمثالهم ، ثمَّ تتابعت القرون على هذه السخيمة ، وانتشرت هذه الخصلة الذميمة ؛ ففي كلِّ قرن أشخاص معرفون بالجعل ، وقد يعترفون به أخيراً ، وأشهرهم بذلك زنادقة المسلمين المشهورين مثل حمّاد الراوية وزملائه ، ومثل ابن أبي العوجاء وأمثالهم(60) .
ذكر العالم الثبت العلاّمة الحبر الجليل الفلكي الرياضي الشهير (أبو ريحان) البيروني في كتابه الممتع , العديم النظير (الآثار الباقية) , طبع أوربا , قال ما نصه في / 67 ـ 68 : وقد قرأت فيما قرأت من الأخبار أنّ أبا جعفر محمّد بن سليمان عامل الكوفة من جهة المنصور حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء ، وهو خال معن بن زائدة , وكان من المانويَّة ، فكثر شفعاؤه بمدينة الإسلام(61) , وألحّوا على المنصور حتّى كتب إلى محمّد بالكفِّ عنه .